المؤلف:: صالح بن عبد الله بن حمد العصيمي
الناشر::
سنة النشر::
الصفحات:: 145
الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1647983219l/60674175._SX318_.jpg
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/60674175
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات::
الغرض::
المعرفة:: ,
التدريب:: ,
المؤثر:: ,
تاريخ القراءة:: 2024-02-03
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::
حَظِّ العَبْدِ مِنَ العِلْمِ مَوْقُوفٌ عَلَى حَظٍّ قَلْبِهِ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِجْلَالِهِ، فَمَنِ امْتَلَا قَلْبُهُ بِتَعْظِيمِ العِلْمِ وَإِجْلَالِهِ صَلَحَ أَن يَكُونَ محَلا لَهُ، وَبِقَدْرِ نُقْصَانِ هَيْبَةِ العِلم في القَلْبِ، يَنقُصُ حَقٌّ العَبْدِ مِنْهُ، حَتَّى يَكُونَ مِنَ القُلُوبِ قَلْبٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ العِلْمِ.
ص 8
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
والسَّيْرُ إِلَى اللهِ هُوَ لُزُومُ طَرِيقِهِ؛ وَهُوَ سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ أَبَنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِ المَحَجَّةِ فِي سَيْرِ الدُّجَةِ. فالمراد بالسَّيرِ إِلَى اللهِ إذا ذُكِر في كلام أهل العلم: سُلُوكُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ بالتزامِ دينِ الإسلام. والسلوك فيه يكون بِتَنْقِيلِ العَبْدِ قلبه في منازلِ العبادة؛ فَإِنَّ السَّيْرَ إِلَى اللهِ يُقطَع بالقلبِ والهِمَّة لَا بالبَدَن، قال ابنُ القيم رَحِمَهُ اللهُ في كتاب «الفوائد»: فاعلم أنَّ العِبْدَ إِنَّما يقطَعُ منازل السَّيرِ إلى الله بقلبه وهَمَّتِه لَا بِبَدنِه.
ص 10
وَبِحَسَبِ طَهَارَةِ القَلْبِ يَدْخُلُهُ العِلْمُ، وَإِذَا ازْدَادَتْ طَهَارَتُهُ أَزْدَادَتْ قَابِلِيَّتُهُ لِلْعِلْمِ، وَمَثَلُ العِلْمِ فِي القَلْبِ كنُورِ المِصْبَاحِ، إِنْ صَفَا زُجَاجُهُ شَعَتْ أَنْوَارُهُ، وَإِنْ لَطَّخَتْهُ الْأَوْسَاخُ كَسَفَتْ أَنْوَارُهُ.
فَمَنْ أَرَادَ حِيَازَةَ العِلْمِ فَلْيُزَيِّنْ بَاطِنَهُ وَيُطَهِّرْ قَلْبَهُ مِنْ نَجَاسَتِهِ؛ فَالعِلْمُ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلْقَلْبِ النَّظِيفِ.
وَطَهَارَةُ القَلْبِ تَرْجِعُ إِلَى أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: طَهَارَتُهُ مِنْ نَجَاسَةِ الشُّبُهَاتِ. وَالآخَرُ: طَهَارَتُهُ مِنْ نَجَاسَةِ الشَّهَوَاتِ.
…
وَإِذَا كُنْتَ تَسْتَحِي مِنْ نَظَرِ مخلُوقٍ مِثْلِكَ إِلَى وَسَحْ ثَوْبِكَ، فَاسْتَحْ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَى قَلْبِكَ، وَفِيهِ إِحَنٌ وَبَلَايَا، وَذُنُوبُ وَخَطَايَا.
ص 15
قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ أَنْ يَدْخُلَهُ النُّورُ وَفِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَكْرَهُ اللهُ عَزوَجَل.
ص 16
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
فينبغي أن يعتني طالب العلم خاصَّةً وعبد الله عامَّةٌ بنفي النَّجاسات عن قلبه ليهنأ قلبه منتفعا بما يسمع من كلام الله وكلامِ رسولِهِ صَلَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والخلق إذا تباينوا في قُدَرِهِم في أخذ العلم حفظًا وفَهْمَا وَدَرْسًا ومُلَازمةٌ للشُّيوخ فإِنَّهُم يتفاوتون تفاوتًا عظيما فيما هو أجلُّ من ذَلِكَ، وهو تهيئة قلوبهم وصلاحيتها للانتفاع بالعلم بحسب ما يكون لأحدهم من طهارة ،قلبه، فالمطهر قلبه تطهيرًا تامًا ينتفع في العلم انتفاعا عظيما وإن كان غيره أحفظ منه وأسرع فهما إلى المقصودِ؛ فليسَ مَرَدُّ العلم إلى القُوَى الظَّاهِرَةِ فحسب، بل مرده الأعظم إلى ما يكون في الباطن من طهارة القلب والإقبال على الله عز وجل.
ص 20
وَإِنَّمَا يَنَالُ المره العِلْمَ عَلى قَدْرِ إِخْلَاصِهِ.
والإخلاص في العِلْم يَقُومُ عَلَى أَرْبَعَةِ أصول، بها تَتَحَقَّقُ نِيَّةُ العِلْمِ لِلْمُتَعَلِّمِ إِذَا قصَدَهَا:
الأَوَّلُ: رَفْعُ الجَهْلِ عَنْ نَفْسِهِ؛ بِتَعْرِيفِها مَا عَلَيْهَا مِنَ العُبُودِيَّاتِ، وَإِيقَافِهَا عَلَى مَقَاصِدِ الأمر والنهي.
الثَّانِي: رَفْعُ الجَهْلِ عَنِ الْخَلْقِ؛ بِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ.
الثَّالِثُ: إِحْيَاءُ العِلْمِ، وَحِفْظُهُ مِنَ الضَّيَاعِ
الرابع: العَمَلُ بالعِلْمِ.
فَالعِلْمُ شَجَرَةُ، وَالعَمَلُ ثَمَرَةُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ العِلْمُ لِلْعَمَلِ.
ص 21-22
إِنَّ كُلَّ عِلْمٍ نَافِعِ مَرَدُّهُ إِلَى كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَاقِي العُلُومِ إِمَّا خَادِمٌ كما فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا تَتَحَقَّقَ بِهِ الخِدْمَةُ، أَوْ أَجْنَبى عَنْهُما فَلَا يَضُرُّ الجهل به.
فَإِلَى القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَرْجِعُ العِلْمُ كُلُّهُ، وَبِهِمَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكَ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الزخرف]
وَهَلْ أُوحِيَ إِلَى أَبي القَاسِم صَلَى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ سِوَى القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؟!
وَمَنْ جَعَلَ عِلْمَهُ القُرْآنَ وَالسُّنَّةَ؛ كَانَ مُتَّبِعًا غَيْرَ مُبتدع وَنَالَ مِنَ العِلْمِ أَوْفَرَهُ.
ص 35
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
فالزَائغ عن الطَّريق الواضح لا يُوفَّقُ إلى أصلِ العلمِ وهو علم الكتاب والسنة، فمَنْ أصابه مَسُّ الهوى مَالَ عن الهُدَى، ففاته العلم النَّافِعُ بقدرِ في قلبه من نجاسة الأهواء والبدع، وإذا زَكَى قلب العبد بالتوحيد والسُّنَّة فَتَحَ الله له من المعارف والعلوم ما يُحجب عن غيره من المتلطَّخين بهذهِ النَّجاساتِ.
فالشَّأنُ في إصابة الخير الذي يكون في القرآن والسُّنَّة من العلم والفهم هو بحسب صِدقِ العبد في التَّجرُّد الله عَزَّوَجَلَّ توحيدًا، ولمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّباعًا، فَمَنْ وحَدِ اللَّهَ، وَصَدَقَ في اتِّباعهِ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَ له خيرٌ كثير من العلم بالكتاب والسُّنَّة.
وإذا عرض للعبد من أحوالِ الشَّركِ والبدعةِ شَيءٌ حُجِبَ عنه الفهمُ بعُرُوضِ هَاتِين النَّجاستين له، فلا سبيل إلى حيازة الخير المنطوي في الكتاب والسُّنَّةَ إِلَّا بِصِدْقِ التَّجرُّد في اتباعها وامتثال أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ص 38
فطَرِيقُ العِلْمِ وَجَادَّتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَمْرَيْنِ، مَنْ أَخَذَ بِهِمَا كَانَ مُعَظَّما لِلْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ يَطْلُبُهُ مِنْ حَيْثُ يُمْكِنُ الوُصُولُ إِلَيْهِ:
فَأَمَّا الأَمْرُ الأَوَّلُ: فَحِفْظُ مَتْنِ جَامِعِ لِلرَّاجِحِ، فَلَا بُدَّ مِنْ حِفْظُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنَالُ العِلْمَ بِلَا حِفْظٍ فَإِنَّهُ يَطْلُبُ مُحَالًا. وَالمَحْفُوظ المُعَوَّل عَلَيْهِ هُوَ المَتْنُ الجَامِعُ للرَّاجح؛ أَي المُعْتَمَدُ عِنْدَ أَهْلِ الفَنِّ.
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَأَخْذُهُ عَلَى مُفِيدِ نَاصِحٍ، فَتَفْزَعُ إِلَى شَيْخِ تَتَفَهَّمُ عَنْهُ مَعَانِيهِ، يَتَّصِفُ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ: وَأَوَّلهُما: الإِفَادَةُ، وَهِيَ الأَهْلِيَّةُ فِي العِلْمِ، فَيَكُونُ مِمَّنْ عُرِفَ بِطَلَبِ العِلْمِ وَتَلَقِّيهِ حَتَّى أَدْرَكَ، فَصَارَتْ لَهُ مَلَكَةٌ قَوِيَّةٌ فِيهِ … أَمَّا الوَصْفُ الثَّانِي: فَهُوَ النَّصِيحَةُ، وَتَجْمَعُ مَعْنَيَيْنِ اثْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: صَلَاحِيَّةُ الشَّيْخِ لِلاقْتِدَاءِ بِهِ، وَالاهْتِدَاءِ بهديِه وَدَلَّهِ وَسَمْتِهِ. وَالآخَرُ: مَعْرِفَتُهُ بِطَرَائِقِ التَّعْلِيمِ، بِحَيْثُ يُحْسِنُ تَعْلِيمَ المُتَعَلِّمِ، وَيَعْرِفُ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَمَا يَضُرُّهُ.
ص 41-42
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
(الجَهْلُ بِالطَّرِيقِ، وَآفَاتِهَا، وَالمَقْصُودِ؛ يُوجِبُ التَّعَبَ الكَثِيرَ مَعَ الفَائِدَةِ القَلِيلَةِ) [ابن القيم]. فالتَّعبُ الكَثِيرُ الَّذِي يَعْرِضُ لِطلاب العِلْمِ وَيُخْرِزُونَ مَعَهُ فَائِدَةً قَلِيلَةٌ مَنْشَؤُهُ مِنْ أَحَدٍ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ذَكَرَهَا ابْنُ القَيِّم:
أَوَّلُها الجَهْلُ بالطَّرِيقِ؛ فَيَلْتَمِسُ العِلْمَ جَاهِلًا طَرِيقَ الوُصُولِ إِلَيْهِ.
وَثَانِيهَا الجَهْلُ بِآفَاتِ الطَّرِيقِ وَهِيَ الشُّرُورُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْعَبْدِ فِيهِ.
وَثَالِثهَا: الجَهْلُ بِالمَقْصُودِ، أَيْ: بِالمُرَادِ الأَعْظَمِ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ، وَهُوَ الرِّفْعَةُ عِنْدَ اللَّهِ.
ص 43
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
ثمَّ ذكر الأمرَ (الآخَرَ) فقال: (أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ تَحْصِيلَ مُخْتَصَرٍ فِي كُلِّ فَنْ)؛ بأن يأخذ من كل فن طرفًا بدراسةِ مُختصر، ثمَّ إِذَا اسْتَعْمَلَ أَنْوَاعَ العُلُومِ النَّافِعَةِ نَظَرَ إِلَى مَا وَافَقِ طَبْعَهُ مِنْهَا وَأَنَسٍ مِنْ نَفْسِهِ قُدْرَةً عَلَيْهِ) بإرشاد شيخه (فَتَبَحَّرَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ فَنَّا وَاحِدًا أمْ أَكْثَر).
ثمَّ قال: (أَمَّا بُلُوغ الغَايَةِ فِي كُلِّ فَنْ) - أَيْ: النَّهَايَةِ - (وَالتَّحَقُّقُ بِمَلَكَتِهِ) - أَيْ: حَتَّى يَصِيرَ رَاسِخًا فِي النَّفْسِ - (فَإِنَّمَا يُهيَّأُ لَهُ الوَاحِدُ بَعْدَ الوَاحِدِ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ)، فَالحَدُّ الَّذِي يحظى به جمهور الخلق أن يُصيبوا أصلًا نافعًا بضبط مختصر في فن، أما بلوغُهُمُ التَّحقيق في كل فن فهذا يعسر على جمهور الخلق.
ثمَّ ذكر بعدَ ذَلِكَ أنَّ المتعلم ينظرُ فيما يمْكِنُه من تحصيل العلوم (إِفْرَادًا لِلْفُنُونِ وَمُخْتَصَرَاتِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، أَوْ جَمْعًا لَهَا، وَالإِفْرَادُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعُمُومِ الطَّلَبَةِ)، فيعمد إلى مَتْنِ في فنّ فيتلقاه، حتَّى إذا اسْتَوفَاه أنتقل إلى متنِ في فن آخرَ، ثُمَّ إِذا اسْتَوفَاه أنتقل إلى متن في فن آخر مما يحتاجه ويفتقر إليه.
ولا يحبس نفسه على علمٍ واحدٍ حَتَّى يبلغ غايته؛ فإنَّ هذا يطولُ ويُضيعُ به ما يلزمه، فلو قُدِّر أنَّ أحدًا أراد أن يترقى في معرفة أعتقاد أهل السنة والجماعة فأَخَذَ على نفسه تلقي متونهم من مبتدئها إلى منتهاها؛ يكون قد شُغِل مدَّةً عن علوم تلزمه، من الطَّهارة والصَّلاة والأذكار والآداب، لكنَّه إذا أخذ مختصرًا نافعًا في كلِّ فنّ أصاب حظه منها، ثم يترقى بعد ذَلِكَ في هذه العلوم أو غيرها إلى ما وراءها من التصانيف.
ص 53
وَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الشَّبَابِ التَّسْوِيفُ وَطُولُ الأَمَلِ، فَيُسَوِّفُ أَحَدُهُمْ وَيَرْكَبُ بَحْرَ الأَمَانِي، وَيَشْتَغِلُ بِأَحْلام اليقظة، وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّ الأَيَّامَ المُسْتَقْبَلَة سَتَفْرُغُ لَهُ مِنَ الشَّوَاغِل، وَتَصْفُو مِنَ المُكَدِّرَاتِ وَالعَوَائِقِ. وَالحَالُ المَنْظُورَةُ: أَنَّ مَنْ كَبِرَتْ سِنهُ كَثُرَتْ شَوَاغلُهُ، وَعَظْمَتْ قوَاطِعُهُ، مَعَ ضَعْفِ الجسم وَوَهَنِ القُوَى.
ص 56
وَمُقْتَضَى لُزُومُ التَّأَنِّي وَالتَّدَرُّجِ: البَدَاءَةُ بِالمُتُونَ القِصَارِ الْمُصَنَّفَةِ فِي فُنُونِ العِلْمِ حِفْظًا وَاسْتِشْرَاحًا، وَالمَيْلُ عَنْ مُطَالَعَةِ المُطَوَّلَاتِ الَّتِي لَم يَرْتَفِعِ الطَّالِبُ بَعْدُ إِلَيْهَا. ص 61
وَصَبْرُ العِلْمِ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: صَبْرٌ فِي تَحَمُّلِهِ وَأَخْذِهِ؛ فَالحِفْظُ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ، وَالفَهْمُ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ، وَحُضُورُ مَجَالِسِ العِلْمِ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ، وَرِعَايَةُ حَقٌّ الشَّيْخِ تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ.
والنَّوْعُ الثَّانِي: صَبْرٌ فِي أَدَائِهِ وَبَشِّهِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَالجُلُوسُ لِلْمُتَعَلِّمِينَ يَحْتَاجُ إِلَى صَبْرِ، وَإِفهَامُهُمْ يَحْتَاجُ إلى صبر، واحتمال زلاتِهِمْ يَحتاجُ إلَى صَبْر.
وفوق هذينِ النُّوعَيْنِ مِنْ صَيْرِ العِلْمِ الصَّبْرُ عَلَى الصَّبرِ فِيهِما وَالثَّبَات عَلَيْهِما.
ص 65-66
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مَدَارِج السَّالِكِينَ»: «أَدَبُ المَرْءِ عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ، وَقِلَّةُ أَدَبِهِ عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ، فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمِثْلِ الأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهُمَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ».
ص 69
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
النَّاسَ يَتَصَاحَبُونَ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ مَطَالِبَ لَا رَابِعَ لَهَا:
المَطْلَبُ الأَوَّلُ: صُحْبَةُ الفَضِيلَةِ.
وَالمَطْلَبُ الثَّانِي: صُحْبَةُ المَنْفَعَةِ.
والمَطْلَبُ الثَّالِثُ: صُحْبَةُ اللَّذَّةِ.
فتنعقد رابطة بين أمري وغيره تارةً لأجل فضيلةِ يَتَشَاركون في طَلَبِهَا، وتنعقد تارةً أخرى بين هذا وذَاكَ لأجل منفعةٍ يرجوهَا أحدُهُمَا مِنَ الآخر، وتنعقد تارةً أخرى بين هذا وذَاكَ رجاءَ لَذَّةٍ يُصِيبُهَا من صاحِبِه.
وهذه المطالب الثلاثة لا خير في شيءٍ منهَا إِلَّا في أوّلها، وهي أن تكون رابطةُ الزَّمالة منعقدةً علَى آصِرَة الفضيلةِ؛ فيشَارِكُ المرء غيره لأجل تحصيل فضيلة يتعاونان على تحصيلها؛ لأنَّ ملتمس المنفعَةِ أو اللَّذَّة معكَ إِذا حَازَهَا وَلَّاك ظهره، وأما صاحب الفضيلةِ فَإِنَّه لا يزالُ يُشَارِكُكَ مَا تريدُ مِنَ الفضائل، ولو قُدِّر أنَّه أبتعد عنكَ لم يبتعد إِلَّا في خيرٍ ، وأَمَّا مُلتَمِسُ المنفعَةِ أو اللَّذَّة فإنَّهما ربَّما جرًا عليك شرًا بعد مفارقتهما لك.
ص 83
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
مِنْ قَوَاعِدِ حِفْظِ العِلْمِ: أَنَّ مَنْ أَرَادَ حِفْظُ شَيْءٍ رَفَعَ صَوْتَهُ بِهِ؛ ليستعين برفعِ الصَّوت على ثباتِ المعنَى في القلبِ، فإِنَّ الحِفْظ يُسْتَجْلَبُ مِنَ المَحْفُوظٍ بِجَمْعِ التَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: العَيْنُ؛ بِإِمْضَاءِ البَصَرِ فِي المَحْفُوظِ. وَالأُخْرَى الأُذُنُ؛ بِرفْعِ الصَّوْتِ حَتَّى يَصِلَ المَحفُوظ إلى الأُذُنِ فَيَقَرُّ فِي القَلْبِ. فَإِذَا أَرَدْتَ حِفْظُ شَيْءٍ فَارْفَعْ صَوْتَكَ وإذا أردت فهم شيء فاخفِضْ صوتَكَ به؛ فإنَّ القراءة المتفهمة تحتاج إلى جمع القلب على المراد فهمه، ولا يمكن جمع القلب إلا بخفض الصوتِ؛ لأَنَّ رَفعَ الصَّوتِ يُشَوِّشُ على القلب ويؤثر فيه اضطرابًا، فإذا حفظت فارفع صوتك، وإذا تفهمتَ فاخفِضْهُ.
ص 88-89
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
ومما يَجُولُ بَيْنَ مُلْتَمِس العِلْمِ وَبَيْنَ الْحِفْظِ آفتَانِ عَظِيمَتَانِ:
الأُولَى: تَرْكُ رِيَاضَةِ القَلْبِ فِي الحِفْظِ فَإِنَّ القَلْبَ آلَةٌ تَقْوَى بتدريجها، فإِذَا أَخذتها شيئًا فشيئًا وَرُضْتَهَا على الحفظ تهيَّأ لك من قوته بعد ما لم يكن لك في الابتداء …
وَالآفَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِطَالَةُ الطَّرِيقِ وَالاسْتِعْجَالُ؛ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ هَجَّامًا عَلَى الْمَحْفُوظَاتِ، فَهُوَ يَحْفَظُ هُنَا فِي ثَلَاثَةِ الأُصُولِ، ثُمَّ يَسْمَعُ مَدْعَى حِفْظِ الْحَدِيثِ، فَيَتَحَوَّلُ إِلَى الْأَرْبَعِينَ النَّوَوِيَّةِ، ثُمَّ يَسْمَعُ ثَالِثا يَشْكُرُ حِفْظَ مَعَانِي القُرْآنِ وَيُثْنِي عَلَى أَهْلِهَا فَيَتَحَوَّلُ إِلَى حِفْظِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْ هذَا وَذَاكَ، فَلَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى. ومِنْ بَدَائِعِ ابْنِ القَيِّمِ قَوْلُهُ: “مَنِ اسْتَطَالَ الطَّرِيقَ ضَعُفَ مَشْيُهُ”. فإذَا أخذ المرءُ نفسه في طريق العلم شيئًا فشيئًا متدرّجا بما يرشده إليه النَّاصحون من أهل العلم العارفون به وصبر على ذَلِكَ فَإِنَّه يُدرك مأموله من العلم.
ص 90
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
(فَالحِفْظُ غَرْسُ العِلْمِ)؛ فَإِذَا حَفِظْتَهُ غَرَسْتَ العِلمَ فِي قلبك.
(وَالمُدَاكَرَةُ سَفْيُهُ) أَيْ: بِمَنْزِلَةِ المَاءِ الَّذِي يُجْرَى إِلَى ذَلِكَ الْعِلْمِ سَقْيَا لَهُ.
(وَالسُّوَالُ عَنْهُ تَنْميتُهُ)، أَيْ: تَزْكِيتُهُ وَتَقْوِيتُهُ، وَتَكْثِيرُهُ في النَّفْسِ.
ص 92
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
فَإِذَا صَدَرَ من أحدٍ من العُلماءِ زلَّةٌ فإِنَّ كَما يُرعَى معه إقامةُ هَذِهِ الأمورِ السِّتَّة:
وَأَوَّلها: (التَبتُ فِي صُدُورِ الزَّلَّةِ مِنْهُ)؛ أي: التَّحقُّقُ في كونِ المَنقولِ عَنْهُ زَلَّةٌ هُو مِمَّا صَدَرَ عنه، فلربما عُزِي إلى أحدِ زلَّة هو بَراء منها، فإِنَّ نَقُلَ النَّاسِ لَا خِطَامَ لَهُ ولا زِمام.
وثانيها: (التَّثبَتُ فِي) كونِ تلكَ الزَّلَّة (خَطَأَ)، (وَهَذِهِ وَظِيفَةُ العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، فَيُسْأَلُونَ عَنْهَا)…
الأمر الثالث: وهُوَ (تَرْكُ اتَّبَاعِهِ فِيهَا)؛ فإنَّ مَنْ زَلَّ لم يكن خطوه سُلَّما يُعتذر به في متابعته، بل إذا تبين ذلله وخطوه لم يُتبع في ذَلِكَ.
ورابعها: (الْتِمَاسُ العُذْرِ لَهُ بِتَأْوِيلِ سَائِغ)، أَيْ: تَطَلُّبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلامُه مِمَّا لَهُ مَأْخَذُ قوي في العِلم…
وخامسها (بَذْلُ النُّصْحِ لَهُ بِلُطْفِ وَسِرُ، لَا بِعُنْفِ وَتَشْهير)؛ لأنَّ المقصود من بيان زلَّتِهِ رده عن خطئه، وبلوغ هذا الغرض يمكن باللطف والتيسير، أما العُنفُ والتشهير فربما حمله عَلَى التَّعصُّبِ لها والإصرار على خطئِه.
ثمَّ ذَكَرَ سَادِسَها: وهوَ (حِفْظُ جَنَابِهِ)؛ وَالجَنَابُ هُوَ : الجَانِبُ، وَالمُرَادُ بِهِ: القَدْرُ، فَيُحْفَظُ قَدْرُهُ و(لَا تُهْدَرُ كَرَامَتُهُ فِي قُلُوبِ المُسْلِمِينَ)، بل يبقَى ما له من الرتبة والمنزلَةِ عندَهم، فإِنَّ الخطيئةَ مُقَارِنَةٌ للآدَمِيَّةِ.
وإِذَا صَدَرَ من أَحَدٍ من النَّاس خطأُ لم يَحْسُن أن يُجعل غرضًا لإسقاطه وإهانته عند بل مَنْ ثبت مقامه في العلم والسُّنَّةِ حُفِظَ قدره تعظيما للشَّريعةِ.
ص 97-98
وَالنَّاجُونَ مِنْ نَارِ الفِتَنِ السَّالِمُونَ مِنْ وَهَجِ المِحَنِ؛ هُمْ مَنْ فَزِعَ إِلَى العُلَمَاءِ وَلَزِمَ قَوْهُمْ، وَإِنِ أَشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِمْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِمْ، فَطَرَحَ قَوْلَهُ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِم، فَالتَّجْرِبَةُ وَالخِبْرَةُ هُمْ كَانُوا أَحَقُّ بِهَا وَأَهْلَهَا، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَاهُمْ لَزِمَ قَوْلَ جُمهُورِهِمْ وَسَوَادِهِمْ؛ إِيثَارًا لِلسَّلَامَةِ؛ فَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِها شَيْءٌ.
ص 99
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
ثم ذكر حال العلماء فقالَ: (فَإِنَّ العُلَمَاءَ) - أي: من أئمة الهدى - (بِعِلْمٍ تَكَلَّمُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذِ سَكَتُوا) ؛ فإِنَّهم إذا صدرَ منهم كلامٌ فمنشؤُه العلم، وإذا سَكَتُوا عن أمرٍ لَجَّ فيه النَّاسِ فمنشأُ سكوتهم البصر النافذ - أي: العقل الكامل - ، فإنَّه يكون لهم من كمال المعرفة والخبرة مع طول المدة وكثرةِ التَّجربة ما لا يكون لغيرهِمْ مِمَّنْ هو أصغر منهم عُمُرًا، وإن كان هو في أعين النَّاس أعظمُ عِلمًا.
ثمَّ قال: (فَإِنْ تَكَلَّمُوا فِي مُشْكِلِ فَتَكَلَّمْ بِكَلَامِهِمْ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُ فَلْيَسَعْكَ مَا وَسِعَهُمْ)؛ لأن السلامة لا يعدها شيء، والسلامة التي لا تُعدَلُ حَادِيهَا الخَوفُ من اللهِ عَزَّ وَجَل، أن يتكلم المرءُ بشيء في دين الله، فإذا أوقفه الله عَزَ وَجَلَّ بين يديه فسأله لم يجد لنفسه مخرجًا، وربَّما ظهرت ندامته على قوله في الدُّنيا، بتأسفه على صدور كلام منه جَرَّ إلى إراقة الدماء وترويع الآمنين، وهَتْكِ العورات، وكان يسعُهُ من السَّلامة الدينيَّة أَنْ يَكِلَ الأمر إلى العلماء الراسخين العارفين بهذا.
ص 101-102
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
من مظاهر انتصار أهلِ العلمِ لهُ [أي: للعلم] (الرَّدُّ عَلَى المُخَالِفِ، فَمَنِ اسْتَبَانَتْ مُخَالَفَتُهُ لِلشَّرِيعَةِ رُدَّ عَلَيْهِ كَائِنَّا مَنْ كَانَ حَمِيَّةً لِلدِّينِ وَنَصِيحَةً لِلْمُسْلِمِينَ)، قال الإمام أحمد: “لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ”، فليس ردُّ القولِ المخالفِ الدَّليلَ من هُجْرِ القولِ، بَلْ هَذَا أَصل مقرَّرُ وثيق في الشَّرع، وهو من وظائفِ العُلَمَاء، فهمُ المرشَّحُونَ لذَلِكَ دونَ الدَّهْمَاء.
والدهماء هُمُ العَامَّةُ؛ سُمُّوا دَهْمَاءَ : لِأَنَّهُمْ قَدْ غَطَّوُا الْأَرْضَ، فَأَصْلُ الدَّهْمِ : التَّغْطِيَةُ، وَأَكْثَرُ أَهْل الأَرْضِ مِنْ قَبْلُ ومن بعد هم من العوام الدهماء.
(وَمِنْهَا : هَجَرُ المُبْتَدِعِ - ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى الفَرَّاءُ إِجْمَاعًا - )؛ فإِنَّ مِمَّا يُحفَظُ به العلمُ أَن يُهْجَرَ أهل البدع، فلا يُؤخذ العلم عنهم، فالأصل تركهم والإعراضُ عنهم، (لَكِنْ إِذَا أَضْطُرَّ إِلَيْهِ فَلَا بَأْسَ)؛ كأنْ يكونَ في دراسة نظاميَّةٍ لا سبيل له إلَى التَّخلّي من الأخذ عن المَمْسُوسِ ببدعة، أو غير ذَلِكَ من الأحوالِ، وَفْقَ المقرَّر عند المحدثين في الرواية عن أهل البدع. وتتأكَّد مراعاة هذَا فِي أَزْمِنَةِ الجَاهِلِيَّةِ وَالفِتَنِ)
ص 111
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
المفلِحَ في السُّؤال المتحفِّظَ فِيهِ هو (مَنْ أَعْمَلَ أَرْبَعَةَ أُصُولٍ: أَوَّلا: الفِكْرُ فِي سُؤَالِهِ لِمَاذَا يَسْأَلُ؟) - أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى السُّؤَالِ، فَإِنَّ مَنْ سَاءَ قَصْدُهُ فِي سُؤَالِهِ يُحْرَمُ بَرَكَةَ العِلْمِ، وَيُمْنَعُ مَنْفَعَتَهُ) …
(الأَصْلَ الثَّانِي): وهو (التَّفَطنُ إِلَى مَا يَسْأَلُ عَنْهُ)، فَلَا يَسأَلُ عن شيءٍ إِلَّا شَيئًا ينفعه…
(الأَصْلَ الثَّالِثَ): وهو (الانْتِبَاهُ إِلَى صَلَاحِيَّةِ حَالِ الشَّيْخِ لِلإِجَابَةِ عَنْ سُؤَالِهِ)؛ أَيْ: تَهَيُّؤُهُ لِلْجَوَابِ، فإنَّه ربّما كان مهمومًا، أو مغموما، أو مَشْغولًا في طريق أو في حالٍ، فلم يَحْسُن سُؤاله…
(الأَصْلَ الرَّابِعَ): وهو (تَيَقُظُ السَّائِلِ إِلَى كَيْفِيَّةِ سُؤَالِهِ)، بأن تُخْرِجَه (فِي صُورَةٍ حَسَنَةٍ مُتَأَدبَةٍ، فَيُقَدِّمُ الدُّعَاءَ لِلشَّيْخ، وَيُبَجِّلَهُ فِي خِطَابِهِ) - أي: يُعَظمُهُ، ثُمَّ يَعْرِضُ سؤاله علَيهِ، (وَلَا تَكُونُ مُخَاطَبَتَهُ) شَيْخَه (كَمُخَاطَبَتِهِ أَهْلَ السُّوقِ وَأَخْلَاطِ العَوَام)
ص 116
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
ذكر المصنّف وفقه الله (المعقد التَّاسع عشر) من معاقِدِ تعظيم العلم، وهو : (شَغَف القَلْبِ بِالعِلْمِ وَغَلَبَتُهُ عَلَيْهِ)؛ أَيْ: مَحَبَّتُهُ العِلْمَ حَتَّى يَبْلُغَ شِغَافَ قَلْبِهِ، وَشِغَافُ القَلْبِ هُوَ غِشَاؤُهُ، فَيَبْلُغُ حُبُّهُ العِلْمَ بَاطِنَ قَلْبِهِ ، فصدق الطَّلبِ للعلم يوجِبُ محبّته، وتعلق القلبِ بهِ.
ثم ذكرَ أنَّ المرء يحظى بلدة العلم بإحراز ثلاثة أمور، ذكرَهَا أَبْنُ القيم في «مِفتاح دارِ السعادة» :
(أَحَدُهَا : بَذْلُ الوُسْع) - وهو الطَّاقَةُ - (والجَهْدِ) فيه.
(وَثَانِيهَا: صِدْقُ الطَّلَب
وَثَالِتُهَا: صِحَّةُ النية والإخلاص).
ثم قال: (وَلَا تَتِمُّ هَذِهِ الأُمُورُ الثَّلَاثَةُ إِلَّا مَعَ دَفع كُلِّ مَا يُشْغِلُ عَنِ القَلْبِ).
ص 121
قَالَ أَبْنُ الْجَوْزِيٌّ فِي صَيْدِ خَاطِرِهِ»: «يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ شَرَفَ زَمَانِهِ، وَقَدْرَ وَقْتِهِ، فَلَا يُضَيَّعُ مِنْهُ لَخَطَةٌ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ، وَيُقَدِّمَ فِيهِ الأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ مِنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ». ص 122
أحْفَظُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - قَوْلَ أَبِي عَبْدِ الله ابن القيم: «طَالِبُ النُّفُوذِ إِلَى اللهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، بَلْ إِلَى كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةِ وَرِئَاسَةِ، بِحَيْثُ يَكُونُ رَأْسًا فِي ذَلِكَ مُقْتَدًى بِهِ فِيهِ؛ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ شُجَاعًا مِقْدَامًا، حَاكِمًا عَلَى وَهْمِهِ، مَقْهُورٍ تَحْتَ سُلْطَانِ تَخَيَّلِهِ، زَاهِدًا فِي كُلِّ مَا سِوَى مَطْلُوبِهِ، عَاشِقًا لِمَا تَوَجَّهَ إِلَيْهِ، عَارِفًا بطَريقِ الوُصُولِ إِلَيْهِ، وَالطُّرُقِ القوَاطِع عَنْهُ، مِقْدَام الهِمَّةِ، ثَابِتَ الجَأْشِ، لَا يَثْنِيهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ لَوْمُ لَائِمٍ، وَلَا عَذْلُ عَاذِلٍ، كَثِيرَ السُّكُونِ، دَائِمَ الفِكْرِ، غَيْرَ مَائِلٍ مَعَ لَذَّةِ المَدْحِ، وَلَا أَلَمِ الدَّمَ، قَائِمًا بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ مَعُونَتِهِ، لَا تَسْتَفِزهُ المُعَارَضَاتُ، شِعَارُهُ الصَّبْرُ، وَرَاحَتُهُ التَّعَبُ، مُحِبَّا لِمَكَارِمِ الأَخْلَاقِ، حَافِظًا لِوَقْتِهِ، لَا يُخَالِطُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى حَذَرٍ؛ كالطَّائِرِ الَّذِي يَلْتَقِطُ الحَبَّ بَيْنَهُمْ، قَائِمًا عَلَى نَفْسِهِ بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، طَامِعًا فِي نَتَائِحِ الْاِخْتِصَاصِ عَلَى بَنِي جِنْسِهِ، غَيْرَ مُرْسِلِ شَيْئًا مِنْ حَوَاسِهِ عَبْنًا، وَلَا مُسَرِّحًا خَوَاطِرَهُ فِي مَرَاتِبِ الكَوْنِ، وَمِلَاكُ ذَلِكَ هَجْرُ العَوَائِدِ، وَقَطْعُ العَلَائِقِ الحَائِلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ المَطْلُوبِ». أَنتَهى كَلَامُه. فما أجمله ذكرى وتبصرة!
ص 126
قال الشيخ العصيمي في الشرح:
فتحصيل المطلوبات يرجع إلى ثلاثة أصول: أحدها : هَجْرُ العَوائِدِ. وثانيها: قَطْعُ العَلَائِقِ. وثالثها : رَفْضُ العَوائِقِ.
والمراد ب(هَجْرِ العَوائِدِ): تركُ مَا جَرَتْ عليه عادةُ النَّاسِ.
والمراد ب(قطعِ العَلَائِقِ): الصَّلَاتُ الحائلةُ بينَ العبد وبينَ مَطلُوبِه.
وزاد ابن القيم في موضع آخرَ (رفض العوائِقِ)، وفَرَّقَ بينهَا وَبَينَ العَلَائِقِ بِأَنَّ العوائق الحوادِثُ الخارجية - أي: التي تعرض للعبد من غيره - ، وأَنَّ العَلَائِقَ هِيَ: التَّعلُّقَاتُ الداخلية القَلْبيَّة.
ص 128