المؤلف:: مصعب بن صلاح الناشر:: معهد التأصيل العلمي سنة النشر:: 2025 الصفحات:: 20 الصيغة:: PDF الحالة:: مكتمل التسميات:: معهد_التأصيل_العلمي المعرفة:: طلب العلم التدريب:: , تاريخ القراءة:: 2025-05-08 معالج:: 1 تقييم الفائدة المستقبلية:: 5
الملاحظات من - شرح كتاب ملخص المدخل إلى طلب العلم ما لم أذكر خلاف ذلك.
الفصل الأول: مقدمات تأصيلية
-
قال سفيان الثوري (161 هـ) رحمه الله: (بلغني -والله أعلم-أنه سيأتي على الناس زمانٌ مَن طَلب العلمَ فيه؛ صار غريبا في زمانه!) البدع لابن وضاح (269)
-
«وكان يونس بن عبيد يقول أصبح اليوم من يعرف السنة غريباً وأغرب منه من يُعرفها» يعني طريقة السلف.
-
أخرج اللالكائي عن يونس بن عبيد أنه قال: “أصبح من يعرف السنة في نفسه غريبًا بين الناس، فطوبى للغرباء.”
-
قال ابن رجب رحمه الله في = جامع العلوم والحكم: (ولابد أنْ يكونَ سلوكُ هذا الطريقِ [طلب العلم] خَلْفَ أئمةِ أهلِ الدين المجمَعِ على هدايتِهِم ودِرايتهم -كالشافعي وأحمد وإسحاقَ وأبي عُبيدٍ ومَن سَلك مَسْلَكَهم-، فإنَّ مَنِ ادَّعَى سلوكَ هذا الطريقِ على غيرِ طريقهم:
- وَقَع في مَفاوِزَ ومَهالِك
- وأَخَذَ بما لا يَجوزُ الأخْذُ به،
- وتَرك ما يجب العملُ به!)
المقدمة الأولى: بيان العلم المقصود:
هو العلم الشرعي، وحقيقته تُعرف بعدة جهات:
الجهة الأولى: من جهة الإجمال
١ - من جهة الإجمال: هو كل ما عَلَّمه النبي ﷺ أُمته. ذكره ابن تيمية في الفتاوى.
الجهة الثانية: من جهة حدوده
٢ - من جهة حدوده: هو معرفة حدود ما أنزلَ اللهُ على رسولِهِ مِن أصول الدين وفُروعه. ذكره السعدي في تفسيره.
الجهة الثالثة: من جهة أقسامه الأساسية
٣ - من جهة أقسامه الأساسية: ينقسم إلى ثلاثة:
- الأول: عِلْمٌ بالله وأسمائه وصفاته وما يتبع ذلك.
- والثاني: العلم بما أخبَرَ اللهُ به من الأمور الماضية والمستقبلة والحاضرة.
- والثالث: العلم بما أمر الله به من الأمور المتعلقة بالقُلوبِ والجوارح، ويندرج فيه العلم بأصول الإيمانِ وقَواعِدِ الإسلام، ويَنْدَرِجُ فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويَنْدَرِجُ فيه ما وُجِدَ في كتب الفقهاء من العِلمِ بأحكام الأفعال الظاهرة. ذكره ابن تيمية في الفتاوى، وابن رجب في شرح حديث أبي الدرداء.
تعليق على قول ابن تيمية: “ويندرج فيه ما وجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة”.
- هذا فيه فائدة: أن متون الفقه من جنس العلم الممدوح شرعا.
- وفائدة ثانية: أن هذه المتون الفقهية تحتوي على التنصيص والتصريح على أحكام الأقوال والأفعال الظاهرة، هذه خلاصة الفقه.
- وفيه فائدة ثالثة: وجوب العناية بهذه المتون الفقهية. لماذا؟ لتكتمل عندك يا طالب العلم أقسام العلم الشرعي. فمن ذم هذا النوع فهو يذم العلم الشرعي. ومن لم يعتن به فقد نقص من تكوين طلبه للعلم قسم مهم جدًا.
الجهة الرابعة: من جهة مصدره وأهله الذين يؤخذ عنهم
٤ - من جهة مصدره وأهله الذين يؤخَذُ عنهم: ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أنْ يَنتهي إلى زَمَنِ أَئِمَّةِ الإسلام المشهورين المقتدى بهم والمجمع على هدايتهم ودرايتهم كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومَن سَلك مَسْلَكَهم. ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم وفضل علم السلف.
إلى أنْ يَنتهي إلى زَمَنِ أَئِمَّةِ الإسلام المشهورين المقتدى بهم والمجمع على هدايتهم ودرايتهم.
لا بد من وجود حد فاصل ينتهي عنده نظر الطالب. لماذا؟ ليعرض ما بعده على ما قبله. أما من لم يجعل حدا فاصلا، اختلطت عنده الأمور، وانقلب عنده السلف إلى الخلف.
أَئِمَّةِ الإسلام المشهورين المقتدى بهم والمجمع على هدايتهم ودرايتهم، كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عُبيد ومَن سَلك مَسْلَكَهم.
- أن يكون مشهورا، فخرج ولو كان إماما لكنه مهجور أو مغمور. - والمقتدى بهم، فخرج الإمام المشهور الذي لم يقتد به الناس وليس له أتباع. - والمجمع على هدايتهم ودرايتهم، فخرج الإمام المشهور المقتدى به لكن لم يُجمع على هدايته ودرايته.
والحمد لله عندنا في تراثنا الإسلامي عشرات الآلاف من الأئمة الذين انطبقت عليهم هذه الأوصاف.
الجهة الخامسة: من جهة كيفية أخذه وضبطه
ه - من جهة كيفية أخذه وضبطه: بضَبْطُ نُصُوصٍ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وَفَهُمُ مَعَانِيهَا، وَالتَّقَيُّدُ فِي ذَلِكَ بِالمَأْثُورِ عَن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِم فِي مَعَانِي القُرآنِ والحَدِيثِ، وَفِيمَا وَرَدَ عَنْهُم مِن الكَلامِ فِي مَسَائِلِ الحَلَالِ والحَرَامِ وَالزُّهْدِ والرَّقَائِقِ والمَعَارِفِ وَغَير ذَلِكَ، وَالاجْتِهَادُ عَلَى تَمْيِيزِ صَحِيحِهِ مِن سَقِيمِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ الاجْتِهَادُ عَلَى الوُقُوفِ فِي مَعَانِيهِ وَتَفَهُمُهُ ثَانِيَا، ثم يَشْتَغلُ بالتصديق بذلك إن كان من الأمور العلمية، وإن كان من الأمورِ العَمَليةِ بَذَلَ وُسْعَهُ في الاجتهاد في فِعْلِ ما يستطيعه من الأوامر واجتناب النواهي، وتكون همَّتُهُ مصروفة بالكلية إلى ذلك لا إلى غيره، وهكذا كان حال السلف. ذكره ابن رجب في فضل علم السلف و= جامع العلوم والحكم.
-
نحن نعرف التقيّد بفهم السلف، لكن ننسى التقيّد بكيفية حفظهم للنصوص والأدلة.
-
ولذلك نجد اختلافًا واسعًا اليوم فيما يبدأ به طالب العلم: حفظ القرآن / حفظ الصحيحين / حفظ الأربعين النووية / إلخ ولو دخلت من المدخل الصحيح، لانضبط لك الجميع.
-
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في فضل علم السلف:
فَأَفْضَلُ العُلُوم في تَفْسِيرِ القُرْآنِ وَمَعَانِي الحَدِيثِ والكَلامِ فِي الحَلالِ والحَرَامِ مَا كَانَ مَأْثُورًا عَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وتَابِعِيهِم إِلَى أن يَنْتَهِي إِلَى زَمَنِ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ المَشْهُورِينَ المُقْتَدَى بِهِم، الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُم فِيمَا سَبَقَ. فَضَبْطُ مَا رُوِيَ عَنْهُم فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ العُلُومِ مَعَ تَفَهُمِهِ والتَّفَقهِ فِيه. وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُم مِن التَّوَسُّع لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إِلا أَن يَكُونَ شَرْحَا لِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ مِن كَلَامِهِم. وَأَمَّا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِكَلامِهِم فَأَكْثَرُهُ بِاطِلٌ أو لا مَنْفَعَةَ فيه. وفِي كَلامِهِم فِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ وِزِيَادَةٌ، فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ مَن بَعْدَهُم مِن حَقٌّ إِلا وَهُو فِي كَلَامِهِم مَوجُودٌ بِأَوْجَزِ لَفْظِ وأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، ولا يُوجَدُ في كَلَامِ مَن بَعْدَهُم مِن بَاطِلِ إِلا وَفِي كَلامِهِم مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَهُ لِمَن فَهِمَهُ وَتَأَمَّلَهُ، وَيُوجَدُ فِي كَلامِهِم مِن المَعَانِي البَدِيعَةِ والمَآخِذِ الدَّقِيقَةِ مَالَا يَهْتَدِي إِلَيهِ من بَعْدَهُم ولا يُلِمُّ بِهِ.
فَمَن لَم يَأْخُذِ العِلْمَ مِن كَلَامِهِم فَاتَهُ ذَلِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، مَعَ مَا يَقَعُ في كَثِيرٍ من البَاطِل مُتَابَعَةٌ لِمَن تَأَخَّرَ عَنْهُم.. ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحة من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله. ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي ﷺ ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.»
-
فما جاء بعدهم من التوسّع نوعان:
- إما لا خير فيه، وما لا خير فيه فهو باطل.
- وإما فيه خير، بشرط واحد: أن يكون شرحًا وبيانًا لكلامهم، فإن خالفهم، فلا شك في بطلانه.
-
ولا تحصل خشية الله بمجرد طلب العلم، بل بعد سلوك هذه المسائل، ومن لم يدخل من المدخل الصحيح، لن يُثمر له العلم خشية الله، ولذلك، قد تجد عالمًا، لكنه مبتدع ضال.
الجهة السادسة: من جهة ثمراته
٦ - من جهة ثمراته: الإعانة والهداية والتوفيق والتسديد في الفهم ثم خشية الله ومحبته والقُرب منه والأنس به والشوق إليه، والقلب الخاشع والنفس القانعة والدعاء المسموع. ذكره ابن رجب في فضل علم السلف.
وغايته: حصول سعادته وكماله و مصالح دنياه وآخرته. ذكره ابن القيم في = مفتاح دار السعادة.
من تحقق بهذا العلم، حصل له:
- العلم النافع
- القلب الخاشع
- النفس القانعة
- الدعاء المسموع
قال ابن رجب رحمه الله تعالى في فضل علم السلف:
فَأَصْلُ العِلْمِ: العِلْمُ بِاللَّهِ الَّذِي يُوجِبُ خَشْيَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ والقُرْبَ مِنْهُ وَالأَنْسَ بِهِ والشَّوق إلَيهِ، ثُمَّ يَتْلُوهُ العِلْمُ بِأَحْكَامِ اللهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ العَبْدِ مِن قَولٍ أو عَمَل أَو حَالٍ أو اعْتِقَادِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَينِ العِلْمَينِ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا نَافِعًا، وَحَصَلَ لَهُ العِلْمُ النَّافِعُ، والقَلْبُ الخَاشِعُ، والنَّفْسُ القَانِعَةُ، والدُّعَاءُ المَسْمُوعُ. وَمَن فَاتَهُ هَذَا العِلْمُ النَّافِعُ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ، وَصَارَ عِلْمُهُ وَبَالاً وَحُجَّةٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ.
المقدمة الثانية: حكم طلب العلم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأصل في طلب العلم الشرعي
المسألة الأولى: الأصل في طلب العلم الشرعي: أنه واجب؛ لقوله تعالى: ﴿ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦] والحديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، ولقاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إلا أن الواجب في الشرع نوعان:
١ - عيني: وهو ما أوجبه الشرع على كلِّ مُعَيَّنٍ (مُكَلَّفٍ) في خاصةِ نَفْسِه كالصلاة، فهو يجب على جميع المُكَلَّفِينَ أي: يُنْظَرُ فيه إلى الفعل والفاعل معاً فإذا لم يُفْعَلْ أَثِمَ كلُّ من لم يَفْعَلْه.
٢ - كفائي: وهو ما إذا فَعَلَه البَعضُ سَقَطَ الإثم عن البقية، فهو يجب على مجموع المُكَلَّفِينَ لا جَميعهم، أي: يُنْظَرُ فيه إلى الفعل بغضّ النظر عن الفاعل، كصلاة الجنازة، لكن إذا لم يقم به أحَدٌ أَثِمَ كل مَن يَقْدِرُ على فِعْلِهِ!
وهذا بالإجماع. ذكره ابن عبد البر في الجامع.
طلب العلم الشرعي واجب، لكن منه ما هو واجب عيني لا يسع المسلم جهله، ومنه ما هو واجب كفائي يجب على بعض الناس دون بعض.
المسألة الثانية: صفة فرض العين من العلم الشرعي
المسألة الثانية: صفة فَرْضِ العَينِ مِن العلم الشرعي: ما لا يسع المسلم جهله مما يتعلق إجمالا بالآتي:
١ - أصول الإيمان المتعلقة بمراتب الدين الثلاثة: الإسلام والإيمان والإحسان. ذكره ابن القيم في المفتاح وابن عبدالوهاب في = الأصول الثلاثة وأدلتها.
٢ - الواجبات والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة كوجوب الصلوات الخمس وتحريم الزنا. ذكره أحمد وابن راهويه وابن القيم.
٣- ما وجب بالزمان أو المكان أو الحال. ذكره مالك وابن المبارك وابن تيمية.
* والضابط الجامع: أنْ يَتَوَقَّفَ عليه معرفةُ عِبادةٍ يُرِيدُ فِعْلَها أو مُعامَلَةٍ يُرِيدُ القِيام بها، وما عداه ففَرْضُ كفاية. ذكره ابن عثيمين في كتاب العلم.
- قال مالك بن أنس رحمه الله: “إن العلم لحسن، ولكن انظر ما يلزمك من حين تصبح إلى حين تمسي، فالزمه ولا تؤثر عليه شيئاً.” أي: التزم بما يلزمك أداؤه من العلم والعمل في يومك، ولا تقدم عليه غيره.
- وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله عند سؤاله عن حديث “طلب العلم فريضة على كل مسلم”:ليس هذا الذي تطلبونه” أي: ليس المقصود بذلك الحديث علم الرواية والتحديث، لأنه كان يتحدث وهو في مجلس الحديث، وإنما المقصود أن يقع الإنسان في أمر من أمر دينه، فيسأل ويتعلم حتى يعلمه. وهذا أيضاً رواه الخطيب البغدادي.
- وسُئل كذلك: ما الذي يجب على جميع الناس من العلم؟ أي ما هو فرض العين؟ فقال: “ألا يُقدِم الرجل على شيء إلا بعلم.”
- وسُئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل: هل يجب عليه طلب العلم؟ فقال: “أما ما يقيم به صلاته وأمر دينه من الصوم والزكاة، ونحو ذلك، فينبغي له أن يتعلمه”.
- وسُئل إسحاق بن راهويه عن حديث: “طلب العلم فريضة”، فقال: “لم يصح فيه الخبر، ولكن معناه صحيح. وهو أن يلزم المسلم طلب ما يحتاج إليه من العلم، كوضوئه، وصلاته، وزكاته إن كان له مال، والحج وغيره”.
- ويقول الخطيب البغدادي في = الفقيه والمتفقه: قال بعض أهل العلم: “أُريد بهذا الحديث طلب علم التوحيد وما يكون به العاقل مؤمنًا، فإن العلم بذلك فريضة على كل مسلم، لا يُعذر أحد بجهله”. أي أن معرفة الله وتوحيده، وصفاته، والإيمان برسله، كل ذلك مما يجب على كل أحد معرفته.
- وقال بعضهم: “بل معناه أن كل أحد يجب عليه أن يتعلم ما لا يسعه جهله من علم حاله”.
- وقد ذكر ابن عبد البر رحمه الله تفصيلًا نافعًا في كتابه = جامع بيان العلم وفضله، وفيه إشارة إلى أصول العلم التي بُنِيَت عليها الأصول الثلاثة التي ألّف فيها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رسالته المشهورة.
- قال ابن عبد البر: “الذي يلزم الجميع فرضه من ذلك — أي فرض العين — ما لا يسع الإنسان جهله من الفرائض المفترضة عليه”، مثل:
- الشهادة باللسان والإقرار بالقلب بأن الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا رسول الله ﷺ.
- أركان الإيمان.
- الصلوات الخمس، وما يلزم من علمها كالطهارة وسائر أحكامها.
- صوم رمضان.
- فقه الزكاة لمن كان له مال.
- فقه الحج لمن استطاع إليه سبيلًا.
المسألة الثالثة: الأصل في فرض الكفاية من العلم الشرعي
المسألة الثالثة: الأصل في فرض الكفاية من العلم الشرعي: قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: ١٢٢] اتَّفَقَ العلماء على الاستدلال بهذه الآية على فَرْضِ الكفاية. ذكره ابن عبد البر في الجامع.
- قال سفيان بن عيينة: “طلب العلم والجهاد فريضة على الجماعة، ويجزئ فيه بعضهم عن بعض”، وقرأ هذه الآية. أخرجه ابن عبد البر في الجامع.
المسألة الرابعة: صفة فرض الكفاية من العلم الشرعي
المسألة الرابعة: صفة فَرْضِ الكِفاية من العلم الشرعي: كل ما زاد على فرض العين. ذكره ابن عثيمين في = كتاب العلم.
- أما ضابط فرض الكفاية، فقال العلماء: “كل ما زاد على فرض العين فهو فرض كفاية.”
- وقد قال العلامة ابن باديس: “هو الاشتغال بتحصيل مسائله والانقطاع إلى تعلم قواعده.”
- وقال ابن القيم في = مفتاح دار السعادة:
وأما فرض الكفاية فلا أعلم فيه ضابطا صحيحا. فإن كل أحد يدخل في ذلك ما يظنه فرضا. والفرض الذي يعم وجوبه كل أحد هو علم الإيمان وشرائع الإسلام، فهذا هو فرض العين. وأما ما عدا هذا فهو فرض الكفاية. فإذا توقفت معرفة الواجب عليه، فهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به. ويكون الواجب منه القدر الموصل إليه، دون المسائل التي هي فضلة -يعني زيادات وتفاصيل- لا يفتقر معرفة الخطاب الشرعي وامتثاله وفهمه إليها. وبالجملة، فالمطلوب الواجب من العبد من العلوم والأعمال إذا توقف على شيء منها، كان ذلك الشيء واجبا وجوب الوسائل. ومعلوم أن ذلك التوقف يختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والألسنة والأذهان، فليس لذلك حد مقدر والله أعلم.
المسألة الخامسة: طلب جميع العلوم واجب على مجموع القائمين بفرض الكفاية لا على أعيانهم
المسألة الخامسة: طلب جميع العلوم واجب على مجموع القائمين بفرض الكفاية لا على أعيانهم. ذكره ابن تيمية.
- قد يتوهم أحدنا أن كل من اشتغل بفرض الكفاية من العلم الشرعي يجب عليه أن يطلب جميع العلوم الشرعية. وهذا غلط.
- يقول ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا وجب على مجموع الأمة حفظ جميع ما يتعلق بالكتاب والسنة من المستحبات والرغائب، وإن لم يجب ذلك على آحادهم”.
- فالجميع: أي كل واحد بعينه. والمجموع: أي الجماعة يشتركون في القيام بالواجب.
- فلو كنت تطلب علمًا معينًا، ووجدت أن هناك حاجة في علم آخر، فلا يلزمك أن تنتقل إليه إن كنت محسنًا فيما أنت فيه. بل تدعو الله أن ييسر من يسد تلك الثغرة، ولا تترك ما أنت محسن فيه.
- قال الإمام الأوزاعي فيما رواه المروزي: “كل أحد على ثغر من ثغور الإسلام، فإياكم أن يُؤتى الإسلام من قبلكم”. أي تتركوا ثغوركم.
- وقال ابن تيمية: “ولا يقولن قائل: من لم يعرف الأحاديث كلها لم يكن مجتهدًا. فإنه إن شُرط في الاجتهاد معرفة جميع ما قاله النبي ﷺ وفعله في الأحكام، لم يكن في الأمة مجتهد! وإنما غاية العالم أن يعلم جمهور ذلك ومعظمه، بحيث لا يخفى عليه إلا القليل”.
المسألة السادسة: ما تتحقق به الكفاية من فرض الكفاية من العلم الشرعي
المسألة السادسة: ما تَتَحَقَّقُ به الكفاية مِن فَرضِ الكفاية من العلم الشرعي:
يُكْتَفى فيه بِغَلَبَةِ الظَّنِّ؛ فَمَن غَلَبَ على ظنّهِ أَنْ فَرضَ الكفاية من العلم لم يَقُمْ به أَحَدٌ: وَجَبَ عليه، ومَن غَلَبَ على ظنّه أنَّ غَيْرَه قام به: سَقَطَ عنه. ذكره القرافي.
المسألة السابعة: متى يجوز الاشتغال بطلب فرض الكفاية من العلم الشرعي؟
المسألة السابعة: متى يجوز الاشتغال بطلب فَرضِ الكفاية من العلم الشرعي؟ بشرطين: الأول: أن لا يؤدي إلى تضييع فَرضِ عَينٍ. والثاني: أن لا يؤدي إلى تضييع فَرضِ كفاية أهم.
المسألة الثامنة: حالات يصير فيها فرض الكفاية من العلم فرض عين
المسألة الثامنة: حالات يصير فيها فرض الكفاية من العلمِ فَرَضَ عَينٍ:
١ - إذا شَرَعَ الطالب في الطلب.
٢ - إذا ظهر نبوغه في العلم وقدرته عليه.
٣- إذا غلب على ظنه أنه لم يَقُم به غَيْرُه في مكان ما.
٤ - إذا فُرِّغَ له ورُزِقَ عليه.
- إذا شرع الطالب في الطلب: فبمجرد أن تبدأ بطلب علم هو من فروض الكفاية، يتحول في حقك إلى فرض عين. لا يجوز تركه إلا لعذر. لأنك حملت الكفاية عن الأمة.
- قال ابن تيمية: “ولهذا مضت السنة بأن الشروع في العلم والجهاد يلزم كالشروع في الحج.”
- إذا ظهر نبوغه وقدرته على العلم: فالعلم يصبح فرض عين عليه. لأن غيره قد لا يستطيع الفهم أو الضبط، أما هو فمؤهل.
- يقول القرافي: “العلم وإن كان فرض كفاية، إلا أنه يتعين على طائفة من الناس: من جاد حفظهم، ورق فهمهم، وحسنت سيرتهم”.
- قال ابن تيمية: “العلم الذي هو فرض كفاية قد يتعين على بعض الناس لقدرتهم عليه وعجز غيرهم.” ثم قال: و”يدخل في القدرة استعداد العقل وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه من الكتب المصنفة والعلماء المتقدمين وسائر الأدلة المتعددة.”
- إذا غلب على ظنه أنه لم يقم به غيره في مكان ما: كما تقدم. إن ظننت أن لا أحد يقوم بهذا العلم، وجب عليك.
- قال ابن تيمية: “والمقصود أن هذه الأعمال التي هي فرض كفاية، متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان غيره عاجزا عنها.”
- إذا فرغ له ورُزق عليه: أي إذا فُرغ علميًا، وكان رزقه من طريقه، فالواجب عليه أشد من غيره، وإذا قصّر فقد وقع في كتمان العلم.
- قال ابن تيمية: “وجوب طلب العلم عينا وكفاية على أهل العلم الذين تفرغوا له ورزقوا عليه أعظم من وجوبه على غيرهم، وإذا ضيعوا حفظه كان ذلك من أعظم الظلم للمسلمين.”.
المقدمة الثالثة: بيان المقصود بالمنهجية في طلب العلم:
المراد: طريقة طلب العلوم وتلقيها، وهو ما يعرف بالتأصيل العلمي، وكانت تُعرف عند السلف بالأدب والهدي والسمت وأدب الطلب.
* والمقصود بها أمران:
الأمر الأول: معرفة الطريق الموصل إلى العلم (الجانب النظري)
الأول: معرفة الطريق الموصل إلى العلم، وهو الجانب النظري.
الأمر الثاني: معرفة كيفية سلوك ذلك الطريق (الجانب العملي)
الثاني: معرفة كيفية سلوك ذلك الطريق، وهو الجانب العملي.
ولابد من معرفة هذين الأمرين بالتفصيل، وإلا حُرم الوصول وضاع العلم! ذكره [ابن عبد البر] والخطيب وابن رجب.
- صنف علماء السلف مختصرات ومطولات في هذا الأمر وتفاصيله، ومعرفة ما جاء عن السلف هنا مهمة جدا والجهل بها خطر عظيم ينشأ عنه الجهل بطرق التعلم والتعليم ويسبب قلة وضعفا في طلبة العلم.
وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَفِي بَلَدِنَا قَدْ حَادَ أَهْلُهُ عَنْ طَرِيقِ سَلَفِهِمْ وَسَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَئِمَّتُهُمْ وَابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ مَا بَانَ بِهِ جَهْلُهُمْ وَتَقْصِيرُهُمْ عَنْ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَهُمْ. = جامع بيان العلم وفضله ٢/١١٣٤ — ابن عبد البر (ت ٤٦٣)
«وَأَنَا أَذْكُرُ فِي كِتَابِي هَذَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ مَا بِنَقَلَةِ الْحَدِيثِ وَحُمَّالِهِ حَاجَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ، مِنَ الْأَخْذِ بِالْخَلَائِقِ الزَّكِيَّةِ، وَالسُّلُوكِ لِلطَّرَائِقِ الرَّضِيَّةِ، فِي السَّمَاعِ وَالْحَمْلِ وَالْأَدَاءِ وَالنَّقْلِ، وَسُنَنِ الْحَدِيثِ وَرُسُومِهِ، وَتَسْمِيَةِ أَنْوَاعِهِ وَعُلُومِهِ، عَلَى مَا ضَبَطَهُ حُفَّاظُ أَخْلَافِنَا عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنْ شُيُوخِنَا وَأَسْلَافِنَا، لِيَتَّبِعُوا فِي ذَلِكَ دَلِيلَهُمْ، وَيَسْلُكُوا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سَبِيلَهُمْ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمَعُونَةَ عَلَى مَا يَرْضَى، وَالْعِصْمَةَ مِنَ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ وَالْهَوَى» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الخطيب البغدادي - 1/ 79)
وَقَدْ جَمَعَ أَقْوَامٌ فِي مِثْلِ مَا سُئِلْنَا عَنْهُ وَذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا أَبْوَابًا لَوْ رَأَيْتُهَا كَافِيَةً دَلَّلْتُ عَلَيْهَا وَلَكِنِّي رَأَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَمَعَ مَا حَضَرَهُ وَحَفِظَهُ وَمَا خَشِيَ التَّفَلُّتَ عَلَيْهِ وَأَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ الْمُسْتَرْشِدُ إِلَيْهِ وَلَوْ أَغْفَلَ الْعُلَمَاءُ جَمْعَ الْأَخْبَارِ وَتَمْيِيزَ الْآثَارِ وَتَرَكُوا ضَمَّ كُلِّ نَوْعٍ إِلَى بَابِهِ وَكُلِّ شَكْلٍ مِنَ الْعِلْمِ إِلَى شَكْلِهِ لَبَطَلَتِ الْحِكْمَةُ وَضَاعَ الْعِلْمُ وَدَرَسَ وَإِنْ كَانَ لَعَمْرِي قَدْ دَرَسَ مِنْهُ الْكَثِيرُ لِعَدَمِ الْعِنَايَةِ وَقِلَّةِ الرِّعَايَةِ وَالِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا، وَالْكَلَبِ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عز وجل يُبْقِي لِهَذَا الْعِلْمِ قَوْمًا وَإِنْ قَلُّوا يَحْفَظُونَ عَلَى الْأُمَّةِ أُصُولَهُ وَيُمَيِّزُونَ فُرُوعَهُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً، وَلَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ مِنْهُ الْآخِرُ. (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الخطيب البغدادي - 1/ 79)
«فلَمّا رَأيتُ كَثِيرًا مِنْ طُلابِ العِلْمِ في زَمَانِنا يَجِدُّوْنَ إلى العِلْمِ ولا يَصِلُوْنَ، ومِنْ مَنَافِعِه وثَمَرَاتِهِ يُحْرَمُوْنَ، لمِا أنَّهُم أخْطَئُوا طَرَائِقَه، وتَرَكُوا شَرَائِطَه، وكُلُّ مَنْ أخْطأ الطَّرِيقَ ضَلَّ، ولا يَنَالُ المَقْصُوْدَ قَلَّ أو جَلَّ. فأحببت أن أبيّن لهم طريق التعلّم على ما رأيت في الكتب، وسمعت من أساتيذ أولى العلم والحكم» = تعليم المتعلم طريق التعلم - الزرنوجي - (٥٣)
ممّا أُلِّف في باب منهجية طلب العلم:
- = جامع بيان العلم وفضله - ابن عبد البر (ت 463هـ / 1071م).
- = الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الخطيب البغدادي (ت. 463هـ / 1071م).
- = تعليم المتعلم طريق التعلم - الزرنوجي (ت. نحو 620هـ / نحو 1223م).
-
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «كَانُوا يَتَعَلَّمُونَ الْهَدْيَ كَمَا يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الخطيب البغدادي - 1/ 79)
-
قال الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
-
وَرَوَى عَنِ ابْن مبارك أَنَّهُ قَالَ: نحن إِلَى قليل من الأدب أحوج منا إِلَى كثير من العلم.
-
سَمِعْتُ ابْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: «مَا تَعَلَّمْتُ مِنْ أَدَبِ مَالِكٍ أَفْضَلَ مِنْ عِلْمِهِ» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 509)
-
«حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ثنا محمد بن يحيى بن منده ثنا عباس بن عبد العظيم قال سمعت القعنبي يقول سمعت مالك بن أنس يقول: كان الرجل يختلف إلى الرجل ثلاثين سنة يتعلم منه.» (= حلية الأولياء وطبقات الأصفياء - ط السعادة - 6/ 320)
-
«وقال يوسف بن الحسين: “بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد، وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله عز وجل» (= اقتضاء العلم العمل - ص 31)
-
«أَخْبَرَنِي غَالِبُ بْنِ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ شَاذَانَ سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي حَاتِمٍ سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَرَفَةَ سَمِعْتُ ابْنُ الْمُبَارَكِ يَقُولُ (مَنْ تَهَاوَنَ بِالْأَدَبِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ السُّنَنِ وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالسُّنَنِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْفَرَائِضِ وَمَنْ تَهَاوَنَ بِالْفَرَائِضِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِ الْمَعْرِفَةِ)» (= ذم الكلام وأهله - 5/ 218)
انظر كيف ربط بين الأدب و المعرفة في آخر كلامه، فكلما عرفت كيف تطلب العلم أي الأدب عرفت وفهمت العلم، وهذا يدل على أن طلب المنهجية عندهم كان اكثر من العلم نفسه؛ قال أبو عبد الله البلخي رحمه الله: أدب العلم أكثر من العلم. فالمقصود بالأدب التأصيل وطريقة سلوك طلب العلم.
مراحل المنهجية في الغالب
* والمنهجية - غالبا - لها ثلاث مراحل:
الأولى: وتَختَصُّ بالمبتدئين، ويُعتنى فيها بالمختصرات في كل علم، كالآجرومية في النحو والأصول الثلاثة في العقيدة، والأربعين النووية في الحديث، وهكذا.
الثانية: وتختص بالمتوسطين وهم الذين تجاوزوا المرحلة السابقة، ويُعتنى فيها بالمتون التي وَضَعَها العلماء لتكون واسطةً بين المختصرات والمطولات.
الثالثة: وتختص بالمتقدمين أو المتمكنين وهم الذين تجاوزوا المرحلة السابقة، ويُعتنى فيها بالمطولات.
- بعض العلوم قد لا تحتاج إلى ثلاث مراحل، بل تكفي مرحلتان أو أقل بحسب طبيعة العلم.
المقدمة الرابعة: تفاصيل المنهجية في طلب العلم تختلف بعدة اعتبارات
۱ — باعتبار اختلاف أحوال الطلاب من حيث قدراتهم وذكاؤهم وأفهامهم.
۲- وباعتبار اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم.
٣- وباعتبار القصدِ أو الهدف الذي يُريد الطالب الوصول إليه.
٤ - وباعتبار تفاضل الأعمال وتفضيل بعضها على بعض.
* ومن أشهر المسائل التي يَظْهَرُ فيها ذلك: حفظ القرآن: وتُضْبَط هذه المسألة بما بعد فرض العين من العلم، ثم بالتفريق بين الصغير والكبير، ومسيس الحاجة، والتفرغ وغير ذلك. ذكر ذلك ابن المبارك وأحمد وابن مفلح وابن تيمية.
-
لم يكن العلماء يفرقون بين الطالب البليد والطالب الذكي. لأنهم يراعون بمنهجية طلب العلم هذه الأحوال، ولذلك كان كل الطلاب ينبغون.
-
إذا اشتهر في زمان ما كتاب وصار الذي يتربى عليه الطالب والمنهجية التي يسير عليها لا يمكن أن يُعامل بكتاب آخر اشتهر في زمان آخر أو مكان آخر. وهذا يظهر في المسائل الفقهية أو في علم الفقه.
-
المنهجيةُ في طلب العلم تختلف بحسب القصدِ الذي يريده طالبُ العلمِ:
- فمن أراد أن يكون عالما مجتهدا ذابًّا عن الشريعةِ؛ له منهجية تختصُّ به.
- ومن أراد أنْ يكون دونَ ذلك؛ له منهجية تختلف عن الأول، وهكذا.
-
ليس عند العلماء السابقين كلام كثير في مثل هذه المسائل لأن التفاصيل لا يكثرون فيها الكلام. فكان الطالب يتربى تحت إمام وعالم يُحسن ويراعي مثل هذه المسائل والاعتبارات فيتربى ويتخرج ثم يواصل مشواره لذلك كانوا ينبغون وهم صغار.
ومِن أحسنِ مَن تَكلَّمَ عن ذلك: الشوكاني (1250 هـ) في كتابه «أدب الطلب ومنتَهَى الأرَب» حيث قال:
لمّا كانت تتفاوتُ المطالبُ في هذا الشأن، وتتباين المقاصدُ بتَفاوُتِ هِمَمِ الطالبين وأغراضِ القاصدين:
1- فقد تَرْتَفِعُ هِمَّةُ البَعْضِ منهم فيَقْصِدُ البلوغَ إلى مرتبةٍ في الطلَبِ لِعلمِ الشرعِ ومُقَدِّماً لها، يكون عندَ تَحصيلها إماماً مَرْجوعاً إليه مُستَفاداً منه مَأخوذاً بقَولِهِ مُدَرِّساً مُفْتياً مُصَنِّفاً.
2- وقد تَقْصُرُ هِمَّتُهُ عن هذه الغايةِ؛ فتكونُ غايةُ مَقْصَدِه أنْ يَعرِفَ ما طَلبَه منه الشارعُ مِن أحكامٍ، على وَجْهٍ يَسْتَقِلُّ فيه بنفسِهِ ولا يَحتاج إلى غيرِهِ، مِن دون أنْ يَتَصَوَّرَ البلوغَ إلى ما تَصَوَّرَه أهلُ الطبقةِ الأولى؛ مِن تَعَدّي فوائدِ مَعارِفِهم إلى غيرِهم والقيامِ في مَقامِ أكابِرِ الأئمةِ ونَحارِيرِ هذه الأُمّة.
3- وقد يكون نهايةَ ما يريدُه وغايةُ ما يَطْلُبه: أمراً دون أهلِ الطبقةِ الثانيةِ؛ وذلك كما يكون مِن جماعةٍ يَرغَبون إلى إصلاحِ ألسنتهم وتقويم أفهامهم بما يَقْتَدرون به على فَهْمِ معاني ما يحتاجون إليه مِن الشرع وعَدمِ تَحريفه وتَصحيفه وتغيير إعرابه، مِن دون قَصْدٍ منهم إلى الاستقلالِ، بل يَعزِمون على التعويل على السؤال عند عُروضِ التعارُضِ والاحتياجِ إلى الترجيح.
فهذه ثلاثُ طبقاتٍ للطلبة مِن المُتَشَرِّعين الطالبين للاطلاعِ على ما جاء في الكتاب والسنة -إمّا كُلاًّ أو بعضاً- بحسب اختلافِ المقاصدِ وتفاوُتِ المطالب.
4- وثم طبقةٌ رابعةٌ يَقصِدون الوصولَ إلى علمٍ مِن العلوم أو عِلْمَينِ أو أكثرَ لِغَرَضٍ مِن الأغراضِ الدينية والدنيوية، مِن دون تَصَوُّرِ الوُصولِ إلى علمِ الشرعِ.فكانت الطبقاتُ أربعٌ.
ثم أخَذ يحث طالبَ العلم على أن يكون من أهل الطبقة الأولى، فقال:
وينبغي لمن كان صادقَ الرغبةِ، قويَّ الفهمِ، ثاقبَ النظرِ، عزيزَ النفسِ، شهد الطبع، عالي الهمة، سامي الغريزة = أن لا يَرضَى لنفسه بالدون ولا يَقنَعَ بما دون الغاية، ولا يَقعد عن الجد والاجتهاد المبَلِّغَينِ له إلى أعلى ما يراد وأرفع ما يستفاد، فإن النفوس الأبيّة والهمم العلية لا تَرضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة…فاحرص أيها الطالب على أن تكون من أهل الطبقة الأولى.
ثم أخذ يُبَيّن لكلِّ طبقةٍ المنهجيةَ التي تناسبها.
- من أسباب فشل بعض طلاب العلم انعدام المنهجية الصحيحة.
- أشار الشيخ صالح آل الشيخ في محاضرته “المنهجية في طلب العلم” إلى أن كثيرًا من الطلاب يحضرون الدروس ويجتهدون، لكنهم لا يحققون تقدمًا ملحوظًا بعد سنوات. والسبب ليس بالضرورة الذنوب أو الكسل، بل انعدام المنهجية الصحيحة. مما يؤدي إلى الملل وتضييع الوقت، وقد يخدع الطالب نفسه باعتقاد أنه طالب علم بمجرد حضوره الدروس.
اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب. ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله. ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشّرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ فتجود ملكته. ثمّ يرجع به وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه. = تاريخ ابن خلدون ١/٧٣٤ — ابن خلدون (ت ٨٠٨)
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلُومِ أَوَائِلَ تُؤَدِّي إلَى أَوَاخِرِهَا، وَمَدَاخِلَ تُفْضِي إلَى حَقَائِقِهَا. فَلْيَبْتَدِئْ طَالِبُ الْعِلْمِ بِأَوَائِلِهَا لِيَنْتَهِيَ إلَى أَوَاخِرِهَا، وَبِمَدَاخِلِهَا لِتُفْضِيَ إلَى حَقَائِقِهَا. وَلَا يَطْلُبُ الْآخِرَ قَبْلَ الْأَوَّلِ، وَلَا الْحَقِيقَةَ قَبْلَ الْمَدْخَلِ. فَلَا يُدْرِكُ الْآخِرَ وَلَا يَعْرِفُ الْحَقِيقَةَ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى غَيْرِ أُسٍّ لَا يُبْنَى، وَالثَّمَرُ مِنْ غَيْرِ غَرْسٍ لَا يُجْنَى. وَلِذَلِكَ أَسْبَابٌ فَاسِدَةٌ وَدَوَاعٍ وَاهِيَةٌ. = أدب الدنيا والدين ١/٤٨ — الماوردي (ت ٤٥٠)
وَهُنَا أَصْلٌ يَنْبَغِي أَنْ نَعْرِفَهُ. وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ فِي كُلِّ حَالٍ وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ بَلْ الْمَفْضُولُ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي شُرِعَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الْفَاضِلِ الْمُطْلَقِ… وَقَدْ يَكُونُ الْعَمَلُ الْمَفْضُولُ أَفْضَلَ بِحَسَبِ حَالِ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ؛ لِكَوْنِهِ عَاجِزًا عَنْ الْأَفْضَلِ أَوْ لِكَوْنِ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَاهْتِمَامِهِ وَانْتِفَاعِهِ بِالْمَفْضُولِ أَكْثَرَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ فِي حَقِّهِ لِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ مَزِيدِ عَمَلِهِ وَحُبِّهِ وَإِرَادَتِهِ وَانْتِفَاعِهِ… وَمِنْ هَذَا الْبَابِ صَارَ الذِّكْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْقِرَاءَةُ لِبَعْضِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ خَيْرًا مِنْ الصَّلَاةِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ لِكَمَالِ انْتِفَاعِهِ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فِي جِنْسِهِ أَفْضَلُ. = مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٤/٢٣٦ — ابن تيمية (ت ٧٢٨)
وَهَذَا الْبَابُ «بَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ عَلَى بَعْضٍ» إنْ لَمْ يُعْرَفْ فِيهِ التَّفْضِيلُ وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَإِلَّا وَقَعَ فِيهَا اضْطِرَابٌ كَثِيرٌ. فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ إذَا اعْتَقَدَ اسْتِحْبَابَ فِعْلٍ وَرُجْحَانَهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ مَا لَا يُحَافِظُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْأَمْرُ إلَى الْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ وَالْحَمِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ… وَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ… = مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٤/١٩٨ — ابن تيمية (ت ٧٢٨)
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يَغْلُو فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَيَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ… فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مَا هُوَ أَصْلَحُ لَهُ. = مجموع فتاوى ابن تيمية ١٠/٤٢٨ — ابن تيمية (ت ٧٢٨)
وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ يَكُونُ تَارَةً هَذَا أَفْضَلُ لَهُ وَتَارَةً هَذَا أَفْضَلُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ حَالِ كُلِّ شَخْصٍ وَبَيَانُ الْأَفْضَلِ لَهُ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي كِتَابٍ. = مجموع فتاوى ابن تيمية ٢٢/٣٠٩ — ابن تيمية (ت ٧٢٨)
مسألة حفظ القرآن
-
بالنسبة لحفظ القرآن: هنالك ما هو فرض عين؛ وهو أمران: الفاتحة وما تيسر منه.
- وما تيسر منه لا حد له ينضبط به: وهذا بالإجماع ذكره ابن حزم وأقره عليه ابن تيمية.
-
حفظ القران لم يكن مسالة جدلية عند السلف كما اليوم.
-
قَالَ الشافعي رحمه الله: “وَإِنَّمَا قِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ إِنَّ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَئِمَّةَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ كِبَارًا فَيَتَفَقَّهُونَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَءُوا وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ صِغَارًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا …” (= السنن الصغير - البيهقي - 1/ 196)
-
وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى حيث قال الميموني: سألت أبا عبد الله: أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أم بالحديث؟ فقال له: بالقرآن، قلت: أعلمه كله؟ -أي: أعلمه كل القرآن؟ -قال: إلا أن يعسر عليه.
- الحديث في عرف السلف المتقدمين يراد به طلب العلم.
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابن تيمية أَيُّهمَا طَلَبُ الْقُرْآنِ أَوْ الْعِلْمِ أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: أَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ عَيْنًا كَعِلْمِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حِفْظِ مَا لَا يَجِبُ مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ، وَطَلَبَ الثَّانِي مُسْتَحَبٌّ، وَالْوَاجِبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُسْتَحَبِّ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْقُرْآنِ هُوَ فَهْمُ مَعَانِيهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ هِمَّةَ حَافِظِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالدِّينِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
المقدمة الخامسة: قواعد في طلب العلم:
القاعدة الأولى: العلم يُراد للعمل:
والمقصود من العمل بالعلم أمران:
الأول: التقرب إلى الله بسائر العبادات.
والثاني: التقرب بالحفظ وقراءة الكتب وحضور الدروس ونحوها، وفي ذلك آثار عن السلف كقول معاذ رضي الله عنه: «البحث عن العلم جهاد».
-
الذي يغفل الناس عنه هو المقصود الثاني: التقرب إلى الله عز وجل بحفظ حفظ المتون ونحوها، وقراءة الكتب وتلخيصها واستشراحها، وحضور الدروس سواء كانت حقيقية حسية أو معنوية، عن قرب أو عن بعد، مسجلة أو مباشرة، ومراجعتها ونحو ذلك مما يفعله طالب العلم ويشتغل به في طلبه، هذا الذي نريده هنا.
-
فأنت في هذه الحال تعمل بالعلم ولست بأقل من حال القائم الليل الصائم النهار، بل ربما يكون حالك أفضل، فطلب العلم أفضل النوافل.
لماذا كان العلم يراد للعمل؟
1. مقتضى الأدلة الشرعية
هذا الذي أفادته ودلت عليه وصرحت به الأدلة الشرعية، إما من جهة الأمر بالعمل بالعلم أو من جهة النهي عن ترك العمل بالعلم أو اجتناب ذلك والتحذير منه.
-
قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}.
- فسمى الله عز وجل مجرد تركهم للعمل بالعلم تكذيباً.
- أخرج الطبري في تفسيره عن مجاهد قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ».
- وذكر العلماء أن قوله تعالى {فَانسَلَخَ مِنْهَا} الانسلاخ عن الآيات هو مجرد الإقلاع عن العمل بما تدل عليه. فَإِنَّهُ لَمَّا عَانَدَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا هَدَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ حَصَلَتْ فِي نَفْسِهِ ظُلْمَةٌ شَيْطَانِيَّةٌ مَكَّنَتِ الشَّيْطَانَ مِنِ اسْتِخْدَامِهِ وَإِدَامَةِ إضلاله.
- يقول السعدي رحمه الله في تفسيره: “وفي هذه الآيات الترغيب في العمل بالعلم، وأن ذلك رفعة من الله لصاحبه، وعصمة من الشيطان، والترهيب من عدم العمل به، وأنه نزول إلى أسفل سافلين، وتسليط للشيطان عليه”. لأن الله لما حذر من ترك العمل، إذا هو يرغب في العمل به يأمر به. كما أن ترك العمل بالعلم يتركك الله وهواك ويتركك للشيطان. فالعكس بالعكس. والترهيب يعني التخويف من عدم العمل به.
-
آية أخرى قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. يحمل على ظهره أسفاراً جمع سِفْر، مجموعة كتب. تخيل حمار يحمل على ظهره صحيح البخاري وإعلام الموقعين والرد على الجهمية للدارمي. هو في النهاية حمار.
- قال ابن القيم رحمه الله في = إعلام الموقعين: “فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ” حتى لا تقول هذا لليهود والحمد لله أنا مسلم - يعني ليس مجرد ترك العمل بل حتى مجرد التساهل فيه.
-
دليل آخر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.
- روى الخطيب البغدادي في = اقتضاء العلم العمل عن عباس بن أحمد قال: “الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ نَهْدِيهِمْ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُونَ”.
- فبعملك بالعلم يفتح الله عليك أن يزيدك علما. وهذا أمر خارج عن إرادتك لا علاقة له بذكائك ولا سعة اطلاعك ولا نحو ذلك.
-
وأيضاً في الحديث المشهور في = سنن الترمذي وقال حسن صحيح حديث عن أبي برزة كلكم تحفظونه أن النبي ﷺ قال: “لا تزولُ قدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن أربعٍ…” وذكر منهم “…وعن عِلمِه فيما فعلَ فيهِ”.
2. عمل السلف
لأننا تعلمنا أن طلب العلم حقيقة لا يكون علما إلا أن تتقيد بما كان عليه السلف. وكلكم تحفظون الآثار في ذلك في تفسير الطبري وغيره.
- ابن مسعود يقول: “كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن”.
- وفي الأثر المشهور عن أبي عبد الرحمن السلمي التابعي قال: “إنّا أخذنا هذا القرآن عن قوم أخبرونا” أي الصحابة “أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأُخر حتى يعلموا ما فيهن فكنا نتعلم القرآن والعمل جميعاً وإنه سيرث القرآن بعدنا قوم ليشربونه شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل لا يجاوز ها هنا” ووضع يده على حلقه. وهذا إسناد صحيح أخرجه ابن سعد في = الطبقات بإسناد صحيح.
- ومن الأشياء العجيبة أبو الدرداء رضي الله عنه وتعرفون فضله. أخرج البيهقي في = شعب الإيمان عنه أنه قال: “إني لا أخشى أن يقال لي يوم القيامة: يا عويمر، ماذا عملت فيما جهلت؟ ولكني أخشى أن يقال لي: يا عويمر، ماذا عملت فيما علمت؟” فهو رضي الله عنه يخاف من الجهل لكنه يخاف من ألا يعمل بما تعلم أكثر.
- والأثر المشهور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل”.
- وإبراهيم بن جارية كان يقول: “كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به”. أخرجها الخطيب البغدادي في = اقتضاء العلم العمل.
3. العلم الشرعي لذة دنيوية إن لم يُعمل به
العلم الشرعي الذي عرفنا فضله وعظمته ونعمه، إذا لم تعمل به كان لذة من لذات الدنيا وشهوة من الشهوات الزائلة. ومن هذا الوجه نفهم أن العلم قد يرزقه العابد والفاسق والجهمي والأشعري والسلفي والزنديق والعلماني وغيرهم، لأنه لم يحقق هذه القاعدة، وإياك أن تنخدع كيف يكون فلان مبتدعاً وهو حافظ للكتاب والسنة؟ عادي جداً، لأنه لم يعمل بالعلم، فكونه مبتدعاً دل على أنه لم يعمل بالعلم.
- يقول سهل بن عبد الله التستري، من الشيوخ الزهاد المعروفين: “العلم أحد لذات الدنيا فإذا عُمل به صار للآخرة”. أخرجه الخطيب البغدادي في = اقتضاء العلم العمل.
- ويقول بشر بن الحارث المشهور ببشر الحافي فيما أخرجه أبو نعيم في الحلية: «إِنَّمَا أَنْتَ مُتَلَذِّذٌ تَسْمَعُ وَتُمْلِي، إِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ الْعَمَلُ، اسْتَمِعْ وَتَعَلَّمْ وَاعْمَلْ وَعَلِّمْ واهْرُبْ، أَلَمْ تَرَ إِلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كَيْفَ طَلَبَ الْعِلْمَ فَعَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلَّمَ وَهَرَبَ، وَطَلَبُ الْعِلْمِ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْهَرَبِ مِنَ الدُّنْيَا لَيْسَ عَلَى حُبِّهَا» إنما أنت يا طالب العلم متلذذ لهو استمتاع وشهوة. يعني لا فرق بينك وبين من يحضر اللهو، فإنما يُراد من العلم العمل.
4. دلالة العقل السليم
ما فائدة علم لم تعمل به؟
- ذكر ابن حبان في = روضة العقلاء: “العاقل لا يشتغل في طلب العلم إلا وقصده العمل به لأن من سعى فيه لغير مَا وصفنا ازداد فخرا وتجبرا وللعمل تركا وتضييعا فيكون فساده في المتأسين به فيه أكثر من فساده في نفسه ويكون مثله كما قَالَ اللَّه تعالى{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}”
- وقال ابن عبد البر في = الاستذكار في شرح الموطأ: “من طلب العلم لله فالقليل يكفيه إذا عمل به”. والخطيب البغدادي ألف كتابا كاملا في ذلك.
5. عدم العمل بالعلم سبب للعقوبة وختم القلب
وهذا أعظمها و أخطرها، قد ذكر هذا ابن تيمية في شرح الأصفهانية وفي الفتاوى وغيره. أن عدم العمل بالعلم سبب من أسباب عقوبة الله لك أن يختم الله على قلبك. فلا ترى حجج الله مهما كانت واضحة.
قال ابن تيمية في شرح العقيدة الأصفهانية ١/١٩٥:
والمقصود هنا: أن ترك ما يجب من العمل بالعلم الذي هو مقتضى التصديق، والعلم قد يفضي إلى سلب التصديق، والعلم كما قيل: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وكما قيل: كنا نستعين على حفظ العمل بالعمل به. فما في القلب من التصديق بما جاء به الرسول إذا لم يتبعه موجبه ومقتضاه من العمل قد يزول إذ وجود العلة يقتضي وجود المعلول، وعدم المعلول يقتضي عدم العلة، فكما أن العلم والتصديق سبب للإرادة والعمل فعدم الإرادة والعمل سبب لعدم العلم والتصديق.
خلاصة الكلام أنك إذا لم تعمل بعلمك سلط الله عليك عقوبة أنك لن تنتفع بهذا العلم.
-
فتجد الآن الصوفية مَثَلًا يدعون غير الله. فيدعون الأموات والحيوانات إلخ. ويمرون على قوله تعالى في سورة الجن: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} آية محكمة صريحة لا تحتاج إلى شرح ولا تفسير. {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}. تجده يدعو مع الله آلافاً. ويقرأها ولا يفهمها.
-
وهذا يضاف إلى ما ذكرناه من أن أهل البدع قد يكونوا علماء لكن لم ينتفعوا بعلمهم. فقد يكون هذا من أسبابه والعياذ بالله. وأنت أيها السلفي ليس عليك حصانة ولا عصمة بل أنت أولى الناس بهذا الكلام.
-
ويقول ابن تيمية أيضاً في (مجموع الفتاوى ١٠/١٠٧): “فَإِنَّ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ لَا يَحْصُلُ بِهِ الِاهْتِدَاءُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ”.
- يعني مجرد أنك عرفت أن هذا باطل وهذه بدعة وهذه سنة وهذا شرك وهذا توحيد لا يكفي في ثباتك في هذا العلم حتى تموت عليه.
- بل قد ينقلب إلى ضلال وتنتكس. لذلك رأينا بعض من كان يشرح كتب السلف صار يذمها ويسبها بل صار إلى الزندقة والتجهم. فإياك ثم إياك أن تظن أن السبب فعله بل ربما يكون السبب هذا فهذه المسألة ليست بالهينة.
-
ثم ذكر ابن تيمية رحمه الله أن هذه القاعدة “العلم يراد للعمل” هي مقتضى الصراط المستقيم الذي نسأل الله فيه في كل صلاة.
وَهَذَا «الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ» يَشْتَمِلُ عَلَى عِلْمٍ وَعَمَلٍ: عِلْمٌ شَرْعِيٌّ وَعَمَلٌ شَرْعِيٌّ فَمَنْ عَلِمَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ كَانَ فَاجِرًا وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ ضَالًّا وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ … وَطَرِيقُ اللَّهِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِعِلْمِ وَعَمَلٍ يَكُونُ كِلَاهُمَا مُوَافِقًا الشَّرِيعَةَ. (مجموع الفتاوى ١١/٢٦)
- ونعلم جميعاً أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم وانظر إلى الآيات: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، “إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء” إلى آخر الحديث.
- وذكر ابن القيم في = طريق الهجرتين هذه قاعدة أن العلم يراد للعمل بصورة جميلة:
السائر إلى اللَّه والدار الآخرة، بل كلُّ سائرٍ إلى مقصد، لا يتم سيرُه ولا يصلُ إلى مقصوده إلا بقوَّتين: قوَّة علمية، وقوَّة عملية. فبالقوَّة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك، فيقصدها سائرًا فيها، ويجتنب أسبابَ الهلاكَ، … وبالقوَّة العملية يسير حقيقةً، بل السيرُ هو حقيقة القوَّة العملية.
- وذكر ابن القيم أيضاً في = مفتاح دار السعادة أن السلف لم يكونوا يطلقون اسم الفقه أبداً إلا على العلم الذي يصحبه عمل.
- وذكر ابن رجب أيضاً في كتابه مقدمة فيها بيان مقصود الرواية (وهي التي تعرف بمقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام).:
وقد كان السَّلف لا يطلقون اسم العالم إلا عَلَى من عنده علم يوجب له الخشية، كما قال بعضهم: إِنَّمَا العالم من يخشى الله، ولقي بخشية الله علمًا، وهذا مطابق لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.
القاعدة الثانية: طلب العلم طريق موحد.
-
موحد ولم يقل واحد لأن موحد أدق في المعنى. بمعنى أنك إذا أردت أن تطلب العلم فلا تبحث في بنات أفكارك وتبتكر وتخترع وتُحدث وتبتدع. انظر الذين سبقوك من الأئمة وسر خلفهم ولا تلتفت.
-
يقول ابن عبد البر في = جامع بيان العلم وفضله: «طَلَبُ الْعِلْمِ دَرَجَاتٌ وَمَنَاقِلُ وَرُتَبٌ لَا يَنْبَغِي تَعَدِّيهَا وَمَنْ تَعَدَّاهَا جُمْلَةً فَقَدْ تَعَدَّى سَبِيلَ السَّلَفِ رحمهم الله وَمَنْ تَعَدَّى سَبِيلَهُمْ عَامِدًا ضَلَّ، وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُجْتَهِدًا زَلَّ».
- فيا طالب العلم طريق طلب العلم طريق موحد. إن اجتهدت وتفلسفت فقد زللت. وإن تعمدت وتركت طريقهم واخترعت طريقاً آخر أياً كان صاحب الفكرة، لو كان العلامة فلان الفلاني، فأنت ضال. وهذا خروج عن سبيل السلف لا يعرفه كثير من السلفيين اليوم وما أكثر الخارجين من هذا الباب والله المستعان.
-
وقال ابن عبد البر أيضاً: “وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَفِي بَلَدِنَا قَدْ حَادَ أَهْلُهُ عَنْ طَرِيقِ سَلَفِهِمْ وَسَلَكُوا فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ أَئِمَّتُهُمْ وَابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ مَا بَانَ بِهِ جَهْلُهُمْ وَتَقْصِيرُهُمْ عَنْ مَرَاتِبِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَهُمْ”
- سلكوا طرقاً هم يحسبون أنها تؤدي للعلم لكن ما الذي حصل؟ لذلك لم يكن السؤال المشهور اليوم: هل إذا درست كذا وكذا سأصير مثل الإمام مالك؟ بل سر خلف ما ساروا كما سار الإمام مالك تلتحق به عاجلاً أو آجلاً.
-
يقول الخطيب البغدادي في كتابه الجامع: “وَلِكُلِّ عِلْمٍ طَرِيقَةٌ يَنْبَغِي لِأَهْلِهِ أَنْ يَسْلُكُوهَا، وَآلَاتٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَا وَيَسْتَعْمِلُوهَا.”.
-
ويقول الزرنوجي في كتابه = تعليم المتعلم طريق التعلم: “فأحببت أن أبيّن لهم طريق التعلّم على ما رأيت في الكتب، وسمعت من أساتيذ أولى العلم والحكم.”.
-
ويقول ابن رجب أيضاً: “ولابدَّ أن يكونَ سلوكُ هذا الطريقِ خلفَ أئمةِ أهلِهِ المجمَع على هدايتهِم ودرايتِهِم كالشافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وأبي عُبيدٍ ومن سلكَ مسلكَهم، فإنًّ مَنِ ادَّعى سلوكَ هذا الطريقِ على غيرِ طريقِهِم، وقعَ في مفاوزَ ومهالكَ، وأخذَ بما لا يجوزُ الأخذُ به، وتركَ ما يجبُ العملُ به.”
-
يقول شيخنا الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في محاضرة منهجية في طلب العلم. “كثير من الشباب يمضي عليه سنين طويلة. ولا يحصل من العلم شيئا والسبب هو أنه لم ينهج في طلبه للعلم النهج الصحيح ونحن بحاجة إلى طلاب علم والطلاب الراغبون”. الطلاب المحبون الذين يحبون العلم ويعشقونه. ويتجملون به كما يتجمل الرجل بثوبه كما قال الآجري في أخلاق العلماء. قال “والطلاب الراغبون في العلم كثيرون ولكن طلاب العلم قليلون وهم الذين يسيرون وفق الطريقة الصحيحة التي سار عليها من كان قبلنا من أهل العلم”.
-
وفي الجامع لابن عبد البر وفي الحلية لأبي نعيم أن الإمام مالك كان يوصي بعض طلابه بتقوى الله والنصح لكل مسلم وطلب العلم من عند أهله أو كتابة العلم من عند أهله.
-
يقول الخطيب البغدادي في = الكفاية في علم الرواية متحسراً على من سلك طريق العلم واجتهد بدون أن يسير خلف هؤلاء الأئمة.
وَقَدِ اسْتَفْرَغَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ زَمَانِنَا وُسْعَهَا فِي كُتُبِ الْأَحَادِيثِ وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى جَمْعِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيَنْظُرُوا نَظَرَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ… وَذَلِكَ مِنْهُ غَايَةُ الْجَهْلِ وَنِهَايَةُ التَّقْصِيرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْفَضْلِ… وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ، وَبَلَّغَهُ إِلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ، أَنْ يَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي تَتَبُّعِ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَسُنَّتِهِ، وَطَلَبِهَا مِنْ مَظَانِّهَا، وَحَمْلِهَا عَنْ أَهْلِهَا، وَالتَّفَقُّهِ بِهَا وَالنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِيهَا وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهَا، وَيَصْدِفَ عَمَّا يَقِلُّ نَفْعُهُ وَتَبْعُدُ فَائِدَتُهُ.
-
انظر ماذا قال الخطيب البغدادي عن مثل هؤلاء بصريح العبارة “وذلك منهم غاية الجهل.” لو كان الخطيب البغدادي في زماننا لانتقدناه: يا شيخنا لا تقل هذا حرام عليك. الشباب اجتهدوا.
-
وهذا اليوم عندنا مشكلة، المقياس عندنا في طلب العلم هو مجرد اجتهادك ومقدار بذلك للجهد. فإذا رأيتك تحفظ كثيراً وتسهر كثيراً وتحضر دروساً كثيرة حكمت عليك بأنك ستصير عالماً. ولم يكن السلف هكذا. بل كانوا ينظرون إلى الطريق الذي تسلكه في كل علم، هل تسلك طريقة الأئمة في ذلك العلم أم لا؟ بغض النظر عن اجتهادك. حينها يحكمون هل ستصبح طالب علم أم لا؟ لذلك كم منا أضاع سنيناً طويلة ولم يحصل شيئاً؟
-
و لا تقل لي أنا سأجتهد ولا بد من تقوى الله. وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده! هذا إذا كنت سالكاً للطريق الصحيح. هذه كلها عوامل مساعدة في الطريق بعد سلوك الطريق الصحيح، ولم يكن السلف يطبطبون على الطالب يقول له: لا تسمعه كلمة تحبط معنوياته، أي معنويات و هو سالك طريقا مخالفا تماماً، لابد من تحطيمه حتى لا ينفق جهداً في الفاضي.
-
يقول ابن الجوزي في = صيد الخاطر موصياً طالب العلم: ” ومن انحرف عن الجادة طالت طريقه. ومن طوى منازل في منزل أوشك أن يفوته ما جد لأجله، على أن الإنسان إلى التحريض أحوج؛ لأن الفتور ألصق به من الجد”.
القاعدة الثالثة: العلم لا ينتهي.
-
العلم لا ينتهي لأمرين:
- الأمر الأول: أن العلم الشرعي مستمد من علم الله وعلم الله لا ينتهي، علم الله أزلي لأنه صفة لله سبحانه وتعالى؛ وهو الأول ليس قبله شيء وهو الآخر ليس بعده شيء.
- والثاني: أن الله عز وجل قد صرح بهذا. قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}. قال الطبري في تفسيره: وما أوتيتم أيها الناس من العلم إلا قليلاً من كثير مما يعلم الله.
-
يفيد الطالب من هذه القاعدة ما أخرجه أبو خيثمة في = كتاب العلم وصححه الحاكم. وصححه الشيخ مقبل الوادعي وغيره. يقول النبي ﷺ فيما رواه ابن عباس وأنس بن مالك: “منهومانِ لا يشبعانِ: طالبُ علمٍ وطالبُ دنيا”. وفي رواية: “منهومان لا يقضي واحد منهما نهمته: منهوم في طلب الدنيا لا يقضي نهمته ومنهوم في طلب العلم لا يقضي نهمته.” الشيخ مقبل الوادعي رحمه الله في = الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين ذكر هذا الحديث وبوب عليه: طالب العلم لا يشبع من العلم.
-
وأخرج ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال سأل موسى ربه عن ست خصال. ومنها قال: “رب، فأي عبادك أعلم؟ قال: عالم لا يشبع من العلم يجمع علم الناس إلى علمه.” وفي = سنن الترمذي وقال حسن غريب من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: “لن يشبع المؤمن من خير يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة.” أليس العلم الشرعي خير؟ بل هو كل الخير فيجب عليك ألا تشبع منه حتى يكون منتهاك الجنة.
- فائدة: إذا قال العلماء أخرجه ابن حبان أي صححه ابن حبان، وهكذا ابن خزيمة والضياء المقدسي في المختارة.
-
ومن هنا نفهم كلام السلف:
- أحمد بن حنبل يقول: “مع المحبرة إلى المقبرة”.
- عبد الله بن المبارك يقول: “اطلب العلم إلى الممات إن شاء الله.” وسئل “إِلَى مَتَى تَكتُبُ العِلْمَ؟ قَالَ: لَعَلَّ الكَلِمَةَ الَّتِي أَنْتَفِعُ بِهَا لَمْ أَكتُبْهَا بَعْدُ”. وبما أنني لا أدري فسأطلبه إلى أن أموت.
-
يقول ابن القيم رحمه الله في = مفتاح دار السعادة تعليقاً على هذه الأحاديث: “فجعل النبي ﷺ النهمة فِي الْعلم وَعدم الشِّبَع مِنْهُ من لَوَازِم الايمان واوصاف الْمُؤمنِينَ وَاخْبَرْ ان هَذَا لَا يزَال دأب الْمُؤمن حَتَّى دُخُوله الْجنَّة وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة الاسلام إِذا قيل لاحدهم الى مَتى تطلب الْعلم فَيَقُول الى الْمَمَات.”.
-
«سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ حَتَّى مَتَى يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟ فَقَالَ: «مَا دَامَ تَحْسُنُ بِهِ الْحَيَاةُ».
-
وسئل الحسن البصري رجل يقول له عمري ثمانين سنة أيحسن لي أن أطلب العلم؟ قال: “إن كان يحسن بك أن تعيش.”
-
يقول ابن عباس: “العلم أكثر من أن يُحصى فخذوا من كل شيء أحسنه.” بلسان اليوم خذ من كل علم متناً.
-
ويقول الإمام مالك: “لا ينبغي لأحد يكون عنده علم أن يترك التعلم.”
-
ويقول سفيان بن عيينة: “أحق الناس بطلب العلم ليس الجاهل. العالم. لأن الجهل ليس بأحد أقبح منه بالعالم.”
-
وقيل لابن المبارك: “إنَّ النَّاسَ ذَهَبَتْ أَيَامُهُمْ فِي السَّمَاعِ فَمَتَى الْعَمَلُ فَقَالَ مَا دَامُوا فِي السَّمَاعِ فَهُمْ فِي الْعَمَلَ”. (= ذم الكلام وأهله ٥/٢١٣)
- يعني الناس قاعدين من درس إلى درس… ذهبت أيامهم فمتى العمل؟ هذا الذي يقول بعض الحركيين. فقال ابن المبارك جواباً تأديبيا لنا أولاً وللآخرين ثانياً: “ما داموا في السماع فهم في العمل.” وهذا يؤكد ما ذكرناه قبل قليل من قاعدة العمل بالعلم. أن هذا هو النوع الثاني من العمل بالعلم. ما داموا يحضرون الدروس.
-
سَمِعْتُ أَبَا وَهْبٍ يَقُولُ (قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ كَمْ نُضَيَّعُ فَرَاغَنَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَمَتَى نَعْمَلُ فَقَالَ يَا أَبَا وَهْبٍ طَلَبُ الْعِلْمِ عَمَلٌ فَقُلْتُ لَهُ فَسِدَ النَّاسُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ الْأَمْرُ بَعْدُ صَالِحٍ مَا دَامَ فِي النَّاسِ مَنْ يَطْلُبُ الْحَدِيثِ) (= ذم الكلام وأهله ٥/٢١٦)
- سبحان الله حتى في زمان أتباع التابعين كأنه بعض الحركيين اليوم صح ولا لا؟ ضيعتم أوقاتكم في العلم فمتى العمل؟ متى مشاريع العمل؟ متى الأمة؟ قال له: “يا أبا وهب، طلبُ العلم عمل.” فقال له الرجل:” فسد الناس يا أبا عبد الرحمن”. هذا كما نقول اليوم. فقال له ابن المبارك كلاماً درساً تأديبياً: “الأمر بعدُ صالح. ما دام في الناس من يطلب الحديث.” المقصود بالحديث هنا كما قلنا في المتقدم هو العلم.
-
قال ابن عثيمين في منظومته المشهورة في أصول الفقه:
وبعدُ فالعلم بحورٌ زاخرة *** لن يبلغ الكادح فيه آخره لكن في أصوله تسهيلا *** لنيله فاطلب تجد سبيلا
الْعِلْمُ بَحْرٌ مُنْتَهَاهُ يَبْعُدُ … لَيْسَ لَهُ حَدٌّ إِلَيْهِ يُقْصَدُ وَلَيْسَ كُلُّ الْعِلْمِ قَدْ حَوَيْتَهُ … أَجَلْ وَلَا الْعُشْرَ وَلَوْ أَحْصَيْتَهُ جامع بيان العلم وفضله ١/٥٧٨ — ابن عبد البر (ت ٤٦٣)
مَا أَكْثَرَ الْعِلْمَ وَمَا أَوْسَعَهْ … مَنْ ذَا الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَجْمَعَهُ جامع بيان العلم وفضله ١/٤٣٧
- وقال بعضهم:
ما حوى العلم جميعاً أحدُ *** لا ولو مارسه ألفَ سنة إنما العلم كبحر زاخر *** فخذوا من كل فن أحسنه
-
وإياك ثم إياك أن يأتيك شيطان الجن أو الإنس ويقول لك إذا كان العلم لا ينتهي إذاً ما الفائدة من طلبه. طيب لماذا نطلب العلم؟ لنزداد كل يوم من العلم وننقص كل يوم من الجهل.
-
وقال بعضهم: المتعمق في العلم كالسابح في البحر ليس يرى أرضاً ولا يعرف طولاً ولا عرضاً.
القاعدة الرابعة: طلب العلم جهاد.
-
طلب العلم نوع آخر من الجهاد بل أصعب من الجهاد بالسلاح.
-
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. يقول السعدي: دلت هذه الآية على أن “من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين.”
-
وروى مسلم في صحيحه - والإمام مسلم مشهور أنه تفوق على شيخه البخاري في صحيحه بترتيب أحاديثهز البخاري له فقه عجيب لكن مسلماً يرتبها بصورة تشرح بعضها بعضاً - في كتاب الصلاة لما ذكر أحاديث مواقيت الصلاة أثراً عن تابعي وهو يحيى بن أبي كثير، ومسلم لا يذكر آثار السلف هكذا دون مناسبة. وإذا ذكرها في الغالب يذكرها لتؤيد ترتيبه للأحاديث المرفوعة الأحاديث النبوية، فجاء بأثر عن تابعي وهذا الأثر لا يتحدث عن الصلاة أصلاً ولا عن شيء من العبادات. قال يحيى بن أبي كثير: “لا يُستطاع العلم براحة الجسم”. يقول النووي في شرحه: جرت عادة الفضلاء بالسؤال عن إدخال مسلم هذه الحكاية عن هذا التابعي.
- وحكى القاضي عياض عن بعض الأئمة أنه قال سببه الأولى “أن مسلماً رحمه الله أعجبه حسن سياق هذه الطرق التي ذكرها لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص في مواقيت الصلاة وكثرة فوائدها وتلخيص مقاصدها وما اشتملت عليه من الفوائد والأحكام وغيرها. ولا نعلم أحداً شاركه فيها”. فمسلم ركبها بطريقة عجيبة. يريد أن يرسل رسالة وهذا من شفقة أئمتنا علينا. وهذه من الرسائل الخفية أنا اسميها في التأصيل العلمي عند كتب السلف المتقدمة التي ربما لا تظن ولا تتوقع أصلاً أنها يعني فيها مثل هذه الإشارات لكن تحتاج إلى تعمق تحتاج إلى تكرار. والحمد لله الأئمة لم يتركوا لنا شيئاً فقط كسلنا هو الذي يمنعنا. يقول لك “فلما رأى ذلك أراد أن ينبه من رغب في تحصيل الرتبة التي ينال بها معرفة مثل هذا”. يعني مسلم يقول لك انتبه يا طالب العلم يا من تقرأ كتابي انظر. هل أعجبك ترتيبي لهذه الأحاديث؟ نعم. لا تظن أن المسألة مجرد توفيق كدا بس خلاص كأننا جبرية. هذا توفيق من الله.
- التوفيق له أسباب. {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ}. يقول لك تستطيع أن تفعل كما أنا فعلت وأحسن. فقال طريق يعني لسان حال مسلم بهذا الأثر طريقه أن يُكثر طالب العلم اشتغاله بطلب العلم وإتعابه جسمه في الاعتناء بتحصيل العلم. هذا شرح ما حكاه القاضي عياض.
-
وتقدم معنا أثر معاذ بن جبل: “البحث عن العلم جهاد”. بل يقول أبو الدرداء كلاماً عجيباً: «مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلُهُ وَرَأْيُهُ». يعني صباح مساء إلى العلم للدرس عن بعد أو عن قرب، ذكره الخطيب البغدادي في = شرف أصحاب الحديث.
-
يقول الإمام مالك: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَنْ يُنَالَ حَتَّى يُذَاقَ فِيهِ طَعْمُ الْفَقْرِ، وَذَكَرَ مَا نَزَلَ بِرَبِيعَةَ مِنَ الْفَقْرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى بَاعَ خَشَبَ سَقْفِ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَحَتَّى كَانَ يَأْكُلُ مَا يُلْقَى عَلَى مَزَابِلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الزَّبِيبِ وَعُصَارَةِ التَّمْرِ». يعني طلب العلم فإذا أنت تُعطي العلم أتفه الأوقات لن تحصل العلم.
-
روى الخطيب البغدادي عن أبو يوسف المشهور قال: «طَلَبْنَا هَذَا الْعِلْمَ وَطَلَبَهُ مَعَنَا مَنْ لَا نُحْصِيهِ كَثْرَةً فَمَا انْتَفَعَ بِهِ مِنَّا إِلَّا مَنْ دَبَغَ الْبَنُّ قَلْبَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ لَمَّا أُفْضِيَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ بَعَثَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقْدَمَ عَلَيْهِ عَامَّةُ مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَكَانَ أَهْلُنَا يُعِدُّونَ لَنَا خُبْزًا يُلَطِّخُونَهُ لَنَا بِالْبُنِّ فَنَعْدُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ثُمَّ نَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ فَنَأْكُلُهُ فَأَمَّا مَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ أَنْ تُصْنَعَ لَهُ هَرِيسَةٌ أَوْ عَصِيدَةٌ فَكَانَ ذَلِكَ يَشْغَلُهُ حَتَّى يَفُوتَهُ كُلُّ مَا كُنَّا نَحْنُ نُدْرِكُهُ».
- “من دبغ البَنُّ قلبه.” البنّ بفتح الباء وضم النون المشددة. وهذا إدام للفقراء الذين ليس عندهم مال مكون من ماء ببصل.
-
يقول سحنون: “لا يصلح العلم إلا لمن لا يأكل حتى يشبع. ولا لمن يهتم بغسل ثوبه.” وهذه الآثار المقصود بها المبالغة. فالله جميل يحب الجمال.
-
ويقول الشافعي: “لا يطلب هذا العلم أحد بالمال وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وحرمة العلم أفلح.” يعني بالرفاهية.
-
وهنا تنبيه مهم هذا الكلام الذي سمعناه ليس المقصود أن من كان ميسوراً والخير عنده باسط أنه لن يفلح، بل كان من طلاب العلم من هم أغنياء، الإمام عبد الله بن المبارك كان من الأغنياء بل كان تاجراً يأتي بالبضائع من خراسان ويبيعها في الحجاز، والليث بن سعد وغيرهم لكن المقصود لا تجعل هذا هو المانع، بل اجعله سبيلاً معيناً في طلب العلم.
-
ومن هنا أنشد ابن مبارك قال:
آخِرُ الْعِلْمِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ … وَبَدْءُ الذَّوْقِ مِنْهُ كَالصَّبْرِ
-
فأول العلم مر حامض جداً. لكن إذا استمريت وعرفت أنه لا ينتهي سينقلب لذة وحلاوة. حينئذ ستعشق السهر في طلب العلم. كما ترى بعض الآثار والتي ستفهمها الآن مثل أن الزهري كان يتذاكر ومعه بضعة من المحدثين بعد العشاء حتى أذن الصبح ولم ينتبهوا. وكان بعضهم يبحث في حديث ما حتى طلع عليه الصبح ولم ينتبه. وحبس بعضهم نفسه في غرفة فجلس ولم يستفق من البحث إلا أن غربت الشمس فقال لا إله إلا الله فاتني العصر أو الظهر وهكذا. هذه الآثار تجدونها في الجامع لابن عبد البر.
-
يقول أبو يزيد البسطامي في الحلية: “عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد علي من العلم ومتابعته.”
-
سئل الإمام مالك عن مسألة فقال لا أدري. فقال السائل -لعل السائل من أمثالنا -فقال له السائل: إنها مسألة خفيفة سهلة. وإنما أردت أن أُعلم بها الأمير. وكان السائل ذا قدر. قال يعني معقول يا إمام مالك؟ غضب الإمام مالك وقال يعني مستنكراً: مسألة خفيفة سهلة؟ ليس في العلم شيء خفيف. أما سمعت قول الله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}؟ فالعلم كله ثقيل وبخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة. ذكره القاضي عياض في = ترتيب المدارك.
-
ولابن عبد البر في التمهيد إشارة جميلة. قال إذا كان القرآن الميسر للذكر كالإبل المعقلة كما في الحديث. من تعاهدها أمسكها فكيف بسائر العلوم؟ لا شك أنه أشد.
-
يقول ابن القيم في = مفتاح دار السعادة: “التفقه في الدين وتعلمه وتعليمه يعدل الجهاد بل ربما يكون أفضل منه.”
-
وقال أيضاً: “والجهاد نوعان جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير. البر والفاجر كلهم يستطيعونه. والثاني الجهاد بالحجة والبيان. وهذا جهاد الخاصة. من أتباع الرسل. وهو جهاد الأئمة. وهو أفضل الجهادين.” لأنه لا يوجد جهاد بالقتال إلا بعد أن نعرف أحكام الجهاد بالعلم الذي هو باللسان. قال: “لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه.”
-
قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}. فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين.
-
يقول ابن عثيمين رحمه الله في = كتاب العلم: “ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال بل هو من الجهاد في سبيل الله. لا سيما في وقتنا هذا.”
القاعدة الخامسة: لا تحقر نفسك:
المقصود باحتقار النفس: أن الطالب إذا دخل في طريق العلم ظنّ أو توهم أنه لن يحصله؛ فيترك التعلم إما كليا أو جزئيا.
-
هذه قاعدة تحذيرية. يعني إياك أن تقع في هذا الأمر، فهو أمر منهي عنه.
-
«قَالَ رَجُلٌ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: ” إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَأَخَافُ أَنْ أُضَيِّعَهُ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَفَى بِتَرْكِكَ لَهُ تَضْيِيعًا”» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 430)
-
سَمِعْتُ جَعْفَرًا الْخَلَدِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ، يَقُولُ: «مَا طَلَبَ أَحَدٌ شَيْئًا بِجِدٍّ وَصِدْقٍ إِلَّا نَالَهُ فَإِنْ لَمْ يَنَلْهُ كُلَّهُ نَالَ بَعْضَهُ» فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَخْلُصَ فِي الطَّلَبِ نِيَّتَهُ وَيُجَدِّدُ لِلصَّبْرِ عَلَيْهِ عَزِيمَتَهُ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ جَدِيرًا أَنْ يَنَالَ مِنْهُ بُغْيَتَهُ. (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 179)
-
«حَدَّثَنِي الْفَضْلُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ سَلْمٍ، قَالَ: ” كَانَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْعِلْمَ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَعَزَمَ عَلَى تَرْكِهِ فَمَرَّ بِمَاءٍ يَنْحَدِرُ مِنْ رَأْسِ جَبَلٍ عَلَى صَخْرَةٍ قَدْ أَثَّرَ الْمَاءُ فِيهَا فَقَالَ: الْمَاءُ عَلَى لَطَافَتِهِ قَدْ أَثَّرَ فِي صَخْرَةٍ عَلَى كَثَافَتِهَا وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ فَطَلَبَ فَأَدْرَكَ ”» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 179)
-
«إذا طَلَعَ نجمُ الهِمَّةِ في ظلام ليل البَطالةِ، ورَدِفَهُ قمرُ العزيمةِ؛ أشرقتْ أرضُ القلبِ بنورِ ربِّها.» (= الفوائد - ابن القيم - ص ٦٩)
-
«أعلى الهِمَم في طلب العلم طلب علمِ الكتابِ والسُّنَّةِ، والفهم عن الله ورسوله نفسَ المراد، وعلم حدود المُنْزَل، وأخَسُّ هِمَم طلَّابِ العلم قَصْرُ هِمَّتِهِ على تتبُّع شواذِّ المسائل وما لم يَنْزِلْ ولا هو واقعٌ، أو كانتْ هِمَّتُهُ معرفةَ الاختلاف وتتبُّعَ أقوال الناس، وليسَ له هِمَّةٌ إلى معرفةِ الصحيح من تلك الأقوال، وقَلَّ أنْ ينتفعَ واحدٌ من هؤلاءِ بعلمِهِ.» (= الفوائد - ابن القيم - ص ٨٤)
-
هذه القاعدة ليست فقط مجرد رفع الهمة وحماس، هذه المسألة تدخل في كبيرة من الكبائر.
-
قال ابن تيمية: «ويأس الإنسان أن يصل إلى ما يحبه الله و يرضاه من معرفته وتوحيده. كبيرة من الكبائر؛ «بل عليه أن يرجو ذلك ويطمع فيه. لكن من رجا شيئا طلبه ومن خاف من شيء هرب منه وإذا اجتهد واستعان بالله تعالى ولازم الاستغفار والاجتهاد فلا بد أن يؤتيه الله من فضله ما لم يخطر ببال» (= مجموع فتاوى ابن تيمية - 11/ 390)
-
في شرح كتاب التوحيد باب {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}. قال الشارح: أراد أن الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته مناف للتوحيد وينقصه أي التوحيد الواجب وقد يبطله بالكلية، فهذا في حد ذاته خلل في التوحيد و هو كبيرة من الكبائر، فانظر يا طالب العلم أين أنت.
القاعدة السادسة: الشيخ، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المقصود من الشيخ
المسألة الأولى: المقصود من الشيخ أمران:
١ - أن تأخذ عنه قواعد العلم وكيفية تطبيقها.
٢ - أن تستمر على ذلك حتى تحصل عندك الملكة في استعمالها، والملكة: الخبرة.
- هذه الملكة قد تحصل لك في عشرات السنين، أو في شهور، أو أيام.
- وتختلف بحسب طبيعة أسلوب الشيخ ومكنته ومقداره في العلم.
- الملازمة للشيخ بعد تحققها شرط كمال لا شرط صحة في طلب العلم.
المسألة الثانية: ما يُدرس على الشيخ
المسألة الثانية: يُدرس على الشيخ المختصرات ومهمات العلم ومشكلاته.
* أما توسيع دائرة الفهم والاطلاع، فإنما يتوصل إليها الطالب بنفسه بمطالعاته للكتب ومزاولته للتقرير والتحرير.
* ثم إن الدروس إنما تحصل فيها قواعد بعض العلوم، وتبقى فنون كثيرة يصل إليها الطالب بمطالعته بنفسه وحده أو مع بعض رفاقه. ذكره ابن باديس.
- يُدرس على الشيخ أمور أهمها، أمور كثيرة منها النظري والعملي.
- النظري ثلاثة:
- المختصرات: اللي هي نسميها نحن المتون، سواء كان مختصراً حقيقة أو في معنى المختصر كالمتوسطات، أو المتون عموماً، لأن مفاتيحها بأيدي الشيوخ فلا بد من شيخ.
- مهمات العلوم: مهمات العلوم سواء كانت مسائل أو كانت علوماً أو كانت أبواباً من علوم، الأمور المهمة التي تمثل المعالم الأساسية للعلم، سواء درستها عن طريق كتاب يشرحه لك أو مجالس أو أياً كان.
- مشكلات العلم: ليس المقصود أن العلم في نفسه مشكل وإنما المقصود أنه يعرض لطالب العلم ما يُشكل عليه في علم ما في مسألة ما، مثل هذا لا بد أن تأخذه على الشيخ ولو كنت من كنت.
- العملي وهذا أهم ما يؤخذ من الشيخ.
- من ذلك ما سمعناه من كلام السلف: “ما تعلمنا من أدب مالك أكثر وأعظم من علمه”
- “وكان الرجل يأتي ويستفيد من أدبه وسمته ونحو ذلك”.
- والأثر المشهور كان يجتمع في مجلس أحمد بن حنبل قرابة خمسة آلاف طالب. نحو خمسمائة فقط هم الذين يكتبون العلم. والبقية يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
- وقال أبو بكر المطوعي: “كنت أختلف إلى أحمد بن حنبل اثنتي عشرة سنة - وعرفنا ما معنى يختلف إلى فلان - وهو يقرأ المسند على أولاده فما كتبت عنه حديثاً واحداً. إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه.” ذكر هذا الذهبي في السير وغيره.
أمران في الأصل مما يُطالب به طالب العلم بنفسه: 1. توسيع دائرة الفهم والاطلاع: هذه لن تجدها عند الشيخ والشيخ ليس متاحاً لك في كل شيء. 2. بقية الدروس: الدروس التي عند الشيوخ تحصل فيها قواعد بعض العلوم وهي الأساسيات، وتبقى فنون كثيرة يصل إليها الطالب من مطالعته بنفسه إما بنفسه وحده أو مع بعض زملائه النجباء؛ ذكر هذا ابن باديس رحمه الله تعالى.
المسألة الثالثة: أهم صفات الشيخ
المسألة الثالثة: أهم صفاته: وترجع إلى أمرين:
۱ - الشهرة بالعلم، وتُعرف بأمور أهمها: العمل به، والتخرج عليهم، والاقتداء بسمتهم أي: عدم الخروج عنهم والتقدم عليهم في النوازل والمسائل الكبرى.
٢- معرفة طرق التعليم المفيد، ولها خاصيتان: إجابة السائل بما يليق به في خاصة نفسه، والنظر في المآلات.
وترجع إلى أمرين:
-
١ - الشهرة بالعلم: ليست الشهرة هنا الشهرة العرفية اللي هي الصيت والمعرفة، إنما هي شهرة اصطلاحية خاصة وقد نبه على هذا بعض أئمة الحديث كالحاكم في = معرفة علوم الحديث، وتعرف بعدة أمور:
- العمل بالعلم: يعني أن يظهر هذا العلم عليه وهذا يعرفه طالب العلم إذا دخل من المدخل الصحيح.
- التخرج على أيديهم: أن يكون قد تخرج على أيدي الشيوخ. قد رباه الشيوخ ولو شيخ واحد ولو في علم واحد.
- الاقتداء بسمتهم: يعني عدم الخروج عنهم أو التقدم بين أيديهم في النوازل والمسائل الكبرى، والمقصود الجرأة والاستعجال.
-
٢- معرفة طرق التعليم المفيد:
- فالأمر الأول متعلق بشخصيته العلمية و الأمر الثاني متعلق بطريقته في التعليم، فالتعليم المفيد لطالب العلم له خاصيتان ظاهرتان واضحتان:
- إجابة السائل بما يليق به في خاصة نفسه: المقصود الطالب الذي يجلس بين يديه، والمقصود بإجابته ليس سؤال الإجابة عن سؤال، المقصود إلقاء المعلومة للطالب المبتدئ الذي جلس بين يديه بما يليق به في خاصة نفسه.
- النظر في المآلات: فالشيخ الذي يربيك ويعلمك لا يلقي كلامه جزافاً وإنما يعقد مئة حساب للمآلات و العواقب، ولا يلزم أن تكون المآلات والعواقب أمراً سيئاً فقد يكون أمراً حسناً، فيلقي كلاماً ليتدرج بك ويصنعك ويبنيك و يجنبك من الأمور السيئة ويحثك على الأمور الحسنة. فمثلاً قد يخفي الشيخ مسألة عن الطالب حتى يبحث بنفسه أو أن المسألة ليس وقتها.
- بوب البخاري في كتاب العلم بابين على ذلك:
- بَاب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا. وذكر حديث حق الله على العباد والشاهد فيه “لا تبشرهم فيتكلوا”.
- بَاب: مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ، كَرَاهِيَةَ أَنْ لَا يَفْهَمُوا. وذكر فيه حديث “لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأعدتها على قواعد إبراهيم”.
- فالأمر الأول متعلق بشخصيته العلمية و الأمر الثاني متعلق بطريقته في التعليم، فالتعليم المفيد لطالب العلم له خاصيتان ظاهرتان واضحتان:
القاعدة السابعة: التدرج: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: معناه: هو الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى على مهل.
المسألة الثانية: أهميته وفائدته:
١ - ضبط العلم وإحكامه.
٢ - تسهيل العلم.
٣- أقرب للفهم.
٤ - محبة العلم وزيادة الرغبة في طلبه.
ه - الثبات والاستمرار على طلب العلم.
-
التدرج: الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى على مهل، سواء كانت كتاباً، متناً من متن إلى متن أعلى، من مختصر إلى مطول مثلاً، أو كانت من مسألة سهلة إلى مسألة صعبة، لكن على مهل؛ يعني بنوع من التأني وليس هناك سرعة محددة تنضبط،إنما هذه المهلة تختلف من شخص إلى شخص إلى آخر، والاختلافات التي ذكرناها أن المنهجية تختلف بعدة اعتبارات.
-
تسهيل العلم: الشيء إذا أخذته متدرجاً ستأخذه شيئاً فشيئاً وعلى مهل سيكون أسهل في الفهم، فلو أعطيتك مثلاً قوله بسم الله الرحمن الرحيم. البسملة فيها مسائل عشرة. المسألة الأولى كذا والثانية كذا. الثالثة الرابعة السابعة العاشرة، ستكتب حتى تؤلمك يدك. ولكنك تخدع نفسك وتقول يا سلام البسملة عشر مسائل، وهذا غلط، قارن هذا بالذي يمشي على قاعدة التدرج.
- مثلاً في شرح القواعد الأربع قال بسم الله الرحمن الرحيم: قال ذكر البسملة وفيها مسألتان. المسألة الأولى كذا والثانية كذا انتهينا، المتن الثالث مثلاً متن الأصول الثلاثة: قال بسم الله الرحمن الرحيم. تقدم معنا في المتن الفلاني أن بسم الله الرحمن الرحيم فيها مسألتان كذا وكذا الآن ذهنك سيستقبل المسألة الثانية كما استقبل المسألة الأولى وهكذا في باقي الكتب والمتون نراجع المسألتين أو المسائل فتضبطها دون حفظ.
-
أخذ العلم بالتدريج هو الذي يثبتك على الهداية ويعصمك من الضلال: قال ابن تيمية رحمه الله: «فإن الكلام فيها بالتدريج مقاما بعد مقام هو الذي يحصل به المقصود وإلا فإذا هجم على القلب الجزم بمقالات لم يحكم أدلتها وطرقها والجواب عما يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه إلى التصديق بها.» (= مجموع فتاوى ابن تيمية - 8/ 158)
-
عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: «إِنَّ مِنَ حَقِّ الْبَحْثِ وَالنَّظَرِ الْإِضْرَابَ عَنِ الْكَلَامِ فِي فُرُوعٍ لَمْ تُحْكِمْ أُصُولَهَا وَالْتِمَاسُ ثَمَرَةٍ لَمْ تَغْرِسْ شَجَرَهَا وَطَلَبُ نَتِيجَةٍ لَمْ تَعْرِفْ مُقَدِّمَاتِهَا» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 785)]
-
«وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ: إِذَا ثَبَتَتِ الْأُصُولُ فِي الْقُلُوبِ نَطَقَتِ الْأَلْسُنُ بِالْفُرُوعِ» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 786)
-
قال بعضهم: (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 786)
«وَكُلُّ عِلْمٍ غَامِضٍ رَفِيعِ … فَإِنَّهُ بِالْمَوْضِعِ الْمَنِيعِ لَا يُرْقَى إِلَيْهِ إِلَّا عَنْ دَرَجْ … مِنْ دُونِهَا بَحْرٌ طَمُوحٌ وَلُجَجْ وَلَا يَنَالُ ذُرْوَةَ الْغَايَاتِ … إِلَّا عَلِيمٌ بِالْمُقَدِّمَاتِ»
- وأنشد بعضهم: «لَنْ تَبْلُغَ الْفَرْعَ الَّذِي رُمْتَهُ … إِلَّا بِبَحْثٍ مِنْكَ عَنْ أُسِّهِ» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 786)
القاعدة الثامنة: الحفظ: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنواع الحفظ
المسألة الأولى: الحفظ نوعان: حفظ رواية، وحفظ دراية (رعاية).
وحفظ الدراية هو الذي لابد منه في حصول العلم وهو المراد بقول العلماء: (لا علم بدون حفظ). ذكره الخطيب في الجامع.
* وأما حفظ الرواية فليس شرطا إلا في ثلاثة أمور:
۱ - النصوص الشرعية ويدخل معها الإجماعات.
٢ - المنظومات العلمية.
٣- مواضع الخلاف.
* وتغليب حفظ الرواية على الدراية مطلقا يسبب ضعف الملكة العلمية. ذکره صديق حسن خان في الحطة.
- أنواع الحفظ 1. حفظ رواية: ويسمى حفظ اللفظ. 2. حفظ دراية: وأيضاً يسمى حفظ الرعاية.
-
كثير منا يظن أن حفظ الرواية هو المراد، ليس هو بإجماع العلماء.
- فحفظ الدراية هو القاعدة هو المقصود حينما يقال “لا علم بدون حفظ”؛ وهذا الذي تزعم أنت أنك ضعيف الحفظ فيه لكنك تفهم.
- والصحيح أن تقول أنا ضعيف في حفظ الرواية لكنني قوي في حفظ الدراية، لذلك تجد الحافظ حفظ الدراية ولو كان عنده أغلاط في حفظ الرواية لن تستطيع إلا أن تصفه بأنه عالم. وكم من العلماء نعرفهم سواء من الأحياء أو الأموات بل حتى من السلف. نجد ونتتبع منهم أوهاماً في بعض الأحاديث. بل في بعض الآيات. ومع ذلك هم علماء، فحفظ الدراية هو الذي لا بد منه في حصول العلم. وهو المراد بقول العلماء لا علم بدون حفظ. وقد ذكر هذا الخطيب البغدادي في الجامع.
-
وحفظ الرواية مطلوب لكنه ليس شرطاً بمعنى أنك بدون حفظ الرواية لن تكون عالماً لكن انتبه؛ هناك مواضع محصورة يجب أن تأتي بها بحفظ الرواية مع حفظ الدراية وهي ثلاثة:
- النصوص الشرعية: يعني الأدلة من الكتاب والسنة، وهنا يدخل فيها الإجماعات لأن نص الإجماع يجب أن يُحفظ حتى تضبط المسألة المتفق عليها من غيرها.
- المنظومات العلمية: يعني المتون التي أُلفت على طريقة الشعر؛ كالبيقونية والأرجوزة وألفية الحديث للعراقي وألفية ابن مالك إلى آخره لأنها شعر، والشعر كلام موزون مقفى لا يمكن أن يؤتى بالمعنى بل هي جُعلت شعراً حتى تُحفظ حفظ رواية، ويسهل عليك حفظ الدراية.
- مواضع الخلاف: يعني المسائل التي حصل فيها خلاف بين السلف يجب أن تحفظها، لأن هذا يسمى عند الأصوليين تحرير محل النزاع.
المسألة الثانية: المعينات على الحفظ
المسألة الثانية: المعينات على الحفظ:
۱ - ابتغاء وجه الله والنصيحة للمسلمين في الإيضاح والتبيين.
٢ - ترك المعاصي.
٣- النهمة (الرغبة والحرص).
٤ - جمع الهم (التركيز).
-
المقصود هنا الحفظ بنوعيه.
-
ابتغاء وجه الله والنصيحة للمسلمين في الإيضاح والتبيين: هذه ما يسمى نية الحفظ. اجعل هذه نيتك. فتبتغي وجه الله لأن الحفظ هو نوع من العمل بالعلم كما تقدم معنا في قاعدة العلم يراد للعمل. فهذا عمل تتعبد به لله.
- إذا احتاجت الأمة، لا سيما وأنت تقوم بفرض الكفاية، إلى أمر أنت حافظه سواء حفظ الرواية أو الدراية فتوضح المسألة التي أشكلت أو التي سئلت عنها وتبين قد ذكر هذا الخطيب البغدادي.
-
ترك المعاصي: وقد ذكر هذا مالك وغيره من الأئمة. ومعنى قول السلف ترك المعاصي عون على الحفظ في أمور: 1. الأول: ألا تجاهر بالصغائر ولا تداوم عليها. وهذا متيسر في يدك. 2. الثاني: ألا تجاهر بالكبائر، بل تجاهد نفسك على عدم الوقوع فيها. لأن الكبائر محصورة في الغالب. 3. الثالث: إذا وقع شيء من ذلك أن تعجل بالتوبة.
- فإياك أن تقول أنا لا أحفظ لأن ذنوبي منعتني، أنت لست بمعصوم.
-
النهمة: يعني شدة الرغبة وشدة الحرص، ذكره البخاري رحمه الله.
-
جمع الهم: هذا ما نسميه نحن بالتركيز، شدة التركيز؛ هذا يروى عن وكيع وحماد بن زيد وغيرهم.
-
أزيد أمراً خامساً: أن تجعل الحفظ وسيلة إلى الفهم. وقد روي هذا عن أبي بكر السراج النحوي ذكر عنه ابن جني في الخصائص قال: قال أبو بكر السراج لطلابه: “إذا لم تفهموا كلامي فاحفظوه، فإنكم إذا حفظتموه فهمتموه.”
المسألة الثالثة: قواعد في الحفظ
المسألة الثالثة: قواعد في الحفظ:
١ - تقليل المقدار.
۲ - كثرة النظر والتكرار.
٣- كثرة المراجعة.
٤ - مراعاة الحال.
ه - عدم استفراغ كل النشاط.
٦ - التوقف لتثبيت المحفوظ وراحة الذهن.
-
تقليل المقدار: كلما قللت المقدار كلما استطعت حفظه، وتقليل المقدار ليس له حد ثابت. فمن الناس من يكون المقدار القليل في حقه صفحتان. ومنهم من يكون القليل في حقه سطران أو كلمتان. أو إذا كانت منظومة بيتان أو بيت وهكذا. ويعرف ذلك بالتجربة.
- ذكر هذا الخطيب البغدادي في = الفقيه والمتفقه (2/ 201): «وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَثَبِّتَ فِي الْأَخْذِ وَلَا يُكْثِرُ، بَلْ يَأْخُذُ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَسْبَ مَا يَحْتَمِلُهُ حِفْظُهُ، وَيَقْرَبُ مِنْ فَهْمِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]».
-
كثرة النظر والتكرار: ليس بالضرورة هي نفسها كثرة المراجعة، لذلك جُعلت كثرة المراجعة بعدها تماماً، كثرة النظر والتكرار المداومة في النظر فيما تحفظه سواء كان كتاباً نثراً أو منظومة، لأن رسمة الكتاب ترتسم في العين.
-
كثرة المراجعة: والمراجعة ليس المقصود منها كثرة المراجعة في الجلسة الواحدة، بعض الناس يفهم المراجعة ثلاثين مرة في الجلسة الواحدة، المقصود ثلاثين مرة أي ثلاثين جلسة في أوقات متفرقة، وإلا لا فائدة من أن تراجع ثلاثين مرة في جلسة واحدة، بل اجعلها ثلاثمائة مرة أو ثلاث آلاف مرة مثلها مثل المرتين والثلاث. فالمقصود عدد الجلسات.
-
غاية ما يعتني به طالب العلم في مراعاة حاله حال الحفظ من جهتين:
- الأولى: من حيث الجوع والشبع أو العطش ونحو ذلك.
- نقل الخطيب البغدادي في = الفقيه والمتفقه (2/ 208) كلاماً رائعاً يقول: «وَيَنْبَغِي لِلْمُتَحَفِّظِ أَنْ يَتَفَقَّدَ مِنْ نَفْسِهِ حَالَ الْجُوعِ، فَإِنُّ بَعْضَ النَّاسِ إِذَا أَصَابَهُ شِدَّةُ الْجُوعِ وَالْتِهَابُهُ لَمْ يَحْفَظْ، فَلْيُطْفِئْ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالشَّيْءِ الْخَفِيفِ الْيَسِيرِ كَمَصِّ الرُّمَّانِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا يُكْثِرُ الْأَكْلَ» فليس المراد أن كل جائع لا يحفظ، بل المقصود شدة الجوع المؤثرة على الأداء.
- وأرشد إلى قاعدة عامة قال: «وَمِنْ أَنْفَعِ مَا اسْتُعْمِلَ إِصْلَاحُ الْغِذَاءِ، وَاجْتِنَابُ الْأَطْعِمَةِ الرَّدِيئَةِ، وَتَنْقِيَةُ الطَّبْعِ مِنَ الْأَخْلَاطِ الْمُفْسِدَةِ» (2/ 213)
- وإصلاح الغذاء كلمة عامة مطلقة تشمل كل ما يصلح الغذاء، سواء من حيث القلة أو الكثرة، من حيث انتقاء الأطعمة الصحية الخالية من الدهون المصنعة والدهون المشبعة. وأيضاً اجتناب الأطعمة الرديئة سواء باعتبار الزمان أو باعتبار نوع الطعام في نفسه. وتنقية الطبع من الأخلاط المفسدة؛ يعني بممارسة الرياضة أو الحمية الغذائية أو نحو ذلك. وما يسميه اليوم الرياضيون بالدايت شيء مهم.
- والثاني: من حيث الراحة النفسية أو البدنية.
- من حيث الراحة. يقول الخطيب البغدادي: «وَيَسْتَصْلِحُ الْمُتَعَلِّمُ نَفْسَهُ بِبَعْضِ الْأَمْرِ مِنْ أَخْذِهِ نَصِيبًا مِنَ الدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَاللَّذَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْقُبُهُ مَنْفَعَةٌ بَيِّنَةٌ» (2/ 219)]
- وقد أرشد السلف إلى ذلك، من ذلك قول النبي ﷺ: “ساعة وساعة”.
- وأيضاً عَنِ النَّجِيبِ بْنِ السَّرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ رضي الله عنه: «أَجِمُّوا هَذِهِ الْقُلُوبَ وَاطْلُبُوا لَهَا طَرَائِفَ الْحِكْمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 433)
- وأيضاً عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزهري، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً وَسَاعَةً» (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 434)
- وقال قسامة بن زهير: “روحوا القلوب تعِ الذكر.”
- و كَانَ الزُّهْرِيُّ، يُحَدِّثُ ثُمَّ يَقُولُ: «هَاتُوا مِنْ أَشْعَارِكُمْ هَاتُوا مِنْ أَحَادِيثِكُمْ، فَإِنَّ الْأُذُنَ مَجَّاجَةٌ وَالنَّفَسَ حَمْضَةٌ» يعني تمل (= جامع بيان العلم وفضله - 1/ 43)
- ومن الآثار اللطيفة يقول وهب بن منبه التابعي: “إن في حكمة آل داوود” يعني كلام رائع: «حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَغْفَلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يُفْضِي فِيهَا إِلَى إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يَصْدُقُونَهُ عُيُوبَهُ، وينْصَحُونَهُ فِي نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي فِيهَا بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لذَّتِهَا مِمَّا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ هَذِهِ السَّاعَةَ عَوْنٌ لِهَذِهِ السَّاعَاتِ، واسْتِجْمَامٌ لِلْقُلُوبِ» (= الفقيه والمتفقه - 2/ 220).
- الأولى: من حيث الجوع والشبع أو العطش ونحو ذلك.
-
عدم استفراغ كل النشاط: لا تستفرغ كل نشاطك. هذا من الغلط. لأنك تحتاج إلى ثلاثة أنواع من النشاط؛
- النشاط الأول لكي تحفظ به الحفظ الجديد
- النشاط الثاني لكي تراجع به في الجلسة القادمة غداً أو بعده ما حفظته بالأمس.
- النشاط الثالث تحفظ به الحفظ الجديد الذي سيأتي بعده.
قال الخطيب البغدادي في = الفقيه والمتفقه شارحًا الخامس والسادس:
«بَابُ: ذِكْرِ مِقْدَارِ مَا يَحْفَظُهُ الْمُتَفَقِّهُ اعْلَمْ أَنَّ الْقَلْبَ جَارِحَةٌ مِنَ الْجَوَارِحِ، تَحْتَمِلُ أَشْيَاءَ، وَتَعْجِزُ عَنْ أَشْيَاءَ، كَالْجِسْمِ الَّذِي يَحْتَمِلُ بَعْضَ النَّاسِ أَنْ يَحْمِلَ مِائَتَيْ رِطْلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ عِشْرِينَ رِطْلًا، وَكَذَلِكَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي فَرَاسِخَ فِي يَوْمٍ، لَا يُعْجِزُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي بَعْضَ مِيلٍ، فَيَضُرُّ ذَلِكَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ أَرْطَالًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُتْخِمُهُ الرَّطْلُ فَمَا دُونَهُ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْفَظُ عَشْرَ وَرَقَاتٍ فِي سَاعَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَحْفَظُ نِصْفَ صَفْحَةٍ فِي أَيَّامٍ، فَإِذَا ذَهَبَ الَّذِي مِقْدَارُ حِفْظِهِ نِصْفُ صَفْحَةٍ يَرُومٌ أَنْ يَحْفَظَ عَشْرَ وَرَقَاتٍ تَشَبُّهًا بِغَيْرِهِ لَحِقَهُ الْمَلَلُ، وَأَدْرَكَهُ الضَّجَرُ، وَنَسِيَ مَا حَفِظَ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِمَا سَمِعَ فَلْيَقْتَصِرْ كُلُّ امْرِئٍ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مِقْدَارٍ يَبْقَى فِيهِ مَا لَا يَسْتَفْرِغُ كُلَّ نَشَاطِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أعونُ لَهُ عَلَى التَّعَلُّمِ مِنَ الذِّهْنِ الْجَيِّدِ وَالْمُعَلِّمُ الْحَاذِقُ». (2/ 215)
«وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْرِجَ نَفْسَهُ فِيمَا يَسْتَفْرِغُ مَجْهُودَهُ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَتَعَلَّمَ فِي يَوْمٍ ضِعْفَ مَا يَحْتَمِلُ أَضَرَّ بِهِ فِي الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا تَعَلَّمَ الْكَثِيرَ الَّذِي لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ، وَإِنْ تَهَيَّأَ لَهُ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ أَنْ يَضْبِطَهُ، وَظَنَّ أَنَّهُ يَحْفَظُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا عَادَ مِنْ غَدٍ وَتَعَلَّمَ نَسِيَ مَا كَانَ تَعَلَّمَهُ أَوَّلًا، وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ حَمَلَ فِي يَوْمِهِ مَا لَا يُطِيقُهُ فَأَثَّرَ ذَلِكَ فِي جِسْمِهِ ثُمَّ عَادَ مِنْ غَدٍ، فَحَمَلَ مَا يُطِيقُهُ فَأَثَّرَ ذَلِكَ فِي جِسْمِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا فَعَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَيُصِيبُهُ الْمَرَضُ وَهُوَ لَا يُشْعِرُ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ: أَنَّ الرَّجُلَ يَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ مَا يَرَى أَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ فِي يَوْمِهِ مِمَّا يَزِيدُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ عَادَتِهِ، فَيَعْقُبُهُ ذَلِكَ ضَعْفًا فِي مَعِدَتِهِ، فَإِذَا أَكَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَدْرَ مَا كَانَ يَأْكُلُهُ أَعْقَبَهُ لِبَاقِي الطَّعَامِ الْمُتَقَدِّمِ فِي مَعِدَتِهِ تُخْمَةً فَيَنْبَغِي لِلْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُشْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تَحْمِيلِهَا فَوْقَ طَاقَتِهَا، وَيَقْتَصِرَ مِنَ التَّعْلِيمِ عَلَى مَا يُبْقِي عَلَيْهِ حِفْظُهُ، وَيَثْبُتُ فِي قَلْبِهِ». (2/ 216)
«وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ مِقْدَارًا، كُلَّمَا بَلَغَهُ وَقَفَ وَقْفَةً أَيَّامًا لَا يُرِيدُ تَعَلُّمًا، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبُنْيَانِ: أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَجِيدَ البِنَاءً، بَنَاهُ أَذْرُعًا يَسِيرَةً، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى يَسْتَقِرَّ، ثُمَّ يَبْنِي فَوْقَهُ، وَلَوْ بَنَى الْبِنَاءَ كُلَّهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ بِالَّذِي يُسْتَجَادُ، وَرُبَّمَا انْهَدَمَ بِسُرْعَةٍ، وَإِنْ بَقِيَ كَانَ غَيْرَ مُحْكَمٍ، فَكَذَلِكَ الْمُتَعَلِّمُ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِنَفْسِهِ حَدًّا، كُلَّمَا انْتَهَى إِلَيْهِ وَقَفَ عِنْدَهُ، حَتَّى يَسْتَقِرَّ مَا فِي قَلْبِهِ، وَيُرِيحَ بِتِلْكَ الْوَقْفَةِ نَفْسَهُ، فَإِذَا اشْتَهَى التَّعَلُّمَ بِنَشَاطٍ عَادَ إِلَيْهِ، وَإِنِ اشْتَهَاهُ بِغَيْرِ نَشَاطٍ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ يَشْتَهِي الْإِنْسَانُ، لِمَا كَانَ نَظِيرٌ لَهُ يُحِبُّ أَنْ يَعْلُوَ عَلَيْهِ، وَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ الِاقْتِدَارَ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الطَّبْعِ نَشَاطٌ، فَلَا يَثْبُتُ مَا يَتَعَلَّمُهُ فِي قَلْبِهِ، وَإِذَا اشْتُهِرَ مَعَ نَشَاطٍ يَكُونُ فِيهِ ثَبْتٌ فِي قَلْبِهِ مَا يَسْمَعُهُ وَحَفِظَهُ، فَإِذَا أَكَلَ ضَرَّهُ وَلَمْ يَسْتَمْرِهِ، وَإِذَا اشْتَهَى وَالْمَعِدَةُ نَقِيَّةٌ، اسْتَمْرَأَ مَا أَكَلَ وَبَانَ عَلَى جِسْمِهِ». (2/ 217)
القاعدة التاسعة: التعالم الخفي: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معناه
المسألة الأولى: معناه: هو ادعاء العلم والتظاهر به ممن ليس من أهله. وهو من أخطر الأمراض التي تصيب طالب العلم وتكمن خطورته في أمور من جهتين: صعوبة ظهوره، وظهوره في صورة العلم.
- صعوبة ظهوره: لا يظهر هذا المرض لطالب العلم أبدا، لذلك سمي خفياً.
- ظهوره في صورة العلم: الجهة الثانية فرع من الجهة الأولى أنه إذا ظهر لا يظهر على أنه خطر أو غلط أو آفة أو مرض بل ظهوره في صورة العلم، فيُعالج بأن يعرفه طالب العلم من البداية.
المسألة الثانية: أسبابه
المسألة الثانية: أسبابه:
۱ - الاغترار بسعة الاطلاع.
۲- فقدان التأصيل العلمي.
۳- استسهال الكلام في العلم.
-
الاغترار بسعة الاطلاع: سعة الاطلاع في السابق كانت تتطلب مشقة وجهدًا، أما اليوم، ومع تيسّر الوسائل وسهولة الوصول إلى المعلومات، فقد أصبحت سعة الاطلاع أحيانًا مجرّد ادعاء. فترى من يقفز من كتاب إلى آخر، ويقول: “أنا أعرف الكتاب الفلاني”، و”قرأت في كتاب ابن تيمية كذا”، و”أشار ابن القيم في طريق الهجرتين إلى هذه المسألة”، و”ذكر ابن المنذر في الأوسط هذه المسألة في باب كذا”..
- سعة الاطلاع مطلوبة، بل هي من شروط طالب العلم، كما ذكرنا سابقًا في قاعدة الشيخ. لكن الإشكال حين يغترّ بها المرء، ويكتفي بها، ويجعلها بديلًا عن الطلب الحقيقي للعلم؛ فحينها تكون سببًا من أعظم أسباب داء التعالم الخفي.
-
فقدان التأصيل العلمي: وأحيانًا لا يصل الأمر إلى فقدانه، بل إلى ضعفه على أقل تقدير. وهذا لا خلاف في كونه من أسباب الخلل.
-
استسهال الكلام في العلم: وهذا من الظواهر المنتشرة جدًا. فاليوم بعض الناس مجرد أن يلتزم بالسمت الظاهر ونحوه من المظاهر الشرعية – التي بعضها واجب وبعضها مستحب – يظنّ أن له الحق في الكلام في العلم. يُمنّي أحدهم نفسه بأنه قادر على الخوض في كل قضية: يفتح جوجل، يبحث في “إسلام ويب”، أو يفتح كتابًا ما، أو مدونة لشيخ معين، ثم يأتي لاستعراض العضلات!
- مجرد اعتقاد أن الكلام في العلم أمر سهل – هذا الاستسهال في حد ذاته مصيبة عظيمة. والأئمة رحمهم الله حين تكلموا عن داء التعالم، وعن تعظيم الفتوى، وعن خطورة الاستعجال في طلب العلم، كان محور كلامهم وخطورته نابعًا من هذا الباب تحديدًا.
- السلف قل كلامهم وكثرت بركتهم. قل كلامهم وزادت دقتهم. وعظم الانتفاع بهم. وكل من تربى تحت أيديهم تخرج عالماً ينتفع به الأمة كلها.
المسألة الثالثة: مظاهره
المسألة الثالثة: مظاهره:
١ - القطع والجزم في مواضع الاجتهاد والخلاف.
٢ - التنطع والتقعر بمصطلحات العلم.
٣- التطفل على النوازل والمسائل الكبرى.
٤- الاضطراب والتناقض.
ه - الدعاوى العريضة.
٦ - التشغيب على العلماء.
٧*- ازدراء العلوم التي لا يعلمها.
-
القطع والجزم في مواضع الاجتهاد والخلاف: بعضهم يتحرز من ذكر التصريح بلفظ التحريم أو الوجوب. مع أن الذي ظهر له باجتهاده تحريم المسألة الفلانية أو وجوب المسألة الفلانية. ومع ذلك كان يتورع. وهذا ورع اليوم لا يفهمه كثير من طلاب العلم. فلبعدنا أو ضعفنا في التأصيل العلمي صرنا لا نفهم مثل هذه الآداب التي هي آداب عملية في الحقيقة هي آداب مركزية جداً تعينك على الثبات في طلب العلم والنبوغ.
- فتجد بعضهم يتحرز يقول لا ينبغي ولا يحب أن يصرح بلفظ التحريم. الذي لا يفهم يقول لماذا؟ أليس الراجح هو الحرام؟ أليس الحديث واضحاً؟ أنت الآن مصاب بمرض التعالم. وهذا من أعظم مظاهره فتعالجه بالصمت.
-
التنطع والتقعر بمصطلحات العلم: كما قال بعض العلماء أن يلوي لسانه ويحاكي لسان العلماء.
-
التطفل على النوازل والمسائل الكبرى: يعني هذا الأمر ليس لك واقتحمته بالقوة. فليتك يا طالب العلم تطفلت على ما هو في مقاسك وحجمك.
-
الاضطراب والتناقض: بسبب غياب التأصيل العلمي. فالمغتر بمجرد سعة الاطلاع يستسهل الكلام في العلم.
-
الدعاوى العريضة: ادعاءات عريضة جداً مثل: لا يوجد عالم تكلم في المسألة الفلانية. ولم أجد أحداً افتتح هذه المسألة غيري. وأحسب أنني لم أُسبق إلى هذه المسألة.
-
التشغيب على العلماء: وهي الأخطر. و لم نقل التحذير من العلماء ولم نقل نقد العلماء والرد عليهم و إنما التشغيب على العلماء: لأنه فاقد للعلم الشرعي ويشعر بالغيرة ويريده لكن لا يريده بطريقه الصحيح. فيشغب على العلماء حتى تخلو له الساحة.
أقوال العلماء في التعالم والمتعالمين
-
ابن خلدون: «وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف علما وبين العالم النّحرير. والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي.» (= تاريخ ابن خلدون - 1/ 543)
- “الحذق” يعني الخبرة.
- “وهذه الملكة غير الفهم والوعي.” هذه الملكة الخبرة العلمية ما نسميها أهل التأصيل العلمي ليست مجرد فهمك للمسألة.
- المتعالم: الذي يكتفي بمجرد الفهم والوعي. ويظن أنها هي نفسها الملكة. فيزعم أن مالك والشافعي وأحمد ونحن كلنا رجال. وابن عثيمين رحمه الله رد على هذا فقال: نعم لا شك أنكم مستوون كلكم رجال مستوون في الذكورة. ذكر وذكر لكن أما أن يكون علمك مثل علمهم هيهات.
-
- أشار إلى هذا بسطر واحد في كتاب = الإيمان الكبير قال: “والتصور للخبر” يعني فهمه في الذهن “وتصديقه وحفظ حروفه هذا كله غير تصور المُخبَر عنه.” فهناك فرق بين من حفظ حديث “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده…” إلى آخره رواه مسلم. بل لو حفظته بإسناده وخرجته من مئة طريق. وبين من فهم وتعمق في مثل هذا الحديث. قد يكون الأول حافظاً له أكثر من الثاني. لكن العلم في الثاني لا في الأول.
- ويقول: «وقد يكون الرجل حافظا لحروف العلم ولا يكون مؤمنا بل منافقا، فالمؤمن الذي لا يحفظ العلم وصوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق قد ينتفع به الغير كما ينتفع بالريحان فأما الذي أوتي العلم والإيمان فهو مؤمن عليم.» (المستدرك على مجموع فتاوى ابن تيمية - 1/ 12)
- وهذا أيضاً يضاف لما ذكرناه الإشكال الموجود عند بعض السذج للأسف والسبب هو ضعف التأصيل العلمي. يقول كيف يكون فلان مبتدعاً وهو قد شرح البخاري ومسلم؟ هذا ابن تيمية يجيبك. “قد يكون رجل حافظاً لحروف العلم ولا يكون مؤمناً بل منافقاً. فالمؤمن الذي لا يحفظ العلم وصوره خير منه.” طيب هذا المنافق الحافظ للعلم ماذا يُستفاد منه؟ “قد ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان”
- وقال أيضاً: كُلُّ الْعُلُومِ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا ابْتِدَاءً مِنْ مُصَادَرَاتٍ يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةً إلَى أَنْ تتبرهن فِيمَا بَعْد إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ طَالِبِ الْعِلْمِ حِينَ يَطْلُبُهُ قَدْ نَالَ ذَلِكَ الْعِلْمَ: لَمْ يَكُنْ طَالِبًا لَهُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي بِهِ إلَى الْعِلْمِ ُ. = مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 69)
- في البداية لابد أن تأخذ المسائل مُسلّمة. يعني طبيعي جداً أن لا تفهم. طبيعي جداً أن تأخذ المسألة بدون دليل لأنها البداية. فالذي ينازع في هذه الأمور مصاب بمرض التعالم. واليوم كما قلنا خطورة التعالم أنها تظهر في صورة العلم.
- ويقول ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى: ” «كُلُّ الْعُلُومِ لَا بُدَّ لِلسَّالِكِ فِيهَا ابْتِدَاءً مِنْ مُصَادَرَاتٍ يَأْخُذُهَا مُسَلَّمَةً إلَى أَنْ تتبرهن فِيمَا بَعْدُ. إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ طَالِبِ الْعِلْمِ حِينَ يَطْلُبُهُ قَدْ نَالَ ذَلِكَ الْعِلْمَ: لَمْ يَكُنْ طَالِبًا لَهُ وَالطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا قَدْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُفْضِي بِهِ إلَى الْعِلْمِ.» = مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 69) هنا ينكشف طالب العلم من غيره. إذا صبرت وتدرجت، بل ربما تضحك على نفسك تقول لم أفهم هذه المسألة. كنت أظن أن هذه المسألة لا دليل عليها وهكذا هو العلم.
- ويقول أيضاً: «والعلم له مبدأ، وهو: قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ، وتمام، وهو: قوة المنطق، الذي هو البيان والعبارة.» (= اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 447) فالخلط بين البداية أو المبدأ والتمام هو من التعالم.
-
ابن القيم: في = مفتاح دار السعادة: “وَلِهَذَا كَانَ الوعي وَالْعقل قدرا زَائِدا على مُجَرّد إِدْرَاك الْمَعْلُوم”.
- “ولهذا كان الوعي والعقل” سماها ابن خلدون الملكة “قدراً زائداً على مجرد إدراك المعلوم.” ومن هنا نفهم أن السلف رحمهم الله عرفنا أنهم لم يكونوا يطلقون اسم العالم إلا على الذي يعمل بعلمه.
-
يقول ابن رجب في = مقدمة فيها بيان مقصود الرواية (وهي التي تعرف ب= مقدمة تشتمل على أن جميع الرسل كان دينهم الإسلام) (2/ 570): «فالحكماء هم خواص العُلَمَاء كما كان الفضيل بن عياض رضي الله عنه يقول: العُلَمَاء كثير، والحكماء قليل. وقال له رجل: العُلَمَاء ورثة الأنبياء، فَقَالَ فضيل: الحكماء ورثة الأنبياء، وإنما قال هذا؛ لأنّه صار كثير من الناس يظن أن العُلَمَاء الممدوحين في الشريعة يدخل فيهم من له لسان علم، وإن لم يكن عنده من حقائق الإيمان ومن العمل بالعلم ما يوجب سعادته. فبين الفضيل أنه لا يدخل في مدح الله ورسوله للعلماء إلا أهل الحكمة، وهم أهل الدراية والرعاية.»
-
“وواجبٌ في مشكلات الفهم … تحسيننا الظنّ بأهل العلم” اليوم العكس. وواجب في مشكلات الفهم إساءة الظن بأهل العلم وتحسين الظن بنفسي.
-
البخاري: عقد في كتاب العلم باباً مهماً أشار به إلى مسألة التعالم، قال: “باب الفهم في العلم.”
- حَدَّثَنَا عَلِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ، فَقَالَ: (إن من الشجرة شَجَرَةً، مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ). فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ، فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (هِيَ النَّخْلَةُ).
- الجُمّار هو قلب النخل. ابن عمر كان صغيراً جالساً. فأُتي بجُمّار فقال النبي ﷺ: “إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم.” فابن عمر كأنه نظر إلى المناسبة وربط بينها وبين حديث النبي ﷺ. أُوتي النبي ﷺ بجُمّار فقال إن من الشجر شجرة. فقال ابن عمر: “أردت أن أقول هي النخلة. فنظرت فإذا أنا أصغر القوم.” طبعاً اليوم عندنا هذا الأدب للأسف يعني. هذه حزبية منك. أتخاف من قول الحق؟ يا أخي ليست مسألة حزبية وليست مسألة خوف. ما بك يا أخي؟. والله لن تفلح في العلم بمثل هذه الأخلاق ومثل هذه العقلية. قال: “فإذا أنا أصغر القوم فسكت.” فقال النبي ﷺ: “هي النخلة.”
- قال ابن حجر: “الفهم المراد بهذا الباب فطنة يفهم بها صاحبها من الكلام ما يقترن به من قول أو فعل.”
- وقال ابن بطال المالكي في (شرحه - 1/ 157): “الفهم في العلم هو التفقه فيه. ولا يتم العلم إلا بالفهم. وكذلك قال علي رضي الله عنه: والله ما عندنا إلا كتاب الله أو فهم أُعطيه رجل مؤمن. «وقال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور يضعه الله فى القلوب، يعنى بذلك فهم معانيه واستنباطه. فمن أراد التفهم فليحضر خاطره، وبفرغ ذهنه، وينظر إلى نشاط الكلام، ومخرج الخطاب، ويتدبر اتصاله بما قبله، وانفصاله منه، ثم يسأل ربه أن يلهمه إلى إصابة المعنى».
- نحن اليوم نعرف آداب طالب العلم وما يعينك على العلم وننسى هذا الأدب أي سؤال الله ولا أعني مجرد الدعاء، فالدعاء كلكم يدعو والحمد لله لكن أريد دعاءً خاصاً. يعني إذا صعب عليك فهم مثلاً باب الأفعال من الآجرومية تقول اللهم سهل علي باب الأفعال من الآجرومية اللهم إنه صعب علي إعراب الفعل الماضي. اللهم هونه وهكذا.
- ابن القيم: في = مدارج السالكين : “فَالْفَهْمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ، وَنُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ، يَعْرِفُ بِهِ، وَيُدْرِكُ مَا لَا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، فَيَفْهَمُ مِنَ النَّصِّ مَا لَا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ، مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي حِفْظِهِ، وَفَهْمِ أَصْلِ مَعْنَاهُ”. - فأنا وأنت وابن القيم نحفظ حديث “فليقل خيراً أو ليصمت.” ونفهم أصل المعنى وأستطيع أن أملي عليك من فوائد هذا الحديث ربما مئات الفوائد، لكن ربما هل أنا بهذا صرت كالإمام ابن القيم؟ قطعا لا.
-
ابن تيمية: في = درء تعارض العقل والنقل يشير إلى هذه المسألة أيضاً: “ومما ينبغي أن يعرف أن علم الإنسان بالشيء وتصوره له شيء، وعلمه بأنه عالم به شيء، وعلمه بأن علمه حصل بالطريق المعين شيء ثالث”.
-
ابن عثيمين: رحمه الله في = شرح رياض الصالحين: أشار إلى هذه المشكلة وسماها مشكلة العصر. قال: “لكن مشكلات الناس ولا سيما في هذا العصر أن الإنسان إذا فهم لم يعرف التطبيق. وإذا فهم مسألة ظن أنه أحاط بكل شيء علما.”
العلمُ: نَقْلُ صورةِ المعلومِ من الخارج وإثباتُها في النفس. والعمل: نقلُ صورةٍ عمليَّةٍ من النفس وإثباتُها في الخارج. فإن كان الثابتُ في النفس مطابقًا للحقيقة في نفسها فهو علمٌ صحيحٌ. وكثيرًا ما يَثبت ويَتراءى في النفس صُورٌ ليس لها وجودٌ حقيقيٌّ، فيظنُّها الذي قد أثْبتَها في نفسه علمًا، وإنَّما هي مقدرةٌ لا حقيقة لها، وأكثرُ علوم الناس من هذا الباب.
- الشوكاني في = أدب الطلب سمى المتعالم “العقبة الكؤود” يعني الشديدة، “والطريق المستوعر، والخطب الجليل، والعبء الثقيل”.
والعقبة الكؤود وَالطَّرِيق المستوعرة والخطب الْجَلِيل والعبء الثقيل إرشاد طبقَة متوسطة بَين طبقَة الْعَامَّة والخاصة وهم قوم قلدوا الرِّجَال وتلقوا علم الرَّأْي ومارسوه حَتَّى ظنُّوا أَنهم بذلك قد فارقوا طبقَة الْعَامَّة وتميزوا عَنْهُم وهم لم يتميزوا فِي الْحَقِيقَة عَنْهُم وَلَا فارقوهم إِلَّا بِكَوْن جهل الْعَامَّة بسيطا وَجَهل هَؤُلَاءِ جهلا مركبا وَأَشد هَؤُلَاءِ تغييرا لفطرته وتكديرا لخلقته أَكْثَرهم ممارسة لعلم الرَّأْي وأثبتهم تمسكا بالتقليد وأعظمهم حرصا عَلَيْهِ فَإِن الدَّوَاء قد ينجع فِي أحد هَؤُلَاءِ فِي أَوَائِل أمره وَأما بعد طول العكوف على ذَلِك الشغف بِهِ والتحفظ لَهُ فَمَا أبعد التَّأْثِير وَمَا أصعب الْقبُول لِأَن طبائعهم مَا زَالَت تزداد كَثَافَة بازدياد تَحْصِيل ذَلِك وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذَلِك وبمقدار ولوعهم بِمَا هم فِيهِ وشغفهم بِهِ تكون عدواتهم للحق ولعلم الْأَدِلَّة وللقائمين بِالْحجَّةِ.
-
وقال عنهم أيضا في موضع آخر: “وَهَؤُلَاء وَإِن كَانُوا يعدون من أهل الْعلم لَا يسْتَحقُّونَ أَن يذكرُوا مَعَ أَهله وَلَا تنبغي الشغلة بنشر جهلهم وَتَدْوِين غباوتهم لكِنهمْ لما كَانُوا قد تلبسوا بلباس أهل الْعلم وحملوا دفاتره وقعدوا فِي الْمَسَاجِد والمدارس اعتقدتهم الْعَامَّة من أهل الْعلم وقبلوا مَا يلقونه من هَذِه الفواقر فظلوا وأظلوا وعظمت بهم الْفِتْنَة وحلت بسببهم الرزية”.
-
الماوردي: في = أدب الدنيا والدين: “وَلَقَدْ رَأَيْت مِنْ هَذِهِ الطَّبَقَةِ عَدَدًا قَدْ تَحَقَّقُوا بِالْعِلْمِ تَحَقُّقَ الْمُتَكَلِّفِينَ، وَاشْتُهِرُوا بِهِ اشْتِهَارَ الْمُتَبَحِّرِينَ. إذَا أَخَذُوا فِي مُنَاظَرَةِ الْخُصُومِ ظَهَرَ كَلَامُهُمْ، وَإِذَا سُئِلُوا عَنْ وَاضِحِ مَذْهَبِهِمْ ضَلَّتْ أَفْهَامُهُمْ، حَتَّى إنَّهُمْ لَيَخْبِطُونَ فِي الْجَوَابِ خَبْطَ عَشْوَاءِ فَلَا يَظْهَرُ لَهُمْ صَوَابٌ، وَلَا يَتَقَرَّرُ لَهُمْ جَوَابٌ، َولَا يَرَوْنَ ذَلِكَ نَقْصًا إذَا نَمَّقُوا فِي الْمَجَالِسِ كَلَامًا مَوْصُوفًا، وَلَفَّقُوا عَلَى الْمُخَالِفِ حِجَابًا مَأْلُوفًا. وَقَدْ جَهِلُوا مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا يَعْلَمُ الْمُبْتَدِئُ وَيَتَدَاوَلُهُ النَّاشِئُ. فَهُمْ دَائِمًا فِي لَغَطٍ مُضِلٍّ، أَوْ غَلَطٍ مُذِلٍّ وَرَأَيْت قَوْمًا مِنْهُمْ يَرَوْنَ الِاشْتِغَالَ بِالْمَذَاهِبِ تَكَلُّفًا، وَالِاسْتِكْثَارَ مِنْهُ تَخَلُّفًا”.
-
ابن تيمية: في = جواب الاعتراضات المصرية عن الفتوى الحموية: “وليس كلُّ من وجدَ العلم قدرَ على التعبير عنه والاحتجاج له، فالعلمُ شيءٌ، وبيانه شيء آخر، والمناظرةُ عنه وإقامةُ دليله شيء ثالث، والجواب عن حجة مخالفِه شيء رابعٌ”.
-
ويقول أيضاً في = درء تعارض العقل والنقل: “ليس كل من عرف الحق -إما بضرورة أو بنظر- أمكنه أن يحتج على من ينازعه بحجة تهديه أو تقطعه، فإن ما به يعرف الإنسان الحق نوع، وما به يعرفه به غيره نوع، وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به”.
-
ابن القيم: في = مدارج السالكين سمى المتعالمين: “آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم.” وقال: “لا عبرة لجدالهم ولا نقاشهم.”
-
ابن حزم: يقول في رسائله (4/ 86): «وإن قوماً قوي جهلهم، وضعفت عقولهم، وفسدت طبائعهم، يظنون أنهم من أهل العلم وليسوا من أهله، ولا شيء أعظم آفة على العلوم وأهلها الذين هم أهلها بالحقيقة من هذه الطبقة المذكورة، لأنهم تناولوا طرفاً من بعض العلوم يسيراً، وكان الذي فاتهم من ذلك أكثر مما أدركوا منه، ولم يكن طلبهم لما طلبوا من العلم لله تعالى، ولا ليخرجوا من ظلمة الجهل، لكن ليزدروا بالناس زهواً وعجباً، وليماروا لجاجاً وشغباً، وليفخروا أنهم من أهله تطاولاً ونفجاً، وهذه طريق مجانية الفلاح، لأنهم لم يحصلوا على الحقيقة وضيعوا سائر لوازمهم فعظمت خيبتهم ولم يكن وكدهم أيضاً، مع الازدراء بغيرهم، إلا الازدراء بسائر العلوم وتنقيصها، لظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوا فقط. وكثيراً ما يعرض هذا لمبتدئ في علم من العلوم وفي عنفوان الصبا وشدة الحداثة. إلا أن هؤلاء لا يرجى لهم البرء من هذا الداء، مع طول النظر والزيادة في السن.»
- ازدراء العلوم التي لا يعلمها وليس فقط مجرد النقد والسؤال. يعني أنا لم أدرس علم الحديث آتي وأزدريه. علم الحديث ماذا تستفيدون فيه؟ّ الألباني رحمه الله صحح كل شيء وضعف كل شيء “لظنهم الفاسد أنه لا علم إلا الذي طلبوه فقط.”
-
الآمدي اللغوي في (= الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري - 1/ 419): «ثم إني أقول بعد ذلك: لعلك - أكرمك الله - اغتررت بأن شارفت شيئاً من تقسيمات المنطق، وجملا من الكلام والجدال، أو علمت أبواباً من الحلال والحرام، أو حفظت صدراً من اللغة، أو اطلعت على بعض مقاييس العربية، وأنك لما أخذت بطرف نوع من هذه الأنواع معاناة ومزاولة ومتصل عناية فتوحدت فيه وميزت - ظننت أن كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضت له وأمررت قريحتك عليه نفذت فيه، وكشفت لك عن معانيه، وهيهات! لقد ظننت باطلا، ورمت عسيراً؛ لأن العلم - أي نوع كان - لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه، والإكباب عليه، والجد فيه، والحرص على معرفة أسراره وغوامضه، ثم قد يتأتى جنسٌ من العلوم لطالبه وبتسهيل عليه، ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر؛ لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبوله، وما في طاقته تعلمه؛ فينبغي - أصلحك الله - أن تقف حيث وقف بك، وتقنع بما قسم لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك.»
-
المعلمي اليماني في (= الفوضى الدينية وتعدد الزوجات - ضمن آثار المعلمي - 18/ 537) له كلام عجيب:
«والذي يسوء الحق إنما هو أن يتصدى الإنسان للتحكُّم في فنٍّ هو فيه أمّي أو تلميذ صغير. إن العاقل الذي لا حظَّ له من الطب إلا مطالعة بعض الكتب، لَيحجزه عقلُه عن التطبب، وهكذا عامةُ الفنون يمتنع العاقل أن يتحكم في فنٍّ منها ليس فنَّه. ولكن الدين شذَّ عن هذه الكلية، فلا تكاد تجد أحدًا يعترف أو يعرف أنه ليس ممن يحقُّ لهم الكلامُ فيه.
يقولون: إنها حرية الفكر! حبَّذا حرية الفكر، ولكن أَمِن حرية الفكر أن يصمد الإنسان لقضيةٍ لم يُتقِن أصولَها، ولا أسبابها وعللها، ولا غوامضها ودقائقَها، فيعبّر فيها على ما خيلت؟ إن حقًّا على العاقل إذا أحبَّ أن يكون حرَّ الفكر أن يختار له موضوعًا ينفذ فكرُه إلى أعماقه، ويتغلغل في دقائقه.
افرِضْ أنك طبيب، وأنه اعترضك بدويٌّ يناقشك في أصول الطب، أو أنك عارف بعلم الفلك الحديث، وعرضَ لك عاميٌّ ينازعك فيه، وكلاهما ــ البدوي والعامي ــ لا يُصغِي إليك حتى توضح له الحجج، أو لا يستطيع في حاله الراهنة أن يفهمها، لأنه لم يتعلم مقدمات ذلك الفن، ولكنه مع ذلك يجزم بما ظهر له، ويرميك بالجهل والغفلة، فهل تعدُّه حرَّ الفكر؟
لقد بلغ بالناس حبُّ الاشتهار بحرية الفكر إلى أن أغفلوا النظر في صواب الفكر وخطائه، وأصبحت حرية الفكر مرادفةً للخروج عما كان عليه الآباء والأجداد. ولقد يعلم أحدهم أن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو الصواب، ولكن شغفه بأن يقال حرَّ الفكر يضطرُّه إلى مخالفته. فهل يستحق مثل هذا أن يقال له حرَّ الفكر؟
وكثير منهم يدع تقليد أسلافه ويقلِّد بعض الملحدين، فهل خرج هذا من الرقِّ إلى الحرّية؟ كلَّا، بل خرج من رقٍّ إلى رقٍّ.
حرُّ الفكر هو الذي يُطلِق فكره حيث يستطيع الانطلاق ويكفُّه حيث يحبّ الانكفاف.
حرُّ الفكر هو الذي يحرِصُ على الحق أينما كان، فإذا ظهر أن الحق هو ما كان عليه أسلافه لزِمَه، ولم يُبالِ بأن يقال: جامد مقلِّد.
حرُّ الفكر هو الذي يحرِص على الثبات على المبدأ الذي كان عليه أسلافه، حتى تقهره الحجة الواضحة.»
- والعلماء لهم كتب كثيرة منها كتاب = التعالم للشيخ بكر أبو زيد وبعض من كتب في ذلك. الشيخ أبو زيد ذكر في الحلية عن كتابه التعالم لما أوصى به قال: “احرص على اقتنائه وقراءته فهو يكشف المندسين بين صفوف طلاب العلم. خشية أن يرجفوا بهم. ويضيعوا أمرهم ويبعثروا مسيرتهم في الطلب.” فهذه مشكلة المتعالم. أنه يُعكر عليك طريقة طلبك للعلم. فيستلبهم وهم لا يشعرون.
القاعدة العاشرة: تيسير العلم:
* العلم كله سَهْلٌ على مَن عَلِمَه صَعْبٌ على مَن جَهِلَه؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ قال قتادة ومطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه.
-
هذه القاعدة العامة تبين للطالب أن العلم يمكن أن يتيسر، ونحن نحفظ أن العلم يسير على من يسره الله وصعب على من صعبه عليه.
-
يجب على طالب العلم أن يعرف الأسباب التي يدخل أو تدخل منها صعوبة العلم فيعالجها فليس العلم صعب فقط لأنك مذنب.
-
يقول ابن عبد البر في = التمهيد (2/ 568 ت بشار): «وإذا كان القرآنُ الميَسَّرُ للذِّكْرِ كالإبلِ المُعَقَّلَةِ، من تعاهدَها أمسَكَها، فكيف بسائرِ العلوم؟ واللّهَ أسألُه علمًا نافعًا، وعملًا مُتقبَّلًا، ورزقًا واسعًا، لا شريكَ له.»
-
إذا سيكون أشد صعوبة، لكن إذا عرفت أسباب الصعوبة سهل عليك العلاج، فأي شيء تستصعبه دل على أنك تجهل السبب الذي جعله صعبا، فيكون سهلا بمعرفتك لهذا السبب وعلاجه، فتزول تلك الصعوبة.
أسباب صعوبة العلم
* وأسباب صعوبة العلم ثلاثة أقسام:
- تتبع العلماء الصعوبة التي تحصل لطالب العلم في العلم فوجدوها لا تخرج من هذه الثلاثة. لأن كلمة العلم أو التعليم أو طلب العلم ثلاثة أمور:
- طالب علم - المستمع
- وعالم - المتكلم بالعلم
- كلام العالم الذي يسمعه الطالب
القسم الأول: السبب في اللفظ
القسم الأول: أن يكون السبب في اللفظ؛ فله ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون لتقصير اللفظ عن المعنى.
الثاني: أن يكون لزيادة اللفظ على المعنى
الثالث: أن يكونَ لِغَرَضِ يَقْصِدُه المتكلم بكلامه.
-
الحالة الأولى: أن يكون لقصر اللفظ عن المعنى، أي أن الشيخ ذكر كلاما لم يستوفِ المعنى، وحصلت الصعوبة. وهذا سهل علاجه. تبحث عن السبب الذي جعل شيخك يقصر ويذكر كلاما لا يستوفي لك المعلومة، ربما الشيخ بطيء الكلام، أو عنده مشكلة في النطق إلخ.
-
الحالة الثانية: أن يكون لزيادة اللفظ عن المعنى. يعني عكس الأول، مثلا يريد الشيخ أن يوصل لك معلومة أن من فرائض الصلاة القيام مع القدرة. فاستطرد بذكر معان لغوية وكلام زائد وخلاف لفظي لا يؤثر وكلاما لا يحتاجه الطالب بحسب مستواه، فسبب له صعوبة.
- فانظر ما سبب الزيادة. قالوا إما أن يكون لهذا للمتكلم وإكثاره، أي يحب التوسع، وهي طريقة سيئة في الجملة، وإلا قد تكون جيدة في بعض المواضع، أما في كل المواضع فغلط، إذا عرفت طبيعة الشيخ عرفت كيف تتخلص من الكلام الزائد وتكتفي بالكلام المستوفي للمعنى.
-
الحالة الثالثة: أن يكون لغرض يقصده المتكلم بكلامه، يعني أن الشيخ يريد رمزا معينا أو أن يعطي شفرة لا يريدك أن تفهم ما تقول، لسبب رآه، والعلاج أن تسأل الشيخ: يا شيخ ماذا تريد؟ حينئذ يبين لك أو يقول لك: لا، اترك هذا، إذا الشيخ له هدف.
- ويسمى هذا عند العلماء مواضعة - أن يرمز بكلامه حتى لا تفهمه - يريد أن يحمسك، أو أن يستفز ذكاءك أو غباءك، أو يريد أن يجس نبضك هل أنت منتبه في الدرس أم لا، وهكذا. وهذه قد تصلح أحيانا في شد الانتباه وقد اشتهر بها من المعاصرين مثلا ابن عثيمين رحمه الله.
القسم الثاني: السبب في المعنى
القسم الثاني: أن يكون السبب في المعنى؛ فلا يخلو المعنى من ثلاثة أقسام:
الأول: إما أن يكون مستقلا بنفسه؛ ظاهرا أو خفيا.
الثاني: أن يكون مُقَدِّمةً لغيره؛ سواء افتقر إلى نتيجة أو لا.
الثالث: أن يكون نتيجةً لغيره.
المعنى نفسه، قبل أن يكون صعبا أو سهلا، لا يخلو من ثلاثة أحوال:
-
أن يكون مستقلا بنفسه لا يحتاج إلى مقدمات تعينك على فهمه، وليس هو مقدمة توصلك إلى نتيجة تريد فهمها، سواء كان كلاما مستقلا ظاهرا أو خفيا.
- مثال: قال الشيخ في التفسير مثلا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي أن الله واحد. هذا معنى مستقل بنفسه، ثم هو معنى واضح ظاهر جلي، يفهمه العامي والجاهل والعالم وكلهم
- أو أن يكون معنى مستقل من نفسه لكنه خفي. يعني يحتاج إلى زيادة تأمل، مثلا قال الشيخ في نفس الآية: وقد ذكر العلماء فرقا بين الواحدية والأحدية، فالله يوصف بالواحدية أنه واحد، ومعنى الواحدية كذا وكذا. ويوصف بالأحدية فهو أحد، ومعنى الأحدية كذا وكذا. هنا المعنى مستقل لكن فيه نوع خفاء. الواحدية والأحدية هذا شيء جديد عليك، فتحتاج إلى زيادة تأمل. لا يلزم أن تفهمه من أول مرة ولا ثاني مرة ولا عاشر مرة، بل تحتاج إلى التكرار والتأمل وهكذا، بالدربة والتكرار وهكذا.
- أما الواضح الذي لم تفهمه إلا أن يكون غفلة منك أو أنك لا تفهم الكلام العربي أو اللغة التي يتكلم بها الشيخ، لأنه معنى مستقل ظاهر وجلي.
-
أن يكون المعنى مقدمة لغيره. يعني لن تفهم هذا الكلام إلا بأن يوصلك إلى نتيجته.
- لأن هذا المعنى نفسه هو مقدمة، فقد يُلقي الشيخ كلامًا لا يُفهم تمامًا إلا إذا عُرف ما يراد به من نتائج، لأن هذا الكلام في حقيقته مقدمة لنتيجةٍ قادمة، ولا يُقصد لذاته، بل لكونه يُوصِل إلى ما بعده
- مثال على ذلك: يقول الشيخ إن “الكلام في أسماء الله وصفاته كالكلام في ذاته”، أي: ما يُقال في الذات الإلهية يُقال أيضًا في الصفات والأسماء. فكما لا يجوز تشبيه ذات الله بذوات المخلوقين، كذلك لا يجوز تشبيه صفاته بصفاتهم، فلا يُقال مثلًا: يد الله كيد الإنسان، أو وجهه كوجهه، أو قدمه كقدمه، أو نزوله كنزوله، أو علوه كعلوه، وهكذا. هذه هي النتيجة التي يريد الشيخ إيصالك إليها.
- لكن لو توقف الشيخ عند قوله: “الكلام في الصفات كالكلام في الذات”، دون أن يبيّن لك المقصود منها والنتائج المترتبة عليها، فقد تجد صعوبة في الفهم. وليس السبب أنك ضعيف الفهم أو أن الشيخ لم يُحسن الشرح، بل لأن المعنى لا يُفهم وحده، لأنه مجرد مقدمة تحتاج إلى نتيجتها لتتضح.
- فكيف تُحل هذه الإشكالية؟ الحل هو الصبر على كلام الشيخ حتى يُكمِل الفكرة ويصل بك إلى النتيجة، فتتضح لك المعاني وتنجلي الإشكالات.
- لكن في بعض الأحيان، وإن كان الكلام مقدمة، إلا أنه يمكن فهمه واستيعابه دون انتظار النتيجة، لأنه واضح بذاته. مثال على ذلك: حين يُقال “الأمر يدل على الوجوب”. هذا كلام يُعد مقدمة لبحث طويل، لكنه واضح في نفسه، ويمكن فهمه مباشرة، حتى قبل أن تُذكر الحالات التي لا يكون فيها الأمر للوجوب. ثم يُذكر بعد ذلك: “لكن ليس دائمًا، فالأصل أن الأمر يدل على الوجوب، إلا في حالات، كأن يدل السياق على الاستحباب، أو يُصرف بقرينة…”، إلى آخره.
إذا كان الكلام مقدمة، فهناك حالتان:
- إن كان لا يُفهم إلا بذكر نتيجته، فلابد من الصبر حتى يُبيّنها الشيخ.
- وإن كان يُفهم وحده، فلا بأس من الاكتفاء به، ولا يشترط انتظار النتيجة.
- قد يكون الكلام الذي تسمعه من الشيخ نتيجة لعدة مقدمات سبق ذكرها، وحينها لا يمكن أن تُفهم هذه النتيجة إلا إذا فهمت ما قبلها. فإذا أدركت أن الكلام الذي بين يديك نتيجة، فابحث عن مقدمته. فربما كنت غائبًا عن أول الدرس، أو دخلت متأخرًا، أو شرد ذهنك، ففوتّ تلك المقدمات. في هذه الحالة:
- انتظر حتى ينتهي الدرس، ثم راجع ما فُوِّت عليك.
- أو إن كان الشيخ يسمح بالأسئلة أثناء الدرس، فاطلب منه إعادة ما فاتك.
- وإن لم يكن ذلك ممكنًا، فارجع للتسجيل أو المذاكرة مع زملاءك.
- مثال على ذلك: قد تدخل فتسمع الشيخ يقول: “وهذا وجه كون الاستهزاء من نواقض الإسلام”، فتعجب: ما هو هذا الوجه؟! ما السبب؟ لكن هذا الذي سمعته نتيجة، ولا يمكن فهمها إلا بالرجوع إلى المقدمات. فإذا رجعت وجدت الشيخ قد قال: الاستهزاء نوعان: استهزاء صريح، وهذا الذي يكون كفرا.
كيف تتعامل مع صعوبة المعاني؟ إذا شعرت أن هناك صعوبة في الفهم، فاسأل نفسك: هل هذا المعنى مستقل يمكن فهمه بذاته؟
- إن كان كذلك، فاطلب من الشيخ أن يعيده، أو راجع تركيزك إن كنت غفلت.
- وإن كان ظاهرًا واضحًا، فغالبًا المشكلة من غفلة أو ضعف تركيز، فعد وكرر وركّز جيدًا.
- وإن كان المعنى دقيقًا خفيًّا، فالحل في التكرار والمراجعة، فلا يلزم أن يظهر لك من أول مرة.
- وإن كان المعنى مقدمةً لنتيجة، فانظر: هل فهمه متوقف على النتيجة؟
- إن كان كذلك، فاصبر حتى يبيّن الشيخ النتيجة.
- وإن كان المعنى نتيجةً لمقدمات فاتتك، فابحث عن المقدمات، واستدركها.
من أسلوب العلماء: طيّ المقدمات أو النتائج أحيانًا يتبع العلماء طريقة تُعرف بـ “طيّ المقدمة”، فيذكرون النتيجة مباشرة دون ذكر ما يسبقها من تمهيد. لماذا؟
- لتربية الطالب على التحرير والتدقيق.
- حتى يتدرّب على استنباط المقدمات من النتائج.
وأحيانًا يفعلون العكس، فيذكرون المقدمات دون التصريح بالنتيجة، لأن:
- النتيجة قد تكون واضحة وبديهية.
- أو لأنهم يريدون أن يُدرّبوا الطالب على الاستنتاج الذاتي.
وهكذا كانت طريقة التعليم عند العلماء في السابق، فكان الطالب عندهم ينبغ بسرعة، ويُربّى على الفهم والاستنباط. أما اليوم، فكثير من الطلاب يلزم شيخًا عشر سنوات، ثم لا يتجاوز أن يكون نسخة مكررة منه، وربما نسخة مشوهة، والسبب: ضعف الطريقة، لا طول الملازمة.
القسم الثالث: السبب في المستمع (الطالب)
٣- القسم الثالث: أن يكون في المستمع (الطالب)؛ فهو أربعة أشياء:
الأول: ما كان مانِعًا مِن تَصَوُّرِ المعنى وفهمه؛ فهو البلادَةُ وقِلَّةُ الفِطْنَة.
الثاني: ما كان مانعا مِن حِفْظِهِ بَعدَ تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ: فهو النِّسْيانُ.
الثالث: شُبْهةُ تَعتَرِضُ المعنى فَتَمْنَعُ مِن تَصَوُّرِه وإدراك حقيقته.
الرابع: أفكار تُعارِضُ الخَاطِرَ فَيَذْهَلُ عن تَصَوُّرِ المعنى.
- الأول: أن يكون مانعا من تصور المعنى وفهمه، قالوا هو أمر واحد: هو البلادة وقلة الفهم وبطؤه وصعوبته. وهذا يعالج بالتكرار والمداومة مع سؤال الله عز وجل.
- الثاني: ما كان مانعا من حفظه بعد تصوره وفهمه، هذا يسمى النسيان، وعلاجه بالتكرار والأمور التي ذكرناها مما يعين على الحفظ ومن قواعد الحفظ التي ذكرناها.
- الثالث: شبهة تعترض المعنى فتمنع من تصوره وإدراك حقيقته. والحل أن تزيل هذه الشبهة. ولا يلزم أن تكون الشبهة هنا شبهة حقيقية تحتاج إلى جواب وتفكيك، يمكن أن تكون الشبهة أنك جديد على هذا العلم، أو أن تكون شبهة أنك لم يسبق لك في حياتك أن درست دراسة تفصيلية منهجية مترتبة متدرجة، فحينئذ ستشعر بغربة وشيء جديد والعلاج: الدوام والاستمرار على طلب العلم مع تكرار هذا الأمر الذي أشكل عليك، وسؤال ومدارسة النجباء.
- الرابع: أفكار تعارض الخاطر فيذهل عن تصور المعنى. أو ما نسميه نحن بالسرحان.
المقدمة السادسة: أصول أدب الطلب أربعة:
هذه المقدمة ثمينة تعين طالب العلم الذي يقرأ وينظر في كتب آداب طالب العلم، بل الذي يقرأ أو يسمع كل ما يتعلق بالعلم الشرعي، حتى لو لم يكن فيما يتعلق بآداب طالب العلم. لو كنت تقرأ كتابا في التاريخ، أو في الرد على الجهمية، أو المرجئة، كتابا في الأسماء والصفات، أو أي نوع من العلم، ستستطيع أن تقتنص وتصطاد آداب طالب العلم بحصرها في أربعة أصول، وكل أصل يشتمل على أبواب رئيسة.
الأصل الأول: ما يتعلق بأدب العلم في ذاته
الأول: ما يتعلق بأدب العلم في ذاته، ويشمل: معرفة فضل العلم وأهله، ومعرفة كيفية طلبه، ومعرفة التعامل مع أدواته.
- معرفة فضل العلم وأهله. أينما قرأت، أي كتاب تقرأه، وجدت مسألة أو فائدة متعلقة بفضل العلم وأهله، أثبتها عندك.
- معرفة كيفية طلب العلم. كيفية طلب العلم من أي نوع من أنواع الكيفيات.
- معرفة التعامل مع أدوات العلم. أدوات العلم بمعنى الكتب، الكتابة، التلخيص إلى آخره.
الأصل الثاني: ما يتعلق بأدب الطالب مع نفسه
الثاني: ما يتعلق بأدب الطالب مع نفسه، ويشمل: معرفة أخلاق طلاب العلم وسمت العلماء.
هناك آداب مع نفسك، وكثير من طلاب العلم اليوم في هذا الزمان العجيب غفل عن هذا الأصل، تجده متسخ الثياب، يا أخي إن الله جميل يحب الجمال. وتعطر يا أخي، وحسن هيئتك. هذه الآداب يغفل عنها كثير من الناس.
ويشمل بابين:
- الأول: معرفة أخلاق طلاب العلم.
- والثاني: سمت العلماء.
الأصل الثالث: ما يتعلق بأدب الطالب مع غيره
الثالث: ما يتعلق بأدب الطالب مع غيره، ويشمل: التعامل مع شيوخه، والتعامل مع زملائه، والتعامل مع طلابه.
- التعامل مع شيوخك.
- التعامل مع زملائه. يعني رفقاؤك في الطلب، سواء كنتم في حلقة الشيخ أو كنتم في غير ذلك. هؤلاء لهم حقوق زائدة على حقوق المسلمين أجمعين.
- التعامل مع طلابه. إذا منّ الله عليك وجلست للتعليم، هناك آداب تتعامل بها مع طلابك.
الأصل الرابع: ما يتعلق بأدب الطالب في حلقة العلم ودرسه
الرابع: ما يتعلق بأدب الطالب في حلقة العلم ودرسه، ويشمل: كيفية اختيار ما يناسبه، وكيفية الاستفادة منها.
سواء كان حضورا حسيا بنفسك أو بثوث مباشرة إلى غير ذلك. ويشتمل على بابين:
- كيفية اختيار ما يناسبه من الدروس.
- كيفية الاستفادة من الدروس، هل أكتب كل شيء؟ هل أحفظ؟ إلخ
الفصل الثاني: أصول منهجية
-
هذه الأصول تطبيق عملي لما سبق دراسته في الفصل الأول.
-
يجب على طالب العلم معرفتها لأسباب كثيرة لخصها لنا ابن القيم في كتابه المشهور = رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص25):
«وَمِمَّا يَنْبَغِي الاعتناء بِهِ علما وَمَعْرِفَة وقصدا وَإِرَادَة الْعلم بِأَن كل إِنْسَان بل كل حَيَوَان إِنَّمَا يسْعَى فِيمَا يحصل لَهُ اللَّذَّة وَالنَّعِيم وَطيب الْعَيْش ويندفع بِهِ عَنهُ أضداد ذَلِك وَهَذَا مَطْلُوب صَحِيح يتَضَمَّن سِتَّة أُمُور:
أَحدهَا معرفَة الشَّيْء النافع للْعَبد الملائم لَهُ الَّذِي بحصوله لذته وفرحه وسروره وَطيب عيشه
الثَّانِي معرفَة الطَّرِيق الموصلة إِلَى ذَلِك
الثَّالِث سلوك تِلْكَ الطَّرِيق
الرَّابِع معرفَة الضار المؤذي المنافر الَّذِي ينكد عَلَيْهِ حَيَاته
الْخَامِس معرفَة الطَّرِيق الَّتِي إِذا سلكها أفضت بِهِ إِلَى ذَلِك
السَّادِس تجنب سلوكها
فَهَذِهِ سِتَّة أُمُور لَا تتمّ لَذَّة العَبْد وسروره وفرحه وَصَلَاح حَاله إِلَّا باستكمالها وَمَا نقص مِنْهَا عَاد بِسوء حَاله وتنكيد حَيَاته
وكل عَاقل يسْعَى فِي هَذِه الْأُمُور لَكِن أَكثر النَّاس غلط فِي تَحْصِيل هَذَا الْمَطْلُوب المحبوب النافع إِمَّا فِي عدم تصَوره ومعرفته وَإِمَّا فِي عدم مَعْرفَته الطَّرِيق الموصلة إِلَيْهِ فهذان غلطان سببهما الْجَهْل ويتخلص مِنْهُمَا بِالْعلمِ
وَقد يحصل لَهُ الْعلم بالمطلوب وَالْعلم بطريقه لَكِن فِي قلبه إرادات وشهوات تحول بَينه وَبَين قصد هَذَا الْمَطْلُوب النافع وسلوك طَرِيقه فَكلما أَرَادَ ذَلِك اعترضته تِلْكَ الشَّهَوَات والإرادات وحالت بَينه وَبَينه وَهُوَ لَا يُمكنهُ تَركهَا وَتَقْدِيم هَذَا الْمَطْلُوب عَلَيْهَا إِلَّا بأحد أمرين : إِمَّا حب مُتَعَلق وَإِمَّا فرق مزعج.
فَيكون الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة وَالْجنَّة وَنَعِيمهَا أحب إِلَيْهِ من هَذِه الشَّهَوَات وَيعلم أَنه لَا يُمكنهُ الْجمع بَينهمَا فيؤثر أَعلَى المحبوبين على أدناهما وَإِمَّا أَن يحصل لَهُ علم مَا يَتَرَتَّب على إِيثَار هَذِه الشَّهَوَات من المخاوف والآلام الَّتِي ألمها أَشد من ألم فَوَات هَذِه الشَّهَوَات وَأبقى فَإِذا تمكن من قلبه هَذَانِ العلمان أنتجا لَهُ إِيثَار مَا يَنْبَغِي إيثاره وتقديمه على مَا سواهُ فَإِن خاصية الْعقل إِيثَار أَعلَى المحبوبين على أدناهما وَاحْتِمَال أدنى المكروهين ليتخلص بِهِ من أعلاهما
وَبِهَذَا الأَصْل تعرف عقول النَّاس وتميز بَين الْعَاقِل وَغَيره وَيظْهر تفاوتهم فِي الْعُقُول»
- إذا الحاصل أن هذه الأصول المنهجية كلها يجب أن يعرفها طالب العلم ويعتني بها قبل بدئه في طلب العلم لأنها تبين له الشيء النافع وطريقه وكيفية سلوكه، وتبين له الشيء الضار وطريقه وكيفية اجتنابه، ثم تعينك على تقديم خير الخيرين وتقديم أعلى المحبوبين واحتمال أخف الضررين وهكذا.
الأصل الأول: شروط تحصيل العلم:
* طالب العلم في بدايته شرطه:
١ - الاستماع والقبول.
٢ - ثم التصور والفهم.
٣ - ثم التعليل والاستدلال.
٤ - ثم العمل والنشر.
- هذه الشروط منها ما هو مكتسب، يعني لابد أن تحصله ومنها شروط جبلية خلقها الله عندك، المطلوب منك أن تعتني بها وتزيدها وتحافظ عليها.
-
الاستماع والقبول: أن تستمع العلم وتقبله. ولا تستمع وتعترض، ولا تغفل فلا تستمع. فلا بد من الاستماع، وهذا يذكر عن سفيان بن عيينة وسفيان الثوري ومالك وغيره.
- «قال سمعت ابن عيينة يقول: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات ثم الحفظ ثم العمل، ثم النشر.» (الحلية - 7/ 274)
- «سمعت سفيان الثوري يقول: كان يقال أول العلم الصمت، والثاني الاستماع له وحفظه، والثالث العمل به، والرابع نشره وتعليمه.» (الحلية 6/ 362)
- ولابد من الاستماع مع القبول حتى لو لم تفهمه، حتى لو استشكلته، كما تقدم: “لابد في كل العلوم من مصادرات يأخذها الطالب ابتداء إلى أن تتبرهن له فيما بعد. وهذا حقيقة التدرج”.
-
التصور والفهم: التصور بمعنى الفهم، لكن عند بعض العلماء الفهم والتطبيق على أرض الواقع يسمى التصوير. ولاحظ الشرط الأول يحقق لك الشرط الثاني. فإن استمعت وقبلت سهل عليك الفهم. وإن صعب عليك الفهم ارجع إلى القاعدة العاشرة تيسير العلم وانظر إلى الأسباب وعالجها. هكذا الطالب.
-
التعليل والاستدلال، وهذه تتطلب منك مقدمات، أن تعرف ما معنى الدليل وهكذا.
-
العمل والنشر.
- وهذه الشروط مصاحبة للطالب على طول الطريق في طلب العلم وليست شروطا في البداية فقط.
* ومتى قدم رتبة عن محلّها حُرم الوصول لحقيقة العلم من وجهها:
- فعالم بغير تحصيل: ضُحكة،
- ومُحصل دون تقوى: لا عبرة به،
- وصورة لا يصحبها الفهم: لا يفيدها غيره،
- وما لم يُنتج: فهو عقيم.
* والمذاكرة حياة العلم؛ لكن بشرط: الإنصاف والتواضع، وهو قبول الحق بحسن الخلق.
-
هذه الشروط يلزم أن تكون بالترتيب فإذا خلطت حرم الطالب الوصول لحقيقة العلم من وجهها.
-
فعالم بغير تحصيل: ضحكة يضحك عليك الناس، يضحك عليك طلاب العلم تحسرا وشفقة عليك. عالم بغير تحصيل، يعني لم يسمع وبالتالي لم يقبل، ويزعم أنه عالم.
-
وصورة لا يصحبها الفهم، يعني معلومة بدون فهم، فقط حفظتها وكتبتها في الدرس ورميتها في الكتاب، لا يفيدها غيره.
-
وما لم ينتج، يعني التعليل والاستدلال والعمل والنشر، فهو عقيم.
-
المذاكرة حياة العلم. يعني أن تذاكر بينك وبين نفسك أو مع زملائك. لكن بشرط، وهذا الشرط مكون من جزئين: الإنصاف والتواضع.
- وحقيقته: قبول الحق بحسن الخلق، لأنه بالإنصاف تستطيع أن تقبل التصحيح والتخطئة من أي شخص كنت تذاكر معه. وبالتواضع تستطيع أن تتعبد لله عز وجل وتتراجع عن غلطك، أو أن تزيد معلومة زادها لك غيرك. وبدونهما لن تستطيع فعل شيء.
* ويشترط لتحصيل العلم والانتفاع به عشرة أمور:
الأول: العَقْلُ الذي يُدْرِكُ به حقائق الأمور.
والثاني: الفطنة التي يَتَصَوَّرُ بها غوامض العلوم.
والثالث: الذكاء الذي يَسْتَقِرُّ به حِفْظُ مَا تَصَوَّرَه وفَهُمُ ما عَلِمَه.
والرابع: الشهوة التي يَدُومُ بها الطلب ولا يُسْرِعُ إليه الملل.
والخامس: الاكتفاء بمادةٍ تُغْنِيهِ عن كُلَفِ الطَّلبِ.
والسادس: الفراغ الذي يكون معه التوَفِّرُ ويَحصُلُ به الاستكثار.
والسابع: عدم القواطع المذهلة من هموم وأمراض.
والثامن: طُولُ العُمرِ واتّساع المدّة؛ لينتهي بالاستكثار إلى مراتب الكمال.
والتاسع: الظَّفَرُ بعالم سَمْحٍ بِعِلْمِهِ مُتَأَةٌ فِي تَعْليمه.
والعاشر: تهيئة القلب لقبوله بالعبادة؛ ليكون رقيقا لينا فيقبل العلم بسهولة ويسر ويرسخ فيه ويؤثر.
-
ليس العقل الذي هو ضد الجنون بل العقل الذي يدرك به حقائق الأمور.
-
الفطنة التي يَتَصَوَّرُ بها غوامض العلوم. نوع من التدقيق في الفهم، التي يتصور بها غوامض العلوم، ليس مجرد الفهم، بل فهم دقيق وعميق، وهذا يأتي بالاستمرار في طلب العلم.
-
ليس الذكاء الذي هو ضد الغباء. ليس في العلم مانع يسمى الغباء. مهما كنت غبيا ستحصل العلم، لأن الذكاء من شروط تحصيل العلم وهو مكتسب. مهما خلقك الله غبيا تستطيع أن تكون ذكيا.
- ضابط الذكاء المقصود في شروط تحصيل العلم والانتفاع به: الذي يستقر به ما حفظته من العلم، ويستقر به وتستطيع به أن تفهم ما تعلمته، وهذا يزيد بكثرة التكرار والمداومة والاستمرار.
-
ليست شهوة البطن والفرج، بل الشهوة التي يدوم بها، يعني تعينك على المداومة والاستمرار في الطلب، ولا يسرع إليه الملل، كما نسميها النهمة، وشدة الرغبة والحرص. وهذه تأتي كل ما تفتح ذهنك في العلم، جاءتك الرغبة والزيادة.
-
المقصود بالمادة يعني لقمة العيش، تغنيه عن كلف الطلب، يعني ما يسد رمقك. وليس المقصود أن تكون غنيا ثريا، بل أغلب العلماء فقراء وإن كان منهم الأغنياء.
- إذا فهمت هذا الشرط تستطيع أن تفهم ما أخرجه الخطيب البغدادي في (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 179)، أن سفيان الثوري رحمه الله كان إذا جاءه طالب يريد أن يدرس عنده، سأله أولا: هل لك مادة تكفي بها نفسك؟ أو هناك من يعينك؟ هناك أبوك يصرف عليك أو أخوك ونحو ذلك؟ فإن قال لا، أمره أن يحصل عملا يسد به رمقه، ثم يأتي إلى العلم.
- وقد حصل خلل في هذا الشرط بالذات بسبب نوعين من الناس: بعض أهل البدع وبعض الجهال من أهل السنة.
- بعض أهل البدع كالصوفية مثلا، وجهلهم وضلالاتهم في الفقر والزهد وعدم سؤال الناس والقناعة، فاضطر أهل السنة أن يردوا عليهم ويصلحوا خللهم، أو يصلحوا ما أفسدوه.
- والصنف الثاني من هو جاهل من أهل السنة، من الذين تقحموا هذه المسائل ولم يستطيعوا ضبطها، فهؤلاء اضطر أهل السنة إلى إعادة تأصيل مثل هذا الشرط وتكلموا وألفوا كتبا في ضبط مسائل الدنيا ومسائل لقمة العيش ومسائل العمل. فألف مثلا الإمام أبو بكر الخلال متوفى عام ثلاث مئة وإحدى عشر تقريبا، كتابا سماه ”= الحث على التجارة والصناعة والعمل والإنكار على من يدعي التوكل في ترك العمل، والحجة عليهم في ذلك”. وألف الإمام ابن أبي الدنيا أيضا المشهور الزاهد المعروف السلفي المتوفى مئتين وثمانين تقريبا كتابا سماه ”= إصلاح المال”، وكتاب آخر سماه ”= النفقة على العيال”. بل وذكر العلماء هذه الأمور في كتب الزهد.
-
يعني التفرغ، الذي يكون معه التوفر في الوقت، ويحصل به الاستكثار من العلم. هل تستطيع أن تفرغ لنفسك عشر دقائق ربع ساعة، ليس في اليوم، أقول في الأسبوع؟ وأنا أقسم لك ثلاثا غير حانث أنك تستطيع أن تتخرج طالب علم بمعنى الكلمة. ولا يلزم أن تكون لابسا لعمامتك وجالسا في مسجدك، لا، حتى في مكان شغلك، في سوقك، في عيادتك، في صيدليتك، في خضرواتك، تستطيع أن تطلب العلم.
-
المقصود أنه إذا أصابتك الهموم أو الأمراض أن لا تنقطع، ولا يعني لا تكون قاطعة لك عن العلم. ولو أن تقلل المقدار فلا حرج. لذلك نسمع قصصا للسلف أن فلانا كان في مرض موته سمع الحديث الفلاني، وفلان في مرض موته قال اقرأوا علي الكتاب الفلاني، وهكذا.
-
المقصود أن تداوم وتستمر على طلب العلم، لينتهي بالاستكثار أي من العلم إلى مراتب الكمال. كما تقدم معنا: مع المحبرة إلى المقبرة، ولعل الكلمة التي تنفعني لم أكتبها إلى الآن، إلى آخره.
-
يعني الذي شرحناه في قاعدة الشيخ، تلك الصفات إذا وجدتها فهذا الشيخ الذي يكون ومن ضمن شروط العلم.
-
نص عليه ابن تيمية رحمه الله، قال: تهيئة القلب لقبوله أي لقبول العلم بالعبادة، أي يهيأ القلب بالعبادات، العبادات سواء كانت قولية كالذكر والتسبيح والتلاوة، أو فعلية كالصيام والحج والزكاة والصلاة وغيرها، أو حتى قلبية كالتفكر والخشية إلى آخره.
- ليكون أي القلب رقيقا لينا. إذا كان القلب رقيقا لينا، هذه الرقة وهذه الليونة تعينه على قبول العلم بسهولة.
- العلاج: لينه ورققه بالعبادة، ليسهل عليك الفهم والحفظ ويرسخ فيه ويؤثر.
- ومن هنا نفهم الآثار التي نقرأها في كتب السلف، أن مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا صعبت عليه الآية سبح ألف تسبيحة وفي رواية مئة تسبيحة وأكثر السجود والتلاوة إلى آخره حتى يفتح الله عليه. ونفهم لماذا يذكر العلماء في كتب آداب طالب العلم أن يستكثر من تلاوة القرآن ومن الصلاة ومن التسبيح ومن كذا وكذا، بهذا الشرط.
- تنبيه: إذا عبث أهل البدع باستدلالهم بدليل ما، لا يعني أن كل استدلالهم باطل. فتأن ولا تستعجل.
- مثلا في هذا الشرط: قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. هذه الآية كثر عبث الصوفية بها، واستدلوا بها على أمر باطل واضح أن التقوى تكفي، وذموا بها طلب العلم. وقالوا مجرد التقوى والجلوس في حضرة شيخك وتكون مريدا له، يسبب لك حصول العلم، وهذا باطل بلا شك. وجاء بعض السلفيين وأبطل الاستدلال بالآية، قال لا علاقة لهذه الآية أبدا. بل الآية لها علاقة بالعلم، بهذا الشرط: اتقوا الله ويعلمكم الله. فعلاقتها شرط بمشروط أو سبب بمسبب. نعم قد يوجد العلم ولا توجد التقوى، وقد توجد التقوى ولا يوجد العلم، لكن نحن نتكلم عن طالب العلم الذي يريد تحصيل العلم والانتفاع به، يريد أن يستعمل هذه التقوى والعبادات لترقيق قلبه لتعينه على سهولة قبول العلم. هكذا ذكر ابن تيمية رحمه الله.
الأصل الثاني: أنواع الكتب:
- من حيث الموضوع: متون، وشروح.
- من حيث الحجم: مختصرات، ومتوسطات، ومطولات.
- من حيث البناء العِلْمي: كتب تأصيلية (أساسية)، وكتب تكميلية (فرعية).
- من حيث طريقة التأليف: نثر، ونظم.
- طالب العلم من أهم أدواته الكتب. والذي يهم طالب العلم في البداية أن يعرف أنواعها، ليحسن كيفية التعامل معها، سواء يريد أن يشتريها أو يستعيرها، وأنواع الكتب أربع أنواع:
من حيث الموضوع: متون، وشروح.
- هناك نوعان: متون وشروح.
- وباختصار المتون هو الكتاب الذي يحتاج إلى شرح. فمثلا الأربعون النووية هذا متن
- والشروح هي تلك الكتب التي تشرح تلك المتون. وجامع العلوم والحكم لابن رجب شرح للأربعين النووية.
- مثلا كتاب شرح الأصفهانية لابن تيمية رحمه الله، هل هذا متن أو شرح؟ إياك أن تستعجل وتقول واضح شرح الأصفهانية، إذا هو شرح. هذا الذي يفسد العلم. ليس في العلم شيء اسمه واضح، شرح الأصفهانية هو متن وليس شرحا. بداخله شرح لبعض مواضع من متن أشعري، وهذا الذي غلب عليه الشهرة من حيث الشهرة فسمي شرح الأصفهانية.
- كتاب شرح حديث جبريل المشهور لابن تيمية. هل هذا متن أو شرح؟ لا تستعجل مرة أخرى. هذا متن ليس شرحا. هو كتاب الإيمان الأوسط، يتكلم عن الإيمان ومنزلة العمل منه والرد على المرجئة والجهمية إلى آخره. نعم شرح شيئا من حديث جبريل المشهور في الإيمان والإسلام والإحسان.
من حيث الحجم: مختصرات، ومتوسطات، ومطولات.
- قد يسمى الكتاب مختصرا ولا يكون مختصرا بالنسبة لزمانك أو مكانك أو مستواك العلمي.
- ومن أشهر الأمثلة مثلا عندنا في الفقه المالكي: = مختصر خليل. تسمع كلمة مختصر وهو آخر كتاب يقرأه المتفقه في السلم المالكي، بل كتاب معد أصلا للطالب الذي تأهل للقضاء والإفتاء. و سمي مختصرا لأنه ألف في ضمن سلسلة اختصارات، فهو مختصر من مختصر لمختصر لمختصر للمدونة. - مثلا = ألفية ابن مالك هي في الحقيقة مختصر، بل هي خلاصة لمطول وهي الكافية في ثلاث آلاف بيت. في ذلك الزمان كانت هي المختصر الذي يبدأ به الطالب واليوم عندنا مطول، وقد يكون الطالب مثلا نابغا في النحو فيكون مثلا متن = قطر الندى لابن هشام مختصرا بالنسبة له وهو في الحقيقة متوسط.
من حيث البناء العِلْمي: كتب تأصيلية (أساسية)، وكتب تكميلية (فرعية).
- هناك كتب تأصيلية أساسية، يعني الكتب التي وضعها العلماء ليتدرج بها الطالب إلى غيرها، إلى ما فوقها، ويتخرج بها ويبدأ بها.
- والنوع الثاني كتب تكميلية فرعية، يعني جعلت لتكميل وضبط ما درس في الكتب التأصيلية.
- تنبيه: قد يكون الكتاب في حال ما تأصيليا ومقارنة بغيره في حال أخرى تكميليا.
- مثال: كتاب = الأربعون النووية، هذا كتاب تأصيلي، مقارنة ب= بلوغ المرام مثلا، بلوغ المرام فرعي. فمن بدأ بالبلوغ قبل الأربعين حصل خلل في بنائه العلمي، ومثال آخر: بلوغ المرام نفسه مقارنة بصحيح البخاري. الآن يصير بلوغ المرام كتابا تأصيليا، وصحيح البخاري متنا تكميليا. وهكذا فقس.
- هناك كتبا ليست تأصيلية وليست تكميلية، إنما هي عوان بين ذلك. ولكن أبى الله عز وجل إلا أن تكون من الكتب التأصيلية، لعدة أسباب:
- منها أن هذه الكتب لا يوجد ما يقوم مقامها ويسد ما تسده من الفراغ.
- أن هذه المؤلفات بسبب حسن تأليفها وجودة ترتيبها وصياغتها صارت بمنزلة الكتب التأصيلية.
- ومن أشهر الأمثلة على ذلك كتب ابن تيمية رحمه الله:
- ك= العقيدة الواسطية، فهي في أصلها ليست من المتون التأصيلية ولا من المتون التكميلية، ولكنها جواب على سؤال، لكن لم يوجد ما يسد مسدها في هذا الجانب من العقيدة فصارت متنا تأصيليا في هذا الباب.
- وأيضا كتبه الأخرى: = الفتوى الحموية الكبرى و= القاعدة التدمرية.
- وأيضا = مقدمة في أصول التفسير كذلك.
- ومن الكتب أيضا ما نشرحه نحن في المستوى الأول: كتاب = الجامع في الآداب. وهذا في الحقيقة باب مستل من كتاب القوانين الفقهية في مذهب المالكية لابن جزي المالكي الغرناطي. لكن لحسن صياغته وجودة ترتيبه وعدم وجود ما يسد مكانه في هذا العلم بالذات، جعل متنا تأصيليا.
من حيث طريقة التأليف: نثر، ونظم.
للعلماء طريقتان:
-
نثر، يعني كلام إنشائي كما هو في المدخل هنا.
-
ونظم، وهو الكلام الشعري يعني شعر. ونظم العلماء العلوم لتسهيل حفظها واختصار الوقت في دراستها.
-
مثلا = ألفية العراقي في علوم الحديث هي نظم لكتاب علوم الحديث لابن الصلاح المسمى ب= مقدمة ابن الصلاح. فمثلا بدلا أن يحفظ الطالب ويدرس ثلاث مئة صفحة أو مئتين صفحة تقريبا، يحفظ ويدرس ألف بيت، ربما تقع في خمسين صفحة أو أقل.
-
وأحيانا قد يكون المتن نثرا تسهيلا، وقد يكون مستقلا، وأحيانا قد يكون النظم أكثر من النثر. مثلا = الآجرومية مثلا في نسختنا في المعهد ست أو سبع صفحات. و= نظم الآجرومية للعمريطي مئتان وزيادة بيتا. قد يقول الطالب ما هذه الزيادات لا أريدها. وقس على هذا.
الأصل الثالث: كيفية قراءة الكتب وتلخيصها:
١ - التلخيص نوع من الفهم والحفظ.
٢ - التلخيص مبني على معرفة كيفية تدوين الفوائد؛ وله طريقتان: داخل الكتاب، وخارجه.
٣- للاستفادة من الكتاب لابد من استعراضه ثلاث مرات:
(۱) جردٌ سريع لمعرفة الموضوعات الرئيسة.
(۲) جردٌ لفهرسة فوائده عموما.
(۳) قراءة متأنية لتدوين الفوائد.
٤ - اعتماد أصل وجمع زوائد الفوائد عليه.
ه - الحرص على التعريفات والأحكام والأصول والقواعد والضوابط والفروق والتقاسيم والأنواع.
عندنا خمسة ضوابط
الضابط الأول: التلخيص نوع من الفهم والحفظ
- تلخيص الكتب بأي شكل كان، سواء للكتاب كاملا أو لجزء منه في كراسة خاصة أو في نفس الكتاب سميته تلخيصا لكتاب ما أو اخترعت تأليفا على ضوء كتاب ما، أيا كان، هو نوع من الفهم والحفظ.
- وهذا يترتب عليه أمر مهم: أن طالب العلم منذ البداية ينبغي أن يعود يده على الكتابة. ومن أعظم ذلك تلخيص الكتب والشروح ونحوها، لأنك تكسب بذلك الفهم والحفظ. وما صنعته بيدك لا يمكن أن تكتبه بدون أن تفهم. وإذا صنعته بيدك قطعا ستكون حافظا له، إن لم تكن حافظا له بنسبة مئة بالمئة، ستكون حافظا له بنسبة كبيرة.
الضابط الثاني: كيفية تدوين الفوائد
-
التلخيص مبني على معرفة كيفية تدوين الفوائد؛ وله طريقتان: داخل الكتاب، وخارجه.
-
التلخيص والاستفادة من الكتب واستخراج الفوائد منها، أي كتاب كان، يعتمد على أمر واحد، وهو كيفية تدوين الفوائد.
-
من الطلاب من يظن أن تدوين الفوائد هو مجرد أن تنظر لفائدة ثم تكتبها على جانب الكتاب أو على طرته يعني في بدايته أو على خاتمته أو على غلافه أو على قصاصة أو نحو ذلك، لكن لابد أن تعرف أن كيفية التدوين للعلماء لها طريقتان، ثم في داخل هذه الطريقتين افعل ما شئت.
- الطريقة الأولى: أن تدون الفوائد في داخل الكتاب. سواء دونتها على هوامش الكتاب وأطراف الصفحة، أو في صفحة خالية في بداية الكتاب أو في آخره، أو تعلق صفحات أو قصاصات على نفس الصفحات، أو تعلم عليها بأن تضع تحت الفائدة خطا أو تلونها.
- والطريقة الثانية: خارج الكتاب. ونعني بخارج الكتاب أي في كتاب مستقل أو في كراسة أخرى أو في قصاصات ورقية، المهم أن تكون خارجة من الكتاب مستقلة عنه.
- ولا يلزم أن تختار طريقة واحدة، بل يجوز أن تختار كلتا الطريقتين.
الضابط الثالث: استعراض الكتاب ثلاث مرات
للاستفادة من الكتاب لابد من استعراضه ثلاث مرات:
- إن عرفت هذا ستعشق قراءة الكتب، ستكون آلة لالتهام الكتب، لن يقع كتاب في يدك إلا وتضعه وقد جردته من أوله إلى آخره.
- ومن هنا يأتي اللغز عند بعض العلماء من باب الملاطفة يقولون: كيف تقرأ كتابا في ساعة واحدة؟ نعم هذا صحيح إذا عرفت هذه الطريقة.
-
المرة الأولى: جرد سريع، يعني قراءة سريعة. والغرض منها معرفة الموضوعات الرئيسة، الموضوعات الكبرى، الموضوعات الأساسية.
- هنا تستفيد فوائد كثيرة، منها أن تعرف هل هذا الكتاب سيخدمك فيما تريد البحث عنه من مسائل أم لا؟ هل هذا الكتاب مهم، تعجل بقراءته قبل غيره؟ أو أن الكتاب يمكن أن يؤخر؟ هل هذا الكتاب يحتاج إلى قراءة المرة الثانية والثالثة أم نكتفي بالمرة الأولى؟ من الكتب ما لا يحتاج، خلاص تصفحته جردة سريعة وعرفت الموضوعات الرئيسية ووجدت أنها ربما لا تفيدك شيئا أو لا تزيدك شيئا وهكذا. يعني تتسلى به في أوقات الملل والفراغ.
-
الجرد الثاني: لفهرسة فوائده عموما، الآن ستحاول أن تطالع رؤوس الأسطر، تقرأ أغلب الصفحات وليس تقرأها كلها قراءة كلمة كلمة، فقط تطالع رأس السطر وتنظر إلى نهايته وهكذا، و الغرض من هذه المرة أنك أولا تعرف الموضوعات الرئيسة، فتدون الفائدة بأسلوبك. إما أن تنقل الفائدة كاملة سواء كانت اخترت الطريقة في داخل الكتاب أو في خارجه، أو أن تشير إليها إشارة.
-
الجرد الثالث: قراءة متأنية لتدوين الفوائد، ستكون قراءتك في المرة الثالثة سريعة جدا، كأنك مررت على الكتاب للمرة الثالثة. وأنت تعلم أنه في هذه الصفحات تكلم عن كذا وكذا وكذا. وأنت تعلم أن السطر الفلاني قرأته جله في المرة الأولى والثانية. فستكون قراءتك سريعة. وستدون الفوائد بعد أن فهرستها، وستدون وربما تقف على فوائد أعظم. وإذا انتهيت من الكتاب تكون قد امتصصته امتصاصا شديدا، لن تدع فيه فائدة إلا وضعتها.
- فائدة: ليس الهدف من قراءة الكتاب فهمه فقط، فهم الكتاب هو أحد أهداف قراءته، فهناك أهداف أخرى، أنت مثلا لست مؤهلا لقراءة كتاب مثلا درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، باعتبار أنك طالب مبتدئ والكتاب يحتاج إلى علوم أخرى لم تدرسها بعد. لكن لابد أن أقرأه على الأقل لأفعل وأؤدي هذا الأمر، هذا الواجب. استعرضته استعراضا سريعا، صنفت موضوعاته الرئيسة، عشرة خمسة عشر موضوعا. جردته جردا سريعا وفهرست فوائده. وجدت ربما فوائد متعلقة بطلب العلم، هذه تنفعني، وهذه سأفهمها لأنني أنا المؤهل لها لذلك لا تظن أن الكتاب فقط الفائدة من قراءة الكتاب هو فهمه، يعني أنك ستقرأ كتبا لن تحتاج إلى فهمها، بل وليس هدفك من قراءتها أن تفهمها.
الضابط الرابع: اعتماد أصل وجمع زوائد الفوائد عليه
-
لابد لطالب العلم من اعتماد أصل في كل فن. وهذا الكتاب يكون هو الأصل المعتمد عندك، ترجع إليه ويكون هو عمدتك وخادمك وتصحبه إلى الممات، فتكرر قراءته وتفهرس فوائده وتدونها. وأيضا تجمع زوائد الفوائد عليه.
-
اختر واحدا من الشروح يكون أصلا معتمدا، مثلا اخترت كتاب ابن رجب جامع العلوم والحكم، هذا الكتاب سيكون هو العمدة الذي أموت عليه في شرح الأربعين النووية، ومراجعتي للأربعين النووية ستكون من هذا الكتاب، أعود عليه وأروح وأغدو إلى الممات. اذا وجدت فوائد زائدة في الحديث الفلاني ليست موجودة في جامع العلوم والحكم، مثلا وجدتها في شرح ابن عثيمين. اقتنص تلك الفائدة وآتي بها في موضعها المناسب.
-
مثلا كنت تقرأ في كتاب إغاثة اللهفان لابن القيم، وجدت فائدة متعلقة بحديث “الدين النصيحة”، مباشرة ذهنك قد برمج، ستأتي وتقتنصها وتضعها في موضعها المناسب بحسب طريقتك، إما داخل الكتاب أو خارجه أو هكذا.
-
«حدثنا أَبُو خَيْثَمَةَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: «إِنَّ لَنَا كُتُبًا نَتَعَاهَدُهَا» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 14)
الضابط الخامس: الحرص على التعريفات والأحكام والأصول والقواعد والضوابط والفروق والتقاسيم والأنواع
يعني أثناء قراءتك لأي كتاب كان. تحرص على أمور كثيرة، منها:
- التعريفات، فإن نص المؤلف على تعريف ما، انتبه إليه.
- وأيضا الأحكام، إذا نص على حكم ما: هذا حرام، هذا حلال، هذا مستحب، هذا كفر، اقتنص هذه الأحكام.
- ومنها الأصول، الأصول عموما: وأصل هذه المسألة كذا وكذا، وهذه المسألة مبنية على أصول، والأصل فيها… احرص عليها.
- والقواعد، سواء صرح بلفظ القاعدة أم لا، كان يقول: والقاعدة كذا وكذا، وهذه قاعدة مهمة، وهذه… أو قال: والمسألة مبنية على كذا، مبنية يعني هذه قاعدة.
- وأيضا الضوابط، سواء صرح بلفظ الضوابط أو صرح بلفظ الضبط وهكذا.
- وأيضا الفروق: والفرق بين هذه المسألة وتلك، وهنا ويفرق بينهما بكذا وكذا، وقد فرق بعضهم… هذه الفروق مهمة بل هي علم مستقل.
- والتقاسيم، صرح بالتقسيم أو لم يصرح: وهذه المسألة لها ثلاثة أقسام، وهذه مسألة على ضربين…
- وأيضا الأنواع، سواء صرح بلفظ النوع أو التنويع أو لم يصرح: هذا نوع آخر، وهنا أنواع، هنا نوعان، وهناك ثلاث أنواع، وهي ضربان، وهي على حالتين.
الأصل الرابع: في دراسة المتون:
* إحكام فهمها:
١ - لا ينبغي لمن يقرأ متنا أن يَتَصَوَّر أنه يريد قراءته مرةً ثانية.
٢- كل متنِ يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة؛ فَحَقِّق مسائل ما دُونه لِتُوَفِّر جهدك على فهم الزيادة. ذكر ذلك ابن بدران.
٣- الحد الي تعرف به أنك ضبطت المتن هو ما استيقنته وتبيَّنته. ذكره ابن عبد البر في الجامع.
-
أولها: في كل متن تدرسه، تخيل أنك لن ترى هذا المتن مرة أخرى. إذا عملت بهذا الاعتقاد ووضعته في ذهنك، اعلم أنك ستضبط الكتاب ضبطا قويا. فإذا تيسر لك الرجوع إليه مرة أخرى لا بأس، ولا تنسى أن التكرار أصلا من قواعد العلم، لكن نحن نقول هذا أثناء دراستك للمتن الفلاني، لا تظن أنك ستقرأه مرة أخرى، لأنك إذا اعتقدت هذا كسلت، أعطيت مخك وعقلك إشارة خفية أنك مهما فاتك، لا بأس، لأنك ستدرسه مرة أخرى.
-
الثاني: كل متن يشتمل على مسائل ما دونه وزيادة. مثلا الآجرومية في النحو وقطر الندى في النحو أيضا نفس المسائل، لكن في متن قطر الندى وهو متوسط، نفس مسائل الآجرومية بزيادات، فحقق مسائل ما دونه، يعني المتن الأصغر المختصر، لتوفر جهدك على فهم الزيادات.
- فإذا ضبطت المتن المختصر من البداية، يسهل عليك ما سيأتي في المتن المتوسط.
- هذه الأمور ذكرها ابن بدران في = المدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل، وهو من متأخري الحنابلة.
-
الثالث: الحد الذي تعرف به أنك ضبطت المتن، ذكر الخطيب البغدادي وابن عبد البر وغيرهم قالوا: هو ما استيقنته وتبينته يعني بالفهم والدراية.
- بعبارة اليوم: أغلق المتن واشرح لنفسك أو لغيرك، إن كنت تذاكر بنفسك أو بغيرك.
- لا يلزم أن يكون بنسبة مئة بالمئة لأنك مبتدئ، وتحتاج التكرار. وحينئذ أعطيك شهورا وستكون ضابطا للعلوم.
* محاذير:
١ - لا تتقن أولا إلا متنا واحدا في فنّ واحد، فإن كنت تحتمل أكثر من ذلك فلا بأس أن تتقن متونا في فنون متعددة لكن على طريقة يرتضيها لك شيخك.
٢ - احذر في ابتداء الطلب من المطالعات في تفاريق المصنفات.
٣- احذر من التنقل من متن إلى متن أو من شيخ إلى شيخ، من غير موجب.
أولها: لا تتقن أولا إلا متنا واحدا في فن واحد. هذا هو الأصل الغالب الذي مشى عليه العلماء.
وإن ترد تحصيل متن تممه … وعن سواه قبل الانتهاء مه.
“مه” يعني كف وإياك. هذا هو الأصل. ولا عبرة بالحالات الاستثنائية، فإن كنت تحتمل أكثر من ذلك، فلا بأس أن تتقن متونا متعددة يعني في وقت واحد: العصر النحو، والمغرب الفقه، والعشاء الحديث. هذه الطريقة عقيمة، لكن بعض الناس قد يتيسر له.
الثاني: احذر في ابتداء الطلب من المطالعة في تفاريق المصنفات.
لا تطالع إلا المتن الذي بين يديك. اعطه كُليتك. إلا في حالات استثنائية، كان يأمرك شيخك مثلا أن تحقق المسألة الفلانية من الشروحات، حينئذ انطلق. حينئذ ستكسل وسيأتيك الشيطان بالعكس. والله المستعان.
الثالث: احذر من التنقل من متن إلى متن أو من شيخ إلى شيخ من غير موجب. يعني من غير شيء يوجب عليك الانتقال، مات الشيخ الأول، هذا موجب، انتقل. ضاع المتن الفلاني، ضاع التسجيل، ضاع المعهد، أو وجدتني بدأت بداية خاطئة، لا بأس أن تنتقل وتصحح بدايتك. لكن بدون سبب هكذا، هذا من العبث.
الأصل الخامس: كيفية الاستفادة من الدروس والدورات العلمية:
* ركائز حضور الدروس ثلاثة:
۱ - حسن الاختيار؛ وذلك بحسب مستواك، والمتن، والوقت، والشيخ.
٢- لابد من معرفة مهارات الكتابة أثناء الدرس.
٣- لابد من المذاكرة؛ مع نفسك، أو غيرك، قَبْلَ الدرس وبعده.
سواء كان حضورا حقيقيا حسيا أو حضورا معنويا حكميا كما هو الحال عن بعد، أو الدروس مسجلة أو مباشرة.
حسن الاختيار، يكون بأربعة أمور:
-
مستواك العلمي. هل أنت مبتدئ أم متوسط أم متقدم، إذا كنت مبتدئا فإياك أن تختار إلا المختصرات، مثلا الشيخ ابن باز رحمه الله يشرح صحيح البخاري، وفي نفس الوقت درس من الشيخ فلان يشرح الأربعين النووية، أيهما تختار؟ اختر الأربعين النووية ولا تفكر، لأنك مبتدئ.
-
المتن، ربما يكون المتن ليس لك. مثلا المتن الذي يدرس مثلا شرح ابن عاشر في الفقه، وأنت مثلا في الفقه لا تعرف شيئا، ربما لا يكون مناسبا لك، وربما يكون مناسبا. أعرفه بالشيخ. الشيخ الذي سيشرحه، هل طريقته تراعي الطالب المبتدئ؟ أم أنه يفصل ويوسع؟ شيخ آخر يشرح متن الأخضري أو العشماوي، اذهب إليه. وهكذا.
-
الزمن الذي أنت فيه، ربما لا يكون زمنك مناسبا للدرس الفلاني، ولو كان الدرس مناسبا لمستواك والمتن من المختصرات والشيخ يعرف يربي الطالب المبتدئ، لكن وقتك لا يسمح. إذا انتقل إلى شيخ يناسب وقتك.
-
الرابع: الشيخ وتقدم الكلام حول الشيوخ سابقا.
لابد من معرفة مهارات الكتابة أثناء الدرس.
-
«عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: يُجَالِسُ الْعُلَمَاءَ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ يَسْمَعُ وَلَا يَكْتُبُ وَلَا يَحْفَظُ فَذَاكَ لَا شَيْءَ، وَرَجُلٌ يَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ سَمِعَهُ فَذَلِكَ الْحَاطِبُ، وَرَجُلٌ يَسْمَعُ الْعِلْمَ فَيَتَخَيَّرُهُ وَيَكْتُبُ فَذَاكَ الْعَالِمُ» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 155)
- الأول: رجل يسمع ولا يكتب ولا يحفظ، فذاك لا شيء. هذا قد يسمى جليس العالم فقط.
- والثاني: رجل يكتب كل شيء يسمعه، ويأتي واحد ويقول لابد من الكتابة، كل شيء. العلم صيد والكتابة قيده، هذا عند السلف قالوا: فذلك الحاطب. الحاطب أو حاطب الليل، هذا مثلا يقال لمن يجمع بدون وعي وبدون فهم. وشبهوه بحاطب الليل، لا تكتب كل شيء، هذا ضياع للوقت.
- الثالث: هو المقصود. قال: ورجل يسمع العلم فيتخيره ويكتبه، ذاك العالم. يعني هذا الذي سيصبح عالما.
-
قال الخطيب البغدادي: إذا كان المحدث مكثرا وفي الرواية متعسرا، فينبغي للطالب أن ينتقي حديثه وينتخبه.
لابد من المذاكرة؛ مع نفسك، أو غيرك، قَبْلَ الدرس وبعده.
تقدم معنا أن المذاكرة حياة العلم، وهي شرط من شروطه. سواء مع نفسك أو مع غيرك. فقبل الدرس، ما يسمى بالتحضير، وبعد الدرس لكي تنظر ماذا قال الشارح وما الذي فاتك إلخ.
-
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي حَدِيثًا فَتَذَاكَرُوهُ بَيْنَكُمْ» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 237)
-
«عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: “كُنَّا نَكُونُ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَيُحَدِّثُنَا، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ تَذَاكَرْنَا حَدِيثَهُ، قَالَ: فَكَانَ أَبُو الزُّبَيْرِ أَحْفَظَنَا لِلْحَدِيثِ» (= الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - 2/ 237)
* أهداف حضور الدرس المهمة خمسة:
١ - التأصيل؛ بمعرفة أصول العلم وتكوين قاعدة أساسية في شتى العلوم.
٢- إتقان المقدمات.
٣- معرفة العلاقة بين العلوم.
٤ - معالجة الأغلاط المنهجية في طلب العلم.
٥- الترقي من مرحلة الاستماع المجَرَّد إلى مرحلة التدقيق والتحرير والنقد.
-
التأصيل العلمي: بمعرفة أصول ذلك العلم، ولكي تكون قاعدة أساسية في ذلك العلم، تكون لك منطلقا وأرضية تقف عليها لتتوسع فيه، لتتخصص فيه إلى آخره.
-
إتقان المقدمات:
- يقول بعض العلماء: كل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ومبانيه، فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه.
- وقال بعضهم: ينبغي أن يذكر في ابتداء كل علم حقيقة العلم ليتصورها، أي يفهمها، الذي يريد الاشتغال به قبل الخوض فيه. فمن عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.
- وقال بعضهم: حق على كل من حاول تحصيل علم من العلوم أن يتصور معناه أولا ليكون على بصيرة فيما يطلب.
- هذه المقدمات اليوم للأسف صرنا نتجاوزها. وقد اعتنى السلف كثيرا بأمر المقدمات وتجد بعض مقدمات الكتب صارت كتبا. = مقدمة صحيح مسلم، صارت كتابا يشرح، متنا يشرح. = مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، صارت كتابا يشرح. = مقدمة الكامل في الضعفاء لابن عدي، صارت كتابا يشرح. = مقدمة التمهيد لابن عبد البر، مقدمة عظيمة جدا، صارت تشرح. ونحن في هذا المعهد نطبق ما عليه السلف، فلا نشرح كتابا ولا علما إلا ونقدم فيه ونقدم له المقدمات التأصيلية التي تعينك على ما ذكره الأئمة.
-
معرفة العلاقة بين العلوم: ما العلاقة بين علم السيرة النبوية مثلا وعلم العقيدة؟ إذا لم تعرفها ربما تذمها، تقول: يا أخي سيرة نبوية، الناس واقعون في الشرك وأنتم تشرحون السيرة! فمثل هذا مباشرة نعلم أنه فاقد للمقدمة الأولى وهي حقيقة العلم. حتى تعرف كيف توظف المعلومات التي درستها في السيرة في العقيدة في التفسير في الحديث في التاريخ في اللغة.
-
معالجة الأغلاط المنهجية في طلب العلم: تعودت مثلا على أن تأتي إلى الدرس، وإذا قال الشيخ: الحديث أخرجه أبو داوود، وسكت، لابد أن يقول صححه فلان أو ضعفه فلان. لايلزم فهذا من الأغلاط التي تعرفها أثناء حضورك للدرس، وهذه تأتي بالمداومة على حضور الدروس وملازمتها، لا تأتيك في كتاب ولا تأتيك في شرح أو نحو ذلك. سواء نبه عليها شيخ أو انتبهت عليها أنت من خلال طريقة الشيخ وتربيته لك.
-
الترقي من مرحلة الاستماع المجرد: أنت تأتي وتحضر إلى الدرس وتكتب ما تشاء ثم ترجع. وتأتي مرة أخرى إلى الدرس وتحكي ما تشاء ثم ترجع. وتأتي مرة أخرى وهذه المرة بدون كراس وتتكئ على السارية أو العمود وترجع وهكذا. لا، بدون فائدة؟ لا، لابد أن تحاول أن ترقي نفسك من هذه المرحلة إلى مرحلة التدقيق والتحرير والنقد. وهكذا كان الأئمة، لذلك كان الطالب عندهم ينبغ ويفلح ويصبح طالبا في وقت وجيز. وهكذا كانوا يربونهم. وهذه تجدها في الدروس وتجدها في بعض المتون، إشارات خفية يستخرجها لك شيخك بعنايته بتربيتك ونحو ذلك. حينئذ ستتحول كل الدروس العلمية عندك إلى متعة.
الأصل السادس: إشكاليات في طلب العلم وكيفية مواجهتها:
هذه الإشكاليات جاثمة على طريقك على طول مشوارك في طلب العلم، وستهجم عليك حتما. لذلك يجب أن تستعد لها وتعرفها وتعرف كيف تجتنبها وتحاربها، بعضها عوارض تقطعك عن الطريق، وبعضها تضعف سيرك، وبعضها أشياء ربما لا تدري ما هي.
(۱) كثرة العلم وتشعبه واتساعه وكونه لا نهاية له، ويُواجه بالآتي:
١ - التأني وعَدَمُ العَجَلةِ في الطلب؛ قال الزهري (١٢٤هـ): «لا تكابر العلم؛ فإن العلمَ أَوْدِيَةٌ فَأَيُّهَا أَخَذْتَ فيه = قَطَعَ بك قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَه! ولكنْ خُذْهُ مع الأيامِ والليالي، ولا تأخذ العلمَ جُملةً؛ فإنّ مَن رامَ أَخْذَه جُملةً ذَهبَ عنه جُملةً! ولكن الشيءُ بَعدَ الشيء مع الأيام والليالي».
٢ - الأخذ من كُلِّ عِلم أحسَنَه؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: «العلم أكثر مِن أَنْ يُحصَى؛ فَخُذُوا مِن كُلِّ شيءٍ أحْسَنَه»، ومعناه بلسان اليوم: أنْ تَدرُسَ في كل علم متناً مختصرا.
٣- الحرص على التدقيق والتحقيق؛ قال الشافعي (٢٠٤هـ): «مَن تَعلَّمَ عِلماً فلْيُدَقِّق فيه؛ لِئَلَّا يَضِيعَ دَقِيقُ العلم».
(۲) التخصص الخاطئ؛ وهو أنْ يَأخُذَ الطالب علما ما ويقطع فيه مع الإعراض عن غيره من العلوم، ويُواجه بالآتي:
١- أنْ لا تَتَخَصَّصَ إلا في العلم الذي يَمِيلُ إليه طَبْعُك وفِكْرُك؛ قال السعدي (١٣٧٦هـ): (وينبغي أن يكون الشغل الذي تشتغل فيه مما تأنس به النفسُ وتَشتاقه؛ فإنّ هذا أدْعَى الحِصول هذا المقصود النافع \… وميز بين ما تميل إليه نَفْسُك وتشتدُّ رَغْبَتُك فيه؛ فإِنَّ ضِدَّه يُحْدِثُ السَّامَةَ والملل والكَدَرَ».
٢- التخصص لا يلزم أن يكون في علمٍ واحد؛ بل قد يكون في عِلْمَينِ أو أكثر؛ قال ابن حزم (٤٥٦هـ) - مؤكّدا هذا الأمر-: «فربما كان ذلك مِنْه في عِلْمين أو ثلاثة أو أكثر، على قَدْرِ زَكَاءِ فَهْمِه وقُوَّةِ طَبْعِه وحضور خاطره وإِلْبَابِهِ على الطلب، وكلُّ ذلك بتيسير الله».
٣- أن تُفَرِّقَ بين التخصص ومُطْلَق التوسع؛ فكل تخصص تَوَسُعٌ وليس العكس!
٤ - أن تأخذ من العلوم الأخرى الحد الأدنى؛ وأقله: متن مختصر؛ لتكونَ عارفاً بأصوله ومبادئه وقواعده الأساسية؛ قال ابن حزم: «وليأخُذْ مِن كُلِّ عِلمٍ بنَصيبٍ، ومقدار ذلك معرفته بأغراض ذلك العلم فقط، ثم يأخُذُ مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه».
ه - أن تكون على معرفة ودراية بالعلوم المتصلة بتخصصك؛ من حيثُ مَصادِرُها ومراجِعُها ومَظَانٌ بَحثِ مسائلها؛ قال الطناحي (١٤١٩هـ): (معرفة مَظنَّة العلمِ نِصْفُ العلم».
٦ - أن تكون على اتصال دائم مع المتخصصين في غير تخصصك.
الإشكالية الثانية: التخصص الخاطئ. مثلا يقول أنا أحب التفسير، يدخل من البداية ويدرس التفسير وأكاديمية التفسير ومعهد التفسير وكلية علوم القرآن والتفسير حتى ينتهي. وحينئذ لم يحصل شيئا. لذلك تجد التخبط.
فإن أنواع العلوم تختلط وبعضها ببعض مرتبط.
علاج هذه الإشكالية:
- لن تستطيع أن تعرف ما العلم الذي يميل إليه طبعك وفكرك إلا بعد دراسة مختصر فيه. يعني بلساننا اليوم في المعهد، بعد المستوى الأول إن شاء الله ستعرف ما الذي تميل إليه نفسك.
- التخصص لا يلزم أن يكون في علم واحد، بل قد يكون في علمين أو أكثر. فلا تبتئس إن كنت تريد أن تتخصص في علمين أو ثلاثة.
- لابد أن تفرق بين أمرين: بين التخصص والتوسع. فكل تخصص توسع، وليس كل توسع تخصص. بلغة الحسابات يقولون: التخصص هو السير رأسيا أو عموديا في العلم. التوسع هو السير أفقيا في العلم. فطالب العلم يحرص على التوسع في كل العلوم، ثم يتخصص في علم أو أكثر أو وهكذا. ولا حرج في التوسع ولا علاقة له بالتخصص في الغالب.
- أن تأخذ من العلوم الأخرى التي هي في غير تخصصك الحد الأدنى، وأقله متن مختصر أو متوسط. لتكون عارفا بأصوله ومبادئه وقواعده الأساسية وهنا يقول ابن حزم: “وليأخذ” أي الذي يتخصص “من كل علم بنصيب، ومقدار ذلك معرفة أغراض ذلك الفن فقط.” يعني القواعد الأساسية، ويكفيك فيها المختصر أو المتوسط. “ثم يأخذ مما به ضرورة إلى ما لا بد له منه.”
- مثلا أنت متخصص في الفقه، يجب أن تعرف العلوم الأساسية التي تضرب في هذا العلم ولا تنفك عنها، من حيث مصادرها الأساسية ومراجعها ومظان بحث مسائلها. قال الطناحي: “معرفة مظنة العلم نصف العلم.” يعني أن تعرف أين يبحث العلم، المسألة الفلانية من العلم الفلاني، أين توجد أقوال العلماء فيها، هذا نصف العلم.
- أن تكون على اتصال دائم مع المتخصصين في غير تخصصك.
(۳) صعوبة الفهم مع كثرة المعاناة:
ويُواجه: بأنْ تَعرِفَ أنّ هناك فرقاً بين حُسْنِ التصَوُّرِ، والتدقيق في الفهم؛ فالأول هو الأصل، وأما الثاني فلا يأتي إلا بعد طول الزمان والاستمرار في طلب العلم والتعمق فيه.
الإشكالية الثالثة: صعوبة الفهم مع كثرة معاناتك ومراجعتك. هذا كثير جدا تجده عند الأذكياء قبل الأغبياء، ويواجه بأن تفرق بين أمرين:
- أن تعرف أن هناك فرقا بين حسن التصور وهو الفهم العام،
- والتدقيق في الفهم،
والأصل الذي يخاطب به الطالب هو الأول، هو حسن التصور، هو الفهم المطلق. وأما الثاني، التدقيق في الفهم، هذا لا يأتيك من مباشرة الشرح وحضور الدرس، بل هذا يأتيك بعد طول الزمان والاستمرار في طلب العلم والتعمق فيه والبحث والاطلاع في مسائله.
(٤) عدم الإحساس بحصول العلم في النفس:
ويُواجه: بأنْ تَعرِفَ أنَّ العلم يحصل في النفس بأمرين:
أحدهما: حصوله بالفعل.
والثاني: حصوله بالقوّة القريبة من الفعل؛ أي التهيؤ لذلك بأن يكون حصولك على المعلومة سريعاً سَهْلَ الْمُلْتَمَسِ قَرِيبَ المَأخَذ.
مثال: إذا قيل لك اختر أحد الرجلين: رجل لا يحسن قيادة السيارة وعنده الرخصة وعنده سيارات ملء البصر. والثاني رجل ماهر خبير جدا في قيادة السيارات كلها وليس عنده رخصة وليس عنده سيارة.
قطعا ستختار الثاني، مع أنه لا يملك الرخصة ولا يملك سيارة. لكن عنده القوة القريبة من الفعل، بمعنى أنه مهيأ لقيادة السيارة متى ما وجدها.
(٥) عدم القدرة على استحضار العلم حتى مع إتقان حفظه:
ويُواجه: بأن الاستحضار يكونُ بعِدَّةِ أمور، أهمها: كثرة التكرار، ومعرفة المعاني الملائمة (المشابهة)، ومعرفة المعاني المخالفة (الأضداد)؛ قال الطحلاوي (١١٨١هـ): (وكثرة إخطار المعنى بَعدَ ظُهُورِهِ = سبب في سرعة حضورِهِ بعد غَيْبَتِهِ، عند حضور ما يُلائمه أو يُنافِرُه».
الاستحضار يكون بعدة أمور، أهمها ثلاثة:
-
كثرة التكرار. وهذا سهل. كثرة التكرار والمراجعة يعينك على سرعة الاستحضار.
-
معرفة المعاني الملائمة، يعني المعاني المشابهة. ومن هنا نترحم على علمائنا رحمهم الله عندما يشرحون المسألة بعدة أساليب. تجد الشارح مثلا يشرح المسألة في نفس الكتاب، أو الشيخ الفلاني صوتيا يشرح المسألة بأسلوبين، لأن الأسلوب الأول صورة من صور استحضار العلم وحفظه. والأسلوب الثاني يشبهه. ربما أشكل عدم استحضارك، أن ضاعت لك المعلومة بسبب الأسلوب الأول، لكن تذكرت أن الشيخ أعادها مرتين وثلاثة بأساليب مختلفة، فهذه الأساليب جذبت لك، والشبيه يجذب الشبيه.
-
معرفة المعاني المخالفة، يعني المعاني التي هي ضد المعاني الأخرى. وقالوا: والضد يظهر حسنه الضد. وهذه أيضا من أساليب العلماء. وقد ذكر هذا الطحلاوي من علماء الأزهر في كتاب سماه آداب الفهم والإفهام، قال: “وَكَثْرَةُ إِخْطَارِ الْمَعْنَى بَعْدَ ظُهُورِهِ سَبَبٌ فِي سُرْعَةِ حُضُورِهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ عِنْدَ حُضَورِ مَا يُلاَئِمُهُ أَوْ يُنَافِرُهُ”.
- “وكثرة إخطار المعنى بعد ظهوره” هذا هو التكرار.
- “سبب في سرعة حضوره” أي سرعة استحضاره.
- “بعد غيبته عند حضور ما يلائمه” أي يشابهه، هذا الثاني “أو ينافره” أي يضاده، وهذا الثالث.
(٦) عدم الاعتناء بتنمية الملكة العلمية والحذق في العلم، ويُواجه بعدة أمور أهمها:
١ - إعمال العَقْلِ والتفكير الناقد؛ قال ابن باديس (١٣٥٩هـ): «فالتفكير التفكيرَ يا طلبة العلم! فإنّ القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرةِ الجُمُودِ والتقليد، وخَيرٌ منهما الجاهل البسيط!»، وقال الطَّناحي: «جَودَةُ العلم لا تتكَوَّنُ إلا بجودَةِ النَّقْدِ، ولولا النَّقْدُ لَبَطَلَ كثيرُ عِلمٍ، ولاخْتَلَطَ الجهل بالعلم اختلاطًا لا خَلاصَ منه ولا حِيْلَةَ فيه!».
٢ - كثرة الاطلاع، خصوصا الكتب العالية ذات المباحث الدقيقة؛ قال ابن تيمية: «النظر في العلوم الدقيقة يفتق الذهن ويدرّبه ويقويه على العلم، فيصير مثل كثرة الرمي بالنشاب وركوب الخيل تعين على قوة الرمي والركوب وإن لم يكن ذلك وقت قتال، وهذا مقصد حسن؛ ولهذا كان كثير من علماء السنة يرغب في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة … ورياضة الأذهان بمعرفة دقيق العلم والبحث عن الأمور الغامضة».
٣- تنمية مهارة السؤال والإجابة على الإشكالات؛ قيل لابن عباس رضي الله عنهما: كيف أَصَبْتَ هذا العلم؟ قال: بلسانٍ سَؤولٍ وقَلْبِ عَقُول»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: دَرْكُ العِلم: السؤال»، وقال الزهري: «العلم خزائن، مفاتيحها السؤالُ»، وقال سليمان بن يسار (١٠٧هـ): «حُسْنُ المسألة نِصْفُ العِلمِ»، وقال ابن تيمية: «إنما العلمُ في جَوابِ السؤال».
٤ - كثرة المخالطة والمباحثة للأذكياء والنجباء من أهل العلم.
* ولذلك كان العلماء يُفضّلون الملكة العلمية على مُطْلَقِ الفَهْمِ والحفظ المجَرَّدِ؛ قال يحيى القَطَّان (۱۹۸ هـ): ينبغي لصاحب الحديث أنْ يَفْهَم ما يُقال له» قال أبو علي النيسابوري (٣٤٩هـ): «الفهم عندنا أَجَلُّ من الحفظ»، وقال أبو بكر بن عَبْدان (۳۸۸هـ): الدراية فوق الحفظ، وسُئل صالح جَزَرَة (٢٩٣هـ): هل كان ابن مَعِين (۲۳۳ هـ) يَحْفَظُ؟ قال: «لا؛ إنما كان عنده معرفةٌ»، وقال الخطيب: «العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثارِ والتَّوَسُّعِ في الرواية».
- قلنا في العلم ليس هناك فرق بين الذكي والغبي إلا سلوك الجادة. وعدم الاعتناء بتنمية الملكة العلمية والحذق في العلم يواجه بأربعة أمور:
الأول: إعمال العقل والتفكير الناقد.
-
ثقافة الاعتراض بصورة أدبية، ليست الاعتراض بالصورة العلمانية.
-
“فالتفكير التفكير يا طلبة العلم!” يعني عليكم بالتفكير. المقصود بالتفكير الناقد.
-
“فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم، وإنما تربط صاحبها في صخرة الجمود والتقليد.” لذلك اليوم تجد طلاب العلم بلغوا من العلم مراحل عليا وتجده إذا شرح متنا في العقيدة أبدع، وإذا جاءت مسألة ما وإشكال ما رجع إلى التقليد والجمود: لكن مشايخنا لم يقولوا هذا، ولكن شيخ فلان لم يبدعه، ولكن من أنت حتى… إذا ما فائدة علمك؟
الثاني: كثرة الاطلاع
- المقصود كثرة الاطلاع على الكتب العالية ذات المباحث الدقيقة خصوصا. ونحن قلنا ليس الهدف من قراءة الكتاب مجرد الفهم.
الثالث: تنمية مهارة السؤال والإجابة على الإشكالات
- ليس مطلق السؤال المقصود بل السؤال الدقيق.
- كتاب = الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لابن القيم أو = الداء والدواء، هو في الحقيقة جواب على سؤال، دقة السؤال أخرجت كتابا من أعظم كتب التزكية.
- = العقيدة الواسطية، و= الفتوى الحموية الكبرى، و= القاعدة التدمرية، كلها أجوبة على أسئلة.
الرابع: كثرة المخالطة والمباحثة للأذكياء والنجباء من أهل العلم.
- قال تعالى في سورة الكهف: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] ومثل الجليس الصالح والجليس السوء كنافخ المسك، كحامل المسك ونافخ الكير، ما في الصحيحين.
- ويقال: الصاحب ساحب. المرء لا تسأل وسل عن قرينه، فكل قرين بالمقارن يقتدي.
- كان السلف يفضلون الملكة العلمية على مطلق الفهم والحفظ المجرد، فصاحب الملكة القوية عندهم مقدم على الحافظ المتقن وعلى المطلع الثاقب الذهن، لأن هذا هو المقصود من العلم.
- سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ القطان يَقُولُ: «يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي صَاحِبِ الْحَدِيثِ غَيْرُ خَصْلَةٍ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ ثَبْتَ الْأَخْذِ، وَيَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ، وَيُبْصِرُ الرِّجَالَ، ثُمَّ يَتَعَهَّدُ ذَلِكَ»= معرفة علوم الحديث لللحاكم (ص15)، وليس المقصود مطلق الفهم، بل الفهم الدقيق.
(۷) الخلاف، ويُواجه بالآتي:
١ - أن تعرف أنواع الخلاف ودرجاته؛ لتمييز المذموم من غيره.
٢- أنْ تَعرف محل الخلاف وأسبابه.
٣- أن تعرف ثمرته وما يترتب عليه.
٤ - أن تعرف آدابه.
ه - الحذر من الخوض فيه قبل ضبط ما سبق.
- لا أتكلم عن الخلاف بين أهل السنة وأهل البدعة، حتى بين أهل السنة، بعض الناس يفهم الاتفاق غلطا، ويواجه بعدة أمور:
- الخلاف ليس على نوع واحد، وكل نوع له درجات وكل درجة تختلف عن الأخرى، لتمييز المذموم من غيره، فليس كل الخلاف مذموما، كما أن ليس كل الخلاف رحمة.
- تحرير محل النزاع كما قلنا. وما السبب الذي أدى إليه حتى تتعامل معهم.
- هل يترتب على هذا الخلاف تكفير أو هجر أو مفاصلة؟ أو يترتب عليه كلنا إخوان والخلاف لا يفسد للود قضية أو نحو ذلك لنعذر بعضنا بعضا فيما اتفقنا واختلفنا فيه إلى آخره.
- هل كل خلاف لابد فيه من الموضوعية والرسالية وسعة الصدر؟ وهل كل خلاف يجب فيه القطع والذم والتشديد؟ لابد أن تعرف أين هذا وأين هذا؟
- قبل ضبط الأمور الأربعة السابقة لا تخض في خلاف لأنك مبتدئ. ونحن في معهد التأصيل العلمي، وهذه أعدها من المميزات التي ربما لا توجد في غيره أبدا، أعني بصورة تأصيلية محررة، ندرس متنا في الخلاف، متنا تأصيليا في الخلاف فيه كل هذه الأمور وسيأتينا.
(۸) الزواج، ويُواجه بأمرين:
الأول: أنها مسألةٌ نِسْبِيّةٌ تَختلف بحسب حال الطالب ومكانه وزمانه؛ من حيث اليُسْرُ والفَقْرُ، أو التَّفَرُّغُ والانشغال، وغير ذلك، وليس لذلك ضابط محدّد؛ قال بشر الحافي (٢٢٧هـ): (مَن لم يحتج إلى النساء؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ وَلا يَأْلَفْ أَفخاذَهُنَّ!».
والثاني: على الطالب قَبْلَ ذلك أنْ يُحَصِّلَ الحد الأدنى مِنْ أهم العلوم الشرعية.
* وتفصيل هذين الأمرين بتطبيق القواعد الفقهية التالية:
١ - قاعدة اليقين لا يزول بالشك: ويتفرع عنها:
- قاعدة: الأصل في الأمور العارضة العدم، فلا تتعلل بالشهوة.
- قاعدة: لا عبرة بالتوهم، فإن قيل: ليس توهما؛ فيقال:
- قاعدة: لا عبرة بالظن البين خطؤه.
- قاعدة: لا عبرة بالدلالة مقابل التصريح.
- قاعدة: الممتنع عادة كالممتنع حقيقة، أي تجويز وقوعه والأخذ به = أخذ بما يفيد الشك، وعكسه هو اليقين!
- قاعدة: ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين.
۲ - قاعدة لا ضرر ولا ضرار: ويتفرع عنها:
-قاعدة: الضرر يدفع بقدر الإمكان (ولو جزئيا أو مؤقتا).
- قاعدة: الضرر لا يزال بمثله بل بالأخف؛ ومنه: احتمال الضرر الخاص لدفع العام لذلك اشترطنا الحد الأدنى من العلوم الشرعية).
فإن قيل: كيف ينضبط هذا؟! يقال بقاعدة:
٣- قاعدة العادة محكمة: ويتفرع عنها:
- قاعدة: العادة لا تحكم إلا إذا اطردت؛ لأن العبرة بالغالب.
- قاعدة: اختلاف الحكم باختلاف الأحوال؛ لذلك متى ما تيسرت الفرصة المناسبة فلا تتردد.
٤ - قاعدة سد الذرائع ويتفرع عنها:
- قاعدة: إذا سقط الأصل سقط الفرع، وإذا بطل الشيء بطل ما يتضمنه، والتابع تابع؛ فلا تفكر ابتداء.
ه - قاعدة: الغرم بالغنم فبقدر ما تبذله في الطلب وتحمل مشقة الشهوة = تغنم فييسر الله لك الزوجة.
- متى بدأت في طلب العلم جاءك شيطان الجن والإنس: لابد من الزواج يا أخي، لأنك إذا تزوجت ستطمئن، وسيصفو ذهنك، وستستطيع الحفظ بسهولة.
- كذبت ورب الكعبة، بل سيصفو ذهنك من كل شيء إلا من زوجتك. وكذلك في النساء: أنا أريد أن أتزوج لكي أتفرغ للعلم. كذبت.
- لا نريد أن نقول إن الزواج باطل لا يصلح لطالب العلم، هذا غلط. ولا نريد أن نقول إن الزواج لابد منه لطالب العلم، هذا أيضا غلط. وإنما يواجه بأمرين مجملين ثم نفصلهما:
1. الأول: أن تعلم أنها مسألة نسبية: ليس هناك حد موحد لكل الطلاب. فتختلف بحسب عدة اعتبارات، لذلك كان السلف وصاياهم في هذه الإشكالية هكذا: «مَنْ لَمْ يَحْتَجْ إلَى النِّسَاءِ فَلْيَتَّقِ الله ولَا يَأْلَفُ أَفْخَاذَهُنَّ» = الأخلاق الزكية في آداب الطالب المرضية (ص139)
2. الثاني: على الطالب قبل الزواج، أن يحصل الحد الأدنى من أهم العلوم الشرعية: أي المستوى الأول في معهد التأصيل العلمي أو المختصرات في أشهر العلوم.
وتفصيل هذين الأمرين بتطبيق القواعد الفقهية التالية:
1. اليقين لا يزول بالشك. ويتفرع عنها: - الأصل في الأمور العارضة العدم: العارضة يعني التي تأتي وتزول، ليست أمورا ثابتة، لا يتعامل معها كالأمور الثابتة، فالأصل فيها العدم، يعني متى ما زالت ارجع كما كنت. فلا تتعلل بالشهوة. أنا عندي شهوة، أكيد سيكون عندك شهوة شديدة. لكن هل هذه شهوة مستمرة معك أربعة وعشرين ساعة؟ إذا الأصل في الأمور العارضة العدم، فلا تستعجل بالأمر الثاني. - لا عبرة بالتوهم: أنا أعني أن هذا أمر يقيني، هذا أمر يغلب على الظن. - لا عبرة بالظن البين خطؤه: ألم يتبين لك أنك تستطيع حضور الدرس والدرسين والثلاث وحفظ الكتاب والكتابين والاستمتاع. - لا عبرة بالدلالة مقابل التصريح: هناك دلالة يعني استنباط، وهناك تصريح، لا عبرة بهذه الاستنباطات وهذه الدلالات. الصريح الذي نراه وتراه أنت، لا عبرة بالدلالة في مقابل التصريح. - الممتنع عادة كالممتنع حقيقة: يعني تجويز وقوعه والأخذ به لا يفيدك، إنما هو أخذ بالشك، لأن في العادة لن تحصل لك مثل هذه التخبطات. تحصل لك عندما تسهر الليل وتنظر في ذات الوشاح وأنت تنظرين في صاحب اللحية الطويلة فتأتيكما الأحوال الغامضة والأحوال الشيطانية. - ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين: إذا وجدت الزوجة والاستطاعة تزوج. وإلا فلا، إن اليقين لا يزال بالشك. فأنت الآن عزابي من أكبر العزاب، فاليقين أنك عازب، فكونوا عزابا إلى أن ييسر الله لكم أزواجا.
- لا ضرر ولا ضرار. ويقال الضرر يزال. ويتفرع منها قاعدتان:
- الضرر يدفع بقدر الإمكان، ولو جزئيا ولو مؤقتا. هل تستطيع أن تبقى عازبا وتبقي عزباء حتى تكمل المستوى الأول في معهد التأصيل العلمي؟ هذا شرعا يجب عليك أن تدفعه بقدر الإمكان، ولو جزئيا ولو مؤقتا. ثم بعد ذلك افعل ما شئت.
- الضرر لا يزال بمثله، وهنا أرسل رسالة خفية من أخيكم الكبير من القلب إلى القلب: احذر أن يأتيك شيطان الجن، ولا يسلم أحد منا، لا المتزوج ولا الأعزب، لا للنساء ولا للرجال، إياك أن تعوض شهوتك بالحرام. والحرام اليوم أسهل ما يكون، يطاردك مطاردة القط للفأر. إياك أن تدخل في باب ما يسمى بالأفلام الإباحية. وقد تكلمت عن هذا بصورة مفصلة، تكلمت عن هذه المادتين: الأولى محاضرة تأصيلية كان الغرض منها تأصيل المسائل ومن ناحية طبية ونفسية وشرعية، وهي موجودة بعنوان “خطر الإباحية”، ساعتين تقريبا. والمادة الثانية لقاء شبابي، ربما ثلاث ساعات، كان الغرض منه تدعيم ما ذكرته في الجانب النظري في المحاضرة الأولى وهو عملية. وتكلمت عنه في مادة ثالثة أيضا في عنوان “طالب العلم والرياضة”، أيضا في لقاء ربما ساعتين، تكلمت عنه بصورة شديدة. وتكلمت عنه أيضا في لقاء بعنوان “طالب العلم والزواج”. لأن هذا الخطر يا إخوة لا ينفع العلاج معه العلاج الشرعي: تب إلى الله وغض بصرك. اليوم فتن النوازل، يحتاج أن يكتب فيها. لذلك إياك أن تزيل الضرر بضرر مثله، فتفتح على نفسك بابا لا يغلق حتى بالزواج. لا تظن أن الزواج بمجرد أن تتزوج ستترك هذه الأمور، أنت ستدخل في مرض يصنف عالميا اسمه مرض إدمان الأفلام الإباحية. فإذا تزوجت مائة امرأة ومن أجمل نساء العالمين، ما لم تبدأ العلاج لن تستفيد من الزواج. فإذا بدأت العلاج سيكون الزواج أكبر وسيلة لسرعة العلاج، وستستمتع بزوجتك، والكلام للنساء أيضا. والكلام يطول، لكن هذه إشارة فقط وارجعوا إلى المواد منشورة.
3. العادة محكمة. ويتفرع منها قاعدتان تهمنا هنا: - العادة لا تحكم، يعني لا يبنى عليها أحكام شرعية، إلا إذا اطردت لأن العبرة بالغالب. - اختلاف الحكم باختلاف الأحوال. ربما تكون في حالة من الأحوال ما شاء الله إيمانيات عالية، زهد، نفرة من نساء الدنيا واشتياق للحور العين، تضبط المستوى الأول والثاني والسابع والعاشر من معهد التأصيل العلمي وغيره. وتأتيك أحوال إذا نظرت إلى العلم أصابك الغثيان، ولا تستحضر إلا نساء العالمين، حتى المتبرجات. وكذلك النساء.
-
سد الذرائع. يعني الأمر المباح إذا غلب على ظنك أنه سيؤدي إلى أمر منهي عنه فامنع هذا المباح. يتفرع عنها قاعدة:
- إذا سقط الأصل سقط الفرع، وإذا بطل الشيء بطل كل ما يشمله، وهو ما بداخله وما يحتويه وما يتضمنه. ويقال التابع تابع. يعني هذا شرح لكلام بشر الحافي: “من لم يحتج إلى النساء” يعني للزواج “اتق الله ولا يألف أفخاذهن.” لا تأتي بسيرتهن. فإذا وجدت إخوانك يتحدثون عن النساء والزواج، اهرب منهم. أو أخرج متنا من جيبك وقل لهم لنتذاكر هذا المتن وسيهربون هم منك.
-
الغنم بالغرم.
- هذه القاعدة تنعكس أيضا. يهمنا هنا الغرم بالغنم، يعني الغرامة بالغنيمة.
- فبقدر ما تبذله في طلب العلم وتتحمل مشقة الشهوة الشديدة في هذا الزمان، ربما الشهوة في هذا الزمان أسوأ وأعظم وأخطر من أي عصر مضى، حتى من عصر السلف، حينئذ تغنم، فييسر الله لك زوجة صالحة تأتي بدون تعب. هذه عقيدتنا، الغرم بالغنم. أنا سأغرم يا رب، أنا الآن سأضحي لوجهك يا رب في طلب العلم، وأنت تعلم ما أعاني من الشهوة، وهكذا بالسؤال يغنمك الله ويسبب لك زواجا من حيث لا تحتسب. وقد حصل كثيرا.
الأصل السابع: علماء لابد من إكثار القراءة في كتبهم:
ابن تيمية (٧٢٨هـ)، ابن قيم الجوزية (٧٥١هـ)، ابن رجب (٧٩٥هـ)، أئمة الدعوة النجدية، السعدي (١٣٧٦هـ)، بكر أبو زيد (١٤٢٩هـ).
-
الأصل السابع والثامن كله متعلق بقراءتك الخاصة، سواء بنفسك أو مع زملائك، يعني المجهود الفردي.
-
الطالب المبتدئ لابد أن يكثر القراءة لهؤلاء العلماء مهما كان الثمن، بغض النظر عن أنه يفهم أو لا يفهم، بغض النظر عن نوع الكتاب الذي يقرأه لهؤلاء العلماء، كان كبيرا أو صغيرا، كان في الفقه أو في الحديث أو في التزكية، كان متقدما، مختصرا، مطولا، أكمل الكتاب أو لم يكمله.
-
كل عالم من هؤلاء العلماء له ميزة تختصر عليك مشوارك في طلب العلم. لو فرضنا أنك في علم الغيب مثلا ستكون عالما بعد عشر سنوات، صدقني وأنا أقسم لك غير حانث، إذا أكثرت القراءة لهؤلاء العلماء، ستكون عالما بنصف المدة، خمس سنوات، بل أقل.
-
وأيضا هؤلاء العلماء لهم من الأساليب الموسوعية وتفعيل العلوم الشرعية في كل المجالات ما يمكن أن يفهمه الطالب المبتدئ بسهولة.
-
هؤلاء العلماء الستة أو المجموعات الستة من العلماء ليس المقصود ذاتهم وأشخاصهم، حتى لا يعترض معترض هذا عليه ملاحظات إلخ، ولكن بالنسبة للطالب المبتدئ، سهولة اكتساب تلك الملكة من هؤلاء العلماء أسهل وأسرع من غيرهم. وفي الحديث: “احرص على ما ينفعك ولا تعجز.” طيب. وكلهم سلفيون والحمد لله.
-
ابن تيمية رحمه الله.
-
تلميذه ابن القيم
-
ابن رجب
- وهو تلميذ ابن القيم، يقال أنه تتلمذ عليه في سنة واحدة وأنه استفاد منه في هذه السنة الواحدة ما لم يستفده في جميع مشايخه. ومجرد أن درست المدخل ستعرف أكيد أنه وجد في ابن القيم مواصفات الشيخ، وتلك الضوابط والقواعد والآداب في الاستفادة من الشيخ والحضور عنده.
- وميزة أخرى لابن رجب، وفي الحقيقة يتفوق بها حتى على ابن تيمية وابن القيم، أنه قريب من آثار السلف بصورة موسوعية، بحيث أنك إذا قرأت لابن رجب لن تخرج بفائدة أثر أو أثرين، بل ستخرج بالقاعدة العامة التي كان عليها السلف في الفعل والترك.
-
أئمة الدعوة النجدية
- ونعني خصوصا كتبهم العقدية. لهم كتب فقهية على مذهب الحنابلة، لكن كتبهم العقدية سواء التي ألفوها استقلالا أو كانت ردودا، ستجد فيها ما لا تجده في غيره من خلاصة لبعض المسائل التي كثر فيها اللغط، ومن تحرير لمسائل دقيقة ربما لا تجدها في غيرها. فبإكثار القراءة تتشرب تلك الموسوعية وتلك المنهجية، فتجود ملكتك.
-
العلامة عبد الرحمن السعدي
- والسعدي له ميزة مثل ميزة ما سبق، لكن الرجل موسوعي مقاصدي، يعطيك كلمة تعينك على فهم مقاصد الإسلام كله. ولا نريد أن نكثر، السعدي تعرفونه، ومؤلفاته معروفة.
-
العلامة بكر أبو زيد
- بكر أبو زيد والسعدي وكتب أئمة الدعوة النجدية وابن تيمية وابن القيم، كل هؤلاء تلاحظون أن القاسم المشترك بينهم أن كتبهم محصورة، سواء كانت كثيرة أو قليلة يعني تستطيع أن تمر عليها كاملة كما قلنا،.
الأصل الثامن: كتب لابد من قراءتها في بداية الطلب:
١ - = أخلاق العلماء.
٢- أخلاق حملة القرآن، كلاهما لالآجري.
٣- = جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر.
٤- = الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع،
ه - = الفقيه والمتفقه،
٦ - = اقتضاء العلم العمل، ثلاثتها لـ الخطيب البغدادي.
٧- = تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، لابن جماعة.
٨- = معالم في طريق طلب العلم للشيخ عبد العزيز السدحان.
٩ - = تعظيم العلم،
١٠ - = البينة في اقتباس العلم، كلاهما للشيخ صالح العصيمي.
۱۱ - = المُشوّق للقراءة وطلب العلم، لعلي العمران.
۱۲ - = ارتياض العلوم، لمشاري الشثري.
۱۳ - = الخلاف أنواعه وضوابطه وكيفية التعامل معه، لحسن العصيمي.
١٤ - = التعالم،
١٥ - = حِلْيَة طالب العلم، كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.
١٦ - = صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم،
١٧ - = قيمة الوقت عند العلماء، كلاهما ل أبي غُدّة.
-
هذه الكتب تتحدث عن آداب طالب العلم. وأعطيكم السر: هذه الكتب الثمانية عشر منها خرج كتاب المدخل إلى طلب العلم. فالمدخل إلى طلب العلم ليس من بنات أفكار أخيكم، إنما هو خلاصة لهذه الكتب بطريقة مبتكرة كما ترونها. فهذه المراجع الأساسية.
-
وأنا سأذكر لك أهم الكتب التي يحتاجها طالب العلم، ليس يعني من باب الحصر وليس من باب المثال، لا، وإنما اخترنا كتبا بعناية، فكل كتاب فيه ما يحتاجه طالب العلم سواء كان مبتدئا أو كان حتى متقدما.
-
كتاب “معالم في طريق طلب العلم”. هذا الكتاب مبارك، يتكلم عن الحياة الاجتماعية الخاصة لطالب العلم، بالإضافة للفوائد العامة.
-
كتاب “تعظيم العلم”. “البينة في اقتباس العلم”، كلاهما لشيخنا صالح العصيمي، ويعني لا يحتاج إلى تزكية، وتعرفون الشيخ وتعرفون كتبه.
-
كتاب “الخلاف أنواعه وضوابطه وكيفية التعامل معه” للدكتور حسن العصيمي، تقريبا رسالة ماجستير أو دكتوراه، فائدته في الإشكالية التي ذكرناها في إشكالية الخلاف، يعينك جدا، والكتاب يصلح أن يلخص ويصير متنا.
-
كتاب “التعالم”. و”حلية طالب العلم”، كلاهما للشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله، والكتابان مشهوران، ويمكن أن يضاف إليهما كتابان لكن على نوع تحفظ: الأول كتاب = تصنيف الناس بين الظن واليقين، الكتاب يعني نسفه نسفا الشيخ عبد السلام بن برجس، يعني تناوله وإن لم يصرح به في بعض كتبه أو محاضراته المفرغة، والكتاب بصراحة جيد، يستفاد مما فيه من ضوابط مفيدة، على الأقل لك كمبتدئ تعينك، وفيه من الفوائد ما ليس في غيره.
- والتحفظ موجود في كل الكتب يا إخوة. فطالب العلم كما يقول العلماء في البداية يقولون: إذا جمعت فقمش، يعني كأنك تشحن الفوائد، تلتقطها من الأرض وتملأ قماشك. وإذا رويت ففتش. هذا يروى عن يحيى ابن معين وغيره. إذا جمعت فقمش، يعني اجمع من هنا وهناك بدون نظر، بدون تمحيص، حتى إذا رويت ودرست وعرفت، تمحص وتبين.
-
كتاب “قيمة الوقت” أو “صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم”. الكتاب صراحة غني جدا ومفيد جدا، وقسمه مؤلفه إلى سبعة أو ثمانية جوانب، وفي كل الجوانب يذكر مواقف السلف وآثار السلف فقط. والثاني: “قيمة الوقت عند العلماء”، أيضا بنفس الطريقة. كتابان مهمان جدا لما فيهما من شحن المؤلف لآثار السلف.
- المؤلف مبتدع ضال عدو للسلفية، وهو عبد الفتاح أبو غدة. وقد كان كوثريا، فستقرأ هذان الكتابين، نعم لابد منهما، لكن انتبه من حواشيه، يحشر فيها السم وأنت يعني ما شاء الله أثري وتعرف طريقة هؤلاء المتصوفة والماتريدية إلى آخره. لكن الكتاب مفيد جدا.
-
لا يُخلط بين أبي العباس ابن قدامة والموفق ابن قدامة (صاحب المغني)، فالأول هو ابن أخيه، من نفس العائلة.
-
مختصر منهاج القاصدين هو مختصر لكتاب “منهاج القاصدين” لابن الجوزي. وكتاب ابن الجوزي تهذيب لكتاب “إحياء علوم الدين” للغزالي، لكن حذف منه الأحاديث الباطلة، وأسقط الوساوس الصوفية، وخلّصه مما رآه من ضلالات ومخالفات، والغزالي كان ضعيفًا في الحديث، وكتابه فيه ضلالات كثيرة. وابن الجوزي نفسه عليه ملاحظات عقدية، وميله إلى الأشعرية وتذبذبه، فجاء أبو العباس ابن قدامة، وقام بتهذيب ما بقي من الإشكالات، واختصر الكتاب، فأصبح متنًا مناسبًا لطالب العلم، خاليًا من البدع والمخالفات العقدية.
-
وهناك كتاب أدب الطلب ومنتهى الأرب للشوكاني: كتاب مهم جدًا لطالب العلم، ومؤلفه من الزيدية، وهم ليسوا من أهل السنة، لكن مراتبهم تختلف والشوكاني يُعتبر من المرتبة الرابعة – وهم من لا يسبّون الصحابة ولا يكفّرونهم، هو أقرب إلى الصنعاني وصالح المقبلي وابن الوزير، فليس رافضيًا ولا سبّابًا.
- الكتاب يتميز في ثلثه الأول أو نصفه الأول بذكر: أسباب التعصب العلمي، و نحو 15 سببًا من الأسباب التي تعرض لطالب العلم سواء كان مبتدئا أو متقدما أو غير ذلك، وهي أسباب خفية، تلتبس وتختلط وتظهر في صورة العلم والحرص آفات خفية تظهر في صورة الاجتهاد أو الحرص. فهذا جانب مهم جدا في هذا الكتاب. لو لم يوجد إلا هذا الجانب لكفاك.