المؤلف:: الآجري الناشر:: دار اللؤلؤة سنة النشر:: الصفحات:: 138 الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1513149833l/2715968._SY475_.jpg الصيغة:: PDF الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/2715968 ISBN:: الحالة:: مكتمل التسميات:: تقريب_تراث_السلف الغرض:: المعرفة:: القرآن وعلومه, التدريب:: , المؤثر:: , تاريخ القراءة:: 2025-01-03 معالج:: 1 تقييم الفائدة المستقبلية::
مقدمة
عظم ثواب تلاوة القرآن
مَنْ تَلَا الْقُرْآنَ وَأَرَادَ بِهِ مُتَاجَرَةَ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، فَإِنَّهُ يُرْبِحُهُ الرِّبْحَ الَّذِي لَا بَعْدَهُ رِبْحٌ، وَيُعَرِّفُهُ بَرَكَةَ الْمُتَاجَرَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
ص ٣٤
القرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء
قال ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد) (٥١٩/٤): قال الله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾… فَالْقُرْآنُ هُوَ الشِّفَاءُ التَّامُّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَأَدْوَاءِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَا كُلُّ أَحَدٍ يُؤَهَّلُ وَلَا يُوَفَّقُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ، وَإِذَا أَحْسَنَ الْعَلِيلُ التَّدَاوِيَ بِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى دَائِهِ بِصِدْقٍ وَإِيمَانٍ، وَقَبُولٍ تَامٍّ، وَاعْتِقَادٍ جَازِمٍ، وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ، لَمْ يُقَاوِمْهُ الدَّاءُ أَبَدًا. وَكَيْفَ تُقَاوِمُ كَلَامَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ الَّذِي لَوْ نَزَلَ عَلَى الْجِبَالِ، لَصَدَّعَهَا، أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، لَقَطَّعَهَا، فَمَا مِنْ مَرَضٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ إِلَّا وَفِي الْقُرْآنِ سَبِيلُ الدِّلَالَةِ عَلَى دَوَائِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْحَمِيَّةِ مِنْهُ لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ فَهْمًا فِي كِتَابِهِ.. فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ، فَلَا شَفَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلَا كَفَاهُ اللَّهُ.
الحاشية ص ٣٤ - ٣٥
القرآن حبل الله عز وجل
وقال عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ الآية [آل عمران: ١٠٣]، (وحبل الله): هو القرآن.
ص ٣٥
روى ابن المنذر في «تفسيره» (۷۷۲) نحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال أبو عبيد الله في «غريب القرآن» (١٠٢/٤): في حديث عبد الله رضي الله عنه: (عليكم بحبل الله فإنه كتاب الله)، أراد تأويل قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، يقول: فالاعتصام بحبل الله: هو ترك الفرقة، واتباع القرآن.
الحاشية ص ٣٥
﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل وَعَدَ لِمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى كَلَامِهِ، فَأَحْسَنَ الْأَدَبَ عِنْدَ اسْتِمَاعِهِ: بِالِاعْتِبَارِ الْجَمِيلِ، وَلُزُومِ الْوَاجِبِ لِاتِّبَاعِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ - يُبَشِّرُهُ مِنْهُ بِكُلِّ خَيْرٍ وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ أَفْضَلَ الثَّوَابِ فَقَالَ عز وجل: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٨)﴾ [الزمر]
وَقَالَ عز وجل: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [الزمر: ٥٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الزمر: ٥٥]
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَكُلُّ كَلَامِ رَبِّنَا حَسَنٌ لِمَنْ تَلَاهُ وَلِمَنِ اسْتَمَعَ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هَذَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - صِفَةُ قَوْمٍ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تتبعوا من القرآن أَحْسَنَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مَوْلَاهُمُ الْكَرِيمُ يَطْلُبُونَ بِذَلِكَ رِضَاهُ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ سَمِعُوا اللَّهَ قَالَ: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤] فَكَانَ حُسْنُ اسْتِمَاعِهِمْ يَبْعَثُهُمْ عَلَى التَّذَكُّرِ فِيمَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ.
ص ٣٦
وأما ما فسر به المصنف هذه الآية فلم أقف على من قال به من السلف، والذي يظهر من قول المصنف أنه يذهب إلى القول بأن القرآن ليس فيه حسن وأحسن، وأنه لا يتفاضل، وإنما هو كله على حد سواء في آياته وسوره، فلا يصح أن يقال: إن هذه الآية أفضل وأحسن من هذه الآية، ولا أن هذه السورة أفضل وأحسن من هذه السورة، وبهذا القول قال ابن بطة في «الإبانة الكبرى» (٢٤٨٠) وهو من تلامذة المصنف، وهذه مسألة تنازع فيها أهل السنة على قولين، كما نبهت على ذلك في تحقيق «الإبانة».
…
وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن، فقد دلت عليه آيات من كتابه. وقد أطال ابن تيمية رحمه الله في الرد على القائلين بأن كلام الله لا يتفاضل، وأنه ليس بعضه أفضل من بعض، وبين مستندهم في هذا القول.
…
ثم ذكر الأدلة على ذلك، ومنها: قوله ﷺ: «قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن»، وقوله ﷺ لأبي بن كعب: «أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»، قال: قلت: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: ٢٥٥]، قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم أبا المنذر».
الحاشية ص ٣٦ - ٣٨
ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عز وجل فِي سُورَةِ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: ١] مَا دَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ مَا خَلَقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ عَجَائِبِ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الْمَوْتَ وَعَظِيمَ شَأْنِهِ وَذَكَرَ النَّارَ وَعَظِيمَ شَأْنِهَا وَذَكَرَ الْجَنَّةَ وَمَا أَعَدَّ فِيهَا لِأَوْلِيَائِهِ فَقَالَ عز وجل: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لِذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧]
فَأَخْبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ بِأُذُنَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُشَاهِدًا بِقَلْبِهِ مَا يَتْلُو وَمَا يَسْمَعُ؛ لِيَنْتَفِعَ بِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَبِالِاسْتِمَاعِ مِمَّنْ يَتْلُوهُ.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عز وجل حَثَّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: ٢٤]
وَقَالَ عز وجل: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلًافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]
ص ٣٨ - ٣٩
في «جامع بيان العلم» لابن عبد البر (١٤١٥) قال ابن عون: ثلاث أحبهن لي ولإخواني: هذا القرآن يتدبره الرجل ويتفكر فيه فيوشك أن يقع على علم لم يكن يعلمه، وهذه السنة يطلبها ويسأل عنها، ويذر الناس إلا من خير. ونحوه في صحيح البخاري معلقا.
قال ابن القيم في «المدارج» (٤٤٩/١): وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبره وتعقله، وهو المقصود بإنزاله، لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَك لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [ص]…
وقال: فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما… إلخ.
الحاشية ص ٣٩
لا يكن همك متى أختم السورة
أَلَا تَرَوْنَ رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَوْلَاكُمُ الْكَرِيمِ كَيْفَ يَحُثُّ خَلْقَهُ عَلَى أَنْ يَتَدَبَّرُوا كَلَامَهُ، وَمَنْ تَدَبَّرَ كَلَامَهُ عَرَفَ الرَّبَّ عز وجل، وَعَرَفَ عَظِيمَ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَعَرَفَ عَظِيمَ تَفَضُّلِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَعَرَفَ مَا عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الْوَاجِبَ، فَحَذِرَ مِمَّا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ الْكَرِيمُ، وَرَغِبَ فِيمَا رَغَّبَهُ فِيهِ.
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ وَعِنْدَ اسْتِمَاعِهِ مِنْ غَيْرِهِ، كَانَ الْقُرْآنُ لَهُ شِفَاءً فَاسْتَغْنَى بِلَا مَالٍ، وَعَزَّ بِلَا عَشِيرَةٍ، وَأَنِسَ بِمَا يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَكَانَ هَمُّهُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لِلسُّورَةِ إِذَا افْتَتَحَهَا مَتَى أَتَّعِظُ بِمَا أَتْلُو؟ وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟ وَإِنَّمَا مُرَادُهُ مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ عز وجل الْخِطَابَ؟ مَتَى أَزْدَجِرُ؟ مَتَى أَعْتَبِرُ؟ لِأَنَّ تِلَاوَتَهُ لِلْقُرْآنِ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ بِغَفْلَةٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لذلك.
ص ٤٠
اعرض نفسك وعملك على القرآن
٧ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ الْآَجُرَّي قَالَ: وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْوَاسِطِيُّ، أَيْضًا: قَالَ نا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ الزَّعْفَرَانِيُّ، قَالَ: نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ النَّاجِيَّ يَقُولُ: إِنَّهُ سَمِعَ الْحَسَنَ، يَقُولُ: «الْزَمُوا كِتَابَ اللَّهِ وَتَتَبَّعُوا مَا فِيهِ مِنَ الْأَمْثَالِ، وَكُونُوا فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصَرِ، ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا عَرَضَ نَفْسَهُ وَعَمَلَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ، حَمِدَ اللَّهَ وَسَأَلَهُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ، أَعْتَبَ نَفْسَهُ، وَرَجَعَ مِنْ قَرِيبٍ»
ص ٤١
في «الحلية» (٢/ ١٥٨) عن الحسن البصري قال:.. إن المؤمنين شهود الله في الأرض يعرضون أعمال بني آدم على كتاب الله، فمن وافق كتاب الله حمد الله عليه، ومن خالف كتاب الله عرفوا أنه مخالف لكتاب الله، وعرفوا بالقرآن ضلالة من ضل من الخلق.
الحاشية ص ٤١
تفسير قوله تعالى: ﴿حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ باتباع القرآن والعمل به هو قول عامة السلف
١٠ - أخبرنا محمد قال وحَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ، أَيْضًا قَالَ: نا الْحُسَيْنُ، قَالَ أنَبا عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ أنَبا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ عز وجل: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: ١٢١] قَالَ: يَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ.
ص ٤٣
تفسير قوله تعالى: ﴿حَقَّ تِلاوَتِهِ﴾ باتباع القرآن والعمل به هو قول عامة السلف، فقد روى الطبري في «تفسيره» (٢/ ٤٧٨)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (١/ ٢١٨)، وأبو عبيد في «فضائل القرآن» (ص١٩٦) نحوه عن ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وقتادة، وعطاء، والحسن، وأبي رزين، وإبراهيم النخعي وغيرهم.
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (١٤/ ١٣٣): ولا خلاف بين العلماء في تأويل قول الله عَجَل: ﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾، أي: يعملون به حق عمله، ويتبعونه حق اتباعه.
قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (١/ ١١٤): وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾، وفي قوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، والمعنى: يتبعون كتاب الله حق اتباعه، فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي: التلاوة المطلقة التامة، وهي تلاوة اللفظ والمعنى، فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة، وحقيقة اللفظ إنما هي: الاتباع، يقال: اتل أثر فلان، وتلوت أثره وقفوته وقصصته، بمعنى: تبعته خلفه، وهذه التلاوة وسيلة وطريق، والمقصود: التلاوة الحقيقية، وهي: تلاوة المعنى واتباعه تصديقا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاء عن نهيه، وائتماما به حيث ما قادك انقدت معه، فتلاوة القرآن تتناول: تلاوة (لفظه) و(معناه)، وتلاوة (المعنى) أشرف من مجرد تلاوة (اللفظ)، وأهلها هم: أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة، فإنهم أهل متابعة وتلاوة حقًا.
الحاشية ص ٤٣ - ٤٤
بَابُ فَضْلِ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ
أهل القرآن هم العالمون به والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب
١٣ - أخبرنا محمد، وحَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ قَالَ: ثنا يَعْقُوبُ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُدَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لِلَّهِ مِنَ النَّاسِ أَهْلُونَ» قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ».
ص ٤٥
قال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (۳۲۷/۱): كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب. وأما من حفظه ولم يفهمه، ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم.
الحاشية ص ٤٥
معنى (فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَؤُهَا)
١٤ - حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانيُّ قَالَ: ثنا حَمَّادُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: اقْرَأْ وَارْقَ فِي الدَّرَجَاتِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ كُنْتَ تَقْرَؤُهَا».
ص ٤٧
قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - ط عطاءات العلم - ١ / ١٣٥: “يقال لقارئ القرآن: «اقرأ وارقَ، فإنَّ منزلتك عند آخر آية تَقْرؤها». وهذا يحتمل شيئين: أن تكون منزلته عند آخر حِفْظه، وأنْ تكون عند آخر تلاوته لمحفوظه، واللَّهُ أعلم”.
إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: ثنا أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: أنبا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أنبا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي الْكَنُودِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: «مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدْ حَمَلَ أَمْرًا عَظِيمًا، لَقَدْ أُدْرِجَتِ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إِلَيْهِ، فَلَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَحِدَّ مَعَ مَنْ يَحِدُّ، وَلَا يَجْهَلْ مَعَ مَنْ يَجْهَلُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي جَوْفِهِ»
ص ٤٩
روى أبو الفضل الرازي في «فضائل القرآن» (٥١) نحوه عن عبد الله بن عمرو مرفوعا إلى النبي ﷺ ولا يصح. ورواه كذلك موقوفا عن عبد الله، وإسناده حسن.
وفي «فضائل القرآن» لأبي عبيد (١٣٤) عن أبي الزاهرية، أن رجلا أتى أبا الدرداء بابنه، فقال: يا أبا الدرداء، إن ابني هذا قد جمع القرآن. فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع.
وفي «الحلية» (٢١٣/١) عن أبي الدرداء قال: أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: يا عويمر، أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت، لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها، الآمرة هل ائتمرت؟ والزاجرة هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يُسمع.
الحاشية ص ٤٩
بَابُ فَضْلِ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ
معنى تعليم القرآن
حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: ثنا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لَهُ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَذَلِكَ أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هَذَا، فَكَانَ يُعَلِّمُ مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ إِلَى إِمْارَةِ الْحَجَّاجِ.
ص ٥١
رواه الْبُخَارِيُّ (٥٠٢٧)
قال ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» (٢٠٢/١): «وتعلم القرآن وتعليمه يتناول: تعلم حروفه وتعليمها، وتعلم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمي تعلمه وتعليمه، فإن المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه، فتعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها، وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه تعلم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل».
قال ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى الكبرى» (٤٢٣/٤):.. قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. ولهذا دخل في معنى قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»؛ تعليم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول بتعليم حروفه، وذلك هو الذي يزيد الإيمان، كما قال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وغيرهما: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا، وإنكم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون الإيمان.
الحاشية ص ٥٢
بَابُ فَضْلِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمَسْجِدِ لِدَرْسِ الْقُرْآنِ
طريقة السلف في تعليم القرآن في المساجد
٢٥ - حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ قَالَ ثنَا جَرِيرٌ يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا تَجَالَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
ص ٥٧
رواه أحمد (٧٤٢٧)، ومسلم (٢٦٩٩).
كان السلف يدرسون ويعلمون القرآن في المساجد بطريقتين:
-
التلقين: بأن يقرأ الشيخ القرآن على من حضر من طلابه كما كان جبريل يقرأ على النبي ﷺ.
-
أن يقرأ الطالب على شيخه، فيصحح له قراءته، كما أمر النبي ﷺ ابن مسعود أن يقرأ عليه القرآن.
أما الاجتماع في المسجد والقراءة الجماعية بصوت واحد فلم يكن ذلك من هدي السلف الصالح، ولم يكن معروفًا عندهم، بل لما ظهرت أنكروا وحذروا منها.
-
عن حسان بن عطية والأوزاعي أنهما قالا: أول من أحدث الدراسة في مسجد دمشق هشام بن إسماعيل في قدومه على عبد الملك.
-
وروى ابن أبي داود عن الضحاك بن عبد الرحمن أنه أنكر هذه الدراسة، وقال: ما رأيت ولا سمعت ولا أدركت أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ يفعلها. «المدخل» لابن الحاج (٩٠/١).
-
وفي «البيان والتحصيل» (٣٤٩/١٨) وسئل [مالك] عن القوم يجتمعون فيقرؤون القرآن جميعًا السورة الواحدة، فقال: إني لأكره ذلك، ولو كان بعضهم يتعلم من بعض لم أر بذلك بأسا. قيل له: أرأيت إن كان واحد منهم يقرأ عليهم؟ قال: لا بأس به. قال: وسئل عن القوم يجتمعون فيقرؤون السورة الواحدة، فقال: لا يعجبني هذا، ولا أحبه، ولكن لو قرؤوا على رجل منهم واحد، أو قرأ عليهم رجل منهم لم أر بذلك بأسا.
الحاشية ص ٥٥
لم يكن من هدي السلف تدريس الصبيان في المساجد
وهنا مسألة: لم أقف على روايات صريحة تدل على أن السلف الصالح في القرون المفضلة كانوا يدرسون ويعلمون الصبيان في المساجد كما هو الحال اليوم في كثير من البلدان، وإنما كان هديهم في تعليم الصبيان في الكتاب أو الكتاتيب، وهي عبارة عن مكان صغير يتخذ لتعليم الصبيان القراءة والكتابة وتلاوة القرآن وحفظه، وقد اتخذت هذا المكاتب في زمن أصحاب النبي ﷺ ولا تزال موجدة إلى اليوم في بعض البلدان.
وقد كره بعض أهل العلم تعليم الصبيان في المساجد لما يحدث من ذلك من المفاسد الكثيرة، ومنها:
-
أن الغالب من الصغار أنهم لا يتحفظون من النجاسة.
- ففي «آداب المعلمين» (۹۸) قال سحنون: وسُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد؟ قال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفظون من النجاسة، ولم يُنصب المسجد للتعليم.
-
أن تعليمهم في المساجد بالأجرة تكسب، وهي إجارة من جنس التجارات، وقد نهي عن اتخاذ المساجد مكانا للتجارة، كما قال مالك: ولم يُنصب المسجد للتعليم.
- قال القابسي في «الرسالة المفصلة» (۲۰۸) مُعلقًا على جواب مالك هذا: جواب صحيح، وتكسب الدنيا في المسجد لا يصلح، ألم تسمع قول عطاء بن يسار للذي أراد أن يبيع سلعة في المسجد: عليك بسوق الدنيا فإنما هذا سوق الآخرة.
-
كثرة لعبهم ولغطهم بسبب طول مكثهم في المسجد واعتياد دخوله.
- قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: مُجانبة المساجد إذا كان في غير صلاة، فسنة مسنونة، بلغوا سبعًا أو أقل أو أكثر، لما يخشى من لغطهم ولعبهم، فأما إن جاءوا بحضور الصلاة فلا يُمنعوا. [قيام الليل للمروزي (ص٢٤٣)].
-
رفع أصواتهم بالقرآن أو غيره مما فيه إزعاج للمصلين.
-
قال ابن تيمية رحمه الله: لا يجوز تعليم الصبيان في المساجد.
-
وقال: يُصان المسجد عما يُؤذيه ويؤذي المصلين حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره ونحو ذلك لا سيما إن كان ذلك وقت الصلوات فإنه من أعظم المنكرات.
-
وقال في موضع آخر: وأما تعليم الصبيان في المسجد بحيث يؤذون المسجد فيه، فيكونون يرفعون أصواتهم، ويشغلون المصلي فيه، ويضيقون عليه فهذا مما يجب النهي عنه والمنع منه. والله أعلم. [من كتاب تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد لأبي بكر الجراعي الحنبلي (ص ۲۱۰ - (۲۱۱)، وانظر «مجموع الفتاوى» (٢٠٤/٢٢)، و «الفتاوى الكبرى» (٨٦/٢)].
-
-
عبثهم بالمصاحف بالكتابة والتمزيق كما هو مشاهد في كثير من المساجد.
-
توسيخهم لفرش المسجد وقد أمرنا بنظافتها.
-
إتلافهم لبعض أملاك المسجد بالتخريب والتكسير.
-
قد يحتاج المعلم إلى عقاب الصبي بالضرب، وقد نهي عن الضرب في المسجد.
انظر: «مصنف ابن أبي شيبة (٤٣/١٠)، وعبد الرزاق (٤٣٦/١).
الحاشية ص ٥٧ - ٥٩
بَابُ ذِكْرِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْقُرْآنِ
استحباب الختم في أول النهار أو الليل والاجتماع عند الختم والدعاء بعده
٣٠ - وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ يَقُولُ: إِذَا خَتَمَ الْعَبْدُ الْقُرْآنَ قَبَّلَ الْمَلَكُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ.
ص ٦٠
-
في شعب الإيمان (۱۹۱۰) عن بشر بن موسى، حدثنا عمر بن عبد العزيز - شيخ له -، قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: حدثنا يحيى بن اليمان، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، قال: إذا ختم الرجل القرآن قبل الملك بين عينيه. قال بشر بن موسى: وقال لي عمر بن عبد العزيز: فحدثت به أحمد بن حنبل، فقال: لعل هذا من مخبآت سفيان واستحسنه أحمد بن حنبل جدا.
-
وكذلك روي أن الملائكة تصلي عليه إذا ختم القرآن، فروى الدارمي في «المسند» (۳۸۰۲) عن الأوزاعي، عن عبدة قال: إذا ختم الرجل القرآن بنهار صلت عليه الملائكة حتى يُمسي، وإن فرغ منه ليلا صلت عليه الملائكة حتى يُصبح.
-
وفي «مختصر قيام الليل» للمروزي (ص ٢٦٠) عن إبراهيم التيمي وطلحة بن مصرف: كان يقال: إذا ختم الرجل القرآن من أول النهار صلت عليه الملائكة بقية نهاره حتى يُمسي، وإذا ختمه من أول الليل صلت عليه الملائكة بقية ليلته حتى يُصبح، وكانوا يحبون أن يختموا القرآن في أول النهار أو في أول الليل.
ولهذا كان بعض السلف يحرصون على الاجتماع عند ختم القرآن والدعاء بعده.
-
ففي مختصر قيام الليل للمروزي (ص ٢٦٠) قال مجاهد ﷻ: تنزل الرحمة عند ختم القرآن، وكانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون: الرحمة تنزل.
-
وفي مسند الدارمي (۳۸۰۰) عن ثابت البناني قال: كان أنس بن مالك ﷺ إذا أشفى على ختم القرآن بالليل أبقى منه شيئًا حتى يصبح، فيجمع أهله فيختمه معهم.
-
وفيه (۳۸۰۱) عن ثابت قال: كان أنس إذا ختم القرآن جمع ولده وأهل بيته، فدعا لهم.
الحاشية ص ٦٠ - ٦١
أخلاق حامل القرآن
٣١ - فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعًا لِقَلْبِهِ يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرِبَ مِنْ قَلْبِهِ، يَتَأَدَّبُ بِآدَابِ الْقُرْآنِ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقٍ شَرِيفَةٍ تَبِينُ بِهِ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ، مِمَّنْ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ:
فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ:
تَقْوَى اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، بِاسْتِعْمَالِ الْوَرَعِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ وَمَسْكَنِهِ.
بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادِ أَهْلِهِ، فَهُوَ يَحْذَرُهُمْ عَلَى دِينِهِ،
مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ، مَهْمُومًا بِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمَرِهِ،
حَافِظًا لِلِسَانِهِ، مُمَيِّزًا لَكَلَامِهِ،
إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ إِذَا رَأَى الْكَلَامَ صَوَابًا، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِعِلْمٍ إِذَا كَانَ السُّكُوتُ صَوَابًا،
قَلِيلُ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ،
يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ عَدُوَّهُ،
يَحْبِسُ لِسَانَهُ كَحَبْسِهِ لِعَدُوِّهِ؛ لِيَأْمَنَ شَرَّهُ وَشَرَّ عَاقِبَتِهِ،
قَلِيلُ الضَّحِكِ مِمَّا يَضْحَكُ مِنْهُ النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ،
إِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الْحَقَّ تَبَسَّمَ،
يَكْرَهُ الْمِزَاحَ خَوْفًا مِنَ اللَّعِبِ، فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا،
بَاسِطُ الْوَجْهِ، طَيِّبُ الْكَلَامِ، لَا يَمْدَحُ نَفْسَهُ بِمَا فِيهِ، فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟
يُحَذِّرُ نَفْسَهُ أَنْ تُغْلَبَ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلَاهُ،
لَا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلَا يَحْقِرُ أَحَدًا، وَلَا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلَا يَشْمَتُ بِمُصِيبِهِ، وَلَا يَبْغِي عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَحْسُدُهُ، وَلَا يُسِيءُ الظَّنَّ بِأَحَدٍ إِلَّا لِمَنْ يَسْتَحِقُّ
يَحْسُدُ بِعِلْمٍ، وَيَظُنُّ بِعِلْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِمَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ عَيْبٍ بِعِلْمٍ، وَيَسْكُتُ عَنْ حَقِيقَةِ مَا فِيهِ بِعِلْمٍ،
قَدْ جَعَلَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خُلُقٍ حَسَنٍ جَمِيلٍ،
حَافِظًا لِجَمِيعِ جَوَارِحِهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ،
إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ، وَإِنْ قَعَدَ قَعَدَ بِعِلْمٍ،
يَجْتَهِدُ لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،
لَا يَجْهَلُ؛ فَإِنْ جُهِلَ عَلَيْهِ حَلُمَ،
لَا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا،
لَا يَبْغِي، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ،
يَكْظِمُ غَيْظَهُ لِيُرْضِيَ رَبَّهُ وَيَغِيظَ عَدُوَّهُ،
مُتَوَاضِعٌ فِي نَفْسِهِ، إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقُّ قَبِلَهُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ،
يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ،
مَاقِتًا لِلْكِبْرِ، خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ،
لَا يَتَآكَلُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ الْحَوَائِجَ
وَلَا يَسْعَى بِهِ إِلَى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ،
وَلَا يُجَالِسُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ لِيُكْرِمُوهُ،
إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا الْكَثِيرَ بِلَا فِقْهٍ وَلَا بَصِيرَةٍ، كَسَبَ هُوَ الْقَلِيلَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ،
إِنْ لَبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الْفَاخِرَ، لَبِسَ هُوَ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ،
إِنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَكَ،
يَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُطْغِيهِ
يَتْبَعُ وَاجِبَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
يَأْكُلُ الطَّعَامَ بِعِلْمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيَنَامُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الْإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزُورُهُمْ بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأْذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاوِرُ جَارَهُ بِعِلْمٍ،
يُلْزِمُ نَفْسَهُ بِرَّ وَالِدَيْهِ: فَيَخْفِضُ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفِضُ لِصَوْتِهِمَا صَوْتَهُ، وَيَبْذُلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلَيْهِمَا بِعَيْنِ الْوَقَارِ وَالرَّحْمَةِ، يَدْعُو لَهُمَا بِالْبَقَاءِ، وَيَشْكُرُ لَهُمَا عِنْدَ الْكِبَرِ، لَا يَضْجَرُ بِهِمَا، وَلَا يَحْقِرُهُمَا، إِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةٍ أَعَانَهُمَا، وَإِنِ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُعِنْهُمَا [عَلَيْهَا]، وَرَفَقَ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُمَا بِحُسْنِ الْأَدَبِ؛ لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَا مِمَّا لَا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُهُ،
يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَكْرَهُ الْقَطِيعَةَ، مَنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ، وَمَنْ عَصَى اللَّهَ فِيهِ أَطَاعَ اللَّهَ عز وجل فِيهِ،
يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلْمٍ، وَيُجَالِسُهُمْ بِعِلْمٍ، مَنْ صَحِبَهُ نَفَعَهُ
حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ،
إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفَقَ بِهِ، لَا يُعَنِّفُ مَنْ أَخْطَأَ وَلَا يُخْجِلُهُ،
رَفِيقٌ فِي أُمُورِهِ، صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْخَيْرِ،
يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرَحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا،
مُؤَدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ،
إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مُؤَدِّبَانِ؛
يَحْزَنُ بِعِلْمٍ، وَيَبْكِي بِعِلْمٍ، وَيَصْبِرُ بِعِلْمٍ، يَتَطَهَّرُ بِعِلْمٍ، وَيُصَلِّي بِعِلْمٍ، وَيُزَكِّي بِعِلْمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِعِلْمٍ، وَيَصُومُ بِعِلْمٍ، وَيَحُجُّ بِعِلْمٍ وَيُجَاهِدُ بِعِلْمٍ، وَيَكْتَسِبُ بِعِلْمٍ، وَيُنْفِقُ بِعِلْمٍ، وَيَنْبَسِطُ فِي الْأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَيَنْقَبِضُ عَنْهَا بِعِلْمٍ قَدْ أَدَبَّهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ،
يَتَصَفَّحُ الْقُرْآنَ؛ ليُؤَدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، لَا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرَضَ اللَّهُ بِجَهْلٍ،
قَدْ جَعَلَ الْعِلْمَ وَالْفِقْهَ دَلَيْلَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ
إِذَا دَرَسَ الْقُرْآنَ فَبِحُضُورِ فَهْمٍ وَعَقْلٍ،
هِمَّتُهُ إِيقَاعُ الْفَهْمِ لِمَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ: مِنَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟
هِمَّتُهُ مَتَى أَسْتَغْنِي بِاللَّهِ عَنْ غَيْرِهِ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَّقِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَاشِعِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّابِرِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الصَّادِقِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الْخَائِفِينَ؟
مَتَى أَكُونُ مِنَ الرَّاجِينَ؟
مَتَى أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا؟
مَتَى أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ؟
مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ؟
مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ الْمُتَوَاتِرَةَ؟ مَتَى أَشْكُرُ عَلَيْهَا؟
مَتَى أَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ الْخِطَابَ؟
مَتَى أَفْقَهُ مَا أَتْلُو؟
مَتَى أَغْلِبُ نَفْسِي عَلَى مَا تَهْوَى؟
مَتَى أُجَاهِدُ فِي اللَّهِ حَقَّ الجِهَادِ؟
مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي؟ مَتَى أَغُضُّ طَرْفِي؟ مَتَى أَحْفَظُ فَرْجِي؟
مَتَى أَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ؟
مَتَى أَشْتَغِلُ بِعَيْبِي؟
مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي؟
مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي؟
مَتَى أَتَزَوَّدُ لِيَوْمِ مَعَادِي؟
مَتَى أَكُونُ عَنِ اللَّهِ رَاضِيًا؟
مَتَى أَكُونُ بِاللَّهِ وَاثِقًا؟
مَتَى أَكُونُ بِزَجْرِ الْقُرْآنِ مُتَّعِظًا؟
مَتَى أَكُونُ بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ مُشْتَغِلًا؟
مَتَى أُحِبُّ مَا أَحَبَّ؟ مَتَى أُبْغِضُ مَا أَبْغَضَ؟
مَتَى أَنْصَحُ لِلَّهِ؟
مَتَى أُخْلِصُ لَهُ عَمَلِي؟
مَتَى أُقَصِّرُ أَمَلِي؟
مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلِي؟
مَتَى أُعَمِّرُ قَبْرِي؟
مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمَوْقِفِ وَشِدَّتِهِ؟
مَتَى أُفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي؟
مَتَى أُفَكِّرُ فِي الْمُنْقَلَبِ؟
مَتَى أَحْذَرُ مِمَّا حَذَّرَنِي مِنْهُ رَبِّي مِنْ نَارٍ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيدٌ وَعُمْقُهَا طَوِيلٌ، لَا يَمُوتُ أَهْلُهَا فَيَسْتَرِيحُوا، وَلَا تُقَالُ عَثْرَتُهُمْ، وَلَا تُرْحَمُ عَبْرَتُهُمْ، طَعَامُهُمُ الزَّقُّومُ، وَشَرَابُهُمُ الْحَمِيمُ، ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء: ٥٦]، نَدِمُوا حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ النَّدَمُ، وَعَضُّوا عَلَى الْأَيْدِي أَسَفًا عَلَى تَقْصِيرِهِمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَرُكُونِهِمْ لِمَعَاصِي اللَّهِ.
فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]
وَقَالَ قَائِلٌ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَالُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٠]
وَقَالَ قَائِلٌ: ﴿يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩]
وَقَالَ قَائِلٌ: ﴿يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (٢٨)﴾ [الفرقان]
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمْ وَوُجُوهُهُمْ تَتَقَلَّبُ فِي أَنْوَاعِ الْعَذَابِ فَقَالُوا: ﴿يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ [الأحزاب: ٦٦]
فَهَذِهِ النَّارُ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ يَا حَمَلَةَ الْقُرْآنِ، حَذَّرَهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَالَ عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦]
وَقَالَ عز وجل: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣١]
وَقَالَ عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الحشر: ١٨]
ثُمَّ حَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغْفُلُوا عَمَّا فَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَمَا عَهِدَهُ إِلَيْهِمْ، أَلَّا يَضَعُوهُ، وَأَنْ يَحْفَظُوا مَا اسْتَرْعَاهُمْ مِنْ حُدُودِهِ، وَلَا يَكُونُوا كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ فَسَقَ عَنْ أَمْرِهِ، فَعَذَّبَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ، فَقَالَ عز وجل: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [الحشر: ١٩]
ثُمَّ أَعْلَنَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ فَقَالَ عز وجل: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: ٢٠]
٣٢ - فَالْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ إِذَا تَلَا الْقُرْآنَ اسْتَعْرَضَ الْقُرْآنَ، فَكَانَ كَالْمِرْآةِ، يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِنْ فِعْلِهِ، وَمَا قَبُحَ مِنْهُ، فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلَاهُ حَذِرَهُ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ، وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلَاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ، أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةَ، فَقَدْ تَلَاهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ، وَكَانَ لَهُ الْقُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسًا وَحِرْزًا، وَمَنْ كَانَ هَذَا وَصَفَهُ، نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ، وَعَادَ عَلَى وَالِدَيْهِ، وَعَلَى وَلَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
ص ٦١ - ٧١
تلين القلوب بأكل الحلال
بدأ المصنف رحمه الله وصيته لأهل القرآن بأكل الحلال الطيب، وهذا ما أمر الله تعالى به أنبيائه ورسله، فقال ﷻ: ﴿يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون].
وفي «الحلية» (۱۸۲/۱) قال أبو حفص عمر بن صالح الطرسوسي: ذهبت أنا ويحيى الجلاء - وكان يقال: إنه من الأبدال ـ، إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألته، وكان إلى جنبه فوران، وزهير، وهارون الحمال، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله، بم تلين القلوب؟ فأبصر إلى أصحابه، فغمزهم بعينه، ثم أطرق ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: يا بني بأكل الحلال.
فمررت كما أنا إلى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلت له: يا أبا نصر، بم تلين القلوب؟ قال: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد]. قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله، فقال: هيه إيش قال لك أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال. فقال: جاء بالأصل.
فمررت إلى عبد الوهاب بن أبي الحسن، فقلت: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ قال: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، قلت: فإني جئت من عند أبي عبد الله فاحمرت وجنتاه من الفرح، وقال لي: أيش قال أبو عبد الله؟ فقلت: قال: بأكل الحلال. فقال: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كما قال، الأصل كما قال.
الحاشية ص ٦١ - ٦٢
حامل القرآن لا يتأكل به ولا يُحبُّ أن تُقضى له به الحوائج
في «تاريخ دمشق» (٣٥٤/٦١) عن ميمون بن مهران قال: يا أصحاب القرآن، لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الشف - يعني: الربح في الدنيا -، والتمسوا الدنيا بالدنيا، والتمسوا الآخرة بالآخرة.
وفي «الجرح والتعديل» (۱/ ۱۰۰) عن عبد الرحمن بن مصعب، قال: كان رجل أعمى يجالس سفيان، فكان إذا كان شهر رمضان خرج إلى السواد فيصلي بالناس، فيكسى، ويُوهَب له، فقال سفيان: إذا كان يوم القيامة أُثيب أهل القرآن من قراءتهم، ويقال لمثل هذا: قد تعجلت ثوابك. فقال له الرجل: يا أبا عبد الله، تقول هذا لي وأنا جليس لك؟! قال: إني أتخوف أن يقال لي يوم القيامة: إنه كان جليس لك أفلا نصحته؟!
الحاشية ص ٦٤
حامل القرآن لا يسعى به إلى أبناء الملوك
وفي «أخبار الشيوخ» للمروذي (٥٦) قال محمد بن سيرين: إن دعاك الوالي أن تقرأ عليه سورة من القرآن فلا تأته.
وفي أخبار الشيوخ للمروذي (56) قال محمد بن سيرين: إن دعاك الوالي أن تقرأ عليه سورة من القرآن فلا تأته.
…
قلت: وذكر نحو ذلك عن حماد بن سلمة، وسفيان الثوري، وميمون بن مهران، وغيرهم كثير، وهذا أمر متواتر عنهم، فهم ينهون عن الخروج عليهم ويأمرون بالسمع والطاعة، وينهون عن إتيانهم وحضور مجالسهم لأنها فتنة لمن حضرها.
الحاشية ص ٦٥
حامل القرآن بار بوالدته
في «الجامع لأخلاق الرواي» (١٧٦٧) قال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أُمِّي تنتظرني بالعشاء، قال: فقال الحسن: تعش العشاء مع أمك تقر به عينها أحبّ إليَّ من حَجَّة تحجها تطوعًا.
الحاشية ص ٦٦
نسيان الله تعالى ونسيان كتابه يكون ترك العمل
من السلف من فسر نسيان الله ونسيان كتابه بترك العمل بطاعة الله وبما في القرآن، وكذلك ما ورد من الأحاديث في ذم من نسي القرآن، أي: نسيان العمل به.
ففي «الاستذكار» (٤٨٩/٢) عن نعيم بن حماد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول في معنى ما جاء من الأحاديث في نسيان القرآن، قال: هو ترك العمل بما فيه، قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَنسَنَكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الجاثية: ٣٤].
وليس من اشتهى حفظه، وتفلت منه بناس له إذا كان يُحلّل حلاله، ويُحرم حرامه.
قال: ولو كان كذلك ما نسي النبي ﷺ شيئًا منه، قال: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰٓ (٦) إِلَّا مَا شَاءَ ٱللَّهُ﴾ [الأعلى]، وقد نسي رسول الله ﷺ منه أشياء، وقال: «ذكرني هذا آية أنسيتها».
قال سفيان: ولو كان كما يقول هؤلاء الجُهَّال؛ ما أنسى الله نبيه منه شيئًا.
قال إبراهيم الحربي في «غريب الحديث» (٤٢٩/٢): قوله: «من قرأ القرآن ثم نسيه»، يقول: ترك العمل به، كما قال: ﴿نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾.
الحاشية ص ٧٠ - ٧١
بَابُ أَخْلَاقِ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ
صفة من قرأ القرآن للدنيا
٣٧ - فَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لِلدُّنْيَا وَلِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِ:
أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ، مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ،
مُتَعَظِّمًا فِي نَفْسِهِ، مُتَكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ،
قَدِ اتَّخَذَ الْقُرْآنَ بِضَاعَةً، يَتَآكَلُ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ
يُعَظِّمُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا وَيُحَقِّرُ الْفُقَرَاءَ،
إِنْ عَلَّمَ الْغَنِيَّ رَفَقَ بِهِ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُ،
وَإِنْ عَلَّمَ الْفَقِيرَ زَجَرَهُ [وَعَنَّفَهُ]؛ لِأَنَّهُ لَا دُنْيَا لَهُ يُطْمَعُ فِيهَا، يَسْتَخْدِمُ بِهِ الْفُقَرَاءَ، وَيَتِيهُ بِهِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ،
إِنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ، أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ، وَيُصَلِّيَ بِهِمْ؛ طَمَعًا فِي دُنْيَاهُمْ، وَإِنْ سَأَلَهُ الْفُقَرَاءُ الصَّلَاةَ بِهِمْ، ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِقِلَّةِ الدُّنْيَا فِي أَيْدِيهِمْ، إِنَّمَا طَلَبُهُ الدُّنْيَا حَيْثُ كَانَتْ، رَبَضَ عِنْدَهَا،
يَفْخَرُ عَلَى النَّاسِ بِالْقُرْآنِ، وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونَهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَزِيَادَةِ الْمَعْرِفَةِ بِالْغَرِيبِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، الَّتِي لَوْ عَقَلَ لَعَلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْرَأَ بِهَا
فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبِّرًا، كَثِيرَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، يَعِيبُ كُلَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَهُ مُتَكَبِّرًا فِي جِلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا فِي تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ،
لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ،
كَثِيرَ الضَّحِكِ وَالْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ،
يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ، هُوَ إِلَى اسْتِمَاعِ حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَمِعَ لَهُ،
يُوَرِّي أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا، فَهُوَ إِلَى كَلَامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إِلَى كَلَامِ الرَّبِّ عز وجل،
لَا يَخْشَعُ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَلَا يَبْكِي، وَلَا يَحْزَنُ، وَلَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْفِكْرِ فِيمَا يُتْلَى عَلَيْهِ، وَقَدْ نُدِبَ إِلَى ذَلِكَ،
رَاغِبٌ فِي الدُّنْيَا وَمَا قَرَّبَ مِنْهَا، لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى،
إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ، قَالَ: أَهْلُ الْقُرْآنِ لَا يُقَصَّرُ فِي حُقُوقِهِمْ، وَأَهْلُ الْقُرْآنِ تُقْضَى حَوَائِجُهُمْ، يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَقَّ نَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا لِلَّهِ عَلَيْهَا،
يَغْضَبُ عَلَى غَيْرِهِ، زَعَمَ لِلَّهِ، وَلَا يَغْضَبُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ
لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ، مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلَالٍ، قَدْ عَظُمَتِ الدُّنْيَا فِي قَلْبِهِ، إِنْ فَاتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ، حَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ
لَا يَتَأَدَّبُ بِأَدَبِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ عَنِ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لَاهٍ غَافِلٌ عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَلَيْهِ،
هِمَّتُهُ حِفْظُ الْحُرُوفِ، إِنْ أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ سَاءَهُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَنْقُصَ جَاهُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، فَتَنْقُصَ رُتْبَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ، وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْقُرْآنُ أَوْ نَهَى عَنْهُ، غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهِ،
أَخْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلَاقُ الْجُهَّالِ، الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ،
لَا يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ بِمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ إِذْ سَمِعَ اللَّهَ عز وجل قَالَ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]،
فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ طَلَبَ الْعِلْمِ لِمَعْرِفَةِ مَا نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ ﷺ فَيَنْتَهِيَ عَنْهُ،
قَلِيلُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل، كَثِيرُ النَّظَرِ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا لِيُكْرِمُوهُ بِذَلِكَ،
قَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ الَّذِي نَدَبَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ الرَسُولُ ﷺ لِيَأْخُذَ الْحَلَالَ بِعِلْمٍ، وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِعِلْمٍ،
لَا يَرْغَبُ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ النِّعَمِ، وَلَا فِي عِلْمِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ،
تِلَاوَتُهُ لِلْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى كِبْرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَتَزَيُّنٍ عِنْدَ السَّامِعِينَ مِنْهُ،
لَيْسَ لَهُ خُشُوعٌ، فَيَظْهَرَ عَلَى جَوَارِحِهِ،
إِذَا دَرَّسَ الْقُرْآنَ، أَوْ دَرَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ هِمَّتُهُ مَتَى يَقْطَعُ؟، لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى يَفْهَمُ؟
لَا يَتَفَكَّرُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ بِضُرُوبٍ أَمْثَالِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ،
يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِرِضَا الْمَخْلُوقِينَ، وَلَا يُبَالِي بِسَخَطِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،
يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِكَثْرَةِ الدَّرْسِ، وَيُظْهِرُ خَتْمَهُ لِلْقُرْآنِ لِيَحْظَى عِنْدَهُمْ، قَدْ فَتَنَهُ حُسْنُ ثَنَاءِ مَنْ جَهِلَهُ
يَفْرَحُ بِمَدْحِ الْبَاطِلِ، وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ أَهْلِ الْجَهْلِ،
يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِيمَا تُحِبُّ نَفْسُهُ، غَيْرُ مُتَصَفِّحٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ عَنْهُ،
إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْرِئُ، غَضِبَ عَلَى مَنْ قَرَأَ عَلَى غَيْرِهِ
إِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ بِالصَّلَاحِ كَرِهَ ذَلِكَ، وَإِنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ بِمَكْرُوهٍ سَرَّهُ ذَلِكَ،
يَسْخَرُ بِمَنْ دُونَهُ، وَيَهْمِزُ بِمَنْ فَوْقَهُ
يَتَتَبَّعُ عُيُوبَ أَهْلِ الْقُرْآنِ؛ لِيَضَعَ مِنْهُمْ، وَيَرْفَعَ مِنْ نَفْسِهِ،
يَتَمَنَّى أَنْ يُخْطِئَ غَيْرُهُ وَيَكُونَ هُوَ الْمُصِيبُ
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِسَخَطِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ،
وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ أَظْهَرَ عَلَى نَفْسِهِ شِعَارَ الصَّالِحِينَ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ضَيَّعَ فِي الْبَاطِنِ مَا يَجِبُ لِلَّهِ، وَرَكِبَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ مَوْلَاهُ، كُلُّ ذَلِكَ بِحُبِّ الرِّيَاسَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الدُّنْيَا.
…
۳۸ - فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ أَخْلَاقَهُ صَارَ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي لَا تَحْسُنُ بِمِثْلِهِ، اقْتَدَى بِهِ الْجُهَّالُ، فَإِذَا عِيبَ الْجَاهِلُ، قَالَ: فُلَانٌ الْحَامِلُ لِكِتَابِ اللَّهِ فَعَلَ هَذَا، فَنَحْنُ أَوْلَى أَنْ نَفْعَلَهُ!
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لَعَظِيمٍ، وَثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَلَا عُذْرَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ.
وَإِنَّمَا حَدَانِي عَلَى مَا بَيَّنْتُ مِنْ قَبِيحِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ؛ نَصِيحَةً مِنِّي لِأَهْلِ الْقُرْآنِ لِيَتَعلَّقُوا بِالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَيَتَجَانَبُوا الْأَخْلَاقَ الدَّنِيئَةَ، وَاللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاهُمْ للِرَّشَادِ.
ص ٧٥ - ٨١
ما أحب أحد الرئاسة إلا حسد وبغى
في جامع بيان العلم (۹۷۱) قال فضيل بن عياض: ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
وفي طبقات الحنابلة (۲٦/۳) قال سفيان: حب الرياسة أعجب إلى الرجل من الذهب والفضة، ومن أحب الرياسة طلب عيوب الناس. وقال سفيان ما ازداد رجل علمًا فازداد من الدنيا قربا؛ إِلَّا ازداد من الله بعدا.
الحاشية ص ٧٩
كراهة السلف الصالح الشهرة
كان السلف الصالح يكرهون الشهرة غاية الكراهة، منهم: أيوب، والنخعي، وسفيان وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين، وكذلك الفضيل، وداود الطائي، وغيرهما من الزهاد والعارفين، وكانوا يذمون أنفسهم غاية الذم، ويسترون أعمالهم غاية الستر.
دخل رجل على داود الطائي فسأله ما جاء به؟ فقال: جئت أزورك. فقال: أما أنت فقد أصبت خيرًا حيث زرت في الله؛ ولكن أنا أنظر ماذا لقيت غدًا إذا قيل لي: من أنت حتى تُزار؟ من الزهاد أنت؟ لا والله. من العباد أنت؟ لا والله. من الصالحين أنت؟ لا والله، وعدد خصال الخير على هذا الوجه، ثم جعل يوبّخ نفسه، فيقول: يا داود! كنت في الشبيبة فاسقا، فلما شبت صرت مرائيا، والمرائي أشر من الفاسق.
الحاشية ص ٧٩ - ٨٠
كراهة السلف لطلب الدعاء
وكان كثير من السلف يكره أن يطلب منه الدعاء، ويقول لمن يسأله الدعاء: أنبي أنا؟!
وممن روي عنه ذلك عمر بن الخطاب وحذيفة بن اليمان، وكذلك مالك بن دينار.
وكتب رجل إلى أحمد يسأله الدعاء، فقال أحمد: إذا دعونا نحن لهذا، فمن يدعو لنا؟!
الحاشية ص ٨٠
من دقيق أبواب الرياء
وهاهنا نكتة دقيقة، وهي أن الإنسان قد يذم نفسه بين الناس يريد بذلك أن يُري أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء، وقد نبه عليه السلف الصالح.
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: كفى بالنفس إطراء أن تذمها على الملأ، كأنك تريد بذمها زينتها، وذلك عند الله سفه. اهـ.
الحاشية ص ٨٠
قراءة القرآن عند المريض
في «فضائل القرآن» لأبي عبيد (713) عن طلحة بن مُصرف، قال: كان يقال: إذا قرئ القرآن عند المريض، وجد لذلك خِفَّة. قال: فدخلت على خيثمة وهو مريض، فقلت: إني أراك اليوم صالحًا؟! فقال: إنه قُرئ عندي القرآن.
الحاشية ص ٨٠
معاملة الناس بظواهر أعمالهم
٣٩ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَلَاءِ الزُّبَيْدِيُّ قَالَ: ثنا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي فِرَاسٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ أَتَى عَلَيْنَا حِينٌ وَمَا نَرَى أَنَّ أَحَدًا يَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ يُرِيدُ بِهِ إِلَّا اللَّهَ، فَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا بِأَخْرَةٍ، خَشِيتُ أَنَّ رِجَالًا يَتَعَلَّمُونَهُ يُرِيدُونَ بِهِ النَّاسَ وَمَا عِنْدَهُمْ، فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِقُرْآنِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، وَإِنَّا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَإِذْ يَنْزِلُ الْوَحْيُ، وَإِذْ يُنْبِئُنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَانْقَطَعَ الْوَحْيُ، وَإِنَّمَا أَعْرِفُكُمْ بِمَا أَقُولُ: مَنْ أَعْلَنَ خَيْرًا أَجَبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا، وَمَنْ أَظْهَرَ شَرًّا بَغَضْنَاهُ وَظَنَنَّا بِهِ شَرًّا، سَرَائِرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل.
ص ٨٢
يسهل حفظ القرآن ويصعب العمل به في آخر الزمان
قال الأنباري: حدثني محمد بن شهريار، حدثنا حسين بن الأسود، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو، عن زياد بن مخراق، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به. «الجامع لأحكام القرآن» (١ / ٤٠).
الحاشية ص ٨٥
كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن حتى يعلموا ما فيهن
روى ابن سعد في «الطبقات» (١٧٢/٦)، والفريابي في «فضائل القرآن» (١٦٩) من طريق حماد بن زيد قال: حدثنا عطاء بن السائب: أن أبا عبد الرحمن السلمي، قال: إنا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز هاهنا. ووضع يده على الحلق. وإسناده صحيح، حماد سمع من عطاء قبل الاختلاط كما قال النسائي والعقيلي.
الحاشية ص ٨٦
يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذِ النَّاسُ نَائِمُونَ
٥٠ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشِّكْلِيُّ، قَالَ: ثنا الْعَلَاءُ بْنُ سَالِمٍ، قَالَ: ثنا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: «يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذِ النَّاسُ نَائِمُونَ، وَنَهَارِهِ إِذِ النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِوَرَعِهِ إِذِ النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِتَوَاضُعِهِ إِذِ النَّاسُ يَخْتَالُونَ، وَبِحُزْنِهِ إِذِ النَّاسُ يَفْرَحُونَ، وَبِبُكَائِهِ إِذِ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذِ النَّاسُ يَخُوضُونَ».
ص ٨٨
زاد أحمد في «الزهد» (۸۹۲): (.. وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيا، محزونًا، حليمًا، سكينًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا، ولا غافلاً، ولا صحابًا، ولا ضاحكًا، ولا حديدًا).
الحاشية ص ٨٨
حملة الْقُرْآنِ أَخْلَاقُهُمْ مُبَايِنَةً لِأَخْلَاقِ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ كَعِلْمِهِمْ
هَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ أَخْلَاقُهُمْ مُبَايِنَةً لِأَخْلَاقِ مَنْ سِوَاهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَعْلَمْ كَعِلْمِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ بِهِمُ الشَّدَائِدُ لَجَئُوا إِلَى اللَّهِ عز وجل فِيهَا وَلَمْ يَلْجَئُوا فِيهَا إِلَى مَخْلُوقٍ، وَكَانَ اللَّهُ أَسْبَقَ إِلَى قُلُوبِهِمْ، قَدْ تَأَدَّبُوا بِأَدَبِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَهُمْ أَعْلَامٌ يُهْتَدَى بِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ خَاصَّةُ اللَّهِ وَأَهْلُهُ ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: ٢٢]
ص ٨٨ - ٨٩
إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآَنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ عَمَلً
٥٢ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ قَالَ: ثنا الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، إِلَى الْخَلِيفَةِ فَمَنْ دُونَ، وَأَنْ تَكُونَ حَوَائِجُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ يَقُولُ: حَامِلُ الْقُرْآنِ حَامِلُ رَايَةِ الْإِسْلَامِ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْغُوَ مَعَ مَنْ يَلْغُو، وَلَا يَسْهُوَ مَعَ مَنْ يَسْهُو، وَلَا يَلْهُوَ. قَالَ: وَسَمِعْتُ الْفُضَيْلَ يَقُولُ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآَنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ قِرَاءَتَهُ عَمَلًا. أَيْ لِيُحِلُّوا حَلَالَهُ وَيُحَرِّمُوا حَرَامَهُ، وَيَقِفُوا عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ.
ص ٨٩
قلت: وقد اشتغل كثير من القراء في الأزمان المتأخرة بإقامة حروفه ومخارجه والتغني به، وبالغوا في ذلك حتى آل الأمر بكثير منهم إلى قراءته بالمقامات وألحان أهل الغناء والفسق، فأشغلهم الشيطان بذلك عن الفهم والتدبر والعمل به الذي هو الغاية منه.
-
ففي «مصنف» ابن أبي شيبة (٣٠٦٥١) قال ابن مسعود رضي الله عنه: فاقرؤوه كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف.
-
وفيه (٣٠٦٥٢) عن سعيد بن جبير، قال: اقرؤوا القرآن صبيانية، ولا تنطعوا فيه. أي: قراءة سهلة غير متكلفة كقراءة الصبيان للقرآن في الكتاتيب بدون تكلف ولا تنطع.
-
وفي «كتاب السبعة في القراءات» (ص٧٦) قال حمزة الزيات - وهو أحد القراء السبعة رحمه الله -: إن لهذا التحقيق منتهى يُنتهى إليه، ثم يكون قبيحًا! مثل البياض؛ له منتهى ينتهي إليه، وإذا زاد صار برصا، ومثل الجعودة لها منتهى تنتهي إليه، فإذا زادت صارت قططا.
-
وفي «التمهيد في معرفة التجويد» (ص٩٤) قال حمزة: إنما القراءة بمنزلة الشعر، إذا كان جعدًا قططًا سَمُجَ، وإذا كان سبطًا سمج، وإنما حسنه أن يكون بين ذلك، وكذلك القراءة.
-
وفيه: قال سليم: شهدت حمزة وأتاه رجل فقال له: جئت لأقرأ عليك بالتحقيق، فبكى، وقال: يا ابن أخي، إن التحقيق صون القرآن، فإذا صنته فقد حققته، هذا التشديق! قال: فمضى فلم يقرأ عليه.
-
وفي التحديد في الإتقان والتجويد للداني (ص ۱۹۹) حدثنا جعفر بن شكل، قال: جاء رجل إلى نافع وهو إمام قراء أهل المدينة، فقال: تأخذ علي الحدر، فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمعنا. قال: فقرأ الرجل، فقال نافع: الحذر - أو قال: حدرنا -: أن لا تُسقط الإعراب، ولا ننفي الحروف، ولا نُخفّف مشددًا، ولا تُشدّد مخففًا، ولا نقصر ممدودًا، ولا نمد مقصورًا، قراءتنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله ﷺ، سَهْل جزل، لا نمضغ ولا نلوك، ننبر ولا نبتهر، نُسَهّل ولا تُشدّد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء وأصحاب اللغات، أصاغر عن أكابر، مليء عن وفي، ديننا دين العجائز، وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل فيه بالرأي، ثم تلا نافع: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ﴾ إلى آخر الآية. قال أبو عمرو الداني: وهذا كلام من أيد، ووفق، ونُصِرَ، وَفَهِمَ، وَجُعِلَ إمامًا عَلَمًا يُقتفى أثره، ويُتبَّع سُننه. وهذه الطريقة التي وصفها وبينها وأوضحها وعرف أن الصحابة ؓ احتذوها، هي التي يجب على قراء القرآن أن يمتثلوها في التحقيق، ويسلكوها في التجويد، وينبذوا ما سواها مما هو مخالف لها وخارج عنها. وعلى ذلك وجدنا الأئمة من القراء والأكابر من أهل الأداء. اهـ.
-
وقد عقد الداني في كتابه هذا بابًا في بيان هذه المسألة المهمة فقال: (باب ذكر الإفصاح عن مذاهب الأئمة في حد التحقيق ونهاية التجويد وما جاء عنهم من الكراهة في التجاوز عن ذلك)، وفيه (ص۱۹۳): اعلموا أن التحقيق الوارد عن أئمة القراءة حده: أن توفى الحروف حقوقها، من المد إن كانت ممدودة، ومن التمكين إن كانت ممكنة، ومن الهمز إن كانت مهموزة، ومن التشديد إن كانت مشددة، ومن الإدغام إن كانت مدغمة، ومن الفتح إن كانت مفتوحة، ومن الإمالة إن كانت ممالة، ومن الحركة إن كانت متحركة، ومن السكون إن كانت مسكنة، من غير تجاوز ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف.. فأما ما يذهب إليه بعض أهل الغباوة من أهل الأداء من الإفراط في التمطيط، والتعسف في التفكيك، والإسراف في إشباع الحركات، وتلخيص السواكن إلى غير ذلك من الألفاظ المستبشعة والمذاهب المكروهة، فخارج عن مذاهب الأئمة وجمهور سلف الأمة، وقد وردت الآثار عنهم بكراهة ذلك… إلخ
-
قال ابن الجزري في «النشر في القراءات العشر» (۲۱۳/۱): فليس التجويد: بتمضيغ اللسان، ولا بتقعير الفم، ولا بتعويج الفك، ولا بترعيد الصوت، ولا بتمطيط الشدّ، ولا بتقطيع المدّ، ولا بتطنين الغنات، ولا بحصرمة الراءات، قراءة تنفر عنها الطباع، وتمجها القلوب والأسماع، بل القراءة السهلة العذبة الحلوة اللطيفة، التي لا مضغ فيها ولا لوك، ولا تعسف ولا تكلف، ولا تصنع ولا تنطع، لا تخرج عن طباع العرب، وكلام الفصحاء بوجه من وجوه القراءات والأداء.
-
قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (١٦ / ٥٠): وأما في باب فهم القرآن فهو دائم التفكر في معانيه، والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه عن غيره من كلام الناس، وإذا سمع شيئًا من كلام الناس وعلومهم عرضه على القرآن؛ فإن شهد له بالتزكية قبله، وإلا ردَّه، وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه، وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه.. ولا يجعل همته فيما حُجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط وغير ذلك. فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق بـ ﴿أَنذَرْتَهُمْ﴾، وضم الميم من ﴿عَلَيْهِم﴾، ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها ونحو ذلك. وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت. وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان.
الحاشية ص ٨٩ - ٩٣
مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ آثَرَ الدُّنْيَا لَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْوَرْدِ يَقُولُ: كَتَبَ حُذَيْفَةُ الْمَرْعَشِيُّ إِلَى يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ: بَلَغَنِي أَنَّكَ بِعْتَ دِينَكَ بِحَبَّتَيْنِ، وَقَفْتَ عَلَى صَاحِبِ لَبَنٍ فَقُلْتَ: بِكَمْ هَذَا؟ فَقَالَ: هُوَ لَكَ بِسُدُسٍ، فَقُلْتَ: لَا بِثُمُنٍ، فَقَالَ: هُوَ لَكَ، وَكَانَ يَعْرِفُكَ، اكْشِفْ عَنْ رَأْسِكَ قِنَاعَ الْغَافِلِينَ، وَانْتَبِهِ مِنْ رَقْدَةِ الْمَوْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ آثَرَ الدُّنْيَا لَمْ آمَنْ أَنْ يَكُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
ص ٩٣
بَابُ أَخْلَاقِ الْمُقْرِئِ إِذَا جَلَسَ يُقْرِئُ وَيُلَقِّنُ لِلَّهِ عز وجل مَاذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ
أشرف المجالس ما استقبل به القبلة
-
وعند ابن أبي شيبة (٢٦٤٥٧) عن سليمان بن موسى، قال: إن لكل شيء شرفًا، وأشرف المجالس ما استقبل به القبلة، وقال: ما رأيت سفيان يجلس إلا مستقبل القبلة.
-
وترجم البخاري في «الأدب المفرد» بابًا فيه، فقال: (باب استقبال القبلة)، وذكر بإسناده عن سفيان بن منقذ، عن أبيه قال: كان أكثر جلوس عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو مستقبل القبلة.
-
وقال الخطيب في الجامع لأخلاق الرواي) (۷۳/۲) (جلوس المحدث تجاه القبلة). وفيه (١٢٠٥) عن ابن جابر قال: أقبل مغيث بن سُمي إلى مكحول، فأوسع له إلى جنبه، فأتى وجلس مقابل القبلة، وقال: هذا أشرف المجالس.
الحاشية ص ٩٦ - ٩٧
إذا لم يعدل المُعلم بين الصِّبيان كُتِبَ من الظَّلمة
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِالْغَنِيِّ وَيَحْزِقَ عَلى الْفَقِيرِ، فَإِنْ فَعَلَ هَذَا فَقَدْ جَارَ فِي فِعْلِهِ، فَحُكْمُهُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا.
ص ٩٧
-
في «المجالسة» للدينوري (٦١٩) عن مجاهد قال: يؤتى بمعلم الكتاب يوم القيامة، فإن كان عدل بين الغلمان، وإلَّا أُقيم مع الظلمة.
-
وفي «الكامل لابن عدي (۱۳۹۳) عن مكحول قال: إذا رأيت المعلم لا يعدل بين الصبيان كُتِبَ من الظلمة.
-
وفي آداب المعلمين لابن سحنون (۹۷) قال سحنون: وليجعلهم بالسواء في التعليم الشريف والوضيع وإلا كان خائنا.
الحاشية ص ٩٧
يجدر بمعلم القرآن الابتعاد عن أهل الدنيا
فَأَرْشَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى أَشْرَفِ الْأَخْلَاقِ عِنْدَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُقَرِّبَ الْفُقَرَاءَ وَيَنْبَسِطَ إِلَيْهِمْ، وَيَصْبِرَ عَلَيْهِمْ، وَأَنْ يُبَاعِدَ الْأَغْنِيَاءَ الَّذِينَ يَمِيلُونَ إِلَى الدُّنْيَا، فَفَعَلَ ﷺ، وَهَذَا أَصْلٌ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ جَمِيعُ مَنْ جَلَسَ يُعَلِّمُ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ، يَتَأَدَّبُ بِهِ، وَيُلْزِمُ نَفْسَهُ، ذَلِكَ إِنْ كَانَ يُرِيدُ اللَّهَ عز وجل بِذَلِكَ.
ص ٩٨
هدي السلف في ترتيب تعليم القرآن
٦٥ - وَأُحِبُّ لَهُ إِذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ حَدَثٍ أَوْ كَبِيرٍ أَنْ يَعْتَبِرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُلَقِّنَهُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، يَعْتَبِرُهُ بِأَنْ يَعْرِفَ مَا مَعَهُ مِنَ الْحَمْدِ، إِلَى مِقْدَارِ رُبُعِ سُبُعٍ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤَدِّي بِهِ صَلَاتَهُ، وَيَصْلُحُ أَنْ يَؤُمَّ بِهِ فِي الصَّلَوَاتِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُهُ وَكَانَ تَعَلُّمُهُ فِي الْكُتَّابِ أَصْلَحَ مِنْ لِسَانِهِ وَقَوَّمَهُ، حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يُؤَدِّيَ بِهِ فَرَائِضَهُ ثُمَّ يَبْتَدِئُ فَيُلَقِّنُهُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
ص ١٠١
وهذا هو الأصل أن يبدأ بترتيب المصحف، ولكن رخص أهل العلم لمعلم الصبيان أن يبدأ في تعليمهم بقصار السور لسهولة حفظها، ولم يعدوا هذا داخلا في قراءة القرآن منكسا.
قال ابن قدامة في «المغني» (٣٥٦/١): قال أحمد لما سئل عن هذه المسألة: لا بأس به، أليس يُعلم الصبي على هذا؟
وقال في رواية مهنا: أعجب إليَّ أن يقرأ من البقرة إلى أسفل. اهـ
قلت: وإن بدأ معه بتعليم المفصل فحسن، فقد روى ابن أبي شيبة (۳۰۷۱۹) عن سالم عن ابن عمر، قال: سألني عمر: كم معك من القرآن؟ قلت: عشر سور. فقال لعبيد الله بن عمر: كم معك من القرآن؟ قال: سورة. قال عبد الله: فلم ينهنا، ولم يأمرنا، غير أنه قال: وإن كنتم متعلمين منه بشيء؛ فعليكم بهذا المفصل فإنه أحفظ.
قلت: والمفصل من سورة (ق) إلى آخر القرآن على الصحيح من أقوال أهل العلم.
الحاشية ص ١٠١ - ١٠٢
للمعلم أن يؤثر حفاظ الطلبة وإن كان الأفضل أن يعدل بينهم
في «الجامع لأخلاق الراوي» (٦٦١) عن الفضل بن زياد، قال: سألت أبا عبد الله وهو أحمد بن حنبل، قلت: فإن كان رجل له إخوان يخصهم بالحديث، لا ترى ذلك؟
قال: ما أحسن الإنصاف، ما أرى يسلم أصحاب الحديث من هذا.
قال الخطيب البغدادي: ومباح للمحدِّث أن يؤثر حفاظ الطلبة وأهل المعرفة والفهم منهم، وإن كان الأفضل أن يعدل بينهم، ولا يؤثر بعضهم على بعض.
الحاشية ص ١٠١
حسن الاستماع شرط لانتفاع المعلم مما يقرأ عليه
وَأُحِبُّ لِمَنْ يُلَقَّنُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ عَنْهُ بِحَدِيثٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ يَنْتَفِعُ هُوَ أَيْضًا، وَيَتَدَبَّرُ مَا يَسْمَعُ مِنْ غَيْرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ سَمَاعُهُ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، وَيَتَنَاوَلَ قَوْلَ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]
فَإِذَا لَمْ يَتَحَدَّثْ مَعَ غَيْرِهِ وَأَنْصَتَ إِلَيْهِ أَدْرَكَتْهُ الرَّحْمَةُ مِنَ اللَّهِ، وَكَانَ أَنْفَعَ لِلْقَارِئِ عَلَيْهِ.
ص ١٠٢
فوائد من حديث «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي»
أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَلْخِيُّ، قَالَ أنَبا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ لَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ يَعْنِي الْأَعْمَشَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»، فَقُلْتُ: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» قَالَ: فَافْتَتَحْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ فَلَمَّا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لِي: «حَسْبُكَ».
ص ١٠٢ - ١٠٣
رواه البخاري (٥٠٥٠)، ومسلم (٨٠٠).
في هذا الحديث عدة فوائد لأهل القرآن:
١ - فيه صفة بكاء النبي ﷺ عند قراءة القرآن وأنه ليس فيه رفع الصوت.
قال ابن القيم ﷺ في «زاد المعاد» (١/ ١٧٦): وأما بكاؤه ﷺ فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة؛ ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا، ويسمع لصدره أزيز. اهـ.
٢ - وفيه قول الشيخ للقارئ عند إيقافه: (حسبك).
٣ - وفيه جواز الوقف الكافي.
قال الداني في «الوقف والابتداء» (ص ١٠): اعلم أن الوقف الكافي هو الذي يحسن الوقف عليه أيضًا والابتداء بما بعده، غير أن الذي بعده متعلق به من جهة المعنى دون اللفظ.
وقال (ص ٥): فأما القطع على الكافي الذي هو دون التمام فمستعمل جائز. وقد وردت السنة عن رسول الله ﷺ به، وثبت التوقيف عنه باستعماله.
ثم ذكر حديث ابن مسعود ﷺ هذا، وقال: ألا ترى أن القطع على قوله: ﴿شَهِيدًا﴾ كاف وليس بتام؛ لأن المعنى: فكيف يكون حالهم إذا كان هذا؟ ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، فما قبله متعلق بما بعده، والتمام: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾؛ لأنه انقضاء القصة، وهو في الآية الثانية.
وقد أمر النبي ﷺ عبد الله ﷺ أن يقطع دونه مع تقارب ما بينهما، فدل ذلك دلالة واضحة على جواز القطع على الكافي ووجوب استعماله، وبالله التوفيق. اهـ.
٤ - أن إيقاف القراءة لا يكون إلا بعد إتمام الآية لا في وسطها.
ففي «فضائل القرآن» لأبي عبيد (٢٥٨) عن عبد الله بن أبي هذيل: كانوا يكرهون أن يقرؤوا بعض الآية ويدعوا بعضها.
٥ - سنية سماع القرآن من الغير والإنصات له.
الحاشية ص ١٠٣
المُعلِّم خيرٌ من المعنف
وَيَنْبَغِي لِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَأَخْطَأَ عَلَيْهِ أَوْ غَلَطَ، أَنْ لَا يُعَنِّفَهُ وَأَنْ يَرْفُقَ بِهِ، وَلَا يَجْفُوَ عَلَيْهِ، وَيَصْبِرَ عَلَيْهِ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَجْفُوَ عَلَيْهِ فَيَنْفُرَ عَنْهُ، وَبِالْحَرِيِّ أَنْ لَا يَعُودَ إِلَى الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «عَلِّمُوا وَلَا تُعَنِّفُوا فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَنِّفِ» وَقَالَ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ».
ص ١٠٤
معلم القرآن يَصُونُ نَفْسَهُ عَنِ اسْتِقْضَاءِ الْحَوَائِجِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ
يَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ يُقْرِئُ الْقُرْآنَ لِلَّهِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنِ اسْتِقْضَاءِ الْحَوَائِجِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ، وَأَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهُ وَلَا يُكَلِّفَهُ حَاجَةً يَقُومُ فيهَا.
وَأَخْتَارُ لَهُ إِذَا عُرِضَتْ لَهُ حَاجَةٌ أَنْ يُكَلِّفَهَا لِمَنْ لَا يَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأُحِبُّ أَنْ يَصُونَ الْقُرْآنَ عَلَى أَنْ يُقْضَى لَهُ بِهِ الْحَوَائِجُ،
فَإِنْ عُرِضَتْ لَهُ حَاجَةٌ سَأَلَ مَوْلَاهُ الْكَرِيمَ قَضَاءَهَا،
فَإِذَا ابْتَدَأَهُ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ مِنْهُ فَقَضَاهَا، شَكَرَ اللَّهَ؛ إِذْ صَانَهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّذَلُّلِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا، وَإِذْ سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ قَضَاءَهَا، ثُمَّ يَشْكُرُ مَنْ أَجْرَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَإِنَّ هَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ.
ص ١٠٥ - ١٠٦
أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله عزَّ وجلَّ
حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ شُعَيْبٍ الْبَلْخِيُّ قَالَ: ثنا شُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ وَأَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: عَلِّمْ مَجَّانًا كَمَا عُلِّمْتَ مَجَّانًا.
ص ١٠٧
قال ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (١١٤٢): معناه عندهم: كما لم تغرم ثمنا، فلا تأخذ ثمنا، والمجان عندهم: الذي لا يأخذ لعلمه ثمنا. اهـ.
وفي «تفسير ابن أبي حاتم (٤٤٩)، و«الحلية» (٢٢٠/٢) عن أبي العالية في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ [البقرة: ٤١]، يقول: لا تأخذوا عليه أجرًا، فإنما أجر العلماء والحكماء والحلماء على الله عزَّ وجلَّ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة: يا ابن آدم، علم مجانًا كما علمت مجانًا.
الحاشية ص ١٠٧ - ١٠٨
النهي عن الغلو في القرآن والجفاء عنه والتأكل به
٧٦ - أَخْبَرَنَا محمد قال أنبأ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ قَالَ: ثنا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَاشِدٍ الْحَرَّانِيِّ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شِبْلٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ، وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ، وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا وَلا تَسْتَكْثِرُوا».
ص ١٠٨
رواه أحمد (15529)، وأبو عبيد القاسم بن سلام في «فضائل القرآن» (288)، والبزار في مسنده (1044)، والحديث إسناده صحيح. ولفظ أحمد: ولا تستكثروا به.
الحاشية ص ١٠٨
تقسيم قُراء القرآن إلى ثلاثة أقسام
٧٩ - حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَيْرُوزُ قَالَ، ثنا الْعَبَّاسُ بْنُ بَكَّارٍ الضَّبِّيُّ، قَالَ: ثنا عِيسَى بْنُ عُمَرَ النَّحْوِيُّ قَالَ: أَقْبَلْتُ حَتَّى أَقَمْتُ عِنْدَ الْحَسَنِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَرَأَ هَذَا الْقُرْآنَ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ:
فَرَجُلٌ قَرَأَهُ فَاتَّخَذَهُ بِضَاعَةً وَنَقَلَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ،
وَرَجُلٌ قَرَأَهُ فَأَقَامَ عَلَى حُرُوفِهِ، وَضَيَّعَ حُدُودَهُ يَقُولُ: إِنِّي وَاللَّهِ لَا أُسْقِطُ مِنَ الْقُرْآنِ حَرْفًا، كَثَّرَ اللَّهُ بِهِمُ الْقُبُورَ، وَأَخْلَى مِنْهُمُ الدُّورَ فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشَدُّ كِبْرًا مِنْ صَاحِبِ السَّرِيرِ عَلَى سَرِيرِهِ، وَمِنْ صَاحِبِ الْمِنْبَرِ عَلَى مِنْبَرِهِ،
وَرَجُلٌ قَرَأَهُ فَأَسْهَرَ لَيْلَهُ وَأَظْمَأَ نَهَارَهُ وَمَنَعَ شَهْوَتَهُ، فَجَثَوْا فِي بَرَاثِنِهِمْ وَرَكَدُوا فِي مَحَارِبِهِمْ، بِهِمْ يَنْفِي اللَّهُ عَنَّا الْعَدُوَّ وَبِهِمْ يَسْقِينَا اللَّهُ الْغَيْثَ، وَهَذَا الدَّرْبُ مِنَ الْقُرَّاءِ أَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ.
ص ١٠٩ - ١١٠
وقد تقدم كذلك تقسيم قراء القرآن إلى ثلاثة أقسام، انظر رقم (٣٦ و ٥٥).
وفي «العزلة» للخطابي (۳۳۱) عن الحسن، قال: طلب هذا العلم ثلاثة أصناف من الناس، فاعرفوهم بصفاتهم:
۱ - فصنف تعلموه للمراء والجهل.
۲ - وصنف تعلموه للاستطالة والختل - [يعني: الخداع] -.
۳ - وصنف تعلموه للتفقه والعقل.
فصاحب المراء والجهل متعرّض للقتال في أندية الرجال، يذاكر العلم بخفة الحلم، قد تسربل الجشع، وتبرأ من الورع، فدق الله تعالى من هذا خيشومه، وقطع منه حيزومه. [يعني: وسط صدره].
وصاحب الاستطالة والختل، ذو خب وملق، يستطيل على أشباهه من أمثاله، فيختلهم بخلع جبينه، فهو لحلوانهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله ل على هذا حَبَرَه، وقطع من آثار العلماء أثره.
وصاحب التفقه والعقل، ذو كآبة وحزن، قد تنحى في برنسه، وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشع، قد أوكدتاه يداه، وأعمدتاه رجلاه، فهو مقبل على شأنه، عارف بأهل زمانه، قد استوحش من كل ذي ثقة من أقرانه، فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه.
الحاشية ص ١١١
بَابُ ذِكْرِ أَخْلَاقِ مَنْ يَقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ
من هدي السلف التقلل من الحفظ والاهتمام بتعلم الأحكام والمعاني والعمل
وَأُحِبُّ أَنْ يَتَلَقَّنَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضْبِطُ، هُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فِي التَّلْقِينِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ خَمْسٍ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَلَقَّنَ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ، لَمْ يَسْأَلْ أَنْ يُلَقِّنَهُ خَمْسًا، فَإِنْ لَقَّنَهُ الْأُسْتَاذُ ثَلَاثًا لَمْ يَزِدْهُ عَلَيْهَا، وَعَلِمَ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ خَمْسًا سَأَلَهُ أَنْ يَزِيدَهُ، عَلَى أَرْفَقَ مَا يَكُونُ، فَإِنْ أَبَى لَمْ يَزِدْهُ بِالطَّلَبِ، وَصَبَرَ عَلَى مُرَادِ الْأُسْتَاذِ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْهُ دَاعِيًا لِلزِّيَادَةِ لَهُ مِمَّنْ يُلَقِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ص ١١٣
كان هدي السلف الصالح في حفظ القرآن حفظ القليل من آياته، ثم الاهتمام بتعلم أحكامه ومعانيه والعمل به، فحفظوا حروفه وأقاموا حدوده، بخلاف كثير من المتأخرين فقد اشتغلوا بحفظ حروفه وإتقانها وأهملوا تدبر معانيه والعمل به.
-
قال ابن كثير في «فضائل القرآن» (ص ۲۲۸): واستحب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُلقن خمس آيات خمس آيات. رويناه عنه بسند جيد. اهـ.
-
وعند ابن أبي شيبة (٣٠٥٤٩) عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات، ولا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العمل والعلم، قال: فعلمنا العمل والعلم.
-
وفي كتاب «الإيمان لابن منده (207) عن ابن عمر: لقد لبثنا برهة من دهر، وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل،القرآن تنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها وأمرها،وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما يتعلم أحدكم السورة، ولقد رأيت رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يعرف حلاله ولا حرامه ولا أمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدقل.قال ابن منده: هذا إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة إلاالبخاري. اهـ.في،6- وفي سنن ابن ماجه (61) بإسناد صحيح عن جندب بن عبد الله الله. قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا.
-
وفي «كتاب الإيمان» لابن منده (٢٠٧) عن ابن عمر ا: لقد لبثنا برهة من دهر، وأحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، تنزل السورة على محمد ﷺ فنتعلم حلالها وحرامها، وأمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها كما يتعلم أحدكم السورة، ولقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان يقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يعرف حلاله ولا حرامه ولا أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، وينثره نثر الدقل. قال ابن منده: هذا إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة إلا البخاري. اهـ.
-
وفي سنن ابن ماجه (٦١) بإسناد صحيح عن جندب بن عبد الله له، قال: كنا مع النبي ﷺ ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا.
وأما المسارعة في حفظه دون فقهه وفهمه؛ فقد كان الصحابة ﷺ ومن بعدهم ينهون عن ذلك ويحذرون منه،
- فروى معمر في «جامعه» (۲۱۷/۱۱)، والخلال في «السُّنة» (۲۰۱۳) بإسناد صحيح عن ابن عباس ما قال: قَدِمَ على عمر بن الخطاب له رجل، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. قال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة. قال: فزبرني عمر، ثم قال: مَنْ!! فانطلقتُ إلى منزلي مكتئبا حزينًا، فبينا أنا كذلك، إذ أتاني رجل، فقال: أجب أمير المؤمنين. فخرجتُ، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي فخلا بي، فقال: ما الذي كرهت مما قال الرَّجلُ آنفًا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة يحتقوا، ومتى ما يحتقُوا؛ يختصموا، ومتى ما يختصموا؛ يختلفوا، ومتى ما يختلفوا؛ يقتتلوا. قال: لله أبوك، إن كنتُ لأكتُمُها الناس حتى جئتَ بها. اهـ. ومعنى يحتقوا: أي كل يدعي أن الحق معه.
قلت: فهم يهتمون بحفظ القرآن والمسارعة فيه من غير فهم ولا بصيرة، ثم يتأولونه على غير تأويله الصحيح فيكون سببًا في هلاكهم، ولهذا قال إبراهيم النخعي رحمة الله: كانوا يكرهون أن يعلموا الصبي القرآن حتى يعقل. رواه ابن أبي شيبة (٣٠٦٥٤).
-
وفي «البيان والتحصيل» (۱۸/ ۳۳۱) في كراهة الإسراع في تعلم القرآن دون التفقه فيه. قال مالك: وسمعت أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه قد قرأ القرآن رجال، فكتب إليه عمر أن افرض لهم وأعطهم وزدهم. ثم كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: إنا لما فعلنا ذلك أسرع الناس في القراءة حتى قرأ سبعمائة. فكتب إليه عمر أن دع الناس، فإني أخاف أن يقرأ الناس القرآن قبل أن يتفقهوا في الدين. قال مالك: وإنما قال ذلك مخافة أن يتأوَّلوه على غير تأويله. قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن التفقه في القرآن بمعرفة أحكامه وحدوده، ومُفصَّله ومُجمله، وخاصه وعامه، وناسخه و منسوخه اكد من حفظ سواده، فيكون من حفظ سواده ولم يتفقه فيه ولا عرف شيئًا من معانيه كالحمار يحمل أسفارا. وقد أقام عبد الله بن عمر رضي الله عنه على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها؛ لأنه كان يتعلمها بفقهها، ومعرفة معانيها، وبالله التوفيق. اهـ.
-
وفي «الجامع لابن عبد الحكم» (١٥٩): سُئِلَ مالك بن أنس عن صبي ابن سبع سنين جمع القرآن؟ قال: ما أرى هذا ينبغي.
-
قال أبو بكر الأبهري المالكي (٢١٤هـ) معلقا عليه: إنما كَرِهَ لأنه إذا تعلمه على هذه السرعة لم يُحكم أخذه، ويعرف [حدوده]، وسبيل من تعلم القرآن أن يتعلمه، ويتبيّن أحكامه، وحدوده حسب طاقته، والصبي لا يُمكنه هذا في الأغلب. وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ يبقون في السورة الطويلة يتعلمونها، ويتبينون ما فيها من الأحكام. اهـ.
-
وقال الطرطوشي «الحوادث والبدع» (ص۹۸): وإنما وجه إنكاره ما تقرر في الصحابة من كراهة التسرع في حفظ القرآن دون التفقه فيه. اهـ.
وقد تكلمت عن هذه المسألة في كتاب «الجامع في أحكام وآداب الصبيان» (ص ۱۸۷) (من كره تعلم الصَّبِي القرآن حتى يعقل).
الحاشية ص ١١٣ - ١١٧
أَهْلَ الْقُرْآنِ أَهْلُ خَيْرٍ وَتَيَقُّظٍ وَأَدَبٍ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضْجِرَ مَنْ يُلَقِّنُهُ فَيَزْهُد فِيهِ، وَإِذَا لَقَّنَهُ شَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَدَعَا لَهُ، وَعَظَّمَ قَدْرَهُ،
وَلَا يَجْفُو عَلَيْهِ إِنْ جَفَا عَلَيْهِ، وَيُكْرِمُ مَنْ يُلَقِّنُهُ إِنْ هُوَ لَمْ يُكْرِمْ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ إِنْ كَانَ هُوَ لَا يَسْتَحِي مِنْكَ، تُلْزِمُ أَنْتَ نَفْسَكَ وَاجِبَ حَقِّهِ عَلَيْكَ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَعْرِفَ حَقَّكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ أَهْلُ خَيْرٍ وَتَيَقُّظٍ وَأَدَبٍ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْ وَاجِبِ حَقِّكَ، فَلَا تَغْفُلْ عَنْ وَاجِبِ حَقِّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل قَدْ أَمَرَكَ أَنْ تَعْرِفَ حَقَّ الْعَالِمِ وَأَمَرَكَ بِطَاعَةِ الْعُلَمَاءِ، وَكَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
ص ١١٧
قراءة القرآن سُنة مُتبعة
٨٨ - ثُمَّ يَنْبَغِي لِمَنْ لَقَّنَهُ الْأُسْتَاذُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ مَا لَقَّنَهُ، إِذَا كَانَ مِمَّنْ قَدْ أَحَبَّ أَنْ يَتَلَقَّنَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ غَيْرِهِ لَمْ يَتَلَقَّنْ مِنْهُ إِلَّا مَا لَقَّنَهُ الْأُسْتَاذُ، أَعْنِي بِغَيْرِ الْحَرْفِ الَّذِي قَدْ تَلَقَّنَهُ مِنَ الْأُسْتَاذِ، فَإِنَّهُ أَعْوَدُ عَلَيْهِ، وَأَصَحُّ لِقِرَاءَتِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «اقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ».
ص ١١٩
اتفق القراء من السلف ومن بعدهم على أن قراءة القرآن سنة متبعة، وأن القارئ ليس له أن يقرأ إلا بما تلفنه عن شيخه، وليس من الصحف والكتب، ولا بما يجوز في العربية.
-
ففي «فضائل القرآن» لأبي عبيد (٦٥٢) عن عروة بن الزبير، قال: إن قراءة القرآن سُنَّة من السنن، فاقرؤوه كما أقرئتموه.
-
وفيه أيضًا (٦٥٣) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: القراءة سنة.
-
وفي «الجامع لأخلاق الراوي» (١٦٥٥) عن محمد بن المنكدر، قال: قراءة القرآن سُنَّة يأخذها الآخر عن الأول.
-
وفيه (١٦٥٦) عن قطرب قال: القراءة سنة متبعة لا تقرأ إلا بما أثر عن العلماء، ولا تقرأ بما يجوز في العربية دون الأثر.
-
قال البغوي رحمه الله في شرح السُّنة) (٥١٢/٤): أراد به ـ والله أعلم ـ أن اتباع من قبلنا في الحروف وفي القراءة سنة متبعة، لا يجوز فيها مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءة التي هي مشهورة، وإن كان غير ذلك سائعًا في اللغة، أجمعت الصحابة والتابعون فمن بعدهم على هذا أن القراءة سنة، فليس لأحد أن يقرأ حرفًا إلا بأثر صحيح عن رسول الله ﷺ موافق لخط المصحف أخذه لفظا وتلقينا. اهـ.
-
وفي «جمال القراء» (٥٧٨/۲) قال بعض أصحاب سليم: قلت لسليم - في حرف من القرآن -: من أي وجه كان كذا وكذا؟ فرفع كمه وضربني به وغضب، وقال: اتق الله، لا تأخذن في شيء من هذا، إنما نقرأ القرآن على الثقات من الرجال الذين قرؤوا على الثقات.
-
وفيه (١٠٦٩) عن سلم بن قتيبة قال: كنت عند ابن هبيرة الأكبر فجرى الحديث حتى جرى ذكر العربية، فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد، وحسبهما واحد، ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن، إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن. قلت: أصلح الله الأمير، هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته، أرأيت الآخرة ما باله فضّل فيها؟ قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، وإن الذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه، قال: قلت: صدق الأمير وبر.
-
قال ابن كثير في «تفسيره» (٦٩/١): فأما تلقين القرآن فمن فم المُلقن أحسن؛ لأن الكتابة لا تدل على كمال الأداء، كما أن المشاهد من كثير ممن يحفظ من الكتابة فقط يكثر تصحيفه وغلطه، وإذا أدى الحال إلى هذا منع منه إذا وجد شيخا يوقفه على لفظ القرآن، فأما عند العجز عمن يلقن فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فيجوز عند الضرورة ما لا يجوز عند الرفاهية، فإذا قرأ في المصحف - والحالة هذه - فلا حرج عليه، ولو فرض أنه قد يحرف بعض الكلمات عن لفظها على لغته ولفظه، فقد قال الإمام أبو عبيد: - وذكره بسنده -، عن الأوزاعي: أن رجلا صحبهم في سفر، قال: فحدثنا حديثا ما أعلمه إلا رفعه إلى رسول الله ﷺ قال: «إن العبد إذا قرأ فحرف أو أخطأ كتبه الملك كما أنزل.
الحاشية ص ١١٩ - ١٢٠
من أدب القراءة للقارئ والمستمع ألا يقطعا القراءة من غير حاجة
وَأُحِبُّ لَهُ إِذَا قَرَأَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَقْطَعَ حَتَّى يَكُونَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَدَتْ لَهُ حَاجَتُهُ وَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ مُرَادُهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ مِائَةَ آيَةٍ، فَاخْتَارَ هُوَ أَنْ يَقْطَعَ الْقِرَاءَةَ فِي خَمْسِينَ آيَةً، فَلْيُخْبِرْهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِعُذْرِهِ، حَتَّى يَكُونَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي يَقْطَعُ عَلَيْهِ.
ص ١٢٢
من أدب القراءة للقارئ والمستمع أن لا يقطعا القراءة من غير حاجة، لأن هذا من الأدب مع كلام الرب تعالى.
-
ففي «فضائل القرآن» لأبي عبيد (٢٥٩) عن ابن عون، قال: كان ابن سيرين يكره أن يقرأ الرجل القرآن إلا كما أُنزل؛ يكره أن يقرأ، ثم يتكلم، ثم يقرأ.
-
وعند ابن أبي شيبة (٦٠٩٧) قال ابن سيرين: كانوا إذا قرؤوا القرآن لم يخلطوا به ما ليس منه، ويمضون كما هم.
الحاشية ص ١٢٢
أدب جلوس المتعلم في المسجد إِذَا انْقَضَتْ قِرَاءَتُهُ
وَأُحِبُّ لَهُ إِذَا انْقَضَتْ قِرَاءَتُهُ عَلى الْأُسْتَاذِ، وَكَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ أَحِبَّ أَنْ يَنْصَرِفَ انْصَرَفَ وَعَلَيْهِ وَقَارٌ وَدَرَسَ فِي طَرِيقِهِ مَا قَدِ الْتَقَنَ،
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَجْلِسَ لِيَأْخُذَ عَلَى غَيْرِهِ فَعَلَ،
وَإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِالْحَضْرَةِ مَنْ يَأْخُذُ عَلَيْهِ،
فَإِمَّا أَنْ يَرْكَعَ فَيَكْتَسِبَ خَيْرًا،
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلَّهِ شَاكِرًا لَهُ عَلَى مَا عَلَّمَهُ مِنْ كِتَابِهِ،
وَإِمَّا جَالِسٌ يَحْبِسُ نَفْسَهُ فِي الْمَسْجِدِ، يَكْرَهُ الْخُرُوجَ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ، أَوْ مُعَاشَرَةِ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ مُعَاشَرَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَحُكْمُهُ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ فِي جُلُوسِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَلَّا يَخُوضَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَحْذَرَ الْوَقِيعَةَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَيَحْذَرَ أَنْ يَخُوضَ فِي حَدِيثِ الدُّنْيَا وَفُضُولِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا اسْتَرَاحَتِ النُّفُوسُ إِلَى مَا ذَكَرْتُ مِمَّا لَا يَعُودُ نَفَعُهُ، وَلَهُ عَاقِبَةٌ لَا تُحْمَدُ.
وَيَسْتَعْمِلُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ فِي حُضُورِهِ وَفِي انْصِرَافِهِ مَا يُشْبِهُ أَهْلَ الْقُرْآنِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِذَلِكَ.
ص ١٢٣
بَابُ أَدَبِ الْقُرَّاءِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِمُ الْقُرْآنَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي لَهُمْ جَهْلُهُ
استحباب السواك عند القراءة
٩٢ - وَأُحِبُّ لِمَنْ أَرَادَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ أَنْ يَتَطَهَّرَ، وَأَنْ يَسْتَاكَ وَذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ يَتْلُو كَلَامَ الرَّبِّ عز وجل؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَدْنُوا مِنْهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ.
ص ١٢٥
استحباب القراءة من المصحف
وَأُحِبُّ أَنْ يُكْثِرَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ لِفَضْلِ مَنْ قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ.
ص ١٢٦
عقد غير واحد من أهل العلم في بيان فضل القراءة من المصحف أبوابا في مصنفاتهم، ومن ذلك:
-
قال أبو عبيد الله في «فضائل القرآن»: (باب فضل قراءة القرآن نظرا).
-
وقال ابن أبي شيبة ؓ في «المصنف»: (باب إدامة النظر في المصحف).
-
وقال أبو الفضل الرازي ؓ في «فضائل القرآن»: (باب في فضل القراءة ناظرا في المصحف)، و(باب في أن من نظر في المصحف متعه الله ببصره)، و (باب في محبة الله القراءة من المصحف).
وهذا الأمر متفق عليه بين السلف لما فيه من المصالح الكثيرة من تعظيم المصاحف، وعدم هجرها، ولما فيه من النظر والتأمل في الآيات، وشغل حاسة البصر مع اللسان في هذه العبادة، وهو مع ذلك أضبط للحفظ والرسوخ فيه، وقد نص على ذلك غير واحد.
-
روى ابن أبي شيبة (٨٦٤٦) عن عبد الله بن مسعود ؓ قال: أديموا النظر في المصحف.
-
وفيه أيضًا (٨٦٤٩) عن يونس، قال: كان خُلق الأولين: النظر في المصاحف.
-
وفيه (٨٦٥٣) عن الحسن، قال: دخلوا على عثمان ؓ والمصحف في حجره.
-
وفي «شعب الإيمان» (٢٠٤٦) عن علي القاشاني، قال: كان عبد الله بن المبارك ربما يُقلّب المصحف ولا يقرأ، للحديث الذي جاء: النظر في المصحف عبادة.
-
وفي «الجرح والتعديل» (٨٦/١) عن أبي خالد قال: صحبت سفيان [الثوري] في طريق مكة، فكان يقرأ في المصحف كل يوم، فإذا لم يقرأ فيه فتحه فنظر فيه وأطبقه.
قلت: النظر في المصحف والقراءة منه عبادة مستقلة، وقد اختلف أهل العلم في أيهما أفضل: القراءة من المصحف أو عن ظهر قلب؟
- قال ابن كثير في تفسيره) (۱/ ۷۰) قال بعض العلماء: المدار في هذه المسألة على الخشوع في القراءة، فإن كان الخشوع عند القراءة على ظهر القلب فهو أفضل، وإن كان عند النظر في المصحف فهو أفضل، فإن استويا فالقراءة نظرًا أولى؛ لأنها أثبت وتمتاز بالنظر في المصحف. اهـ.
قلت: وأما اليوم فقد هجرت كثير من المصاحف في البيوت والمساجد، كما قال الضحاك رحمه الله: يأتي على الناس زمان يكثر فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا يُنظر فيه. جامع بيان العلم وفضله (٣٥١).
الحاشية ص ١٢٦ - ١٢٧
اتفاق الصحابة على وجوب الطهارة لمس المصحف
وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَهُوَ طَاهِرٌ
فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَا بَأْسَ، وَلَكِنْ لَا يَمَسَّهُ، وَلَكِنْ يُصَفِّحُ الْمُصْحَفَ بِشَيْءٍ، وَلَا يَمَسَّهُ إِلَّا طَاهِرًا.
وَيَنْبَغِي لِلْقَارِئِ إِذَا كَانَ يَقْرَأُ فَخَرَجَتْ مِنْهُ رِيحٌ أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَنْقَضِي الرِّيحُ، ثُمَّ إِنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ ثُمَّ يَقْرَأَ طَاهِرًا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ قَرَأَ غَيْرَ طَاهِرٍ فَلَا بَأْسَ بهُ.
ص ١٢٧
وجوب الطهارة لمس القرآن من المسائل المتفق عليها بين أصحاب النبي ﷺ، لحديث عمرو بن حزم رضي الله عنه أن النبي ﷺ كتب إليه: «لا يمس القرآن إلا طاهر».
وهذا الحديث صححه أئمة الحديث، وتلقاه أهل العلم والفقه في جميع الأمصار بالقبول والاحتجاج.
-
قال ابن عبد البر في التمهيد (۱۷/ ۳۹۷): والدليل على صحة كتاب عمرو بن حزم تلقي جمهور العلماء له بالقبول، ولم يختلف فقهاء الأمصار بالمدينة والعراق والشام أن المصحف لا يمسه إلا الطاهر على وضوء. اهـ.
-
وقال في «الاستذكار» (٢/ ٤٧١): وكتاب عمرو بن حزم هذا قد تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل، وأجمع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وعلى أصحابهم بأن المصحف لا يمسه إلا الطاهر. اهـ.
وقد نقل الاتفاق على ذلك غير واحد من أهل العلم.
-
قال أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في فضائل القرآن» (ص ۳۲۸):… كَرِهَ المسلمون أن يمسه أحد من أهل الإسلام وهو جنب أو غير طاهر. اهـ.
-
قال الترمذي رحمه الله في «السنن» (۲۷۳/۱): قال غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، قالوا: يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء، ولا يقرأ في المصحف إلا وهو طاهر، وبه يقول سفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. اهـ.
-
وسيأتي قول أحمد وإسحاق رحمهما الله: لا يقرأ في المصحف إلا متوضئا.
-
قال السجزي رحمه الله في «رسالته في الحرف والصوت» (ص۲۰۲): والفقهاء مجمعون على أن مس المحدث إياه - يعني: القرآن - لا يجوز. اهـ.
-
وقال ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى الكبرى» (۱/ ۲۸۰):.. لا يمسه إلا طاهر، كما قال في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «إنه لا يمس القرآن إلا طاهر».
-
قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه له، وهو أيضًا قول سلمان الفارسي، وعبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيرهما، ولا يُعلم لهما من الصحابة مخالف. اهـ.
قلت: خالف في هذه المسألة الظاهرية كما قال ابن قدامة في «المغني» (۱۰۸/۱): ولا نعلم مخالفًا لهم إلا داود [يعني: الظاهري] فإنه أباح مسه. اهـ. وقد وافقه على هذا القول الشاذ بعض المتأخرين ممن تأثر بمذهب الظاهرية، ولا عبرة بهم جميعًا في مخالفة السنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة السنة في جميع الأمصار رحمهم الله.
…
وأسند أبو عبيد رحمه الله جواز قراءة القرآن على غير طهارة من غير أن يمس القرآن عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وعلقمة، والأسود، ونافع بن جبير وغيرهم.
قال الترمذي في «السنن»: وبه قال غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي، والتابعين، قالوا: يقرأ الرجل القرآن على غير وضوء… اهـ.
الحاشية ص ١٢٧ - ١٢٩
٩٧ - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: ثنا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَوْسَجُ قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ: الْقِرَاءَةُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ إِلَّا مُتَوَضِّئٌ، قَالَ إِسْحَقُ يَعْنِي ابْنَ رَاهَوَيْهِ: كَمَا قَالَ: سُنَّةٌ مَسْنُونَةٌ”.
ص ١٣٦
وزاد في «مسائل الكوسج» (٦٠): قال إسحاق: لما صح قول النبي ﷺ: «لا يمس القرآن إلا طاهر»، وكذلك فعل أصحاب النبي ﷺ والتابعون.
الحاشية ص ١٣٦
٩٨ - حَدَّثَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ كُرْدِيٍّ قَالَ: ثنا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ رُبَّمَا قَرَأَ فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ فَلَا يَمَسُّهُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ عُودًا أَوْ شَيْئًا يُصَفِّحُ بِهِ الْوَرَقَ.
ص ١٣٦
قال عبد الله بن أحمد في «مسائله» (١٣٠): رأيت أبي إذا كان على غير وضوء، فقرأ في أجزاء أسباع أدخل يده في ثيابه، وأمسك الجزء بيده، ويده في ثيابه ويقرأ، فإذا أراد أن يُقلّب الورقة قلبها بشيء يكون في يده لطيف، ولم يمس الجزء بيده.
وقال ابن هانئ رحمه الله في مسائله لأحمد (٥٠٩): سألته عن النظر في المصحف على غير وضوء؟ قال: لا بأس به، إذا قلبت الورق بعود، أو بطرف كُمِّك فلا بأس به.
الحاشية ص ١٣٦ - ١٣٧
لَا يَقْرَأِ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ الْقُرْآنَ
وَإِذَا تَثَاءَبَ وَهُوَ يَقْرَأُ، أَمْسَكَ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى يَنْقَضِيَ التَّثَاؤُبُ، وَلَا يَقْرَأِ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ الْقُرْآنَ، وَلَا آيَةً، وَلَا حَرْفًا وَاحِدًا،، وَإِنْ سَبَّحَ أَوْ حَمِدَ أَوْ كَبَّرَ وَأَذَّنَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
ص ١٢٩
سيورد المصنف بعض الأدلة على ذلك، ومنها كذلك مما لم يذكره:
-
ما رواه ابن أبي شيبة (١٠٨٦)، وعبد الرزاق (۱۳۰۷) عن عبيدة السلماني، عن عمر قال: لا يقرأ الجنب القرآن. قال ابن كثير في «مسند عمر» (٣٥): هذا إسناد صحيح.
-
وفي «سنن» الدارقطني (٤٢٥) عن أبي الغريف الهمداني، قال: كنا مع علي في الرحبة، فخرج إلى أقصى الرحبة، فوالله ما أدري أبولا أحدث أو غائطا، ثم جاء فدعا بكوز من ماء، فغسل كفيه، ثم قبضهما إليه، ثم قرأ صدرًا من القرآن، ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته جنابة فلا ولا حرفًا واحدًا). وقال: هو صحيح عن علي. ورواه عبد الرزاق (۱۳۰۶)، وأحمد في «المسند» (۸۷۲)،
-
ففي «النوادر والزيادات» (١ / ١٢٤) قال مالك: ولقد حرصت أن أجد في قراءة الجنب القرآن رخصة فما وجدتها. ومنع الحائض من القراءة من باب أولى؛ لأن الحيض أقوى من الجنابة، وعلى منع الحائض من قراءة القرآن عامة الصحابة والتابعين.
-
وفي «معرفة السنن» (٧٧٥) قال الشافعي:… فإذا كان جنبا لم يجز له أن يقرأ القرآن، والحائض في مثل حال الجنب إن لم تكن أشد نجاسة منه. اهـ.
-
قال أبو داود في «مسائله» (۱۷۸): قلت لأحمد: الحائض لا تقرأ شيئًا من القرآن؟ قال: لا، وتُسبّح، وتذكر الله. وقال: الحائض أشدّ من الجنب، ورخص في الكلمة تقرؤها.
-
وقال الكوسج في مسائله» (٣٨٥): الحائض والجنب سواء؟ قال أحمد الجنب أهون في بعض الأحوال. قال إسحاق: كما قال، إلا أن حكمهما في القراءة واحد.
-
وقال الترمذي في السنن» (٢٣٦/١): وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي، والتابعين، ومن بعدهم مثل: سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئًا، إلا طرف الآية والحرف ونحو ذلك، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل. اهـ.
-
قال ابن رجب في «الفتح» (٤٧/٢): ومنع الأكثرون الحائض والجنب من القراءة بكل حال قليلا كان أو كثيرًا، وهذا مروي عن أكثر الصحابة، روي عن عمر، وروي عنه أنه قال: لو أن جنبًا قرأ القرآن لضربته. وعن علي قال: لا يقرأ ولا حرفًا. وعن ابن مسعود، وسلمان وابن عمر. وروي عن جابر، قال البيهقي: وليس بقوي. وروي عن ابن عباس بإسناد لا يصح. وهو قول أكثر التابعين.. إلخ
الحاشية ص ١٢٩ - ١٣٠
سجود التلاوة سنة مؤكدة
وَأُحِبُّ لِلْقَارِئِ أَنْ يَأْخُذَ نَفْسَهُ بِسُجُودِ الْقُرْآنِ كُلَّمَا مَرَّ بِسَجْدَةٍ سَجَدَ فِيهَا،
وَفِي الْقُرْآنِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً، وَقَدْ قِيلَ: أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقَدْ قِيلَ: إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً،
وَالَّذِي أَخْتَارُ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ سَجْدَةٌ؛ فَإِنَّهُ يُرْضِي رَبَّهُ عز وجل وَيَغِيظُ عَدُوَّهُ الشَّيْطَانَ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِيَ النَّارُ»
ص ١٣٠ - ١٣٢
سجود التلاوة سنة مؤكدة لما رواه البخاري (۱۰۷۷) عن عمر الله قال: يا أيها الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه. ولم يسجد عمر رضي الله عنه. وزاد نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه: إن الله لم يفرض السجود إلا أن نشاء.
قال ابن عبد البر في «التمهيد» (١٩/ ١٣٣): أي شيء أبين من هذا عن عمر وابن عمر رضي الله عنه ولا مخالف لهما من الصحابة فيما علمت، وليس قول من أوجبهما بشيء، والفرائض لا تجب إلا بحجة لا معارض لها. اهـ.
وقال ابن قدامة في «المغني» (١/ ٤٤٦): سجود التلاوة سنة مؤكدة، وليس بواجب عند إمامنا، ومالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي، وهو مذهب عمر، وابنه عبد الله رضي الله عنهما. اهـ.
قلت: خالف في هذه المسألة أهل الرأي الأحناف، فقالوا بوجوب سجدات التلاوة!
الحاشية ص ١٣٠ - ١٣١
كان السلف يكرهون اختصار السجود في القرآن
-
قال ابن أبي شيبة في «المصنف»: (٢٠٧/ في اختصار السجود). وروى فيه (٤٢٢٦) عن أبي العالية، قال: كانوا يكرهون اختصار السجود.
-
وفيه (٤٢٢٧) عن الشعبي، قال: كانوا يكرهون اختصار السجود، وكانوا يكرهون إذا أتوا على السجدة أن يجاوزوها حتى يسجدوا. وأسند فيه كذلك عن: سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والحسن، وشهر بن حوشب رحمهم الله.
-
قال الكوسج رحمه الله في «مسائله للإمام أحمد» (۳۸۱): اختصار السجود؟ قال: أكرهه، وإنما هي أن يقرأ آية أو آيتين ثم يسجد. قال إسحاق: كما قال.
(واختصار السجود: له معنيان:
-
أحدهما: أن يفرد الآية التي فيها السجود بالقراءة، ثم يسجد فيها، كما ذكره الإمام أحمد.
-
والثاني: أن يقرأ السورة فإذا انتهى إلى السجدة ترك آيتها ولم يسجد لها.
قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: يكره اختصار السجود..
وقال ابن قدامة (المغني) (٦٢٧/۲) يكره اختصار السجود، وهو: أن ينتزع الآيات التي فيها السجود فيقرؤها ويسجد فيها). اهـ. نقلا من تحقيق «مسائل الكوسج» (٧٥٠/٢).
وقال أيضًا في «المغني»: وقد نهى عن اختصار السجود، ومعناه: جمع آي السجدات فيقرؤها في وقت واحد.
وقيل: هو أن يحذف الآية التي فيها السجدة ولا يقرؤها. اهـ.
الحاشية ص ١٣١ - ١٣٢
حكم قراءة القرآن في الطريق والسجود فيه
٩٤ - وَأُحِبُّ لِمَنْ كَانَ يَدْرُسُ وَهُوَ مَاشٍ فِي طَرِيقٍ، فَمَرَّتْ بِهِ سَجْدَةٌ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَوْمِي بِرَأْسِهِ بِالسُّجُودِ، وَهَكَذَا إِنْ كَانَ رَاكِبًا، فَدَرَسَ فَمَرَّتْ بِهِ سَجْدَةٌ، سَجَدَ يَوْمِي نَحْوَ الْقِبْلَةِ إِذَا أَمْكَنَهُ وَأُحِبُّ لِمَنْ كَانَ جَالِسًا يَقْرَأُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ، إِذَا أَمْكَنَه.
ص ١٣٢
اشتمل كلام المصنف هاهنا على مسألتين:
الأولى: حكم قراءة القرآن في الطريق.
والثانية: حكم سجود التلاوة في الطريق ونحو ذلك.
فأما الأولى: فقد كَرِهَ الإمام مالك ؒ القراءة في الطريق، كما قال ابن أبي داود: حدثني أبو الربيع، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سألت مالگا عن الرجل يصلي من آخر الليل فيخرج إلى المسجد، وقد بقي من السورة التي كان يقرأ فيها شيء؟ قال: ما أعلم القراءة تكون في الطريق، وكره ذلك. وهذا إسناد صحيح عن مالك ؒ. «فضائل القرآن» لابن كثير (ص۲۲۳). وقد خولف في ذلك، فعامة السلف على جواز القراءة في الطريق، كما سيأتي قريبا.
وروى ابن أبي دواد عن أبي الدرداء أنه كان يقرأ في الطريق. وقد رُوِيَ عن عمر بن عبد العزيز أنه أذن في ذلك.
وقال ابن مفلح في «الآداب الشرعية» (۲/ ۲۹۱): وقد نص أحمد في رواية ابن منصور وغيره أنه لا بأس بقراءة القرآن في الطريق. اهـ.
…
وأما الثانية: فقد عقد ابن أبي شيبة في «مصنفه» بابًا في هذه المسألة، فقال: (إذا قرأ الرجل السجدة وهو يمشي، ما يصنع؟).
-
وذكر فيه (٤٢١٤) عن إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كانوا يقرؤون السجدة وهم يمشون فيومئون إيماء.
-
وأسند كذلك هذا الفعل عن أبي عبد الرحمن السلمي، وعلقمة، والأسود، وإبراهيم التيمي، وأبي العالية.
-
وفي «مسائل» حرب الكرماني (٩٦٢) عن شعبة، عن عطاء بن السائب، قال: كنت أمشي مع أبي عبد الرحمن السلمي نحو الفرات، فقرأ سجدة، فأومأ بها، ثم سلّم تسليمة، ثم قال: هكذا رأيت ابن مسعود رضي الله عنه يفعله.
الحاشية ص ١٣٢ - ١٣٣
معنى القراءة بحزن
وَأُحِبُّ لِمَنْ تَلَا الْقُرْآنَ أَنْ يَقْرَأَهُ بِحُزْنٍ، وَيَبْكِي إِنْ قَدَرَ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَبَاكَى.
ص ١٣٤
في «الآداب الشرعية» لابن مفلح (۳۱۱/۲) قال أحمد بن حنبل: يُحسن القارئ صوته بالقرآن، ويقرؤه بحزن وتدبر، وهو معنى قوله ﷺ: «مَا أَذِنَ الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن».
وفي «الحلية» (١٠٤/٩) قال حرملة: سمعت الشافعي يقول في تفسير الحديث: «ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن»، قال: يتحزن به، ويترنم به.
استحباب التفكر والتدبر في التلاوة
وَأُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي تِلَاوَتِهِ، وَيَتَدَبَّرَ مَا يَتْلُوهُ، وَيَسْتَعْمِلَ غَضَّ الطَّرْفِ عَمَّا يُلْهِي الْقُلُوبَ، وَلَوْ تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى يَنْقَضِيَ دَرْسُهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ؛ لِيَحْضُرَ فَهْمُهُ، فَلَا يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ كَلَامِ مَوْلَاهُ.
ص ١٣٤
تعوذ القارئ إذا مرَّ بآية عذاب و مسألته إذا مرَّ بآية رحمة
وَأُحِبُّ إِذَا دَرَسَ فَمَرَّتْ بِهِ آيَةُ رَحْمَةٍ سَأَلَ مَوْلَاهُ الْكَرِيمَ، وَإِذَا مَرَّتْ بِهِ آيَةُ عَذَابٍ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ عز وجل مِنَ النَّارِ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ تَنْزِيهٍ لِلَّهِ عز وجل عَمَّا قَالَ أَهْلُ الْكَفر سَبَّحَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ.
ص ١٣٤
بوب على ذلك النسائي في «السنن الكبرى» (تعوذ القارئ إذا مرَّ بآية عذاب)، و (مسألة القارئ إذا مرَّ بآية رحمة). وذكر فيه حديث حذيفة رضي الله عنه قال: صليت مع النبي ﷺ ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ. والحديث رواه مسلم (۷۷۲).
الحاشية ص ١٣٤
الإمساك عن القراءة عند التثاؤب وخروج الريح
٩٩ - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: ثنا الْمُشْرِفُ بْنُ أَبَانَ، قَالَ: نا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ زُرْزُرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَخْرُجُ مِنِّي الرِّيحُ قَالَ: تُمْسِكُ عَنِ الْقِرَاءَةِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الرِّيحُ.
١٠٠ - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ قَالَ: نا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أنا عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «إِذَا تَثَاءَبْتَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ فَأَمْسِكْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْكَ»
ص ١٣٧
روي نحوه عن مجاهد رحمه الله كما في «فضائل القرآن» لأبي عبيد (١٠٦). قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (٢ / ٨٤): ولأجل أنه كلام الله وخرج منه، أمر القارئ بتنزيهه والإمساك عن قراءته عند الروائح المنتنة، وفي الأماكن المستقذرة. ثم ساق بإسناده أثر عطاء ومجاهد رحمهما الله.
الحاشية ص ١٣٧
يجد بركة القرآن من حاسب نفسه به وأدى ما عليه لله تعالى ولجأ إليه
جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُهُ يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَأَدَّبُوا بِهِ وَلَا يَغْفُلُوا عَنْهُ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ اعْتَبَرُوا نُفُوسَهُمْ بِالْمُحَاسَبَةِ لَهَا، فَإِنْ تَبَيَّنُوا مِنْهُ قَبُولَ مَا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مَوْلَاهُمُ الْكَرِيمُ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ، فَحَمِدُوهُ فِي ذَلِكَ وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَى مَا وَفَّقَهُمْ لَهُ، وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ النُّفُوسَ مُعْرِضَةٌ عَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ مَوْلَاهُمُ الْكَرِيمُ، قَلِيلَةُ الِاكْتِرَاثِ بِهِ، اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ مِنْ تَقْصِيرِهِمْ، وَسَأَلُوهُ النَّقْلَةَ مِنْ هَذَا الْحَالِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ بِأَهْلِ الْقُرْآنِ، وَلَا يَرْضَاهَا لَهُمْ مَوْلَاهُمْ إِلَى حَالَةٍ يَرْضَاهَا، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالَهُ وَجَدَ مَنْفَعَةَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَعَادَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ كُلُّ مَا يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
ص ١٣٩
بَابٌ فِي حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ
معنى تزيين القراءة
١٠٨ - وَأَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو قُدَامَةَ، وَعُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْسَجَةَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»
ص ١٤٢
(١) رواه أحمد (١٨٤٩٤)، وأبو داود (١٤٦٨)، وابن ماجه (١٣٤١)، وهو حديث صحيح.
الحاشية ص ١٤٢
١٠٩ - حَدَّثَنَا جَعْفَرُ الصَّنْدَلِيُّ قَالَ: ثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ لَهُ: قَوْلُهُ ﷺ: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» مَا مَعْنَاهُ؟ قَالَ: التَّزَيُّنُ أَنْ تُحْسِنَهُ.
ص ١٤٢
-
قال ابن القيم الله في روضة المحبين (ص ۳۷۷): وقال: «زينوا القرآن بأصواتكم»، وغلط من قال: إن هذا من المقلوب، والمراد: زينوا أصواتكم بالقرآن، فهذا وإن كان حقا؛ فالمراد: تحسين الصوت بالقرآن. اهـ.
-
قال العطار الهمذاني (٥٦٩ هـ) الله في التمهيد في معرفة التجويد (ص ۳۲) وتزيين القراءة: هو إعطاء الحروف حقوقها على ما بينا قبل، لا ما أحدثه العُمي المقبريون، والغُثُر الأعجميون؛ لأن ذلك يفضي إلى تغيير المقاصد والمعاني، ويقرب قراءة الوحي المنزل من ألحان الأغاني. اهـ.
الحاشية ص ١٤٢
ما يَنْبَغِي على من رَزَقَهُ اللَّهُ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ
يَنْبَغِي لِمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ حُسْنَ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّهُ بِخَيْرٍ عَظِيمٍ فَلْيَعْرِفْ قَدْرَ مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَلْيَقْرَأْ لِلَّهِ لَا لِلْمَخْلُوقِينَ وَلِيَحْذَرْ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى أَنْ يُسْتَمَعَ مِنْهُ لِيَحْظَى بِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا وَالْمَيْلِ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ وَالْجَاهِ عِنْدَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، وَالصَّلَاةِ بِالْمُلُوكِ دُونَ الصَّلَاةِ بِعَوَامِّ النَّاسِ.
فَمَنْ مَالَتْ نَفْسُهُ إِلَى مَا نَهَيْتُهُ عَنْهُ خِفْتُهُ أَنْ يَكُونَ حُسْنُ صَوْتِهِ فِتْنَةً عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُ حُسْنُ صَوْتِهِ إِذَا خَشِيَ اللَّهَ عز وجل فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُسْتَمَعَ مِنْهُ الْقُرْآنُ؛ لِيَنْتَبِهَ أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنْ غَفْلَتِهِمْ، فَيَرْغَبُوا فِيمَا رَغَّبَهُمُ اللَّهُ عز وجل وَيَنْتَهُوا عَمَّا نَهَاهُمْ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ انْتَفَعَ بِحُسْنِ صَوْتِهِ، وَانْتَفَعَ بِهِ النَّاسُ.
ص ١٤٢ - ١٤٣
كراهة وتحريم القراءة بالألحان
وَأَكْرَهُ الْقِرَاءَةَ بِالْأَلْحَانِ وَالْأَصْوَاتِ الْمَعْمُولَةِ الْمُطْرِبَةِ، فَإِنَّهَا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، مِثْلِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَأْمُرُونَ الْقَارِئَ إِذَا قَرَأَ أَنْ يَتَحَزَّنَ وَيَتَبَاكَى وَيَخْشَعَ بِقَلْبِهِ.
ص ١٤٤
قال ابن تيمية رحمه الله: الألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، ونحو ذلك؛ يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة، ولها عند أهلها أسماء كالبريطي، والرومي، والمكي، والإسكندراني، والمصري، والديباجي، والياقوتي، أسماء مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن حصل من ذلك تغيير نظم القرآن، كجعل الحركات حروفًا، فهو حرام. اهـ. نقلا من «الدرر السنية» لابن قاسم (١٣/ ٥٥).
وقال الطرطوشي في «الحوادث والبدع» (٩٠): ومعنى هذا أن يمطط الحروف، ويفرط في المد، ويُشبع الحركات حتى تصير حروفًا؛ فإنه متى أشبع حركة الفتح؛ صارت ألفا، وإن أشبع حركة الضم صارت واوا، وإن أشبع حركة الكسر؛ صارت ياء! وأعظم من هذا أن الحرف الذي فيه واو واحدة تصير واوات كثيرة، ويكون في الحرف ألف واحد فيجعلونه ألفات كثيرة، وكذلك كل حرف من الآية يزيد فيه من الحروف بحسب ما تحتاج إليه نغمته ولحنه، فيزيل الحرف عن معناه، فتلحق الزيادة والنقصان على حسب النغمات والألحان، فلا تخلو من زيادة أو نقصان، وهذا أمر ليس في كلام العرب، ولا تعرفه الفصحاء والشعراء.. اهـ.
وفي «الآداب الشرعية» (٢/ ٣١٥) قال الشيخ تقي الدين [يعني: ابن تيمية رحمه الله]: قراءة القرآن بصفة التلحين الذي يشبه تلحين الغناء، مكروه مبتدع، كما نص على ذلك مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من الأئمة. اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في «زاد المعاد» (١/ ٦٣١) بعد تفصيل له في القراءة بالألحان:
-
الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة، والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه.
-
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره. وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى الله من أن يقرؤوا بها ويسوّغوها؛ ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارةً، وبطرب تارةً، وبشوق تارة. وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن». اهـ.
وقال ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ في «فضائل القرآن» (ص ١٩٨) بعد أن ذكر بعض الأحاديث والآثار في النهي عن القراءة بالألحان: هذه طرق حسنة في باب الترهيب. وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة رحمهم الله على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفًا أو ينقص حرفًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم. اهـ.
الحاشية ص ١٤٤ - ١٤٨
تفاسير أهل العلم لمعنى (يتغنَّ)
١١٧ - وَقَالَ وَكِيعٌ وَابْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِهِ يَسْتَغْنِي بِهِ.
ص ١٤٩
-
وهذا أحد تفاسير أهل العلم في معنى (يتغن) في هذا الحديث.
-
ومنها: ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن (٢٩٨): عن عبد الله بن أبي نهيك، قال: دخلت على سعد [بن أبي وقاص] ه فرأيته رث المتاع رث المال، فقال: قال رسول الله ﷺ: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن».
-
قال أبو عبيد ﷺ في «غريب الحديث» (١/ ٣٨٤): كان سفيان بن عيينة يقول: معناه: من لم يستغن به، ولا يذهب به إلى الصوت، وليس للحديث عندي وجه غير هذا؛ لأنه في حديث آخر كأنه مُفسّر….
-
قال الخلال رحمه الله في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (۲۱۰): سألت أحمد بن يحيى النحوي ثعلب عن قوله: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن؟». فقال بعضهم: يذهب إلى أنه الغناء: يترنّم به. وبعضهم يذهب إلى الاستغناء، وهو الذي عليه العمل.
-
قلت: ووجه ما فسر به وكيع وابن عيينة وغيرهما هذا الحديث، ما قاله الطبري في تفسيره) (١٢٦/١٤): القول في تأويل قوله تعالى: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر]، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ: لا تتمنين يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يتمتعون فيها، فإن من ورائهم عذابًا غليظا. ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾، يقول: ولا تحزن على ما مُتعوا به فعجل لهم، فإن لك في الآخرة ما هو خير منه، مع الذي قد عجلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم، يقال منه: مد فلان عينه إلى مال فلان: إذا اشتهاه وتمناه وأراده. وذكر عن ابن عيينة أنه كان يتأول هذه الآية قول النبي ﷺ: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، أي: من لم يستغن به، ويقول: ألا تراه يقول: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ﴾، فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال، قال: ومنه قول الآخر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدًا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيرًا وصغر عظيمًا. اهـ.
-
-
فهذا أحد التفاسير في معنى الأمر بالتغني الوارد في الحديث، ومما جاء في تفسيره كذلك: أن المراد بالتغني: الجهر بالقرآن، ورفع الصوت به، وقد جاء هذا التفسير مصرحًا به في رواية البخاري (٧٥٢٧)، قال ﷺ: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»، وزاد غيره: (يجهر به).
- قال الخلال رحمه الله في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (۲۱۰): إن إسحاق قال: قال لي أبو عبد الله يوما وكنت سألته عنه: هل تدري ما معنى: «من لم يتغن بالقرآن فليس منا؟». قال: يرفع صوته، فهذا معناه: إذا رفع صوته فقد تغنى به.
-
ومن أهل العلم من فسره بتحسين الصوت، وقراءته بحزن. قال ابن أبي مليكة رحمه الله: يُحسن ما استطاع.
-
وفي «مختصر قيام الليل» (س (۱۳۹) قال الليث بن سعد: هو الذي يتحزن به.
-
وفي مناقب الشافعي للبيهقي (۳۲۱/۱) قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول في قوله: «ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن»، فقال له رجل: يستغني به؟ فقال: لا، ليس هذا معناه، معناه: أن يقرأ حذرًا وتحزينا.
-
وفي «روضة المحبين» (ص ۳۷۸) قال أحمد: نحن أعلم بهذا من سفيان، إنما هو تحسين الصوت به، يُحسنه ما استطاع.
-
قال ابن القيم رحمه الله في «روضة المحبين» (ص ۳۷۸): وصح عنه ﷺ أنه قال: «ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن، ووهم من فسره بالغنى الذي هو ضد الفقر من وجوه:
-
أحدها: أن ذلك المعنى إنما يقال فيه: استغنى، لا تغنى.
-
الثاني: أن تفسيره قد جاء في نفس الحديث: (يجهر به)، هذا لفظه. قال أحمد: نحن أعلم بهذا من سفيان، إنما هو تحسين الصوت به، يُحسنه ما استطاع.
-
الثالث: أن هذا المعنى لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ، ولو احتمله، فكيف وبنية اللفظ لا تحتمله كما تقدم.
الحاشية ص ١٤٩ - ١٥١
الحزن والتباكي عند التلاوة
١١٨ - وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ».
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: فَأُحِبُّ لِمَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ أَنْ يَتَحَزَّنَ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ، وَيَتَبَاكَى وَيَخْشَعَ قَلْبُهُ، وَيَتَفَكَّرُ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ لِيَسْتَجْلِبَ بِذَلِكَ الْحُزْنَ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا نَعَتَ اللَّهُ عز وجل مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟، وَأَخْبَرَنَا بِفَضْلِهِمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٢٣] الْآَيَةَ، ثُمَّ ذَمَّ قَوْمًا اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَلَمْ تَخْشَعْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، فَقَالَ عز وجل: ﴿أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ﴾
ص ١٥٢ - ١٥٣
رواه البخاري (٧٥٤٤)، ومسلم (٧٩٢).
قال ابن القيم رحمه الله في «الكلام على السماع» (ص١٩٤): فتحسين الصوت ندب إليه، وحمد الصوت الحسن لما تضمنه من الإعانة على ما يحبه الله من سماع القرآن، ويحصل به من تنفيذ معانيه إلى القلوب ما يزيدها إيمانًا، ويُقرّبها إلى ربها، ويُدنيها من محابه. فالصوت الحسن بالقرآن مُنْفِذ لحقائق الإيمان، مُعِين على إيصالها إلى القلوب. اهـ.
في «تفسير عبد الرزاق» (٢٦٢٦) عن معمر، قال: تلا قتادة: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، قال: هذا نعت أولياء الله، نعتهم الله أنهم تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، وإنما هذا في أهل البدع، وهذا من الشيطان.
عقد أبو عبيد رحمه الله في كتابه «فضائل القرآن» بابًا في هذا الأدب، فقال: (باب ما يستحب لقارئ القرآن من البكاء عند القراءة في صلاة وغير صلاة وما في ذلك).
قلت: واعلم أن البكاء للقرآن ليس بكاء العين فقط، بل بكاء العين والقلب جميعاً.
الحاشية ص ١٥٢ - ١٥٣
ترتيل القرآن
١٢٠ - ثُمَّ يَنْبَغِي لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَنْ يُرَتِّلَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤] قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: تُبَيِّنُهُ تَبْيِينًا،
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا رَتَّلَهُ وَبَيَّنَهُ انْتَفَعَ بِهِ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْهُ، وَانْتَفَعَ هُوَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَرَأَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ عز وجل فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ [الإسراء: ١٠٦] عَلَى تُؤَدَةٍ
١٢٠ - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: ثنا أَبُو الْخَطَّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: ثنا مَالِكُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: ثنا ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤] بَيِّنْهُ تِبْيَانًا.
ص ١٥٤
وعند الترمذي (۲۹۲۳) أن أم سلمة رضي الله عنها سُئلت عن قراءة النبي ﷺ؟ فنعتتها بأنها قراءة مفسرة حرفًا حرفًا.
وروى أحمد (٢٦٤٧٠) عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن بعض أزواج النبي ﷺ - قال أبو عامر: قال نافع: أراها حفصة - أنها سئلت عن قراءة رسول الله ﷺ فقالت: إنكم لا تستطيعونها، قال: فقيل لها أخبرينا بها. قال: فقرأت قراءة ترسلت فيها. قال أبو عامر: قال نافع: فحكى لنا ابن أبي مليكة: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. ثم قطع، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ثم قطع ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
قال العطار في «التمهيد في معرفة التجويد» (۱۳): فمما ورد في نص التنزيل قوله تعالى واصفًا كتابه: ﴿وَرَتَّلْنَهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان]، وقوله أمرًا نبيه ﷺ، وحاثًا أُمته على اتباعه: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلًا﴾، قيل: معناه بينه تبيينا، وقيل: ترسل فيه ترسلا، وقيل: فرقه تفريقًا، وقيل: قطعة تقطيعًا، وقيل: انبذه حرفًا حرفًا، وكلها متقاربة، ولم يقتصر - جل اسمه ـ على الأمر بالفعل حتى أكده بمصدر. ومنه قوله ناهيا نبيه ﷺ عن ضد ذلك: ﴿وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤]، وقوله في معناه: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة]، وقوله مخبرًا له ﷺ أن التنزيل هو التمكث، والتمهيل والتؤدة والترسل، ﴿وَقُرْءَانَا فَرَقْنَهُ لِنَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾. اهـ.
الحاشية ص ١٥٤ - ١٥٥
لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها
١٣٢ - وَالْقَلِيلُ مِنَ الدَّرْسِ لِلْقُرْآنِ مَعَ الْفِكْرِ فِيهِ وَتَدَبُّرِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ قِرَاءَةِ الْكَثِيرِ مِنَ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَلَا تَفَكُّرٍ فِيهِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالسُّنَّةُ وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
ص ١٥٥
قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (۱/ ۱۸۷): فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر حتى مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه كررها ولو مائة مرة، ولو ليلة، فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن، وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح. اهـ.
الحاشية ص ١٥٧
هل الأفضل الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة؟
قال ابن القيم في «زاد المعاد» (۳۲۷/۱): وقد اختلف الناس في الأفضل من الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة: أيهما أفضل؟ على قولين:
-
فذهب ابن مسعود وابن عباس وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها. واحتج أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره، والفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه، كما قال بعض السلف: (نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا)، ولهذا كان أهل القرآن هم العالمون به، والعاملون بما فيه، وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب. وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم… قالوا: وهذا هدي النبي ﷺ، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.
-
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله: كثرة القراءة أفضل، واحتجوا بحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من قرأ حرفًا من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها…. قالوا: ولأن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ القرآن في ركعة، وذكروا آثارًا عن كثير من السلف في كثرة القراءة.
-
والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًا. والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة.
الحاشية ص ١٥٨ - ١٥٩
Generated at: 2025-01-04-12-22-29