المؤلف:: ابن رجب الحنبلي
الناشر::
سنة النشر:: 2008-01-01
الصفحات::
الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1405507252l/22732077.jpg
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/22732077
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات:: تقريب_تراث_السلف
الغرض::
المعرفة:: طلب العلم,
التدريب:: ,
المؤثر:: ,
تاريخ القراءة:: 2024-08-08
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::


العلم النافع

فَلَيسَ العِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَلَا بِكَثْرَةِ المَقَالِ؛ وَلَكِنَّهُ نُورٌ يُقْذَفُ في القَلْبِ، يَفْهَمُ بهِ العَبْدُ الحَقِّ، وَيُمَيِّزُ بِهِ بَينَهُ وَبَينَ البَاطِلِ، وَيُعَبِّرُ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَاتٍ وَجِيزَةٍ مُحَصِّلَةٍ للمَقَاصِدِ. ص ٦١

ليس العلم بكثرة القول

قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ أيضا: (إِنَّكُم فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ عُلَمَاؤُهُ، قَلِيلٌ خُطَبَاؤُهُ، وَسَيَأْتِي بَعْدَكُم زَمَانٌ قَلِيلٌ عُلَمَاؤُهُ، كَثِيرٌ خُطَبَاؤُهُ). فَمَنْ كَثُرَ عِلْمُهُ وَقَلَّ قَولُهُ فَهُوَ الْمَمْدُوحُ، وَمَنْ كَانَ بِالعَكْسِ فَهُو مَذْمُومٌ. ص ٦٥

أفضل العلوم

فَأَفْضَلُ العُلُوم في تَفْسِيرِ القُرْآنِ وَمَعَانِي الحَدِيثِ والكَلامِ فِي الحَلالِ والحَرَامِ مَا كَانَ مَأْثُورًا عَنِ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وتَابِعِيهِم إِلَى أن يَنْتَهِي إِلَى زَمَنِ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ المَشْهُورِينَ المُقْتَدَى بِهِم، الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُم فِيمَا سَبَقَ. فَضَبْطُ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ العُلُومِ مَعَ تَفَهُمِهِ والتَّفَقهِ فِيه. وَمَا حَدَثَ بَعْدَهُم مِن التَّوَسُّع لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْهُ إِلا أَن يَكُونَ شَرْحَا لِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ مِن كَلَامِهِم. وَأَمَّا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِكَلامِهِم فَأَكْثَرُهُ بِاطِلٌ أو لا مَنْفَعَةَ فيه. وفِي كَلامِهِم فِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ وِزِيَادَةٌ، فَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ مَن بَعْدَهُم مِن حَقٌّ إِلا وَهُو فِي كَلَامِهِم مَوجُودٌ بِأَوْجَزِ لَفْظِ وأَخْصَرِ عِبَارَةٍ، ولا يُوجَدُ في كَلَامِ مَن بَعْدَهُم مِن بَاطِلِ إِلا وَفِي كَلامِهِم مَا يُبَيِّنُ بُطْلَانَهُ لِمَن فَهِمَهُ وَتَأَمَّلَهُ، وَيُوجَدُ فِي كَلامِهِم مِن المَعَانِي البَدِيعَةِ والمَآخِذِ الدَّقِيقَةِ مَالَا يَهْتَدِي إِلَيهِ من بَعْدَهُم ولا يُلِمُّ بِهِ. فَمَن لَم يَأْخُذِ العِلْمَ مِن كَلَامِهِم فَاتَهُ ذَلِكَ الخَيْرُ كُلُّهُ، مَعَ مَا يَقَعُ في كَثِيرٍ من البَاطِل مُتَابَعَةٌ لِمَن تَأَخَّرَ عَنْهُم. ص ٦٥ - ٦٦

عليك بمن سلف واحذر مما أحدث

وَفِي زَمَانِنَا يَتَعَيَّنُ كِتَابَةُ كَلَامِ أَئِمَّةِ السَّلَفِ المُقْتَدَى بِهِم إلَى زَمَنِ الشَّافِعِي وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وأَبِي عُبَيدِ، وَلْيَكُن الإِنسَانُ عَلَى حَذَرٍ مِمَّا حَدَثَ بَعْدَهُم؛ فَإِنَّهُ حَدَثَ بَعْدَهُم حَوَادِثُ كَثِيرَةٌ، وَحَدَتْ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ والحَدِيثِ مِن الظَّاهِرِيَّةِ وَنَحْوِهِم؛ وَهُوَ أَشَدَّ مُخَالَفَةٌ لَهَا لِشُذُوذِهِ عَن [الأَئِمَّةِ ] (١) وانفِرَادِهِ عَنْهُم بِفَهُم يَفْهَمُهُ، أَو يَأْخُذُ مَا لَمْ يَأْخُذْ بِهِ [الأَئِمَّةُ ] (٢) مِن قَبْلِهِ. ص ٦٨

العلم النافع من العلوم كلها

فَالعِلْمُ النَّافِعُ مِن هَذِهِ العُلُومِ كُلَّهَا:

ضَبْطُ نُصُوصٍ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وَفَهُمُ مَعَانِيهَا، وَالتَّقَيُّدُ فِي ذَلِكَ بِالمَأْثُورِ عَن الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِم فِي مَعَانِي القُرآنِ والحَدِيثِ، وَفِيمَا وَرَدَ عَنْهُم مِن الكَلامِ فِي مَسَائِلِ الحَلَالِ والحَرَامِ وَالزُّهْدِ والرَّقَائِقِ والمَعَارِفِ وَغَير ذَلِكَ، وَالاجْتِهَادُ عَلَى تَمْيِيزِ صَحِيحِهِ مِن سَقِيمِهِ أَوَّلاً، ثُمَّ الاجْتِهَادُ عَلَى الوُقُوفِ فِي مَعَانِيهِ وَتَفَهُمُهُ ثَانِيَا، وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَن عَقَل، وشُعَلٌ لِمَنْ بِالعِلْمِ النَّافِعِ عُنِيَ وَاشْتَغَلَ.

وَمَن وَقَفَ عَلَى هَذَا وأَخْلَصَ القَصْدَ فِيهِ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ واسْتَعَانَه عَلَيْهِ؛ أَعَانَهُ وَهَدَاهُ وَوَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ وَفَهَّمَهُ وأَلْهَمَهُ، وَحِينَئِذٍ يُثْمِرُ لَهُ هَذَا العِلْمُ ثَمَرَتَهُ الخَاصَّةَ بَهِ، وَهِيَ خَشْيَةُ اللهِ ، كَمَا قَال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء} [فاطر: ٢٨]. وقالَ ابنُ مَسْعُودٍ وغَيْرُهُ: (كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ عِلْمًا، وَكَفَى بِالاغْتِرَارِ بِاللهِ جَهْلاً) (۱). وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (لَيسَ العِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَلَكِنَّ العِلْمَ الخَشْيَة) (٢). وَقَالَ بَعْضُهُم: (مَنْ خَشِيَ اللَّهَ فَهُوَ عَالِمٌ، وَمَنْ عَصَاهُ فَهُو جَاهِلٌ) (۱). وكَلامُهُم فِي هَذَا المَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا.
وَسَبَبُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا العِلْمَ النَّافِعَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَينِ:

  • أَحَدِهِمَا: عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَا يَسْتَحِقُهُ مِن الأَسْمَاءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلَى والأفْعَالِ البَاهِرَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ إِجْلالَهُ وإعْظَامَهُ، وخَشْيَتَهُ وَمَهَابَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ وَرَجَاءَهُ، والتَّوَكُلَ عَلَيْهِ، والرِّضَى بِقَضَائِهِ والصَّبْرَ عَلَى بَلائِهِ.
  • وَالأَمْرُ الثَّانِي: المَعْرِفَةُ بِمَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَسْخطه من الاعْتِقَادَاتِ والأعْمَالِ الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ والأقْوَالِ، فَيُوجِبُ ذَلِكَ لِمَنْ عَلِمَهُ المُسَارَعَةَ إِلَى مَا فِيهِ مَحَبَّةٌ اللهِ ورِضَاهُ والتَّبَاعُدُ عَمَّا يَكْرَهُهُ وَيُسْخِطُهُ، فَإِذَا أَثْمَرَ العِلْمُ لِصَاحِبِهِ هَذَا فَهُو عِلْمٌ نَافِعٌ.

فَمَتَى كَانَ العِلْمُ نَافِعًا وَوَقَرَ فِي القَلْبِ فَقَدْ خَشَعَ القَلْبُ اللهِ وانْكَسَرَ لَهُ، وَذَلَّ هَيبَةً وإجلالاً وخَشْيَةً وَمَحَبَّةٌ وتَعْظِيمًا. وَمَتَى خَشَعَ القَلبُ اللهِ وَذَلَّ وَانكَسَرَ لَهُ؛ قَنَعَتِ النَّفْسُ بِيَسِيرِ الحَلالِ مِن الدُّنْيا وَشَبعَت بِهِ، فَأَوجَبَ لَهَا ذَلِكَ: القَنَاعَةَ والزُّهْدَ في الدُّنْيا وَكُلِّ مَا هُو فَانٍ لَا يَبْقَى مِنَ المَالِ وَالجَاهِ وَفُضُولِ العَيشِ الَّذِي يَنْقُصُ بِهِ حَظٍّ صَاحِبِهِ عِنْدَ اللَّهِ مِن نَعِيمِ الآخِرَةِ وَإِنْ كَانَ كَريماً عَلَى اللهِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا.

وَأَوجَبَ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ بَينَ الْعَبْدِ وَبِينَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَعْرِفَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ وإنْ دَعَاهُ أَجَابَهُ؛ كَمَا قَالَ فِي والله الاحساء
الحَدِيثِ الإِلهِي: ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ إِلى قَولِهِ: «فَلَئِن سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ» (١). وفي رِوَايَةٍ: «وَلَئِن دَعَانِي لَأُجِيبَنَّهُ»(۲).

ص ٧١ - ٧٤

فَالْعِلْمُ النَّافِعُ مَا عَرَّفَ بَينَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، ودَلَّه (۱) عَلَيهِ حَتَّى عَرَفَ رَبَّهُ، وَوَحْدَهُ وَأَنِسَ بِهِ وَاسْتَحْيَا مِن قُرْبِهِ، وَعَبَدَهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ. ص ٧٧

أصل العلم

فَأَصْلُ العِلْمِ: العِلْمُ بِاللَّهِ الَّذِي يُوجِبُ خَشْيَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ والقُرْبَ مِنْهُ وَالأَنْسَ بِهِ والشَّوق إلَيهِ، ثُمَّ يَتْلُوهُ العِلْمُ بِأَحْكَامِ اللهِ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ العَبْدِ مِن قَولٍ أو عَمَل أَو حَالٍ أو اعْتِقَادِ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذَينِ العِلْمَينِ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا نَافِعًا، وَحَصَلَ لَهُ العِلْمُ النَّافِعُ، والقَلْبُ الخَاشِعُ، والنَّفْسُ القَانِعَةُ، والدُّعَاءُ المَسْمُوعُ. وَمَن فَاتَهُ هَذَا العِلْمُ النَّافِعُ وَقَعَ فِي الْأَرْبَعِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا النَّبِيُّ ، وَصَارَ عِلْمُهُ وَبَالاً وَحُجَّةٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَخْشَعْ قَلْبُهُ لِرَبِّهِ، وَلَمْ تَشْبَعْ نَفْسُهُ مِنَ الدُّنْيَا، بَلْ ازْدَادَ عَلَيْهَا حِرْصاً وَلَهَا طَلَبًا، وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُ؛ لِعَدَمِ امْتِثَالِهِ لأَوَامِرِ رَبِّهِ، وَعَدَمِ اجْتِنَابِهِ لِمَا يُسْخِطُهُ وَيَكْرَهُهُ.

هَذَا إِنْ كَانَ عِلْمُهُ عِلْمًا يُمْكِنُ الانْتِفَاعُ بِهِ؛ وَهُوَ المُتَلَقَّى عَن الْكِتَابِ والسُّنَّةِ. فَإِن كَانَ مُتَلَقَّى مِن غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ فِي نَفْ نَافِعٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ الانتِفَاعُ بِهِ بَلْ ضَرُّهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ.

ص ٧٩ - ٨٠

علامة العلم غير النافع

وَعَلامَةُ هَذَا العِلْمِ الَّذِي لا يَنْفَعُ: أَنْ يَكْسِبَ صَاحِبَهُ علامة العالم الذي لا ينفع الزَّهْوَ والفَخْرَ والخُيَلاءَ وَطَلبَ العُلُو والرّفْعَةِ في الدُّنْيَا،
والمُنَافَسَة فِيهَا ، وطَلَبَ مُبَاهَاةِ العُلَمَاءِ، وَمُمَارَاةِ السُّفَهَاءِ، وَصَرْفِ وُجُوهِ النَّاسِ إِلَيْهِ. وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِذَلِكَ فَالنَّارِ النَّارِ»(۱).

وَعَلامَةُ ذَلِكَ: إِظْهَارُ دَعْوَى الوِلايَةِ كَمَا كَانَ يَدَّعِيهِ أهْلُ الكِتَابِ، وَكَمَا ادَّعَاهُ القَرَامِطَةُ (٢) والبَاطِنِيَّةُ (۳) وَنَحْوُهُم.

وَمِن عَلامَاتِ ذَلِكَ: عَدَمُ قَبُولِ الحَقِّ وَالانْقِيَادِ إِلَيْهِ، والتَّكَبُرُ عَلى مَن يَقُولُ الحَقَّ؛ خُصُوصا إِنْ كَانَ دُونَهُم فِي أعْيُنِ النَّاسِ، والإصْرَارُ عَلَى البَاطِلِ خَشْيَةَ تَفَرُّقِ قُلُوبِ النَّاسِ عَنْهُم بِإِظْهَارِ الرُّجُوعِ إِلَى الْحَقِّ. وَرُبَّمَا أظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِم ذَمَّ أَنْفُسِهِم وَاحْتِقَارَهَا عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ؛ لِيَعْتَقِدَ النَّاسُ فِيهِم أَنَّهُم عِنْدَ أَنْفُسِهِم مُتَوَاضِعُونَ فَيُمْدَحُونَ بِذَلِكَ، وَهُوَ مِن دَقَائِقِ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ التَّابِعُونَ فَمَنْ بَعْدَهُم مِن العُلَمَاءِ.

ص ٨٠ - ٨٢

علامات العلم النافع

فَلِهَذَا كَانَ مِن عَلَامَاتِ أَهْلِ العِلمِ النَّافِعِ: أَنَّهُم لَا يَرُونَ لأنفُسِهِم حَالاً وَلا مَقَامًا، وَيَكْرَهُونَ بِقُلُوبِهِم التَّزْكِيَةَ والمَدْحَ، ولا يَتَكَبَّرُونَ عَلَى أَحَدٍ. قَالَ الحَسَنُ: (إِنَّمَا الفَقِيةُ: الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الآخِرَةِ، البَصِيرُ بِدِينِهِ، المُوَاظِبُ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ) (۱). وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: (الَّذِي لَا يَحْسِدُ مَنْ فَوقَهُ، وَلا يَسْخَرُ مِمَّنْ دُونَهُ، ولا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَهِ اللَّهُ أَجْرًا) (۲).

وَمِنْ عَلَامَاتِ العِلْمِ النَّافِعِ: أَنَّهُ يَدُلُّ صَاحِبَهُ عَلَى الهَرَبِ مِنَ الدُّنْيَا، وأعْظَمُهَا: الرِّئَاسَةُ والشُّهْرَةُ والمَدْحُ. فَالتَّبَاعُدُ عَنْ ذَلِكَ والاجْتِهَادُ فِي مُجَانَبَتِهِ مِن عَلامَاتِ العِلْمِ النَّافِعِ، فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ وَاخْتِيَارِ كَانَ صَاحِبُهُ فِي خَوفٍ شَدِيدٍ مِنْ عَاقِبَتِهِ، بِحَيثُ أَنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مَكْرًا وَاسْتِدْرَاجا.

وَمِنْ عَلَامَاتِ العِلْمِ النَّافِعِ: أَنَّ صَاحِبَهُ لا يَدَّعِي العِلْمَ، ولا يَفْخَرُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ، ولا يَنْسبُ غَيْرَهُ إِلَى الجَهْلِ إِلا مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَأَهْلَهَا؛ فَإِنَّهُ يَتَكَلَّمُ فِيهِ غَضَبا اللَّهِ، لَا غَضَبًا لِنَفْسِهِ، وَلَا قَصْدًا لِرِفْعَتِهَا عَلَى أَحَدٍ.

وَأَهْلُ العِلمِ النَّافِعِ عَلَى ضِدُّ هَذَا، يُسِيؤُونَ الظَّنَّ بِأَنْفُسِهِم، وَيُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِمَنْ سَلَفَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَيُقِرُّونَ بِقُلُوبِهِم وأَنْفُسِهِم بِفَضْل مَنْ سَلَفَ عَلَيْهِم، وَبِعَجْزِهِم عَنْ بلوغ مَرَاتِبِهِم ، والوُصُولِ إليها أو مُقَارَبَتِهَا.

ص ٨٣ - ٨٥

السكوت عما سكت السلف

فَمَنْ عَرَفَ قَدْرَ السَّلَفِ عَرَفَ أَنَّ سُكُوتَهُم عَمَّا سَكَتُوا عَنْهُ مِنْ ضُرُوبِ الكَلامِ وَكَثْرَةِ الجِدَالِ والخِصَامِ والزِّيَادَةِ فِي البَيَانِ عَلَى مِقْدَارِ الحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ عِيَّا ولا جَهْلاً ولا قُصُورًا، وإِنَّمَا كَانَ وَرَعًا وَخَشْيَةٌ اللَّهِ وَاشْتِغَالَا عَمَّا لَا يَنْفَعُ بِمَا يَنْفَعُ. وَسَواءٌ فِي ذَلِكَ كَلامُهُم في أصولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ، وفي تَفْسِيرِ القُرْآنِ والحَدِيثِ، وفي الزُّهْدِ والرَّقَائِقِ، والحِكَمِ والمَوَاعِظِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَلَّمُوا فِيهِ.

فَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُم فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ سَلَكَ غَيْرَ سَبِيلِهِم وَدَخَلَ فِي كَثْرَةِ السُّؤَالِ والبَحْثِ والجِدَالِ والقَيل والقَالِ؛ فَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُمْ بِالفَضْل وَعَلَى نَفْسِهِ بِالنَّقْصِ؛ كَانَ حَالُهُ قَرِيباً.

ص ٩٠

الحث على أن يطلب بعلمه رضى الله تعالى فقط

وَفِي الجُمْلَةِ: فَفِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الفَاسِدَةِ؛ إِمَّا أَنْ يَرْضَى الإِنْسَانُ لِنَفْسِه أَنْ يَكُونَ عَالِمَا عِنْدَ اللَّهِ، أَو لَا يَرْضَى إِلا بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَهْلِ الزَّمَانِ عَالِمًا.

فَإِنْ رَضِيَ بِالأَوَّلِ: فَلْيَكْتَفِ بِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ، وَمَن كَانَ بَيْنَهُ وَبَينَ اللَّهِ مَعْرِفَةٌ اكْتَفَى بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَمَن لَمْ يَرْضَ إِلَّا بِأَن يَكُونَ عَالِمًا عِنْدَ النَّاسِ دَخَلَ فِي قَولِهِ صلى الله عليه وسلم: (مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ ليُبَاهِي بِهِ الْعُلَمَاءَ أو يُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ أَو يَصْرِفَ بِهِ وجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ).

ص ٩١

الحث على الصبر

وَلا بُدَّ للمُؤْمِنِ مِن صَبْرٍ قَلِيل حَتَّى يَصِلَ بِهِ إِلَى رَاحَةٍ طَوِيلَةٍ، فَإِنْ جَزَعَ وَلَمْ يَصْبِرْ فَهُوَ كَمَا قَالَ ابنُ المُبَارَكِ: (مَنْ صَبَرَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَصْبِرُ، وَمَنْ جَزَعَ فَمَا أَقَلَّ مَا يَتَمَتَّعُ).

ص ٩٣