المؤلف:: بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة
الناشر::
سنة النشر::
الصفحات:: 149
الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1347717281l/16009477.jpg
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/16009477
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات::
الغرض::
المعرفة:: طلب العلم,
التدريب:: ,
المؤثر:: ,
تاريخ القراءة:: 2024-08-30
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::


مقدمة المصنف

ص 14

  • من أهم ما يبادر به اللبيب شرخ شبابه ويدئب نفسه في تحصيله واكتسابه حسن الأدب الذي شهد الشرع والعقل بفضله، واتفقت الآراء والألسنة على شكر أهله، وإن أحق
    الصفحة: 1
    الناس بهذه الخصلة الجميلة وأولاهم بحيازة هذه المرتبة الجليلة أهل العلم الذين جلوا به ذروة المجد والسناء وأحرزوا به قصبات السبق إلى وراثة الأنبياء

ص 15

  • قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدى كما يتعلمون العلم.
    وقال الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين.
    وقال سفيان بن عيينة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء على خلقه وسيرته وهديه فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل

ص 15

  • وقال بعضهم لابنه: يا بني لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من
    الصفحة: 2
    أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم.
    وقال مخلد بن الحسين لابن المبارك: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.

الباب الأول في فضل العلم والعلماء وفضل تعليمه وتعلمه

ص 18

  • قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] قال ابن عباس: العلماء فوق المؤمنين مائة درجة ما بين الدرجتين مائة عام.

ص 18

  • وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ
    الصفحة: 5
    مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ٢٨]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: ٧] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: ٨].
    فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية فينتج أن العلماء هم خير البرية.

ص 19

  • وعنه - صلى الله عليه وسلم -: العلماء ورثة الأنبياء وحسبك هذه الدرجة مجدًا وفخرًا وبهذه الرتبة شرفًا وذكرًا فكما لا رتبة فوق رتبة النبوة فلا شرف فوق شرف وارث تلك الرتبة.

ص 21

  • وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له، وقيل: معناه تحمله عليها فتعينه على بلوغ مقصده.

ص 22

  • وعنه - صلى الله عليه وسلم - ما عُبد الله بشيء أفضل من فقه في دين ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد.
    وعنه - صلى الله عليه وسلم - يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

ص 23

  • ونقل الشرمساحي المالكي في أول كتابه نظم الدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من عظم العالم فكأنما يعظم الله تعالى ومن تهاون بالعالم فإنما ذلك استخفاف بالله تعالى وبرسوله.
    وقال علي رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذمًا أن يتبرأ منه من هو فيه.

ص 23

  • وقال أبو مسلم الخولاني: العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا.
    وقال أبو الأسود الدؤلي: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.

ص 24

  • وعن معاذ رضي الله عنه: تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وبذله قربة وتعليمه من لا يعلمه صدقة.
  • وقال سفيان بن عيينة: أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء ـ وقال أيضًا: لم يعط في الدنيا شيئًا أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه، فقيل: عمن هذا؟ قال: عن الفقهاء كلهم.
  • وقال الشافعي رضي الله عنه: إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولي.
  • وعن ابن عمر رضي الله عنهما: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
    وعن سفيان الثوري والشافعي رضي الله عنهما: ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم.
    وعن الزهري رحمه الله: ما عُبد الله بمثل الفقه.
    وعن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا، وباب من العلم نعلمه عُمِلَ به
    الصفحة: 12
    أو لم يُعْمَلْ أحب إلينا من مائة ركعة تطوعًا.
    وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها؛ ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة.

فصل

ص 26

  • جميع ما ذُكِرَ من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم، لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الأتباع والطلاب.
    فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار

الباب الثاني في أدب العالم في نفسه ومراعاة طالبه ودرسه

ص 28

  • في آدابه في نفسه]
    وهو اثنا عشر نوعًا:
    [النوع الأول]
    دوام مراقبة الله تعالى في السر والعلن والمحافظة على خوفه في جميع حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله فإنه أمين على ما أودع من العلوم وما منح من الحواس والفهوم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: ٢٧]، وقال تعالى: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: ٤٤].
    وقال الشافعي: ليس العلم ما حُفِظَ, العلم ما نَفَعَ. ومن ذلك دوام السكينة، والوقار والخشوع والتواضع لله والخضوع

ص 30

  • وعن السلف: حق على العالم أن يتواضع لله في سِرِّه وعلانيته ويحترس من نفسه ويقف على ما أشهر عليه.

ص 30

  • أشهر عليه

أشكل

ص 30

  • [الثاني]
    أن يصون العلم كما صانه علماء السلف ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف فلا يذله بذهابه ومشيه إلى غير أهله من أبناء الدنيا من غير ضرورة أو حاجة أو إلى من يتعلمه منه منهم وإن عظم شأنه وكبر قدره.

ص 30

  • وقد أحسن القائل أبو شجاع
    الصفحة: 16
    الجرجاني:
    ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي … لأَخْدِمَ من لاقيت لكن لأُخْدَما
    أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة … إذًا فاتباعُ الجهل قد كان أَحْزَما
    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم … ولو عظموه في النفوس لعظما

ص 32

  • الثالث]
    أن يتخلق بالزهد في الدنيا والتقلل منها بقدر الإمكان الذي لا يضر بنفسه أو بعياله

ص 32

  • وأقل درجات العالم أن يستقذر التعلق بالدنيا لأنه أعلم الناس بخستها وفتنتها وسرعة زوالها وكثرة تعبها ونَصَبِهَا فهو أحق بعدم الالتفات إليها والاشتغال بهمومها

ص 33

  • [الرابع]
    أن ينزه علمه عن جعله سلمًا يتوصل به إلى الأغراض الدنيوية من جاه أو مال أو سمعة أو شهرة أو خدمة أو تقدم على أقرانه.

ص 33

  • الخامس]
    أن يتنزه عن دنى المكاسب ورذيلها طبعًا، وعن مكروهها عادة وشرعًا كالحجامة والدباغة والصرف والصياغة، وكذلك يتجنب
    الصفحة: 19
    مواضع التهم وإن بعدت ولا يفعل شيئًا يتضمن نقص مروءة أو ما يُسْتَنْكَرُ ظاهرًا وإن كان جائزًا باطنًا

ص 34

  • السادس]
    أن يحافظ على القيام بشعائر الإسلام وظواهر الأحكام كإقامة الصلاة في المساجد للجماعات وإفشاء السلام للخواص والعوام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى بسبب ذلك صادعًا بالحق عند السلاطين باذلاً نفسه لله لا يخاف فيه لومة لائم ذاكرًا قوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: ١٧].

ص 34

  • وكذلك القيام بإظهار السنن وإخمال البدع والقيام لله
    الصفحة: 20
    في أمور الدين وما فيه مصالح المسلمين على الطريق المشروع والمسلك المطبوع. ولا يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ نفسه بأحسنها وأكملها فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام وهم حجة الله تعالى على العوام

ص 35

  • السابع]
    أن يحافظ على المندوبات الشرعية القولية والفعلية فيلازم تلاوة القرآن، وذكر الله تعالى بالقلب واللسان، وكذلك ما ورد من الدعوات والأذكار في آناء الليل والنهار، ومن نوافل العبادات من الصلاة والصيام وحج البيت الحرام والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم

ص 36

  • وينبغي له إذا تلا القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده والوقوف عند حدوده وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد في الأخبار النبوية ما يزجر عن ذلك.
    والأولى أن يكون له منه في كل يوم وِرْدٌ راتب لا يخل به فإن غلب عليه فيوم ويوم فإن عجز ففي ليلتي الثلاثاء والجمعة لاعتياد بطالة الاشغال فيهما، وقراءة القرآن في كل سبعة أيام ورد حسن وورد في الحديث وعمل به أحمد بن حنبل، ويقال: من قرأ القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه قط.

ص 37

  • [الثامن]
    معاملة الناس بمكارم الأخلاق من طلاقة الوجه، وإفشاء السلام وإطعام الطعام، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، واحتماله منهم والإيثار، وترك الاستئثار، والإنصاف، وترك الاستنصاف، وشكر التفضل، وإيجاد الراحة، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه في الشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، والرفق بالطلبة، وإعانتهم وبرهم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
    وإذا رأى من لا يقيم صلاته أو طهارته أو شيئًا من الواجبات عليه إرشاده بتلطف ورفق كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

ص 37

  • [التاسع]
    أن يطهر باطنه وظاهره من الأخلاق الرديئة ويعمره بالأخلاق المرضية

ص 38

  • وقد بُليَ بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات إلا من عصم الله تعالى ولاسيما الحسد والعجب والرئاء واحتقار الناس وأدوية هذه البلية مستوفى في كتب الرقائق

ص 39

  • ومن أدوية الحسد الفكر بأنه اعتراض على الله سبحانه وتعالى في حكمته المقتضية تخصيص المحسود بالنعمة

ص 39

  • ومن أدوية العجب يذكر أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته وغير ذلك من النعم فضل من الله عليه وأمانة عنده ليرعاها حق رعايتها، وأن مُعْطِيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين كما سلب بلعام ما علمه في طرفة عين وما ذلك على الله بعزيز {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف: ٩٩].

ص 39

  • ومن أدوية الرئاء الفكر بأن الخلق كلهم لا يقدرون على نفعه بما يقضه الله له ولا على ضيره بما لم يقدره الله تعالى عليه فَلِمَ يُحْبِطُ عمله ويضير دينه ويُشْغِلُ نفسه بمراعاة من لا يملك له في الحقيقة نفعًا
    الصفحة: 25
    ولا ضرًا مع أن الله تعالى يطلعهم على نيته وقبح سريرته كما صح في الحديث: “من سمّع سمّع الله به ومن راءى راءى الله به”.

ص 40

  • ومن أدوية احتقار الناس تدبر قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} الآية [الحجرات: ١١]، {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣]، {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: ٣٢]، وربما كان المحتقر أطهر عند الله قلبًا وأزكى عملاً وأخلص نية كما قيل: إن الله تعالى أخفى ثلاثة في ثلاثة؛ وليه في عباده، ورضاه في طاعاته، وغضبه في معاصيه.

ص 40

  • ومحبة الله تعالى هي الخصلة الجامعة لمحاسن الصفات كلها وإنما تتحقق بمتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: ٣١].

ص 40

  • [العاشر]
    دوام الحرص على الازدياد بملازمة الجد والاجتهاد والمواظبة على وظائف الأوراد من العبادة والاشتغال والإشغال قراءة وإقراء ومطالعة وفكرًا وتعليقًا وحفظًا وتصنيفًا وبحثًا.

ص 42

  • ولا يضيع شيئًا من أوقات عمره في غير ما هو بصدده من العلم والعمل إلا بقدر الضرورة من أكل أو شرب أو نوم أو استراحة لملل أو أداء حق زوجة أو زائر، أو تحصيل قوت وغيره مما يحتاج إليه أو لألم أو غيره مما يتعذر معه الاشتغال فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له ومن استوى يوماه فهو مغبون

ص 42

  • درجة العلم درجة وراثة الأنبياء، ولا تنال المعالي إلا بشق الأنفس، وفي صحيح مسلم عن يحيى بن أبي كثير، قال: لا يستطاع العلم براحة الجسم، وفي الحديث: “حفت الجنة بالمكاره”.
    تريدين إدراك المعالي رخيصة … ولابد دون الشهد من إِبَرِ النحل
    وكما قيل:
    لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله … لا تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
    وقال الشافعي رضي الله عنه: حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصًا واستنباطًا والرغبة إلى
    الصفحة: 27
    الله تعالى في العون عليه، وقال الربيع: لم أر الشافعي رضي الله عنه آكلاً بنهار ولا نائمًا بليل لاشتغاله بالتصنيف.
    ومع ذلك فلا يحمل نفسه من ذلك فوق طاقتها كيلا تسأم وتمل، فربما نفرت نفرة لا يمكنه تداركها، بل يكون أمره في ذلك قصدًا وكل إنسان أبصر بنفسه

ص 43

  • [الحادي عشر]
    أن لا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه منصبًا أو نسبًا أو سنًا، بل يكون حريصًا على الفائدة حيث كانت والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.
    قال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون،

ص 44

  • [الثاني عشر]
    الاشتغال بالتصنيف والجمع والتأليف، لكن مع تمام الفضيلة، وكمال الأهلية، فإنه يطلع على حقائق الفنون ودقائق العلوم للاحتياج إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتنقيب والمراجعة وهو كما قال الخطيب
    الصفحة: 29
    البغدادي: يثبت الحفظ ويذكي القلب ويشحذ الطبع ويجيد البيان ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر ويخلده إلى آخر الدهر.
    والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه وليكن اعتناؤه بما لم يُسْبَق إلى تصنيفه متحريًا إيضاح العبارة في تأليفه معرضًا عن التطويل الممل والإيجاز المخلف مع إعطاء كل مُصَنَّفٍ ما يليق به.
    ولا يُخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه،

ص 45

  • أما من لم يتأهل لذلك فالإنكار عليه نتيجة لما يتضمنه من الجهل وتقرير من يقف على ذلك التصنيف به ولكونه يضيع زمانه فيما لم يتقنه ويدع الإتقان الذي هو أحرى به منه.

ص 45

  • في آداب العالم في درسه]
    وفيه اثنا عشر نوعًا:
    [الأول]
    إذا عزم على مجلس التدريس تطهر من الحدث والخبث وتنظف
    الصفحة: 30
    وتطيب ولبس من أحسن ثيابه اللائقة به بين أهل زمانه قاصدًا بذلك تعظيم العلم وتبجيل الشريعة

ص 46

  • وينوي نشر العلم وتعليمه وبث الفوائد الشرعية وتبليغ أحكام الله تعالى التي اؤتمن عليها وأمر ببيانها والازدياد من العلم وإظهار الصواب والرجوع إلى الحق والاجتماع على ذكر الله تعالى والسلام على إخوانه من المسلمين والدعاء للمسلمين وللسلف الصالحين

ص 46

  • الثاني]
    إذا خرج من بيته دعا بالدعاء الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك

ص 47

  • ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى مجلس التدريس فإذا وصل إليه سلم على من حضر وصلى ركعتين إن لم يكن وقت كراهة فإن كان مسجدًا تأكدت الصلاة مطلقًا، ثم يدعو الله تعالى بالتوفيق والإعانة والعصمة.
    ويجلس مستقبل القبلة إن أمكن بوقار وسكينة وتواضع وخشوع متربعًا أو غير ذلك مما لم يكره من الجلسات،

ص 47

  • وليصن بدنه عن الزحف والتنقل عن مكانه ويديه عن العبث والتشبيك بها، وعينيه عن تفريق النظر من غير حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة

ص 48

  • ولا يدرس في وقت جوعه أو عطشه أو همه أو غضبه أو نعاسه أو قلقه، ولا في حال برده المؤلم وحره المزعج؛ فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر.

ص 48

  • [الثالث]
    أن يجلس بارزًا لجميع الحاضرين ويوقر أفاضلهم بالعلم والسن والصلاح والشرف ويرفعهم على حسب تقديمهم في الإمامة ويتلطف بالباقين ويكرمهم بحسن السلام وطلاقة الوجه ومزيد الاحترام، ولا يكره القيام لأكابر أهل الإسلام على سبيل الإكرام،

ص 49

  • ويلتفت إلى الحاضرين التفاتًا قصدًا بحسب الحاجة ويخص من يكلمه أو يسأله أو يبحث معه على الوجه عند ذلك بمزيد التفات إليه وإقبال عليه وإن كان صغيرًا أو وضيعًا، فإَّن تَرْكَ ذلك من أفعال المتجبرين المتكبرين.

ص 49

  • [الرابع]
    أن يقدم على الشروع في البحث والتدريس قراءة شيء من كتاب الله تعالى تبركًا وتيمنًا وكما هو العادة فإن كان ذلك في مدرسة شرط فيها ذلك اتبع الشرط ويدعو عقيب القراءة لنفسه وللحاضرين وسائر المسلمين.

ص 50

  • وكان بعضهم يؤخر ذكر نفسه في الدعاء عن الحاضرين تأدبًا وتواضعًا، لكن الدعاء لنفسه قربة وبه إليه حاجة والإيثار بالقرب وبما يحتاج إليه شرعًا خلاف المشروع ويؤيده قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: ٦]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: “ابدأ بنفسك ثم بمن تعول”، وهذا الحديث وإن ورد في الإنفاق فالمحققون يستعملونه في أمور الآخرة، وبالجملة فالكل حسن وقد عمل بالأول قوم وبالثاني آخرون.

ص 50

  • [الخامس]
    إذا تعددت الدروس قدم الأشرف فالأشرف والأهم فالأهم؛ فيقدم تفسير القرآن ثم الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم
    الصفحة: 35
    المذهب ثم الخلاف أو النحو أو الجدل.

ص 52

  • وكان بعض العلماء الزهاد يختم الدروس بدرس رقائق يفيد به الحاضرين تطهير الباطن ونحو ذلك من عظة ورقة وزهد وصبر.

ص 53

  • ويصل في درسه ما ينبغي وصله ويقف في مواضع الوقف ومنقطع الكلام.
    ولا يذكر شبهة في الدين في درس ويؤخر الجواب عنها إلى درس آخر بل يذكرهما جميعًا أو يدعهما جميعًا، ولا يتقيد في ذلك لمصنف يلزم منه تأخير جواب الشبهة عنها لما فيه من المسألة، لاسيما إذا كان الدرس يجمع الخواص والعوام.

ص 53

  • وينبغي أن لا يطيل الدرس تطويلاً يمل، ولا يقصره تقصيرًا يخل، ويراعي في ذلك مصلحة الحاضرين في الفائدة في التطويل، ولا يبحث في مقام أو يتكلم على فائدة إلا في موضع ذلك

ص 54

  • [السادس]
    أن لا يرفع صوته زائدًا على قدر الحاجة ولا يخفضه خفضًا لا يحصل معه كمال الفائدة.

ص 54

  • والأولى أن لا يجاوز صوته مجلسه ولا يقصر عن سماع الحاضرين فإن حضر فيهم ثقيل السمع فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه، فقد روي في فضيلة ذلك حديث, ولا يسرد الكلام سردًا بل يرتله ويرتبه ويتمهل فيه ليفكر فيه هو وسامعه.

ص 54

  • وإذا فرغ من مسألة أو فصل سكت قليلاً حتى يتكلم من في نفسه، لأنا سنذكر إن شاء الله أنه لا يقطع على العالم كلامه فإذا لم يسكت هذه السكتة ربما فاتت الفائدة.

ص 55

  • [السابع]
    أن يصون مجلسه عن اللغط؛ فإن الغلط تحت اللغط، وعن رفع الأصوات واختلاف جهات البحث.
    قال الربيع: كان الشافعي إذا ناظره إنسان في مسألة فعدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نصير إلى ما تريد.

ص 55

  • ويتلطف في دفع ذلك من مباديه قبل انتشاره وثوران النفوس ويذكر الحاضرين بما جاء في كراهية المماراة لاسيما بعد ظهور الحق، وأن مقصود الاجتماع ظهور الحق وصفاء القلوب وطلب الفائدة وأنه لا يليق بأهل العلم تعاطي المنافسة والشحناء؛ لأنها سبب العداوة والبغضاء

ص 56

  • الثامن]
    أن يزجر من تعدى في بحثه أو ظهر منه لدد في بحثه أو سوء أدب أو ترك الإنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام أو تحدث مع غيره، أو ضحك أو استهزأ بأحد من الحاضرين، أو فعل ما يخل بأدب الطالب

ص 56

  • بشرط أن لا يترتب على ذلك مفسدة تربو عليه.
    وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس، درب يرتب الحاضرين ومن يدخل عليهم على قدر منازلهم ويوقظ النائم ويشير إلى من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه، ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها

ص 57

  • [التاسع]
    أن يلازم الإنصاف في بحثه وخطابه ويسمع السؤال من مورده على وجهه وإن كان صغيرًا ولا يترفع على سماعه فيحرم الفائدة.
    وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده أو تحرير العبارة فيه لحياء أو قصور ووقع على المعنى عبر عن مراده وبين وجه إيراده ورد على من عليه ثم يجيب بما عنده أو يطلب ذلك من غيره ويتروى فيما يجيب به رده.
    وإذا سئل عن ما لم يعلمه قال لا أعلمه، أو لا أدري؛

ص 57

  • واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الجهلة، بل يرفعه لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه وتقوى ربه
    الصفحة: 42
    وطهارة قلبه وكمال معرفته وحسن تثبته. وقد روينا معنى ذلك عن جماعة من السلف وإنما يأنف من قول لا أدري من ضعفت ديانته وقلت معرفته؛ لأنه يخاف من سقوطه من أعين الحاضرين، وهذه جهالة ورقة دين وربما يشهر خطؤه بين الناس فيقع فيما فر منه ويتصف عندهم بما احترز عنه،

ص 58

  • [العاشر]
    أن يتودد لغريب حضر عنده وينبسط له ليشرح صدره؛ فإن للقادم دهشة، ولا يكثر الالتفات والنظر إليه استغرابًا
    الصفحة: 43
    له فإن ذلك مخجله.
    وإذا أقبل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتى يجلس وإذا جاء وهو يبحث في مسألة أعادها له أو مقصودها.

ص 59

  • [الحادي عشر]
    جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درس: والله أعلم، وكذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب؛ لكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره، أو ما بعده يأتي إن شاء الله تعالى،

ص 60

  • ولهذا ينبغي أن يستفتح كل درس ببسم الله الرحمن الرحيم ليكون ذاكرًا لله تعالى في بدايته وخاتمته.
    والأولى للمدرس أن يمكث قليلاً بعد قيام الجماعة فإن فيه فوائد وآدابًا وله ولهم، منها عدم مزاحمتهم، ومنها إن كان في نفس أحد بقايا سؤال سأله، ومنها عدم ركوبه بينهم إن كان يركب وغير ذلك. ويستحب إذا قام أن يدعو بما ورد به الحديث سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

ص 60

  • [الثاني عشر]
    أن لا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً له ولا يذكر الدرس مِنْ عِلْمٍ لا يعرفه، سواء أشرطه الواقف أو لم يشرطه فإن ذلك لعب في الدين وازدراء بين الناس.

ص 61

  • الفصل الثالث في أدب العالم مع طلبته مطلقًا في حلقته
    وهو أربعة عشر نوعًا:

ص 62

  • [الأول]
    أن يقصد بتعليمهم وتهذيبهم وجه الله تعالى ونشر العلم وإحياء الشرع ودوام ظهور الحق وخمول الباطل ودوام خير الأمة بكثرة علمائها واغتنام ثوابهم وتحصيل ثواب من ينتهي إليه علمه من بعضهم وبركة دعائهم له وترحمهم عليه ودخوله في سلسلة العلم بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبينهم وعداده في جملة مبلغي وحي الله تعالى وأحكامه؛ فإن تعليم العلم من أهم أمور الدين وأعلى درجات المؤمنين.

ص 62

  • [الثاني]
    أن لا يمتنع من تعليم الطالب لعدم خلوص نيته، فإن حسن النية مرجو له ببركة العلم، قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، قيل: معناه فكان عاقبته أن صار لله، ولأن إخلاص النية لو شرط في تعليم المبتدئين فيه مع عسره على كثير منهم لأدى ذلك إلى تفويت العلم كثيرًا من الناس لكن الشيخ يحرض المبتدى
    الصفحة: 47
    على حسن النية بتدريج قولاً وفعلاً ويعلمه بعد أنسه به أنه ببركة حسن النية ينال الرتبة العلية من العلم والعمل وفيض اللطائف وأنواع الحكم وتنوير القلب وانشراح الصدر وتوفيق العزم وإصابة الحق وحسن الحال والتسديد في المقال وعلو الدرجات يوم القيامة.

ص 63

  • [الثالث]
    أن يرغبه في العلم وطلبه في أكثر الأوقات بذكر ما أعد الله تعالى للعلماء من منازل الكرامات وأنهم ورثة الأنبياء وعلى منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء أو نحو ذلك مما ورد في فضل العلم والعلماء من الآيات والآثار والأخبار والأشعار.
    ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور وقدر الكفاية من الدنيا والقناعة بذلك عن شغل القلب
    الصفحة: 48
    بالتعلق بها وغلبة الفكر وتفريق الهم بسببها فإن انصراف القلب عن تعلق الأطماع بالدنيا والإكثار منها والتأسف على فائتها أجمع لقلبه وأروح لبدنه وأشرف لنفسه وأعلى لمكانته وأقل لحساده وأجدر لحفظ العلم وازدياده،

ص 64

  • [الرابع]
    أن يحب لطالبه ما يحب لنفسه كما جاء في الحديث، ويكره له ما يكره لنفسه،

ص 64

  • وينبغي أن يعتني بمصالح الطالب ويعامله بما يعامل به أعز أولاده من الحنو والشفقة عليه والإحسان إليه، والصبر على جَفَاءٍ ربما وقع
    الصفحة: 49
    منه نقص لا يكاد يخلو الإنسان عنه وسوء أدب في بعض الأحيان، ويبسط عذره بحسب الإمكان ويوقفه مع ذلك على ما صدر منه بنصح وتلطف لا بتعنيف وتعسف قاصدًا بذلك حسن تربيته وتحسين خلقه وإصلاح شأنه، فإن عرف ذلك لذكائه بالإشارة فلا حاجة إلى صريح العبارة، وإن لم يفهم ذلك إلا بصريحها أتى بها، وراعى التدريج في التلطف ويؤدبه بالآداب السنية ويحرضه على الأخلاق المرضية ويوصيه بالأمور العرفية على الأوضاع الشرعية.

ص 66

  • [الخامس]
    أن يسمح له بسهولة الإلقاء في تعليمه وحسن التلطف في تفهيمه لاسيما إذا كان أهلاً لذلك لحسن أدبه وجودة طلبه ويحرضه على طلب الفوائد وحفظ النوادر الفرائد ولا يدخر عنه من أنواع العلوم ما يسأله عنه وهو أهل له لأن ذلك ربما يوحش الصدر وينفر القلب ويورث الوحشة.
    وكذلك لا يلقي إليه ما لم يتأهل له لأن ذلك يبدد ذهنه ويفرق فهمه فإن سأله الطالب شيئًا من ذلك لم يجبه، ويعرفه أن ذلك يضره ولا ينفعه، وأن منعه إياه منه لشفقة عليه ولطف به لا بخلاً عليه، ثم يرغبه
    الصفحة: 51
    عند ذلك في الاجتهاد والتحصيل ليتأهل لذلك وغيره، وقد روي في تفسير الرباني أنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

ص 67

  • [السادس]
    أن يحرص على تعليمه وتفهيمه ببذل جهده وتقريب المعنى له من غير إكثار لا يحتمله ذهنه أو بسط لا يضبطه حفظه ويوضح لمتوقف الذهن العبارة ويحتسب إعادة الشرح له وتكراره.
    ويبدأ بتصوير المسائل ثم يوضحها بالأمثلة وذكر الدلائل، ويقتصر على تصوير المسألة وتمثيلها لمن لم يتأهل لفهم مأخذها ودليلها، ويذكر الأدلة والمأخذ لمحتملها، ويبين له معاني أسرار حكمها وعللها وما يتعلق بتلك المسألة من فرع وأصل ومن وهم فيها في حكم أو تخريج أو نقل بعبارة حسنة الأداء بعيدة عن تنقيص أحد من العلماء، ويقصد ببيان ذلك الوهم طريق النصيحة وتعريف النقول الصحيحة، ويذكر ما يشابه تلك المسألة ويناسبها وما يفارقها ويقاربها ويبين مأخذ الحكمين والفرق بين المسألتين.
    ولا يمتنع من ذكر لفظة يستحي من ذكرها عادة إذا احتيج إليها ولم يتم التوضيح إلا بذكرها،

ص 69

  • [السابع]
    إذا فرغ الشيخ من شرح درس فلا بأس بطرح مسائل تتعلق به على الطلبة يمتحن بها فهمهم وضبطهم لما شرح لهم، فمن ظهر استحكام فهمه له بتكرار الإصابة في جوابه شكره، ومن لم يفهمه تلطف في إعادته له، والمعنى بطرح المسائل أن الطالب ربما استحيا من قوله لم أفهم إما لرفع كل الإعادة على الشيخ أو لضيق الوقت أو حياء من الحاضرين أو كيلا تتأخر قراءتهم بسببه.

ص 70

  • وينبغي للشيخ أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وبإعادة الشرح بعد فراغه فيما بينهم ليثبت في أذهانهم ويرسخ في أفهامهم ولأنه يحثهم على استعمال الفكر ومؤاخذة النفس بطلب التحقيق.

ص 70

  • [الثامن]
    أن يطالب الطلبة في بعض الأوقات بإعادة المحفوظات ويمتحن ضبطهم لما قدم لهم من القواعد المهمة والمسائل الغريبة ويختبرهم بمسائل تبنى على أصل قرره أو دليل ذكره.
    فمن رآه مصيبًا في الجواب ولم يخف عليه شدة الإعجاب شكره وأثنى عليه بين أصحابه ليبعثه وإياهم على الاجتهاد في طلب الازدياد، ومن رآه مقصرًا ولم يخف نفوره عنفه على قصوره وحرضه على علو الهمة ونيل المنزلة في طلب العلم لاسيما إن كان ممن يزيده
    الصفحة: 54
    التعنيف نشاطًا والشكر انبساطًا ويعيد ما يقتضي الحال إعادته ليفهمه الطالب فهمًا راسخًا.

ص 71

  • [التاسع]
    إذا سلك الطالب في التحصيل فوق ما يقتضيه حاله أو تحمله طاقته وخاف الشيخ ضجره أوصاه بالرفق بنفسه وذَكَّرَهُ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى، ونحو ذلك مما يحمله على الأناة والاقتصاد في الاجتهاد، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر ومبادى ذلك أمره بالراحة، وتخفيف الاشتغال، ولا يشير على الطالب بتعليم ما لا يحتمله فهمه أو سنه ولا بكتاب يقصر ذهنه عن فهمه.

ص 72

  • فإن استشار الشَّيْخَ مَنْ لا يعرف حاله في الفهم والحفظ في قراءة فن أو كتاب لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الحال التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى ذهنه قابلاً وفهمه جيدًا نقله إلى كتاب يليق بذهنه وإلا تركه،
    الصفحة: 56
    وذلك لأن نقل الطالب إلى ما يدل نقله إليه على جودة ذهنه يزيد انبساطه، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه.
    ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو أكثر إذا لم يضبطها بل يقدم الأهم فالأهم كما سنذكر إن شاء الله تعالى.
    وإذا علم أو غلب على ظنه أنه لا يفلح في فن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فيه فلاحه.

ص 73

  • العاشر]
    أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرم إما مطلقًا

ص 73

  • والمسائل المستثناة من القواعد كقوله العمل بالجديد من كل قولين قديم وجديد إلا في أربع عشرة مسألة، ويذكرها

ص 74

  • ويبين مأخذ ذلك كله وكذلك كل أصل وما يبنى عليه من كل فن يحتاج إليه من علمي التفسير والحديث وأبواب أصول الدين والفقه والنحو والتصريف واللغة ونحو ذلك إما بقراءة كتاب في الفن أو بتدريج على الطول.
    وهذا كله إذا كان الشيخ عارفًا بتلك الفنون وإلا فلا يتعرض لها بل يقتصر على ما يتقنه منها،

ص 74

  • ومن ذلك ما لا يسع الفاضل جهله كأسماء المشهورين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين وكبار الزهاد والصالحين كالخلفاء الأربعة وبقية العشرة المبشرة، والنقباء الاثنى عشر والبدريين والمكثرين، والعبادلة، والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة
    الصفحة: 58
    فيضبط أسماءهم وكناهم وأعمارهم ووفياتهم وما يستفاد من محاسن آدابهم ونوادر أحوالهم فيحصل له مع الطول فوائد كثيرة النفع ونفائس عزيزة الجمع.

ص 75

  • [الحادي عشر]
    أن لا يظهر للطلبة تفضيل بعضهم على بعض عنده في مودة أو اعتناء مع تساويهم في الصفات من سن أو فضيلة أو تحصيل أو ديانة فإن ذلك ربما يوحش منه الصدر وينفر القلب، فإن كان بعضهم أكثر تحصيلاً وأشد اجتهدًا أو أبلغ اجتهادًا أو أحسن أدبًا فأظهر إكرامه وتفضيله وبين أن زيادة إكرامه لتلك الأسباب فلا بأس بذلك؛ لأنه ينشط ويبعث على الاتصاف بتلك الصفات.
    وكذلك لا يقدم أحدًا في نوبة غيره أو يؤخره عن نوبته إلا إذا رأى
    الصفحة: 59
    في ذلك مصلحة تزيد على مصلحة مراعاة النوبة، فإن سمح بعضهم لغيره في نوبته فلا بأس،

ص 76

  • وينبغي أن يتودد لحاضرهم ويذكر غائبهم بخير وحسن ثناء وينبغي أن يستعلم أسماءهم وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم ويكثر الدعاء لهم بالصلاح.

ص 76

  • [الثاني عشر]
    أن يراقب أحوال الطلبة في آدابهم وهديهم وأخلاقهم باطنًا وظاهرًا، فمن صدر منه من ذلك ما لا يليق من ارتكاب محرم أو مكروه أو ما يؤدي إلى فساد حال أو ترك اشتغال أو إساءة أدب في حق الشيخ أو غيره أو كثرة كلام بغير توجيه ولا فائدة أو حرص على كثرة الكلام أو معاشرة من لا تليق عشرته أو غير ذلك مما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في آداب المتعلم، عَرَّضَ الشيخ بالنهي عن
    الصفحة: 60
    ذلك بحضور مَنْ صدر منه غير مُعَرِّضٍ به ولا معين له، فإن لم ينته نهاه عن ذلك سرًا، ويكتفي بالإشارة مع من يكتفي بها، فإن لم ينته نهاه عن ذلك جهرًا ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، ولاسيما إذا خاف على بعض رفقائه وأصحابه من الطلبة موافقته.
    وكذلك يتعاهد ما يعامل به بعضهم بعضًا من إفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام والتحابب والتعاون على البر والتقوى وعلى ما هم بصدده، وبالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم لمعاملة الله تعالى يعلمهم مصالح دنياهم لمعاملة الناس لتكمل لهم فضيلة الحالتين.

ص 77

  • الثالث عشر]
    أن يسعى في مصالح الطلبة وجمع قلوبهم ومساعدتهم بما تيسر عليه من جاه ومال عند قدرته على ذلك وسلامة دينه وعدم ضرورته فإن الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله تعالى في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه حسابه يوم القيامة ولاسيما إذا كان ذلك إعانة على طلب العلم الذي هو من أفضل القربات.
    وإذا غاب بعض الطلبة أو ملازمي الحلقة زائدًا عن العادة سأل عنه
    الصفحة: 61
    وعن أحواله وعن من يتعلق به، فإن لم يخبر عنه بشيء أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل.
    فإن كان مريضًا عاده وإن كان في غم خفض عليه، وإن كان
    الصفحة: 62
    مسافرًا تفقد أهله ومن يتعلق به وسأل عنهم وتعرض لحوائجهم ووصلهم بما أمكن، وإن كان فيما يحتاج إليه فيه أعانه، وإن لم يكن شيء من ذلك تودد عليه ودعا له

ص 79

  • ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالب واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاثة؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
    وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم
    الصفحة: 63
    العلم؛ أما الصدقة فاقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في المصلي وحده: من يتصدق على هذا، أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة وينال بها شرف الدنيا والآخرة، وأما العلم المنتفع به فظاهر لأنه كان سببًا لإيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به.
    وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقرأ على السنة أهل العلم والحديث قاطبة من الدعاء لمشايخهم وأئمتهم وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند فسبحان من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل عطائه.

ص 80

  • [الرابع عشر]
    أن يتواضع مع الطالب وكل مسترشد سائل إذا قام بما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوقه، ويخفض له جناحه ويلين له جانبه، قال الله تعالى لنبيه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٢١٥]، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله، وهذا لمطلق الناس فكيف بمن
    الصفحة: 64
    له حق الصحبة وحرمة التردد وصدق التودد وشرف الطلب، وفي الحديث: لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، وعن الفضيل: من تواضع لله ورثه الله الحكمة.

ص 81

  • وينبغي أن يخاطب كلاً منهم لاسيما الفاضل المتميز بكنية ونحوها من أحب الأسماء إليه وما فيه تعظيم له وتوقير، فعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكني أصحابه إكرامًا لهم. وكذلك ينبغي أن يترحب بالطلبة إذا لقيهم وعند إقبالهم عليه ويكرمهم إذا جلسوا إليه ويؤنسهم بسؤاله عن أحوالهم وأحوال من يتعلق بهم بعد رد سلامهم، وليعاملهم بطلاقة الوجه وظهور البشر وحسن المودة وإعلام المحبة وإضمار الشفقة؛ لأن ذلك أشرح لصدره وأطلق لوجهه وأبسط لسؤاله، ويزيد في ذلك لمن يرجى فلاحه ويظهر صلاحه،
    الصفحة: 65
    وبالجملة فهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون على الدين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا.

الفصل الأول في آدابه في نفسه

ص 83

  • الباب الثالث
    وفيه ثلاثة فصول في آداب المتعلم:

ص 83

  • [الفصل الأول في آدابه في نفسه]
    وفيه عشرة أنواع:
    [الأول]
    أن يطهر قلبه من كل غش ودنس وغلّ وحسد وسوء عقيدة وخلق؛ ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه، والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه،

ص 83

  • وكما لا تصلح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها.
    وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا، وفي الحديث: “إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد كله ألا وهي القلب”، وقال سهل: “حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل”.

ص 84

  • [الثاني]
    حسن النية في طلب العلم بأن يقصد به وجه الله تعالى والعمل به وإحياء الشريعة، وتنوير قلبه وتحلية باطنه والقرب من الله تعالى يوم القيامة والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله.
    قال سفيان الثوري: “ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي”.

ص 85

  • والعلم عبادة من العبادات وقربة من القرب فإن خلُصَت فيه النية قُبِلَ وزكى ونمت بركته، وإن
    الصفحة: 69
    قصد به غير وجه الله تعالى حبط وضاع، وخسرت صفقته وبما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه.

ص 86

  • [الثالث]
    أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل؛ فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدَلَ لها ولا عوض عنها، ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن
    الصفحة: 70
    الوطن؛ لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك.
    ونقل الخطيب البغدادي في الجامع عن بعضهم قال: لا ينال هذا العلم إلا من عطّل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، ومات أقرب أهله فلم يشهد جنازته، وهذا كله وإن كانت فيه مبالغة فالمقصود به أنه لابد فيه من جمع القلب واجتماع الفكر.

ص 87

  • [الرابع]
    أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيرًا، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خلقًا، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم ويجمع شمل القلب عن مفترقات الآمال فتتفجر فيه ينابيع الحكم.
    قال الشافعي رحمه الله: لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح، ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة
    الصفحة: 71
    العلماء أفلح.

ص 88

  • [الخامس]
    أن يقسم أوقات ليله ونهار ويغتنم ما بقي من عمره فإن بقية العمر لا قيمة له.
    وأجود الأوقات للحفظ الأسحار وللبحث الإبكار وللكتاب وسط
    الصفحة: 72
    النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل.
    وقال الخطيب: أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة. قال: وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع.
    قال: وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات. قال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطريق وضجيج الأصوات لأنها تمنع من خلو القلب غالبًا.

ص 89

  • [السادس]
    من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملال أكل القدر
    الصفحة: 73
    اليسير من الحلال

ص 90

  • ولم ير أحد من الأولياء والأئمة العلماء يصف أو يوصف بكثرة الأكل ولا حمد به، وإنما يحمد كثرة الأكل من الدواب التي لا تعقل بل هي مرصدة للعمل، والذهن الصحيح أشرف من تبديده وتعطيله بالقدر الحقير من طعام يؤول أمره إلى ما قد علم، ولو لم يكن من آفات كثرة الطعام والشراب إلا الحاجة إلى كثرة دخول الخلاء لكان ينبغي للعاقل اللبيب أن يصون نفسه عنه، ومن رام الفلاح في العلم وتحصيله البغية منه مع كثرة الأكل والشرب والنوم فقد رام مستحيلاً في العادة.

ص 90

  • والأولى أن يكون أكثر ما يأخذ من الطعام ما ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: “ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه” رواه الترمذي.
    فإن زاد على ذلك
    الصفحة: 74
    فالزيادة إسراف خارج عن السنة وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: ٣١]، قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الكلمات الطب كله.

ص 92

  • [السابع]
    أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله ليستنير قلبه ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به، ولا يقنع لنفسه بظاهر الحل شرعًا مهما أمكنه التورع ولم تلجئه حاجة أو يجعل حظه الجواز بل يطلب الرتبة العالية.

ص 93

  • ويقتدي بمن سلف من العلماء الصالحين في التورع عن كثير مما كانوا يفتون بجوازه،

ص 93

  • وينبغي له أن يستعمل الرخص في مواضعها عند الحاجة إليها ووجود سببها ليقتدي بهم فيه، “فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه”.

ص 93

  • الثامن]
    أن يقلل استعمال المطاعم التي هي من أسباب البلادة وضعف
    الصفحة: 76
    الحواس كالتفاح الحامض والباقلا وشرب الخل، وكذلك ما يكثر استعماله البلغم المبلد للذهن المثقل للبدن ككثرة الألبان والسمك وأشباه ذلك.
    وينبغي أن يستعمل ما جعله الله تعالى سببا لجودة الذهن كمضغ اللبان والمصطكى على حسب العادة، وأكل الزبيب بكرة والجلاب ونحو ذلك

ص 94

  • [التاسع]
    أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في
    الصفحة: 77
    اليوم والليلة على ثمان ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.
    الصفحة: 78
    ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى
    الصفحة: 79
    حاله ولا يضيع عليه زمانه.
    ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن.
    الصفحة: 80
    ولا بأس بالوطى الحلال إذا احتاج إليه، فقد قال الأطباء بأنه يجفف الفضول وينشط ويصفي الذهن إذا كان عند الحاجة باعتدال،

ص 100

  • [العاشر]
    أن يترك العشرة فإن تركها من أهم ما ينبغي لطالب العلم ولاسيما لغير الجنس وخصوصًا لمن كثر لعبه وقلت فكرته؛ فإن الطباع سراقة، وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة وذهاب المال والعرض إن كان لغير أهل، وذهاب الدين إن كانت لغير أهله.
    والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه بما رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: “اغد عالمًا أو متعلمًا ولا تكن الثالث فتهلك”.
    فإن شرع أو تعرض لصحبة من يضيع عمره معه ولا يفيده ولا يستفيد منه ولا يعينه على ما هو بصدده فليتلطف في قطع عشرته من أول الأمر قبل تمكنها فإن الأمور إذا تمكنت عسرت إزالتها، ومن الجاري على ألسنة الفقهاء: الدفع أسهل من الرفع.
    فإن احتاج إلى أن يصحبه فليكن صاحبًا صالحًا دينًا تقيًا ورعًا ذكيًا
    الصفحة: 83
    كثير الخير قليل الشر حسن المداراة قليل المماراة إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه وإن ضجر صبره.

ص 102

  • الفصل الثاني في آدابه مع شيخه وقدوته
    وما يجب عليه من عظيم حرمته
    وهو ثلاثة عشر نوعًا:
    [الأول]
    أنه ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم عنه ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه وليكن إن أمكن ممن كملت أهليته وتحققت شفقته وظهرت مروءته وعرفت عفته واشتهرت صيانته وكان أحسن تعليمًا وأجود تفهيمًا ولا يرغب الطالب في زيادة العلم مع نقص في ورع أو دين أو عدم خلق جميل.
    فعن بعض السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.

ص 103

  • وليحذر من التقييد بالمشهورين وترك الأخذ عن الخاملين فقد عدّ الغزالي وغيره ذلك من الكبر على العلم وجعله عين الحماقة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها ويغتنمها حيث ظفر بها،

ص 103

  • فإذا كان الخامل ممن ترجى بركته كان النفع به أعم والتحصيل من جهته أتم، وإذا سبرت أحوال السلف والخلف لم تجد النفع
    الصفحة: 86
    يحصل غالبًا والفلاح يدرك طالبًا إلا إذا كان للشيخ من التقوى نصيب وافر، وعلى شفقته ونصحه للطلبة دليل ظاهر.
    وكذلك إذا اعتبرت المصنفات وجدت الانتفاع بتصنيف الأتقى الأزهد أوفر والفلاح بالاشتغال به أكثر.
    وليجتهد على أن يكون الشيخ ممن له على العلوم الشرعية تمام الإطلاع، وله مع من يوثق به من مشايخ عصره كثرة بحث وطول اجتماع، لا ممن أخذ عن بطون الأوراق ولم يعرف بصحبة المشايخ الحذاق. قال الشافعي رضي الله عنه: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام. وكان بعضهم يقول: من أعظم البلية تشيخ الصحيفة. أي الذين تعلموا من الصحف.

ص 104

  • [الثاني]
    أن ينقاد لشيخه في أموره ولا يخرج عن رأيه وتدبيره، بل يكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر، فيشاروه فيما يقصده ويتحرى رضاه فيما يعتمده، ويبالغ في حرمته يتقرب إلى الله تعالى بخدمته، ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتواضعه له رفعة.

ص 106

  • ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعليم فليقلده وليدع رأيه فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وقد نبه الله تعالى على ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام بقوله: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف: ٦٧]، هذا مع علو قدر موسى الكليم في الرسالة والعلم حتى شرط عليه السكوت فقال: {فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف: ٧٠].

ص 106

  • [الثالث]
    أن ينظره بعين الإجلال ويعتقد فيه درجة الكمال فإن ذلك أقرب إلى نفعه به، وكان بعض السلف إذا ذهب إلى شيخه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب شيخي عني ولا تذهب بركة علمه مني.
    وقال الشافعي رضي الله عنه: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحًا رفيقًا هيبة له لئلا يسمع وقعها

ص 107

  • وينبغي أن لا يخاطب شيخه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه مِنْ بُعْدٍ بل يقول: يا سيدي ويا أستاذي.
    وقال الخطيب: يقول: أيها العالم، وأيها الحافظ ونحو ذلك، وما تقولون في كذا وما رأيكم في كذا وشبه ذلك، ولا يسميه في غيبته أيضًا باسمه إلا مقرونًا بما يشعر بتعظيمه كقوله قال الشيخ أو الأستاذ كذا، وقال شيخنا أو قال حجة الإسلام أو نحو ذلك.

ص 108

  • [الرابع]
    أن يعرف له حقه ولا ينسى له فضله، قال شعبة: كنت إذا سمعت من الرجل الحديث كنت له عبدًا ما يحيا، وقال: ما سمعت من أحد شيئًا إلا واختلفت إليه أكثر مما سمعت منه.
    ومن ذلك أن يعظم حرمته ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق ذلك المجلس.
    وينبغي أن يدعو له مدة حياته ويرعى ذريته وأقاربه وأوداءه بعد وفاته، ويتعمد زيارة قبره والاستغفار له والصدقة عنه ويسلك في السمت والهدى مسلكه، ويراعي في العلم والدين عادته ويقتدي بحركاته وسكناته، في عاداته وعباداته، ويتأدب بآدابه ولا يدع الاقتداء به.

ص 109

  • [الخامس]
    أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه أو سوء خلق ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة مما وقع والاستغفار، وينسب الموجب إليه ويجعل العَتْبَ عليه فإن ذلك أبقى لمودة شيخه واحفظ لقلبه وأنفع للطالب في دنياه وآخرته.
    وعن بعض السلف: من لم يصبر على ذل التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة.

ص 110

  • السادس]
    أن يشكر الشيخ على توقيفه على ما فيه فضيلة، وعلى توبيخه على ما فيه نقيصة، أو على كسل يعتريه، أو قصور يعاينه أو غير ذلك مما في إيقافه
    الصفحة: 92
    عليه وتوبيخه إرشاده وصلاحه، ويعد ذلك من الشيخ من نعم الله تعالى عليه باعتناء الشيخ به ونظره إليه، فإن ذلك أمثل إلى قلب الشيخ وأبعث على الاعتناء بمصالحه.
    وإذا أوقفه الشيخ على دقيقة من أدب أو نقيصة صدرت منه وكان يعرفه من قبل فلا يظهر أنه كان عارفًا به وغفل عنه، بل يشكر الشيخ على إفادته ذلك واعتنائه بأمره، فإن كان له في ذلك عذر وكان إعلام الشيخ به أصلح فلا بأس به وإلا تركه، إلا أن يترتب على ترك بيان العذر مفسدة فيتعين إعلامه به

ص 111

  • [السابع]
    أن لا يدخل على الشيخ في غير المجلس العام إلا باستئذان سواء كان
    الصفحة: 93
    الشيخ وحده أو كان معه غيره، فإن استأذن بحيث يعلم الشيخ ولم يأذن له انصرف ولا يكرر الاستئذان، وإن شك في علم الشيخ به فلا يزيد في الاستئذان فوق ثلاث مرات أو ثلاث طرقات بالباب أو الحلقة، وليكن طرق الباب خفيًا بأدب بأظفار الأصابع، ثم بالأصابع، ثم بالحلقة قليلاً قليلاً، فإن كان الموضع بعيدًا عن الباب والحلقة فلا بأس برفع ذلك بقدر ما يسمع لا غير، وإذا أذن وكانوا جماعة يُقَدَّم أفضلهم وأسنهم بالدخول والسلام عليه، ثم سلم عليه الأفضل فالأفضل.

ص 115

  • [الثامن]
    أن يجلس بين يدي الشيخ جلسة الأدب كما يجلس الصبي بين يدي المقري أو متربعًا بتواضع وخضوع وسكون وخشوع ويصغي إلى الشيخ ناظرًا إليه ويقبل بكليته عليه متعقلاً لقوله بحيث لا يُحْوِجُه إلى إعادة الكلام مرة ثانية، ولا يلتفت من غير
    الصفحة: 97
    ضرورة، ولا ينظر إلى يمينه أو شماله أو فوقه أو قدامه بغير حاجة ولاسيما عند بحثه له أو عند كلامه معه.

ص 118

  • وعن علي رضي الله عنه قال: من حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيديك ولا تغمز بعينيك غيره، ولا تقولن: قال فلان خلاف قوله، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته ولا تسارّ في مجلسه ولا تأخذ بثوبه ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، ولقد جمع رضي الله عنه في هذه الوصية ما فيه كفاية.

ص 119

  • [التاسع]
    أن يحسن خطابه مع الشيخ بقدر الإمكان ولا يقول له لم، ولا لا نسلم، ولا من نقل هذا، ولا أين موضعه وشبه ذلك فإن أراد استفادته تلطف في الوصول إلى ذلك، ثم هو في مجلس آخر أولى على سبيل الإفادة.

ص 119

  • وإذا أصر الشيخ على قول أو دليل ولم يظهر له أو على خلاف صواب سهوًا فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر لما قاله بل يأخذه ببشر ظاهر، وإن لم يكن الشيخ مصيبًا لغفلة أو سهو أو قصور
    الصفحة: 101
    نظر في تلك الحال فإن العصمة في البشر للأنبياء صلى الله عليهم وسلم، وليتحفظ من مخاطبة الشيخ بما يعتاده بعض الناس في كلامه، ولا يليق خطابه به مثل: إيش بك، وفهمت، وسمعت، وتدري، ويا إنسان، ونحو ذلك، وكذلك لا يحكي له ما خوطب به غيره مما لا يليق خطاب الشيخ به، وإن كان حاكيًا

ص 121

  • [العاشر]
    إذا سمع الشيخ يذكر حكمًا في مسألة أو فائدة مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرًا وهو يحفظ ذلك أصغى إليه إصغاء مستفيد له في الحال
    الصفحة: 104
    متعطش إليه فرح به كأنه لم يسمعه قط.
    قال عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئًا. وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد.
    فإن سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه له فلا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ فيه ولا يقل لا لما فيه من الكذب بل يقول أحب أن أسمعه من الشيخ، أو أن أستفيده منه، أو بعد عهدي أو هو من جهتكم أصح، فإن علم من حال الشيخ أنه يؤثر العلم بحفظه له مسرة به أو أشار إليه بإتمامه امتحانًا لضبطه وحفظه أو لإظهار تحصيله فلا بأس باتباع غرض الشيخ ابتغاء مرضاته وازدياد الرغبة فيه،

ص 123

  • وينبغي أن لا يقصر في الإصغاء والتفهم أو يشتغل ذهنه بفكر أو حديث ثم يستعيد الشيخ ما قاله لأن ذلك إساءة أدب بل يكون مصغيًا لكلامه حاضر الذهن لما يسمعه من أول مرة.
    وكان بعض المشايخ لا يعيد لمثل هذا إذا استعاده ويزيده عقوبة له، وإذا لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه من الإصغاء إليه والإقبال عليه، فله أن يسأل الشيخ إعادته وتفهيمه بعد بيان عذره بسؤال لطيف.

ص 123

  • [الحادي عشر]
    أن لا يسبق الشيخ إلى شرح مسالة أو جواب سؤال منه أو من غيره ولا يساوقه فيه ولا يظهر معرفته به أو إدراكه له قبل الشيخ، فإن عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه فلا بأس.
    الصفحة: 106
    وينبغي أن لا يقطع على الشيخ كلامه؛ أي كلام كان، ولا يسابقه فيه ولا يساوقه بل يصبر حتى يفرغ الشيخ كلامه ثم يتكلم، ولا يتحدث مع غيره والشيخ يتحدث معه أو مع جماعة المجلس.
    وليكن ذهنه حاضرًا في كل وقت بحيث إذا أمره بشيء أو سأله عن شيء أو أشار إليه لم يحوجه إلى إعادته ثانيًا بل يبادر إليه مسرعًا
    الصفحة: 107
    ولم يعاوده فيه أو يعترض عليه بقوله فإن لم يكن الأمر كذا.

ص 125

  • [الثاني عشر]
    إذا ناوله الشيخ شيئًا تناوله باليمين وإن ناوله شيئًا ناوله باليمين، فإن كان ورقة يقرؤها كفتيا أو قصة أو مكتوب شرعي ونحو ذلك نشرها ثم دفعها إليه ولا يدفعها إليه مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك، وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورة قبل أن يطويها أو يتربها.
    وإذا ناول الشيخ كتابًا ناوله إياه مهيئًا لفتحه والقراءة فيه من غير احتياج إلى إدارته فإن كان النظر في موضع معين فليكن مفتوحًا كذلك، ويعين له المكان، ولا يحذف إليه الشيء حذفًا من كتاب أو ورقة أو غير ذلك. ولا يمد يديه إليه إذا كان بعيدًا ولا يحوج الشيخ إلى مد يده أيضًا لأخذ منه أو عطاء بل يقوم إليه قائمًا ولا يزحف إليه زحفًا، وإذا جلس بين يديه لذلك فلا يقرب منه قربًا كثيرًا ينسب فيه إلى سوء أدب.

ص 127

  • وقيل: أربعة لا يأنف الشريف منهن وإن كان أميرًا؛ قيامُه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم يتعلم منه، والسؤال عن ما لا يعلم، وخدمته للضيف.

ص 127

  • [الثالث عشر]
    إذا مشى مع الشيخ فليكن أمامه بالليل وخلفه بالنهار إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها ويتقدم عليه في المواطئ المجهولة الحال كوحل أو حوض، أو المواطئ الخطرة ويحترز من ترشيش ثياب الشيخ، وإذا كان في زحمة صانه عنها بيديه إما من قدامه أو من ورائه.
    وإذا مشى أمامه التفت إليه بعد كل قليل، فإن كان وحده والشيخ يكلمه حالة المشي وهما في ظل فليكن في يمينه وقيل: عن يساره، متقدمًا عليه قليلاً ملتفتًا إليه ويُعَرِّف الشيخ بمن قرب منه أو قصده من الأعيان إن لم يعلم الشيخ به.
    ولا يمشي لجانب الشيخ إلا لحاجة أو إشارة منه، ويحترز من مزاحمته
    الصفحة: 110
    بكتفه أو بركابه إن كانا راكبين وملاصقة ثيابه، ويؤثره بجهة الظل في الصيف وبجهة الشمس في الشتاء وبجهة الجدار في الرصفانات ونحوها، وبالجهة التي لا تقرع الشمس فيها وجهه إذا التفت إليه، ولا يمشي بين الشيخ وبين من يحدثه ويتأخر عنهما إذا تحدثا أو يتقدم، ولا يقرب ولا يستمع ولا يلتفت فإن أدخله في الحديث فليأت من جانب آخر ولا يشق بينهما، وإذا مشى مع الشيخ اثنان فاكتنفاه فقد رجَّح بعضهم أن يكون أكبرهما عن يمينه وإن لم يكتنفاه تقدم أكبرهما وتأخر أصغرهما.
    وإذا صادف الشيخ في طريقه بدأه بالسلام، ويقصده بالسلام إن كان بعيدًا ولا يناديه ولا يسلم عليه من بعيد ولا من ورائه، بل يقرب
    الصفحة: 111
    منه ويتقدم عليه ثم يسلم، ولا يشير عليه ابتداء بالأخذ في طريق حتى يستشيره ويتأدب فيما يستشيره الشيخ بالرد إلى رأيه.
    ولا يقول لما رآه الشيخ وكان خطأ هذا خطأ ولا هذا ليس برأي، بل يُحسن خطابه في الرد إلى الصواب كقوله: يظهر أن المصلحة في كذا، ولا يقول الرأي عندي كذا وشبه ذلك.

النوع الأول

ص 129

  • [الفصل الثالث في آدابه في دروسه وقراءته في الحلقة]
    وما يعتمده فيها مع الشيخ والرفقة
    وهو ثلاثة عشر نوعًا:
    [النوع الأول]
    أن يبتدئ أولاً بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظًا ويجتهد على إتقان
    الصفحة: 112
    تفسيره وسائر علومه، فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها.
    ثم يحفظ من كل فن مختصرًا يجمع فيه بين طرفيه من الحديث وعلومه، والأصولين والنحو والتصريف، ولا يشتغل بذلك كله عن دراسة القرآن وتعهده وملازمة ورده منه في كل يوم أو أيام أو جمعة كما تقدم، وليحذر من نسيانه بعد حفظه فقد ورد فيه أحاديث تزجر عنه.
    ويشتغل بشرح تلك المحفوظات على المشايخ وليحذر من الاعتماد في
    الصفحة: 113
    ذلك على الكتب أبدًا، بل يعتمد في كل فن من هو أحسن تعليمًا له وأكثر تحقيقًا فيه وتحصيلاً منه وأخبرهم بالكتاب الذي قرأه
    الصفحة: 114
    وذلك بعد مراعاة الصفات المقدمة من الدين والصلاح والشفقة وغيرها.
    فإن كان شيخه لا يجد من قراءته وشرحه على غيره معه فلا بأس بذلك، وإلا راعى قلب شيخه إن كان أرجاهم نفعًا لأن ذلك أنفع له
    الصفحة: 115
    وأجمع لقلبه عليه، وليأخذ من الحفظ والشرح ما يمكنه ويطيقه حاله من غير إكثار يمل ولا تقصير يخل بجودة التحصيل.

ص 133

  • [الثاني]
    أن يحذر في ابتداء أمره من الاشتغال في الاختلاف بين العلماء أو بين الناس مطلقًا في العقليات والسمعيات؛ فإنه يحير الذهن ويدهش العقل، بل يتقن أولاً كتابًا واحدًا في فن واحد، أو كتبًا في فنون إن كان يحتمل ذلك على طريقة واحدة يرتضيها له شيخه، فإن كانت طريقة
    الصفحة: 116
    شيخه نقل المذاهب والاختلاف ولم يكن له رأي واحد، قال الغزالي: فليحذر منه فإن ضرره أكثر من النفع به.
    وكذلك يحذر في ابتداء طلبه من المطالعات في تفاريق المصنفات فإنه يضيع زمانه ويفرق ذهنه بل يعطى الكتاب الذي يقرؤه
    الصفحة: 117
    أو الفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه، وكذلك يحذر من التنقل من
    الصفحة: 118
    كتاب إلى كتاب من غير موجب فإنه علامة الضجر وعدم الإفلاح.
    أما إذا تحقق أهليته وتأكدت معرفته فالأولى أن لا يدع فنًا من العلوم الشرعية إلا نظر فيه، فإن ساعده القدر وطول العمر على التبحر فيه فذاك وإلا فقد استفاد منه ما يخرج به من عداوة الجهل بذلك
    الصفحة: 119
    العلم، ويعتني من كل علم بالأهم فالأهم، ولا يغفلن عن العمل الذي هو المقصود بالعلم.

ص 138

  • [الثالث]
    أن يصحح ما يقرؤه قبل حفظه تصحيحًا متقنًا إما على الشيخ أو على غيره مما يعينه، ثم يحفظه بعد ذلك حفظًا محكمًا ثم يكرر عليه بعد
    الصفحة: 121
    حفظه تكرارًا جيدًا، ثم يتعاهده في أوقات يقررها لتكرار مواضيه، ولا يحفظ شيئًا قبل تصحيحه لأنه يقع في التحريف والتصحيف،
    الصفحة: 122
    وقد تقدم أن العلم لا يؤخذ من الكتب فإنه من أضر المفاسد.
    وينبغي أن يحضر معه الدواة والقلم والسكين للتصحيح ولضبط
    الصفحة: 123
    ما يصححه لغة وإعرابًا.

ص 143

  • [الرابع]
    أن يبكر بسماع الحديث ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه.
    الصفحة: 126
    ويعتني أولاً بصحيحي البخاري ومسلم، ثم ببقية الكتب الأعلام والأصول المعتمدة في هذا الشأن كموطأ مالك
    الصفحة: 127
    وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه وجامع الترمذي
    الصفحة: 128
    ومسند الشافعي، ولا ينبغي أن يقتصر على أقل من ذلك.
    ونعم المعين للفقيه كتاب السنن الكبير لأبي بكر البيهقي، ومن ذلك المسانيد كمسند أحمد بن حنبل وابن حميد
    الصفحة: 129
    والبزار.
    ويعتني بمعرفة صحيح الحديث وحسنه وضعيفه ومسنده ومرسله
    الصفحة: 130
    وسائر أنواعه فإنه أحد جناحي العالم بالشريعة المبين لكثير من الجناح الآخر وهو القرآن.
    ولا يقنع بمجرد السماع كغالب محدثي هذا الزمان بل يعتني بالدراية
    الصفحة: 131
    أشد من اعتنائه بالرواية، قال الشافعي رضي الله عنه: من نظر في الحديث قويت حجته لأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه.

ص 149

  • [الخامس]
    إذا شرح محفوظاته المختصرات وضبط ما فيها من الإشكالات والفوائد المهمات انتقل إلى بحث المبسوطات مع المطالعة الدائمة وتعليق ما يمر به أو يسمعه من الفوائد النفيسة والمسائل الدقيقة والفروع الغريبة وحل المشكلات والفروق بين أحكام المتشابهات من جميع أنواع العلوم، ولا يستقل بفائدة يسمعها أو يتهاون بقاعدة يضبطها بل يبادر إلى تعليقها وحفظها ولتكن همته في طلب العلم عالية فلا يكتفي بقليل العلم مع
    الصفحة: 133
    إمكان كثيره ولا يقنع من إرث الأنبياء صلوات الله عليهم بيسيره ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها أو يشغله الأمل والتسويف عنها فإن للتأخير آفات، ولأنه إذا حصلها في الزمن الحاضر حصل في الزمن الثاني غيرها.
    ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة، قال عمر رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقال الشافعي رضي الله عنه: تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه. وليحذر من نظر نفسه بعين الجمال والاستغناء عن المشايخ فإن
    الصفحة: 134
    ذلك عين الجهل وقلة المعرفة وما يفوته أكثر مما حصله وقد تقدم قول سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالمًا ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى أسوأ جهل ما يكون.
    وإذا كملت أهليته وظهرت فضيلته ومر على أكثر كتب الفن أو المشهورة
    الصفحة: 135
    منها بحثًا ومراجعة ومطالعة اشتغل بالتصنيف،
    الصفحة: 136
    وبالنظر في مذاهب العلماء، سالكًا طريق الإنصاف فيما يقع له من
    الصفحة: 141
    الخلاف كما تقدم في أدب العالم.

ص 154

  • [السادس]
    أن يلزم حلقة شيخه في التدريس والإقراء بل وجميع مجالسه إذا أمكن فإنه لا يزيده إلا خيرًا وتحصيلاً وأدبًا وتفضيلاً، كما قال علي رضي الله عنه في حديثه المتقدم. ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء، ويجتهد على مواظبته في خدمته والمسارعة إليها فإن ذلك يكسبه شرفًا وتبجيلاً.
    ولا يقتصر في الحلقة على سماع درسه فقط إذا أمكنه فإن ذلك علامة قصور الهمة وعدم الفلاح وبطء التنبه بل يعتني بسائر الدروس المشروحة ضبطًا وتعليقًا ونقلاً، وإن احتمل ذهنه ذلك ويشارك
    الصفحة: 142
    أصحابها حتى كأن كل درس منها له ولعمري أن الأمر كذلك للحريص فإن عجز عن ضبط جمعها اعتنى بالأهم فالأهم منها.
    وينبغي أن يتذاكر مواظبو مجلس الشيخ ما وقع فيه من الفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، وأن يعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم فإن في المذاكرة نفعًا عظيمًا، وينبغي المذاكرة في ذلك عند القيام من مجلسه قبل تفرق أذهانهم وتشتت خواطرهم وشذوذ بعض ما سمعوه عن أفهامهم ثم يتذاكرونه في بعض الأوقات.
    الصفحة: 143
    قال الخطيب: وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل، وكان جماعة من السلف يبدؤون في المذاكرة من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح.
    الصفحة: 144
    فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه، وكرر معنى ما سمعه ولفظه على قلبه ليعلق ذلك على خاطره فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان سواء بسواء، وقل أن يفلح من يقتصر على الفكر والتعقل بحضرة الشيخ خاصة ثم يتركه ويقوم ولا يعاوده.

ص 158

  • [السابع]
    إذا حضر مجلس الشيخ سلم على الحاضرين بصوت يسمع جميعه ويخص الشيخ بزيادة تحية وإكرام، وكذلك يسلم إذا انصرف.

ص 158

  • يجلس حيث انتهى به المجلس كما ورد في الحديث، فإن صرح له الشيخ والحاضرون بالتقدم أو كانت منزلته أو كان يعلم إيثار الشيخ والجماعة لذلك فلا بأس.
    ولا يقيم أحدًا من مجلسه أو يزاحمه قصدًا، فإن آثره الغير بمجلسه لم يقبله إلا أن تكون في ذلك مصلحة يعرفها القوم وينتفعون بها من
    الصفحة: 146
    بحثه مع الشيخ لقربه منه أو لكونه كبير السن أو كثير الفضيلة والصلاح.
    ولا ينبغي لأحد أن يؤثر بقربه من الشيخ ـ إلا لمن هو أولى بذلك لسنه أو علمه أو صلاحه بل يحرص على القرب من الشيخ ـ إذا لم يرتفع في المجلس على من هو أفضل منه

ص 163

  • [الثامن]
    أن يتأدب مع حاضري مجلس الشيخ فإنه أدب معه واحترام لمجلسه وهم رفقاؤه فيوقر أصحابه ويحترم كبراءه وأقرانه، ولا يجلس وسط الحلقة ولا قدام أحد إلا لضرورة كما في مجالس التحديث
    الصفحة: 152
    ولا يفرق بين رفيقين ولا بين متصاحبين إلا بإذنهما معًا ولا فوق من هو أولى منه.

ص 164

  • ولا يتكلم في أثناء درس غيره أو درسه بما لا يتعلق به أو بما يقطع عليه بحثه، وإذا شرع بعضهم في درس فلا يتكلم بكلام يتعلق بدرس فرغ ولا بغيره مما لا تفوت فائدة إلا بإذن من الشيخ وصاحب الدرس.

ص 166

  • [التاسع]
    أن لا يستحيي من سؤال ما أشكل عليه وتفهم ما لم يتعقد
    الصفحة: 156
    بتلطف وحسن خطاب وأدب وسؤال. قال عمر رضي الله عنه: من رق وجهه رق علمه، وقد قيل: من رق وجهه عند السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال، وقال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحيي ولا مستكبر. وقالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار لم يكن الحياء يمنعهن أن يتفقهن في الدين.

ص 167

  • ولا يسأل عن شيء في غير موضعه إلا لحاجة أو علم بإيثار الشيخ ذلك، وإذا سكت الشيخ عن الجواب لم يلح عليه، وإن أخطأ في الجواب فلا يرد في الحال عليه وقد تقدم، وكما لا ينبغي للطالب أن يستحيي من السؤال فكذلك لا يستحيي من قوله لم أفهم إذا سأله الشيخ لأن ذلك يفوت عليه مصلحته العاجلة والآجلة، أما العاجلة فحفظ المسألة ومعرفتها واعتقاد الشيخ فيه الصدق والورع والرغبة، والآجلة سلامته من الكذب والنفاق واعتياده التحقيق.

ص 168

  • [العاشر]
    مراعاة نوبته فلا يتقدم عليه بغير رضا من هي له، روي أن
    الصفحة: 158
    أنصاريًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله وجاء رجل من ثقيف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أخا ثقيف إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك.
    قال الخطيب: يستحب للسابق أن يقدم على نفسه من كان غريبًا لتأكد حرمته ووجوب ذمته، وروي في ذلك حديثان عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم.
    وكذلك إذا كان للمتأخر حاجة ضرورية وعلمها المتقدم أو أشار الشيخ بتقدمه فيستحب إيثاره، فإن لم يكن شيء من ذلك ونحوه فقد كره قوم الإيثار بالنوبة لأن قراءة العلم والمسارعة إليه قربة والإيثار بالقرب
    الصفحة: 159
    مكروه، ويحصل تقدم النوبة بتقدم الحضور في مجلس الشيخ أو إلى مكانه، ولا يسقط حقه بذهابه إلى ما يضطر إليه من قضاء حاجة وتجدد وضوء إذا عاد بعده.

ص 170

  • [الحادي عشر]
    أن يكون جلوسه بين يدي الشيخ على ما تقدم تفصيله وهيأته في أدبه
    الصفحة: 160
    مع شيخه ويحضر كتابه الذي يقرأ منه معه ويحمله بنفسه ولا يضعه حال القراءة على الأرض مفتوحًا بل يحمله بيديه ويقرأ منه، ولا يقرأ حتى يستأذن الشيخ، ذكره الخطيب عن جماعة من السلف، وقال: يجب أن لا يقرأ حتى يأذن له الشيخ.
    ولا يقرأ عند شغل قلب الشيخ أو ملله أو غمه أو غضبه أو جوعه أو عطشه أو نعاسه أو استيفازه أو تعبه.
    وإذا رأى الشيخ قد آثر الوقوف اقتصر ولا يحوجه إلى قوله اقتصر، وإن لم يظهر له ذلك فأمره بالاقتصار اقتصر حيث أمره ولا يستزيده، وإذا عين له قدرًا فلا يتعداه

الفصل الثاني في آداب العالم في درسه

ص 172

  • [الثاني عشر]
    إذا حضرت نوبته استأذن الشيخ كما ذكرناه فإذا أذن له استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم يسمي الله تعالى ويحمده، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه، ثم يدعو للشيخ ولوالديه ولمشايخه ولنفسه ولسائر المسلمين، وكذلك يفعل كلما شرع في قراءة درس أو تكراره أو مطالعته أو مقابلته في حضور الشيخ أو في غيبته إلا أن يخص الشيخ بذكره في الدعاء عند قراءته عليه.
    ويترحم على مصنف الكتاب عند قراءته، وإذا دعا الطالب للشيخ قال: ورضي الله عنكم أو عن شيخنا وإمامنا ونحو ذلك، ويقصد به الشيخ، وإذا فرغ من الدرس دعا للشيخ أيضًا، ويدعو الشيخ أيضًا للطالب كلما دعا له، فإن ترك الطالب الاستفتاح بما ذكرناه جهلاً أو نسيانًا نبهه عليه وعلمه إياه وذكره به، فإنه من أهم الآداب، وقد ورد الحديث في ابتداء الأمور المهمة بحمد الله تعالى، وهذا منها.

ص 172

  • [الثالث عشر]
    أن يرغب بقية الطلبة في التحصيل ويدلهم على مظانه ويصرف عنهم الهموم المشغلة عنه ويهون عليهم مؤنته ويذاكرهم بما حصله من
    الصفحة: 162
    الفوائد والقواعد والغرائب وينصحهم بالدين، فبذلك يستنير قلبه ويزكو عمله ومن بخل عليهم لم يثبت علمه، وإن ثبت لم يثمر، وقد جرب ذلك جماعة من السلف، ولا يفخر عليهم أو يعجب بجودة ذهنه بل يحمد الله تعالى على ذلك ويستزيده منه بدوام شكره.

الفصل الأول في آدابه في نفسه

ص 173

  • الباب الرابع
    في الآداب مع الكتب التي هي آلة العلم، وما يتعلق بتصحيحها وضبطها

ص 174

  • وحملها ووضعها وشرائها وعاريتها ونسخها وغير ذلك
    وفيه أحد عشر نوعًا:
    [الأول]
    ينبغي لطالب العلم أن يعتني بتحصيل الكتب المحتاج إليها ما أمكنه شراء وإلا فإجارة أو عارية لأنها آلة التحصيل ولا يجعل تحصيلها وكثرتها حظه من العلم وجمعها نصيبه من الفهم كما يفعله كثير من المنتحلين للفقه والحديث وقد أحسن القائل:
    إذا لم تكن حافظًا واعيًا … فجمعك للكتب لا ينفع

ص 176

  • [الثاني]
    يستحب إعارة الكتب لمن لا ضرر عليه فيها ممن لا ضرر منه بها، وكره قوم عاريتها، والأول أولى لما فيه من الإعانة على العلم مع ما في مطلق العارية من الفضل والأجر،

ص 177

  • ولا يطيل مقامه عنده من غير حاجة بل يرده إذا قضى حاجته ولا يحبسه إذا طلبه المالك أو استغنى عنه، ولا يجوز أن يصلحه بغير إذن صاحبه

ص 178

  • ولا يحشيه ولا يكتب شيئًا في بياض فواتحه أو خواتمه إلا إذا علم رضا صاحبه، وهو كما يكتبه المحدث على جزء سمعه أو كتبه ولا يسوده ولا يعيره غيره ولا يودعه لغير ضرورة حيث يجوز شرعًا ولا ينسخ منه بغير إذن صاحبه.

ص 178

  • فإن كان الكتاب وقفًا على من ينتفع به غير معين فلا بأس بالنسخ منه مع الاحتياط ولا بإصلاحه ممن هو أهل لذلك وحسن أن يستأذن الناظر فيه

ص 179

  • [الثالث]
    إذا نسخ من الكتاب أو طالعه فلا يضعه على الأرض مفروشًا منشورًا بل يجعله بين كتابين أو شيئين أو كرسي الكتب المعروفة كيلا يسرع تقطيع حبله،

ص 179

  • ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها وشرفها ومصنفها
    الصفحة: 170
    وجلالتهم فيضع الأشرف أعلى الكل ثم يراعي التدريج فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكل، والأولى أن يكون في خريطة ذات عروة في مسمار أو وتد في حائط طاهر نظيف في صدر المجلس، ثم كتب الحديث الصرف كصحيح مسلم ثم تفسير القرآن ثم تفسير الحديث ثم أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الفقه ثم النحو والتصريف ثم أشعار العرب ثم العروض.
    فإن استوى كتابان في فن أعلي أكثرها قرآنًا أو حديثًا، فإن استويا فبجلالة المصنف، فإن استويا فأقدمهما كتابة وأكثرهما وقوعًا في أيدي العلماء والصالحين، فإن استويا فأصحهما.
    وينبغي أن يكتب اسم الكتاب عليه في جانب آخر الصفحات من أسفل
    الصفحة: 171
    ويجعل رؤوس حروف هذه الترجمة إلى الغاشية التي من جانب البسملة وفائدة هذه الترجمة معرفة الكتاب وتيسر إخراجه من بين الكتب

ص 181

  • ولا يجعل الكتاب خزانة للكراريس أو غيرها ولا مخدة ولا مروحة ولا مكبسًا ولا مسندًا ولا متكأ ولا مقتلة للبق وغيره، ولاسيما في الورق فهو على الورق أشد.
    ولا يطوي حاشية الورقة أو زاويتها ولا يعلم بعود أو شيء جاف بل بورقة أو نحوها

ص 181

  • [الرابع]
    إذا استعار كتابًا فينبغي له أن يتفقده عند إرادة أخذه ورده، وإذا اشترى كتابًا تعهد أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه ويصفح أوراقه واعتبر صحته ومما يغلب على الظن صحته إذا ضاق الزمان عن
    الصفحة: 172
    تفتيشه ما قاله الشافعي رضي الله عنه قال: إذا رأيت الكتاب فيه إلحاق وإصلاح فاشهد له بالصحة وقال بعضهم: لا يضيء الكتاب حتى يظلم يريد إصلاحه.

ص 182

  • [الخامس]
    إذا نسخ شيئًا من كتب العلوم الشرعية فينبغي أن يكون على طهارة مستقبل القبلة طاهر البدن والثياب بحبر طاهر ويبتدئ كل كتاب بكتابة: بسم الله الرحمن الرحيم فإن كان الكتاب مبدوءًا فيه بخطبة تتضمن حمد الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - كتبها بعد البسملة وإلا كتب هو ذلك بعدها.

ص 183

  • ثم كتب ما في الكتاب وكذلك يفعل في ختم الكتاب أو آخر كل جزء منه بعد ما يكتب آخر الجزء الأول أو الثاني مثلاً، ويتلوه كذا وكذا إن لم يكن تم الكتاب ويكتب إذا كمل: تم الكتاب
    الصفحة: 174
    الفلاني، ففي ذلك فوائد كثيرة.
    وكلما كتب اسم الله تعالى اتبعه بالتعظيم مثل تعالى أو سبحانه أو عز وجل أو تقدس ونحو ذلك.
    وكلما كتب اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب بعده الصلاة عليه
    الصفحة: 175
    والسلام عليه، ويصلي هو عليه بلسانه أيضًا.
    وجرت عادة السلف والخلف بكتابة - صلى الله عليه وسلم - ولعل ذلك لقصد موافقة الأمر في الكتاب العزيز في قوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: ٥٦]، وفيه بحث يطول هاهنا.
    ولا تختصر الصلاة في الكتاب ولو وقعت في السطر مرارًا كما يفعل بعض المحررين المتخلفين فيكتب: صلع، أو صلم، أو صلعم، وكل ذلك غير ليق بحقه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في كتابة الصلاة بكمالها وترك اختصارها آثار كثيرة.

ص 186

  • وإذا مر بذكر الصحابي لاسيما الأكابر منهم كتب رضي الله عنه، ولا يكتب الصلاة والسلام لأحد غير الأنبياء والملائكة إلا تبعًا لهم. وكلما مر بذكر أحد من السلف فعل ذلك أو كتب رحمه الله ولاسيما الأئمة الأعلام وهداة الإسلام.

ص 186

  • [السادس]
    ينبغي أن يجتنب الكتابة الدقيقة في النسخ فإن الخط علامة فأبينه أحسنه، وكان بعض السلف إذا رأى خطأ دقيقًا قال: هذا خط من لا يوقن بالخلف من الله تعالى، وقال بعضهم: اكتب ما ينفعك وقت حاجتك إليه، ولا تكتب ما لا تنتفع به وقت الحاجة. والمراد وقت الكبر وضعف
    الصفحة: 177
    البصر، وقد يقصد بعض السفارة بالكتابة الدقيقة خفة المحمل فهذا وإن كان قصدًا صحيحًا إلا أن المصلحة الفائتة به في آخر الأمر أعظم من المصلحة الحاصلة بخفة الحمل.

ص 189

  • السابع]
    إذا صحح الكتاب بالمقابلة على أصله الصحيح أو على شيخ
    الصفحة: 180
    فينبغي له أن يشكل المشكل ويعجم المستعجم ويضبط الملتبس ويتفقد مواضع التصحيح إذا احتاج ضبطه ما في متن الكتاب إلى ضبطه في الحاشية وبيانه فعل وكتب عليه بيانًا وكذا إن احتاج إلى ضبطه مبسوطًا في الحاشية وبيان تفصيله

ص 191

  • وينبغي أن يكتب على ما صححه وضبطه في الكتاب وهو في محل شك عند مطالعته أو تطرق احتمال ح صغيرة ويكتب فوق ما وقع في التصنيف أو في النسخ وهو خطأ، كذا، صغيرة، ويكتب في الحاشية صوابه كذا إن كان يتحققه وإلا فيعلم عليه ضبة وهي صورة رأس صاد تكتب فوق الكتابة غير متصلة بها فإذا تحققه بعد ذلك وكان المكتوبة صوابًا زاد تلك الصاد حاء فتصير صح وإلا كتب الصواب في الحاشية كما تقدم.

ص 192

  • وإذا وقع في النسخة زيادة فإن كانت كلمة واحدة فله أن يكتب عليها لا وأن يضرب عليها، وإن كانت أكثر من ذلك ككلمات أو سطر أو أسطر فإن شاء كتب فوق أولها من أو كتب لا وعلى آخرها إلى ومعناه من هنا ساقط إلى هنا، وإن شاء ضرب على الجميع بأن يخط
    الصفحة: 184
    عليه خطًا دقيقًا يحصل به المقصود ولا يسود الورق ومنهم من يجعل مكان الخط نقطًا متتالية.

ص 193

  • الثامن]
    إذا أراد تخريج شيء في الحاشية ويسمى اللحق بفتح الحاء، علم له في موضعه بخط منعطف قليلاً إلى جهة التخريج وجهة اليمين أولى إن أمكن

ص 194

  • [التاسع]
    لا بأس بكتابة الحواشي والفوائد والتنبيهات المهمة على حواشي كتاب يملكه ولا يكتب في آخره صح فرقًا بينه وبين التخريج، وبعضهم يكتب عليه حاشية أو فائدة، وبعضهم يكتبه في آخرها، ولا يكتب إلا الفوائد المهمة
    الصفحة: 186
    المتعلقة بذلك الكتاب مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك.
    ولا يسوده بنقل المسائل والفروع الغريبة ولا يكثر الحواشي كثرة تظلم الكتاب أو يضيع مواضعها على طالبها.
    ولا ينبغي الكتابة بين الأسطر وقد فعله بعضهم بين الأسطر المفرقة بالحمرة وغيرها وترك ذلك أولى مطلقًا

ص 195

  • [العاشر]
    لا بأس بكتابة الأبواب والتراجم والفصول بالحمرة فإنه أظهر في البيان وفي فواصل الكلام، وكذلك لا بأس به على أسماء ومذاهب أو أقوال أو طرق أو أنواع أو لغات أو أعداد ونحو ذلك, ومتى فعل ذلك بَيَّنَ اصطلاحه في فاتحة الكتاب ليفهم الخائض فيه معانيها وقد رمز بالأحمر جماعة من المحدثين والفقهاء والأصوليين وغيرهم لقصد الاختصار.

ص 196

  • [الحادي عشر]
    قالوا الضرب أولى من الحك، لاسيما في كتب الحديث لأن فيه تهمة وجهالة فيما كان أو كتب، ولأن زمانه أكثر فيضيع وفعله أخطر فربما ثقب الورقة وأفسد ما ينفذ إليه فأضعفها، فإن كان إزالة نقطة أو شكلة ونحو ذلك فالحك أولى.

الخامس

ص 210

  • والعاقل يعلم أن
    الصفحة: 220
    أبرك الأيام عليه يوم يزداد فيه فضيلة وعلمًا ويكسب عدوه من الجن والإنس كربًا وغمًا.

Generated at: 2024-08-31-08-48-00