المؤلف:: الآجري
الناشر:: دار اللؤلؤة
سنة النشر:: 2020
الصفحات:: 133
الغلاف:: https://images-na.ssl-images-amazon.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1525093173i/39999320.jpg
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/39999320
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات::
المعرفة:: طلب العلم,
التدريب:: ,
تاريخ القراءة:: 2025-01-09
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::
لأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآجُرِّيُّ
المُقدِمَة
بيان منزلة العلماء
١ - فَإِنَّ اللَّهَ عز وجل، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، اخْتَصَّ مِنْ خَلْقِهِ مَنْ أَحَبَّ، فَهَدَاهُمْ لِلْإِيمَانَ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ أَحَبَّ، فَتَفَضَّلَ عَلَيْهِمْ، فَعَلَّمَهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَفَقَّهَهُمْ فِي الدِّينِ، وَعَلَّمَهُمُ التَّأْوِيلَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ.
• رَفَعَهُمْ بِالْعِلْمِ وَزَيَّنَهُمْ بِالْحِلْمِ،
• بِهِمْ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالضَّارُّ مِنَ النَّافِعِ، وَالْحَسَنُ مِنَ القْبَيِحِ.
• فَضْلُهُمْ عَظِيمٌ، وَخَطَرُهُمْ جَزِيلٌ،
• وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَقُرَّةُ عَيْنِ الْأَوْلِياَءِ،
• الْحِيتَانُ فِي الْبِحَارِ لَهُمْ تَسْتَغْفِرُ، وَالْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا لَهُمْ تَخْضَعُ، وَالْعُلَمَاءُ فِي الْقِيَامَةِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ تَشْفَعُ،
• مَجَالِسُهُمْ تُفِيدُ الْحِكْمَةَ، وَبِأَعْمَالِهِمْ يَنْزَجِرُ أَهْلُ الْغَفْلَةِ،
• هُمْ أَفْضَلُ مَنْ الْعُبَّادِ، وَأَعْلَى دَرَجَةً مِنَ الزُّهَّادِ،
• حَيَاتُهُمْ غَنِيمَةٌ، وَمَوْتُهُمْ مُصِيبَةٌ،
• يُذَكِّرُونَ الْغَافِلَ، وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ،
• لَا يُتَوَقَّعُ لَهُمْ بَائِقَةٌ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُمْ غَائِلَةٌ،
• بِحُسْنِ تَأْدِيبِهِمْ يَتَنَازَعُ الْمُطِيعُونَ، وَبِجَمِيلِ مَوْعِظَتِهِمْ يَرْجِعُ الْمُقَصِّرُونَ،
• جَمِيعُ الْخَلْقِ إِلَى عِلْمِهِمْ مُحْتَاجٌ، وَالصَّحِيحُ عَلَى مَنْ خَالَفَ بِقَوْلِهِمْ مِحْجَاجٌ.
• الطاَّعَةُ لَهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ وَاجِبَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ لَهُمْ مُحَرَّمَةٌ،
• مَنْ أَطَاعَهُمْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمْ عَنَدَ،
• مَا وَرَدَ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْرٍ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَقَفَ فِيهِ فَبِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ يَعْمَلُ، وَعَنْ رَأْيِهِمْ يَصْدُرُ،
• وَمَاَ وَرَدَ عَلَى أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حُكْمٍ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ فَبِقَوْلِهِمْ يَعْمَلُونَ، وَعَنْ رَأْيِهِمْ يَصْدُرُونَ،
• وَمَا أَشْكَلَ عَلَى قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حُكْمٍ، فَبِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ يَحْكُمُونَ، وَعَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ،
• فَهُمْ سِرَاجُ الْعِبَادِ، وَمَنَارُ الْبِلَادِ، وَقِوَامُ الْأُمَّةِ، وَيَنابِيعُ الْحِكْمَةِ،
• هُمْ غَيْظُ الشَّيْطَانِ،
• بِهِمْ تَحْيَا قُلُوبُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَتَمُوتُ قُلُوبُ أَهْلِ الزَّيْغِ،
• مَثَلُهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، إِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ تَحَيَّرُوا، وَإِذَا أَسْفَرَ عَنْهَا الظَّلُامُ أَبْصَرُوا.
ص ١٨٢ - ١٨٥
صاحب العلم والفتيا أحوج شيء إلى الحلم والسكينة والوقار
قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (٧٦/٥): فَلَيْسَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا إلَى شَيْءٍ أَحْوَجَ مِنْهُ إلَى الْحِلْمِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ فَإِنَّهَا كِسْوَةُ عِلْمِهِ وَجَمَالِهِ، وَإِذَا فَقَدَهَا كَانَ عِلْمُهُ كَالْبَدَنِ الْعَارِي مِنْ اللِّبَاسِ،
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَا قُرِنَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ أَحْسَنُ مِنْ عِلْمٍ إلَى حِلْمٍ.
وَالنَّاسُ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ، فَخِيَارُهُمْ مِنْ أُوتِيَ الْحِلْمَ وَالْعِلْمَ، وَشِرَارُهُمْ مِنْ عَدَمِهِمَا، الثَّالِثُ: مِنْ أُوتِيَ عِلْمًا بِلَا حِلْمٍ، الرَّابِعُ: عَكْسُهُ.
فَالْحِلْمُ زِينَةُ الْعِلْمِ وَبَهَاؤُهُ وَجَمَالُهُ. وَضِدُّ الطَّيْشِ وَالْعَجَلَةِ وَالْحِدَةِ وَالتَّسَرُّعِ وَعَدَمِ الثَّبَاتِ؛ فَالْحَلِيمُ لَا يَسْتَفِزُّهُ الْبَدَوَاتُ [يعني: الآراء المختلفة التي تظهر وتبدو له]، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَلَا يُقْلِقُهُ أَهْلُ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ وَالْجَهْلِ. بَلْ هُوَ وَقُورٌ ثَابِتٌ ذُو أَنَاةٍ يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ وُرُودِ أَوَائِلِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ وَلَا تَمْلِكُهُ أَوَائِلُهَا، وَمُلَاحَظَتُهُ لِلْعَوَاقِبِ تَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ دَوَاعِي الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ؛ فَبِالْعِلْمِ تَنْكَشِفُ لَهُ مَوَاقِعُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصَّلَاحِ وَالْفَسَادِ، وَبِالْحِلْمِ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَثْبِيتِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْخَيْرِ فَيُؤْثِرُهُ وَيَصِيرُ عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّرِّ فَيَصْبِرُ عَنْهُ؛ فَالْعِلْمُ يُعَرِّفُهُ رُشْدَهُ وَالْحِلْمُ يُثَبِّتُهُ عَلَيْهِ،
وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى بَصِيرًا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى هَذَا وَلَا عَنْ هَذَا رَأَيْته، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى صَابِرًا عَلَى الْمَشَاقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ رَأَيْتَهُ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى مِنْ لَا صَبْرَ لَهُ وَلَا بَصِيرَةَ رَأَيْتَهُ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَرَى بَصِيرًا صَابِرًا لَمْ تَكَدْ، فَإِذَا رَأَيْتَهُ فَقَدْ رَأَيْتَ إمَامَ هُدًى حَقًّا فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ. وَالْوَقَارُ وَالسَّكِينَةُ ثَمَرَةُ الْحِلْمِ وَنَتِيجَتُهُ… إلخ.
الحاشية ص ١٨٣
العلم التام يستلزم الخشية
قال ابن رجب رحمه الله في «فتح الباري» (۱ / ۹۰): العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾، فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم؛ كان له أخشى وأتقى، إنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله. اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في «روضة المحبين» (۲۸۳): فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف. قال ابن مسعود رضي الله عنه: وكفى بخشية الله علما. ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتدَّ حياؤه منه، وخوفه له، وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياءً وخوفًا وحبًّا، فالخوف من أجل منازل الطريق، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أليق، ولهم ألزم. اهـ.
الحاشية ص ١٨٦
الحكماء هم أهل معرفة الدين والعمل به
قال ابن رجب رحمه الله كما في «مجموع الرسائل» (٢/ ٥٧٠): والحكماء هم: أهل الحكمة، والحكمة هي معرفة الدين والعمل به، كما قاله مالك والليث وغيرهما من السلف.
وكذلك ذكره ابن قتيبة وغيره، (فالحكماء): هم خواص العلماء كما كان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: العلماء كثير، والحكماء قليل.
وقال له رجل: العلماء ورثة الأنبياء. فقال فضيل: الحكماء ورثة الأنبياء. وإنما قال هذا؛ لأنه صار كثير من الناس يظن أن العلماء الممدوحين في الشريعة يدخل فيهم من له لسان علم، وإن لم يكن عنده من حقائق الإيمان ومن العمل بالعلم ما يوجب سعادته.
فبين الفضيل أنه لا يدخل في مدح الله ورسوله للعلماء إلا أهل الحكمة، وهم أهل الدراية والرعاية. وقد كان السلف لا يطلقون اسم: (العالم) إلا على من عنده علم يوجب له الخشية، كما قال بعضهم: إنما العالم من يخشى الله، وكفى بخشية الله علما.
وهذا مطابق لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا﴾. اهـ.
الحاشية ص ١٨٦
معنى الرباني
وفي «الفقيه والمتفقه» (۱۸۰) عن محمد بن عبد الواحد قال: سألت ثعلبا عن هذا الحرف: (رباني)؟ فقال: سألت ابن الأعرابي، فقال: إذا كان الرجل عالما، عاملا، معلمًا، قيل له: (هذا رباني)، فإن خرم عن خصلة منها لم يقل له: (رباني).
الحاشية ص ١٨٧
الإيمان مبني على اليقين والصبر
قال ابن القيم الله في «عدة الصابرين» (ص ٢٠٦): إن الإيمان مبني على ركنين: يقين، وصبر. وهما الركنان المذكوران في قوله تعالى: ﴿أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾. فباليقين يعلم حقيقة الأمر والنهي، والثواب والعقاب، وبالصبر ينفذ ما أمر به، ويكف نفسه عما نهي عنه، ولا يحصل له التصديق بالأمر والنهي أنه من عند الله، وبالثواب والعقاب إلا باليقين، ولا يمكنه الدوام على فعل المأمور وكف النفس عن المحظور إلا بالصبر، فصار الصبر نصف الإيمان، والنصف الثاني الشكر، بفعل ما أمر به، وبترك ما نهى عنه. اهـ.
الحاشية ص ١٨٧
الحكمة هي العلم والفقه
٣ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: «﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] قَالَ: الْعِلْمُ وَالْفِقْهُ»
ص ١٨٩
في «البيان والتحصيل» (١٧/ ٢٩٤) قال مالك: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب.
قال محمد بن رشد: النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني فيتفقه فيما حمل، فشبه ذلك بالنور وهو الضياء الذي به ينكشف الظلام، فمن لم يكن معه ذلك النور، فهو بمنزلة الحمار فيما حمل من كثرة الروايات يحمل أسفارًا. فمن أراد الله به خيرًا أعطاه من ذلك النور.
قال رسول الله ﷺ: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
وقال الله تعالى: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩].
قال مالك: هو الفقه في دين الله.
وقد أثنى الله ﷻ على من آتاه الفهم، فقال: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَنَ وَكُلًّا وَآتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩]. و(الحكم): الفهم والفقه، والله أعلم، وبه تعالى التوفيق. اهـ.
الحاشية ص ١٨٩
أولو الأمر هم الفقهاء والعلماء والأمراء
٨ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْأُشْنَانِيُّ، ثنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، ثنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثنَا شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩].
ص ١٩٠
قال ابن القيم رحمه الله في «الرسالة التبوكية» (٤٥): وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في (أولي الأمر)، فعنه فيهم روايتان: إحداهما: أنهم العلماء. والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله. فالعلماء ولاتُه حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًا عنه، وردا على من الحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك، فقال تعالى: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَفِرِينَ﴾ [الأنعام].
فيا لها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم، وكون الناس تبعا لهم. والأمراء ولاته قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزاما للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبع لهم ورعية. اهـ.
الحاشية ص ١٩٠ - ١٩١
بَابُ ذِكْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَنُ وَالْآثَارُ مِنْ فَضْلِ الْعُلَمَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ
١٠ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَلَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».
ص ١٩٢
رواه أحمد (٢١٧١٥)، وأبو داود (٣٦٤١)، والترمذي (٢٦٨٢)، وابن ماجه (٢٢٣).
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة (178/1): وقوله: (إن العلماء ورثة الأنبياء، هذا من أعظم المناقب لأهل العلم، فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم.
وفيه أيضًا إرشاد وأمر للأمة بطاعتهم، واحترامهم وتعزيرهم وتوقيرهم وإجلالهم؛ فإنهم ورثة من هذه بعض حقوقهم على الأمة، وخلفاؤهم فيهم.
وفيه تنبيه على أن محبتهم من الدين، وبغضهم منافٍ للدين كما هو ثابت لموروثهم. وكذلك معاداتهم ومحاربتهم معاداة ومحاربة الله كما هو في موروثهم… إلخ.
قال ابن رجب رحمه الله كما في مجموع الرسائل (٥٢/١): فيه إشارة إلى أمرين:
-
أحدهما: أن العالم الذي هو وارث للرسول حقيقة، كما أنه ورث علمه فينبغي أن يورثه كما ورث الرسول العلم، وتوريث العالم العلم هو أن يخلفه بعده بتعليم أو تصنيف، ونحو ذلك مما ينتفع به بعده..
-
والأمر الثاني: أن من كمال ميراث العالم للرسول ﷺ أن لا يخلف الدنيا كما لم يخلفها الرسول، وهذا من جملة الاقتداء بالرسول وبسنته في زهده في الدنيا، وتقلله منها، واجتزائه منها باليسير… وهكذا كان حال العلماء الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد، اجتزؤوا من الدنيا باليسير إلى أن خرجوا منها، ولم يخلفوا سوى العلم.. إلخ.
الحاشية ص ١٩٣ - ١٩٤
فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ
١٢ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ بُدَيْنَا الدَّقَّاقُ، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَلَفَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ الدِّينِ الْفِقْهُ».
١٣ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ جَنَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ».
ص ١٩٥
ضعفه ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» (۱/ ۳۲۷) وقال: هذا وما أشبهه من كلام الصحابة ﷺ فمن دونهم. اهـ.
وقال أيضًا (۱/ ۱۸۸): روى عن عبد الله بن عمرو ا: فضل العالم على العابد سبعين درجة بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عامًا، وذلك أن الشيطان يضع البدعة فيبصرها العالم وينهى عنها، والعابد مقبل على عبادة ربه لا يتوجه لها ولا يعرفها. وهذا معناه صحيح، فإن العالم يُفسد على الشيطان ما يسعى فيه، ويهدم ما يبنيه، فكل ما أراد إحياء بدعة وإماتة سنة حال العالم بينه وبين ذلك، فلا شيء أشد عليه من بقاء العالم بين ظهراني الأمة، ولا شيء أحب إليه من زواله من بين أظهرهم؛ ليتمكن من إفساد الدين وإغواء الأمة، وأما العابد فغايته ان يجاهده ليسلم منه في خاصة نفسه، وهيهات له ذلك. اهـ.
وقال ابن رجب رحمه الله كما في (مجموع الرسائل) (٤١/١) بعد ذكره للأحاديث في فضل العالم على العباد - باختصار -: وقد دل هذا الحديث على تفضيل العلم على العبادة تفضيلاً بينا، والأدلة الدالة على ذلك كثيرة.
قال الله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩]
وقال: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١].
والآثار الموقوفة عن السلف في هذا كثيرة جدًّا:
-
فروي عن أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قالا: الباب يتعلمه الرجل أحب إلينا من ألف ركعة تطوعًا. وخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا.
-
وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة.
-
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إليَّ من إحيائها.
-
وصح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: لمجلس أجلسه من عبد الله بن مسعود أوثق في نفسي من عمل سنة.
-
قال الزهري: تعلم سنة أفضل من عبادة مائتي سنة.
-
وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة نافلة.
-
ورأى مالك بعض أصحابه يكتب العلم، ثم تركه وقام يُصلي، فقال: عجبًا لك! ما الذي قمت إليه بأفضل من الذي تركته.
-
وسئل أحمد أيما أحب إليك، أن أصلي بالليل تطوعًا، أو أجلس أنسخ العلم؟ قال: إذا كنت تنسخ ما تعلم أمر دينك فهو أحبُّ إليَّ. وقال أحمد أيضًا -: العلم لا يعدله شيء.
الحاشية ص ١٩٥ - ١٩٦
مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
١٦ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَسْعُودٍ الْمِصِّيصِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
ص ١٩٨
رواه البخاري (٣١١٦)، ومسلم (۱۰۳۷).
العلماء مصابيح في الناس
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: «فَمَا ظَنُّكُمْ - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - بِطَرِيقٍ فِيهِ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَيَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَى سُلُوكِهِ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِصْبَاحٌ وَإِلَّا تَحَيَّرُوا، فَقَيَّضَ اللَّهُ لَهُمْ فِيهِ مَصَابِيحَ تُضِيءُ لَهُمْ، فَسَلَكُوهُ عَلَى السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ، ثُمَّ جَاءَتْ طَبَقَاتٌ مِنَ النَّاسِ لَابُدَّ لَهُمْ مِنَ السُّلُوكِ فِيهِ، فَسَلَكُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ طُفِئَتِ الْمَصَابِيحُ، فَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِهِمْ؟
هَكَذَا الْعُلَمَاءُ فِي النَّاسِ لَا يَعْلَمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَيْفَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ، وَكَيْفَ اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ، وَلَا كَيْفَ يُعْبَدُ اللَّهُ فِي جَمِيعِ مَا يَعْبُدُهُ بِهِ خَلْقُهُ، إِلَّا بِبَقَاءِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا مَاتَ الْعُلَمَاءُ تَحَيَّرَ النَّاسُ، وَدَرَسَ الْعِلْمُ بِمَوْتِهِمْ، وَظَهَرَ الْجَهْلُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ مُصِيبَةٌ مَا أَعْظَمَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؟».
ص ٢٠٠
في «العلم والحلم» لابن أبي إياس (٦٤) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لن تزالوا بخير ما إذا حنَّ في نفس الرجل الشيء، وجد من هو أعلم منه فمشى إليه فشفاه منه، وأيم الله ليوشك أن يلتمس ذلك فلا يوجد.
وفي «جامع بيان العلم» (٢٤٣) عن عبيد الله بن أبي جعفر: العلماء منار البلاد، منهم يقتبس النور الذي يهتدى به.
الحاشية ص ٢٠٠ - ٢٠١
قبض العلم موت العلماء
٢٢ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ يَعْنِي مُحَمَّدًا الْعَدَنِيَّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، إِنَّمَا يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عَلِمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
ص ٢٠١
رواه أحمد (٦٥١١)، والبخاري (١٠٠)، ومسلم (٢٦٧٣).
فضل تعلم العلم
٢٦ - وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَنِيسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ، وَالْقُرْبُ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا، فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَلْقِ قَادَةً يُقْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَلْقِ تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، وَتَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي حُبِّهِمْ، بِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، حَتَّى كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَهُمْ مُسْتَغْفِرٌ، حَتَّى حِيتَانُ الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ، وَالسَّمَاءُ وَنُجُومُهَا، لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى، وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وَقُوَّةُ الْأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ، يَبْلُغُ بِهِ الْعَبْدُ مَنَازِلَ الْأَحْرَارِ، وَمُجَالَسَةَ الْمُلُوكِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْفِكْرُ بِهِ يُعْدَلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، بِهِ يُطَاعُ اللَّهُ عز وجل، وَبِهِ يُعْبَدُ اللَّهُ عز وجل، وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، [الْعِلْمُ] إِمَامُ الْعَمَلِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ».
ص ٢٠٣ - ٢٠٤
ذكر المصنف حاله هذا الأثر من غير إسناد، وقد رواه أبو نعيم في الحلية» (١/۲۳۸)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (٢٦٩)، ولا يصح عن حذيفة منه.
ورواه ابن عبد البر أيضًا (۲٦٨) مرفوعًا، وقال: هكذا حدثنيه أبو عبد الله عبيد بن محمد الله مرفوعًا بالإسناد المذكور، وهو حديث حسن جدا؛ ولكن ليس له إسناد قوي. اهـ.
الحاشية ص ٢٠٤
تبليغ السنة جهاد
في (ذم الكلام) (۲۲۸) عن الحميدي قال: والله لأن أغزو هؤلاء الذين يردون حديث رسول الله ﷺ أحب إلي من أن أغزو عدتهم من الأتراك.
قال ابن القيم رحمه الله في (جلاء الأفهام» (ص ٤١٥): وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه. اهـ.
وقال في «مفتاح دار السعادة» (١٩١/١) وهو يعدد وجوه فضل العلم:…وإنما جعل طلب العلم من سبيل الله؛ لأن به قوام الإسلام، كما أن قوامه بالجهاد، فقوام الدين بالعلم والجهاد، ولهذا كان الجهاد نوعين:
١ - جهاد باليد والسنان، وهذا المشارك فيه كثير.
٢ - وجهاد بالحُجَّة والبيان، وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل، وهو جهاد الأئمة، وهو أفضل الجهادين؛ لعظم منفعته، وشدة مؤنته، وكثرة أعدائه…
قال كعب الأحبار: طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله ﷺ.
وجاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم: إذا جاء الموتُ طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد. وقال سفيان بن عيينة: من طلب العلم فقد بايع الله.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: من رأى الغُدُوِّ والرواح إلى العلم ليس بجهاد، فقد نقص في عقله ورأيه. اهـ.
الحاشية ص ٢٠٣
الْعَالِمِ يَسْتَغْفِرُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ
٢٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ، أَخْبَرَنَا الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ كُلُّ شَيْءٍ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ».
ص ٢٠٤
في (ذم الكلام) (۱۰۱۲) قال أبو وهب: قيل لابن المبارك: حتى متى تطلب الحديث؟
قال: أليس جاء في الحديث أنه يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في جوف الماء، فلهذا مَتْرَك؟!
الحاشية ص ٢٠٤
الملائكة تحف طالب العلم بأجنحتها وتضعها له
٢٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، أَخْبَرَنَا الصَّعْقُ بْنُ حَزْنٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَكَمِ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ فَقَالَ: «مَرْحَبًا يَا طَالِبَ الْعِلْمِ،» إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغُوا سَمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّهِمْ لِمَا يَطْلُبُ.
ص ٢٠٥
رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار» (۱ /۸۲)، والطبراني في الكبير» (٧٣٤٧)، والحاكم (۱ /۱۰۰ و۱۰۱)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم» (١٦٢). وفي رواية المصنف خطأ، فإن الصواب في رواية المنهال كما هي عند أكثر من رواه من طريقه عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود.
قال ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة» (١/ ١٧٤) وهو يجمع بين الحديثين: ففي هذا الحديث حَفُّ الملائكة له بأجنحتها إلى السماء، وفي الأول وضعها أجنحتها له؛ فالوضع: تواضع وتوقير وتبجيل، والحف بالأجنحة: حفظ وحماية وصيانة. فتضمن الحديثان تعظيم الملائكة له، وحبها إياه، وحياطته، وحفظه؛ فلو لم يكن لطالب العلم إلا هذا الحظ الجزيل لكفى به شرفا وفضلا. اهـ.
قال ابن القيم في «مفتاح دار السعادة» (۱/ ۱۷۱): ووضع الملائكة أجنحتها له تواضعًا له وتوقيرًا وإكراما لما يحمله من ميراث النبوة ويطلبه، وهو يدل على المحبة والتعظيم، فمن محبة الملائكة له وتعظيمه تضع أجنحتها له؛ لأنه طالب لما به حياة العالم ونجاته، ففيه شبه من الملائكة، وبينه وبينهم تناسب، فإن الملائكة أنصح خلق الله وأنفعهم لبني آدم، وعلى أيديهم حصل لهم كل سعادة وعلم وهدى.
ومن نفعهم لبني آدم ونصحهم أنهم يستغفرون لمسيئهم، ويُثبتون مؤمنيهم، ويعينونهم على أعدائهم من الشياطين، ويحرصون على مصالح العبد أضعاف حرصه على مصلحة نفسه، بل يريدون له من خير الدنيا والآخرة ما لا يريد العبد ولا يخطر بباله…
الحاشية ص ٢٠٥ - ٢٠٧
مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ
٣١ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجُرْجَائيُّ، أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ص ٢٠٧
رواه أحمد (٨٣١٦)، ومسلم (٢٦٩٩).
وفي «البيان والتحصيل» (٤٣٩/١٨) سُئل مالك فقيل له: يا أبا عبد الله، أترجو لمن خرج في طلب هذا الفقه والعلم في ذلك خيرا؟ فقال: نعم، لمن حسنت نيته، وهدي لخيره، وأي شيء أفضل منه، قال الله تبارك وتعالى: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة]، ولكن الناس قد خلطوا. اهـ.
قال ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» (١٩٥/١): وقد تظاهر الشرع والقدر على أن الجزاء من جنس العمل، فكما سلك طريقًا يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك، سلك الله به طريقاً يحصل له ذلك. اهـ.
قال ابن رجب رحمه الله كما في «مجموع رسائله» (١٢/١): سلوك الطريق لالتماس العلم: يحتمل أن يراد به السلوك الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلم.
ويحتمل أن يشمل ما هو أعم من ذلك من سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم، مثل: حفظه، ودراسته، ومطالعته، ومذاكرته، والتفهم له، والتفكر فيه، ونحو ذلك من الطرق التي يتوصل بها إلى العلم.
وقال: وسبب تيسير طريق الجنة على طالب العلم؛ إذا أراد به وجه الله ﷺ وطلب مرضاته: أن العلم يدل على الله من أقرب الطرق وأسهلها، فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه وصل إلى الله وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فتسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا وفي الآخرة.
ومن سلك طريقاً يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يوصل إلى المقصود مع عسرة شديدة. فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، وقد سمى الله كتابه نوراً يهتدى به في الظلمات، كما قال تعالى: «… قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ» [المائدة]. اهـ.
الحاشية ص ٢٠٧ - ٢٠٨
معنى الْحَسَنَةُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾
٣٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ [البقرة: ٢٠١] قَالَ: «الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: الْعِلْمُ، وَالْعِبَادَةُ، وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ».
ص ٢٠٩
مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَمُتَعَلِّمُهُ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ
٣٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْأُشْنَانِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْأَسْوَدِ الْعِجْلِيُّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، أَخْبَرَنَا شَمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَمُتَعَلِّمُهُ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ، حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ».
ص ٢١١
رواه الدرامي في «مسنده» (٣٥٥)، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (۱۸۱) بإسناد صحيح.
روى مسلم (١٦٣١) عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». قال ابن عبد البر في «التمهيد» (٣٢٩/٢٤): حديث هذا الباب أبلغ شيء في فضائل تعليم العلم اليوم، والدعاء إليه، وإلى جميع سبل البر والخير؛ لأن الميت منها كثير جدا.. وعلى قدر فضل معلم الخير وأجره يكون وزر من علم الشر ودعا إلى الضلال؛ لأنه يكون عليه وزر من تعلمه منه، ودعا إليه، وعمل به، عصمنا الله برحمته. اهـ.
الحاشية ص ٢١١
مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ ثُمَّ تُعَلِّمَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ
٤١ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ ﷺ: «إِنَّ مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ، ثُمَّ تُعَلِّمَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ عز وجل».
ص ٢١٢
رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي «الْبِرِّ وَالصِّلَةِ» (١٣٨٥)، وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ.
وَرَوَاهُ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي «الْعِلْمِ» (١٣٨) مِنْ طَرِيقِ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مِنَ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ الْعِلْمَ، فَيَعْمَلَ بِهِ، وَيُعَلِّمَهُ».
قَالَ الْأَشْعَثُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَدَأَ بِالْعِلْمِ قَبْلَ الْعَمَلِ.
الحاشية ص ٢١٢
بَابُ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ نَفَعَهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
لِهَذَا الْعَالِمِ صِفَاتٌ وَأَحْوَالٌ شَتَّى، وَمَقَامَاتٌ لَابُدَّ لَهُ مِنِ اسْتِعْمَالِهَا، فَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ فِي كُلِّ حَالٍ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ.
• فَلَهُ صِفَةٌ فِي طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ: كَيْفَ يَطْلُبُهُ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ فِي كَثْرَةِ الْعِلْمِ إِذَا كَثُرَ عِنْدَهُ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ فَيُلْزِمَهُ نَفْسَهُ.
• وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا جَالَسَ الْعُلَمَاءَ: كَيْفَ يُجَالِسُهُمْ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا تَعَلَّمَ مِنَ الْعُلَمَاءِ: كَيْفَ يَتَعَلَّمُ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يُعَلِّمُ غَيْرَهُ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا نَاظَرَ فِي الْعِلْمِ: كَيْفَ يُنَاظِرُ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ إِذَا أَفْتَى النَّاسَ: كَيْفَ يُفْتِي؟
• وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يُجَالِسُ الْأُمَرَاءَ، إِذَا ابْتُلِيَ بِمُجَالَسَتِهِمْ؟ وَمَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجَالِسَهُ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ؟
• وَلَهُ صِفَةٌ عِنْدَ مُعَاشَرَتِهِ لِسَائِرِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا عِلْمَ مَعَهُ.
• وَلَهُ صِفَةٌ: كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ عز وجل فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟
قَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ حَقٍّ يَلْزَمُهُ مَا يُقَوِّيهِ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ،
وَقَدْ أَعَدَّ لِكُلِّ نَازِلَةٍ مَا يَسْلَمُ بِهِ مِنْ شَرِّهَا فِي دِينِهِ، عَالِمٌ بِمَا يَجْتَلِبُ بِهِ الطَّاعَاتِ، عَالِمٌ بِمَا يَدْفَعُ بِهِ الْبَلِيَّاتِ، قَدِ اعْتَقَدَ الْأَخْلَاقَ السَّنِيَّةَ، وَاعْتَزَلَ الْأَخْلَاقَ الدَّنِيَّةَ.
ص ٢١٣ - ٢١٤
قال الخطيب البغدادي في «الجامع لأخلاق الراوي» (۱/ ۱۱۹): والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً، وأشد الخلق تواضعاً، وأعظمهم نزاهة وتديناً، وأقلهم طيشاً وغضباً، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله ﷺ وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين، ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها، ويصدفوا عن أرذلها وأدونها.
قال أبو عاصم: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس.
وعن ابن شهاب [الزهري] قال: إن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه ﷺ، وأدب النبي ﷺ أمته، أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علماً فليجعله أمامه حُجَّة فيما بينه وبين الله عزوجل.
وعن سفيان بن عيينة أنه كان يقول: إن رسول الله ﷺ هو الميزان الأكبر، فعليه تُعرض الأشياء، على خُلقه وسيرته وهديه، فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل.
وفيه (٣٥٨) قال الحجاج بن أرطأة: إن أحدكم إلى أدب حسن أحوج منه إلى خمسين حديثاً.
وفيه (٣٥٩) عن إبراهيم بن أدهم قال: كنا إذا رأينا الشاب يتكلم مع المشايخ في المسجد أيسنا من كل خير عنده. [يعني: يتعالى عليهم، ويُظهر لهم علمه].
وفي «سير السلف الصالحين» (٣/ ١٣٢٥) عن إبراهيم الخواص قال: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم لمن اتبع العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم.
الحاشية ص ٢١٤
ذِكْرُ صِفَتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
٤٤ - فَمِنْ صِفَتِهِ لِإِرَادَتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ:
• أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل فَرَضَ عَلَيْهِ عِبَادَتَهُ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بِعِلْمٍ،
• وَعَلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ فَرِيضَةٌ عَلَيْهِ،
• وَعَلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَحْسُنُ بِهِ الْجَهْلُ، فَطَلَبَ الْعِلْمَ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْجَهْلَ، وَلِيَعْبُدَ اللَّهَ كَمَا أَمَرَهُ، لَيْسَ كَمَا تَهْوَى نَفْسُهُ. فَكَانَ هَذَا مُرَادَهُ فِي السَّعْيِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ،
• مُعْتَقِدًا لِلْإِخْلَاصِ فِي سَعْيِهِ،
• لَا يَرَى لِنَفْسِهِ الْفَضْلَ فِي سَعْيِهِ، بَلْ يَرَى لِلَّهِ عز وجل الْفَضْلَ عَلَيْهِ، إِذْ وَفَّقَهُ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا يَعْبُدُهُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
ص ٢١٥ - ٢١٦
قال المصنف رحمه الله في «الشريعة» (٤٤٩/١): مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَعَقْلٌ، فَمَيَّزَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ… عَلِمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَزِمَ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْجَهْلُ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ، أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ، وَلَا لِلدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ هَذَا مُرَادُهُ سَلِمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ، وَاتَّبَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوفَّقَهُ لِذَلِكَ. اهـ.
في «جامع بيان العلم» (١١٩)، و«الحلية» (٣٦٦/٦) عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت الفريابي يقول: سمعت الثوري يقول: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية فيه. قال أحمد: قلت للفريابي: وأي شيء النية؟ قال: تريد به وجه الله والدار الآخرة.
وفي «الجامع» أيضًا (١١٦) عن ابن وهب قال: كنت عند مالك بن أنس فجاءت صلاة الظهر أو العصر وأنا أقرأ عليه وأنظر في العلم بين يديه، فجمعت كتبي وقمت لأركع. فقال لي مالك: ما هذا؟! قلت: أقوم للصلاة قال: إن هذا لعجب! فما الذي قمت إليه بأفضل من الذي كنت فيه إذا صحت النية فيه. [قلتُ: أنكر عليه قيامه لصلاة النافلة، لا أنه أنكر قيامه للفريضة، كما لا يخفى].
وفي «الآداب الشرعية» (۲/ ۳۷) قال مُهنا: قلت لأحمد: حدثنا ما أفضل الأعمال؟ قال: طلب العلم. قلت: لمن؟ قال: لمن صحت نيته. قلت: وأي شيء يصحح النية؟ قال: ينوي يتواضع فيه، وينفي عنه الجهل.
وفي «جزء حديث البطاقة» (۲۱) قال علي بن الفضيل لأبيه: يا أبه، ما أحلى كلام أصحاب محمد ﷺ. قال: يا بني وتدري لم حلا؟ قال: لا. قال: لأنهم أرادوا به الله ﷺ.
وفي «الحلية» (۱۰/ ۲۳۱) قيل لأحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟
قال: لأنهم تكلموا لعزّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن. ونحن نتكلم لعزّ النفس، وطلب الدنيا، وقبول الخلق.
وانظر: «الجامع لأخلاق الراوي» (۱/ ۱۲۳) (باب النية في طلب الحديث).
الحاشية ص ٢١٥ - ٢١٦
ذِكْرُ صِفَتِهِ فِي مَشْيِهِ إِلَى الْعُلَمَاءِ
٤٥ - يَمْشِي بِرِفْقٍ وَحِلْمٍ، وَوَقَارٍ، وَأَدَبٍ، مُكْتَسِبٌ فِي مَشْيِهِ كُلَّ خَيْرٍ،
• تَارَةً يُحِبُّ الْوَحْدَةَ، فَيَكُونُ لِلْقُرْآنِ تَالِيًا،
• وَتَارَةً بِالذِّكْرِ مَشْغُولًا،
وَتَارَةً يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ عز وجل عَلَيْهِ، وَيَقْتَضِي مِنْهَا الشُّكْرَ،
• يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ سَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَلِسَانِهِ، وَنَفْسِهِ، وَشَيْطَانِهِ،
• فَإِنْ بُلِيَ بِمُصَاحَبَةِ النَّاسِ فِي طَرِيقِهِ، لَمْ يُصَاحِبْ إِلَّا مَنْ يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ، قَدْ أَقَامَ الْأَصْحَابَ مَقَامَ ثَلَاثَةٍ:
ـ إِمَّا رَجُلٌ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ خَيْرًا، إِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ.
ـ أَوْ رَجُلٌ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ، فَيُذَاكِرُهُ الْعِلْمَ لِئَلَّا يَنْسَى مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْسَاهُ.
ـ أَوْ رَجُلٌ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ فَيُعَلِّمُهُ، يُرِيدُ اللَّهَ عز وجل بِتَعْلِيمِهِ إِيَّاهُ.
• لَا يَمَلُّ مِنْ أَصْحَابِهِ لِكَثْرَةِ صُحْبَةٍ، بَلْ يُحِبُّ ذَلِكَ لِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَتِهِ، قَدْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ الْخِصَالِ، خَائِفٌ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، قَدْ أَجْمَعَ الْحَذَرَ مِنْ عَدُوِّهِ الشَّيْطَانِ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يُزَيِّنَ لَهُ قَبِيحَ مَا نُهِيَ عَنْهُ،
• يُكْثِرُ الِاسْتِعَاذَةَ بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَيَسْأَلُهُ عِلْمًا نَافِعًا،
• هَمُّهُ فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ عز وجل الْفَهْمُ عَنِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى،
• وَفِي حِفْظِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ الْفِقْهُ، لِئَلَّا يُضَيِّعَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَلِأَنْ يَتَأَدَّبَ بِالْعِلْمِ،
• طَوِيلُ السُّكُوتِ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ، حَتَّى يَشْتَاقَ جَلِيسُهُ إِلَى حَدِيثِهِ،
• إِنِ ازْدَادَ عِلْمًا خَافَ مِنْ ثَبَاتِ الْحُجَّةِ، فَهُوَ مُشْفِقٌ فِي عِلْمِهِ، كُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ إِشْفَاقًا،
• إِنْ فَاتَهُ سَمَاعُ عِلْمٍ قَدْ سَمِعَهُ غَيْرُهُ فَحَزِنَ عَلَى فَوْتِهِ، لَمْ يَكُنْ حُزْنُهُ بِغَفْلَةٍ حَتَّى يَوَاقِفَ نَفْسَهُ، وَيُحَاسِبَهَا عَلَى الْحُزْنِ، فَيَقُولُ: لِمَ حَزِنْتِ؟
احْذَرِي يَا نَفْسُ أَنْ يَكُونَ الْحُزْنُ عَلَيْكِ، لَا لَكِ، إِذْ سَمِعَهُ غَيْرُكِ، فَلَمْ تَسْمَعِيهِ أَنْتِ، فَكَانَ أَوْلَى بِكِ أَنْ تَحْزَنِي عَلَى عِلْمٍ قَدْ قَرَعَ السَّمْعَ، وَقَدْ ثَبَتَتْ عَلَيْكِ بِهِ الْحُجَّةُ فَلَمْ تَعْمَلِي بِهِ، فَكَانَ حُزْنُكِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ حُزْنِكِ عَلَى عِلْمٍ لَمْ تَسْمَعِيهِ، وَلَعَلَّكِ لَوْ قُدِّرَ لَكِ سَمَاعُهُ كَانَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْكِ أَوْكَدَ، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ حُزْنِهِ، وَسَأَلَ مَوْلَاهُ الْكَرِيمَ أَنْ يَنْفَعَهُ بِمَا قَدْ سَمِعَ.
ص ٢١٦ - ٢١٨
في «جامع بيان العلم» (۲۱۲۸) قال عبد العزيز بن أبي حازم: سمعت أبي يقول: العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالم من هو فوقه في العلم كان ذلك يوم غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزه عليه، حتى كان هذا الزمان! فصار الرجل يعيب من هو فوقه ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يذاكر من هو مثله، ويزهى على من هو دونه؛ فهلك الناس.
وفيه (۸۷۸) قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: أيامي أربعة: يوم أخرج فألقى فيه من هو أعلم مني؛ فأتعلم منه، فذاك يوم فائدتي وغنيمتي. ويوم أخرج فألقى فيه من أنا أعلم منه فأعلمه؛ فذاك يوم أجري. ويوم أخرج فألقى فيه من هو مثلي فأذاكره؛ فذاك يوم درسي. ويوم أخرج فيه فألقى من هو دوني وهو يرى أنه فوقي؛ فلا أكلمه، وأجعله يوم راحتي.
وفي «الجامع لأخلاق الراوي» (۱۷۱۳) قال وكيع: لا يكون الرجل عالمًا حتى يسمع ممن هو أسن منه، وممن هو دونه، وممن هو مثله.
وفيه (۱۷۲۰) قال سفيان بن عيينة: لا يكون الرجل من أهل الحديث حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن هو دونه، وعمن هو مثله.
وفيه (۱۷۱۸) عن أبي بكر الخلال، قال: سمعت إبراهيم الحربي وذاكروه النزول في الأخذ، فقال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: وقيل له: مالك على قدره يسمع من نظرائه! قال: وما عليه؛ يزداد به علما، ولم يضره.
الحاشية ص ٢١٧ - ٢١٨
صِفَةُ مُجَالَسَتِهِ لِلْعُلَمَاءِ
٤٦ - فَإِذَا أَحَبَّ مُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ:
• جَالَسَهُمْ بِأَدَبٍ، وَتَوَاضُعٍ فِي نَفْسِهِ، وَخَفَضَ صَوْتَهُ عَنْ صَوْتِهِمْ،
• وَسَأَلَهُمْ بِخُضُوعٍ، وَيَكُونُ أَكْثَرُ سُؤَالِهِ عَنْ عِلْمِ مَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ بِهِ،
• وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ فَقِيرٌ إِلَى عِلْمِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ،
• فَإِذَا اسْتَفَادَ مِنْهُمْ عِلْمًا أَعْلَمَهُمْ: أَنِّي قَدْ أُفِدْتُ خَيْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ شَكَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
• وَإِنْ غَضِبُوا عَلَيْهِ لَمْ يَغْضَبْ عَلَيْهِمْ، وَنَظَرَ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ غَضِبُوا عَلَيْهِ، فَرَجَعَ عَنْهُ، وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ،
• لَا يُضْجِرُهُمْ فِي السُّؤَالِ، رَفِيقٌ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ،
• لَا يُنَاظِرُهُمْ مُنَاظَرَةً يُرِيهِمْ: أَنِّي أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وَإِنَّمَا هِمَّتُهُ الْبَحْثُ لِطَلَبِ الْفَائِدَةِ مِنْهُمْ، مَعَ حُسْنِ التَّلَطُّفِ لَهُمْ،
• لَا يُجَادِلُ الْعُلَمَاءَ، وَلَا يُمَارِي السُّفَهَاءَ،
• يُحْسِنُ التَّأَنِّي لِلْعُلَمَاءِ مَعَ تَوْقِيرِهِ لَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ مَا يَزْدَادُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ فَهْمًا فِي دِينِهِ.
ص ٢١٩ - ٢٢٢
-
من أكبر فوائد مجالسة العلماء: الاقتداء بسمتهم وهديهم وأخلاقهم.
-
في «الجامع لأخلاق الرواي» (۱۰) عن ابن سيرين قال: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم. قال: وبعث ابن سيرين رجلاً، فنظر كيف هدي القاسم وحاله؟
-
وفيه (۱۱) عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: يا بني، ائت الفقهاء والعلماء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إليّ لك من كثير من الحديث.
-
وفيه (۱۲) عن ابن المبارك قال: قال لي مخلد بن الحسين: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث.
-
وفي «مسند الدارمي» (٤٣٥) عن إبراهيم قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.
-
وفيه (٤٣٧) عن أبي العالية قال: كنا نأتي الرجل لنأخذ عنه، فننظر إذا صلى، فإن أحسنها، جلسنا إليه، وقلنا: هو لغيرها أحسن. وإن أساءها، قمنا عنه، وقلنا: هو لغيرها أسوأ.
-
وفي «جامع بيان العلم» (۸۲۰) قال إبراهيم: كنا نأتي مسروقا فنتعلم من هديه ودله.
-
وفي «الكفاية» للخطيب (۲) عن مخلد بن الحسين قال: إن كان الرجل ليسمع العلم اليسير فيسود به أهل زمانه، يُعرف ذلك في صدقه، وفي ورعه، وإنه ليروي اليوم خمسين ألف حديث لا تجوز شهادته على قُلَنْسُوَتِه.
-
وفي «مسند الدارمي» (٥٥٨) عن الحسن قال: أدركت الناس والناسك إذا نسك، لم يُعرف من قبل منطقه، ولكن يُعرف من قبل عمله، فذلك العلم النافع.
-
-
وفي «الجامع لأخلاق الرواي» للخطيب (٣٤٦) عن حمدان بن الأصبهاني، قال: كنت عند شريك فأتاه بعض ولد المهدي، فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث؟ فلم يلتفت إليه، فأعاد عليه، فلم يلتفت إليه، فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلافة؟! قال: لا؛ ولكن العلم أزين عند أهله من أن يُضيعوه، قال: فجثا على ركبتيه، ثم سأله، فقال شريك: هكذا يُطلب العلم.
-
وفيه (٣٤٨) عن عبد الله بن المعتز قال: المتواضع في طلاب العلم أكثرهم علمًا، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
-
وفيه (۳۸۸) عن حجاج قال: كان عمرو بن قيس الملائي إذا بلغه الحديث عن الرجل، فأراد أن يسمعه أتاه حتى يجلس بين يديه، ويخفض جناحه، ويقول: علمني رحمك الله مما علمك الله.
-
وفي «الحلية» (١٨٤/٥) عن ابن جابر قال: أقبل يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى مكحول وأصحابه، فلما رأيناه هممنا بالتوسعة له، فقال مكحول: مكانكم، دعوه يجلس حيث أدرك، يتعلم التواضع.
-
-
وفي «الجامع لابن عبد الحكم» (۸۲) قال مالك: ما كان أول هذه الأمة بأكثر الناس مسائل ولا هذا التعمق، ولقد أدركت هذه البلاد وإنهم ليكرهون الإكثار الذي في الناس اليوم.
-
قال أبو بكر الأبهري: إنما قال ذلك؛ لأن النبي ﷺ نهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، معنى ذلك فيما لا يعني الإنسان. قال رسول الله ﷺ: «من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركه ما لا يعنيه»، فإذا كانت المسائل مما لا تعني الناس، ولا ينزل بهم، كُرِهَ الخوض فيها؛ لأنها تشغل عما بهم الحاجة إليه، وللناس فيما يعنيهم شغل عما لا يعنيهم. وقال مالك: كان الناس إنما يُعنون بما سمعوا وعلموا. اهـ.
-
وفي «الجامع لأخلاق الرواي» (۳۳) عن مطر، قال: خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من عَلِمَه ثم عَمِلَ به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه.
-
وفيه (١٥٢٧) قال أبو عبيدة: من شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.
-
الحاشية ص ٢١٩ - ٢٢٢
صِفَتُهُ إِذَا عُرِفَ بِالْعِلْمِ
٤٧ - فَإِذَا نَشَرَ اللَّهُ لَهُ الذِّكْرَ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ:
• أَلْزَمَ نَفْسَهُ التَّوَاضُعَ لِلْعَالِمِ وَغَيْرِ الْعَالِمِ.
ص ٢٢٢
في إبطال الحيل لابن بطة (۳۱) قال حبان بن موسى: سُئِلَ عبد الله بن المبارك: هل للعلماء علامة يُعرفون بها؟
قال: علامة العالم: من عَمِلَ بعلمه، واستقل كثير العلم والعمل من نفسه، ورَغِبَ في علم غيره، وقبل الحق من كل من أتاه به، وأخذ العلم حيث وجده، فهذه علامة العالم وصفته.
قال المروذي: فذكرت ذلك لأبي عبد الله [أحمد بن حنبل]، قال: هكذا هو.
الحاشية ص ٢٢٢
• فَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ:
فَإِنَّهَا مَحَبَّةٌ تَنْبُتُ لَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، وأحبوا قُربه، وإذا غاب عنهم حنت إليه قلوبهم.
• وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِلْعُلَمَاءِ:
فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ، إِذْ أَرَاهُ الْعِلْمُ ذَلِكَ.
• وَأَمَّا تَوَاضُعُهُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعِلْمِ:
فَشَرَفُ الْعِلْمِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ أُولِي الْأَلْبَابِ.
ص ٢٢٣
وفي «التواضع» لابن أبي الدنيا (١١٦) قال صالح المري: خرج الحسن، ويونس، وأيوب يتذاكرون التواضع. فقال لهم الحسن: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلق مسلما إلا رأيت له عليك فضلا.
وفي «جامع بيان العلم» (٩٦٤) قال إبراهيم بن الأشعث: سألت الفضيل بن عياض عن التواضع؟ فقال: أن تخضع للحق، وتنقاد له ممن سمعته ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه.
وانظر: «جامع بيان العلم» (٥٦٢/١) (فصل في مدح التواضع، وذم العجب، وطلب الرئاسة).
الحاشية ص ٢٢٣
• وَكَانَ مِنْ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَحُسْنِ إِرَادَتِهِ:
يُرِيدُ اللَّهَ بِعِلْمِهِ.
• فَمِنْ صِفَتِهِ:
• أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ بِعِلْمِهِ شَرَفَ مَنْزِلَةٍ عِنْدَ الْمُلُوكِ، وَلَا يَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ.
• صَائِنٌ لِلْعِلْمِ إِلَّا عَنْ أَهْلِهِ.
في «الجامع لأخلاق الراوي» (٨٣٧) عن مقاتل بن صالح الخراساني - صاحب الحميدي - بمكة، قال: دخلت على حماد بن سلمة فإذا ليس في البيت إلا حصير، وهو جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه، ومطهرة يتوضأ فيها، فبينا أنا عنده جالس إذ دقّ عليه داق الباب، فقال: يا صبية، اخرجي فانظري من هذا، قالت: هذا رسول محمد بن سليمان، قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فسلَّم وناوله كتابه، فقال: اقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن سليمان إلى حماد بن سلمة، أما بعد؛ فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته، وقعت مسألة، فأتنا نسألك عنها.
قال: يا صبية، هلمي الدواة، ثم قال لي: اقلب الكتاب، واكتب: أما بعد؛ وأنت فصبحك الله بما صبح به أولياءه، وأهل طاعته، إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحدًا، فإن وقعت مسألة فأتنا فسلنا عما بدا لك، وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك، ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك، ولا أنصح نفسي، والسلام.
فبينا أنا عنده جالس إذ دق داق الباب، فقال: يا صبية، اخرجي فانظري من هذا؟
قالت: هذا محمد بن سليمان. قال: قولي له يدخل وحده، فدخل فسلم، ثم جلس بين يديه، ثم ابتدأ، فقال: ما لي إذا نظرت إليك امتلأت رُعبًا، فقال حماد: سمعت ثابتًا البناني يقول: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء».. إلخ.
الحاشية ص ٢٢٤ - ٢٢٥
• وَلَا يَأْخُذُ عَلَى الْعِلْمِ ثَمَنًا.
• وَلَا يَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ.
• وَلَا يُقَرِّبُ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَيُبَاعِدُ الْفُقَرَاءَ، وَيَتَجَافَى عَنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا.
• يَتَوَاضَعُ لِلْفُقَرَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِيُفِيدَهُمُ الْعِلْمَ.
• وَإِنْ كَانَ لَهُ مَجْلِسٌ قَدْ عُرِفَ بِالْعِلْمِ:
• أَلْزَمُ نَفْسَهُ حُسْنَ الْمُدَارَاةِ لِمَنْ جَالَسَهُ، وَالرِّفْقَ بِمَنْ سَاءَلَهُ، وَاسْتِعْمَالَ الْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ، وَيَتَجَافَى عَنِ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ.
٤٨ - فَأَمَّا أَخْلَاقُهُ مَعَ مُجَالِسِيهِ:
• فَصَبُورٌ عَلَى مَنْ كَانَ ذِهْنُهُ بَطِيئًا عَنِ الْفَهْمِ حَتَّى يَفْهَمَ عَنْهُ
• صَبُورٌ عَلَى جَفَاءِ مَنْ جَهِلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهُ بِحِلْمٍ
• يُؤَدِّبُ جُلَسَاءَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَدَبِ
• لَا يَدَعُهُمْ يَخُوضُونَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ
• وَيَأْمُرُهُمْ بِالِإنْصَاتِ مَعَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى مَا يَنْطِقُ بِهِ مِنَ الْعِلْمِ.
• فَإِنْ تَخَطَّى أَحَدُهُمْ إِلَى خُلُقٍ لَا يَحْسُنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ، لَمْ يَجْبَهْهُ فِي وَجْهِهِ عَلَى جِهَةِ التَّبْكِيتِ لَهُ. وَلَكِنْ يَقُولُ: لَا يَحْسُنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ كَذَا وَكَذَا، وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَتَجَافَوْا عَنْ كَذَا وَكَذَا، فَيَكُونُ الْفَاعِلُ لِخُلُقٍ لَا يَحْسُنُ، قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِهَذَا، فَيُبَادِرُ بِرِفْقِهِ بِهِ.
• إِنْ سَأَلَهُ مِنْهُمْ سَائِلٌ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ رَدَّهُ عَنْهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا يَعْنِيهِ؟
• فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ فُقَرَاءُ إِلَى عِلْمٍ قَدْ غَفِلُوا عَنْهُ أَبْدَاهُ إِلَيْهِمْ، وَأَعْلَمَهُمْ شِدَّةَ فَقْرِهِمْ إِلَيْهِ.
• لَا يُعَنِّفُ السَّائِلَ بِالتَّوْبِيخِ الْقَبِيحِ فَيُخْجِلَهُ، وَلَا يَزْجُرُهُ فَيَضَعُ مِنْ قَدْرِهِ، وَلَكِنْ يَبْسُطُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ لِيَجْبُرَهُ فِيهَا، قَدْ عَلِمَ بُغْيَتَهُ عَمَّا يَعْنِيهِ، وَيَحُثُّهُ عَلَى طَلَبِ عِلْمِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ عِلْمِ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
• يُقْبِلُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى عِلْمِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ، وَيَتْرُكُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ الْجَدَلَ وَالْمِرَاءَ.
• يُقَرِّبُ عَلَيْهِمْ مَا يَخَافُونَ بُعْدَهُ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
• يَسْكُتُ عَنِ الْجَاهِلِ حِلْمًا، وَيَنْشُرُ الْحِكْمَةَ نُصْحًا،
فَهَذِهِ أَخْلَاقُهُ لِأَهْلِ مَجْلِسِهِ وَمَا شَاكَلَ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ.
ص ٢٢٦ - ٢٢٨
في «الجامع لأخلاق الراوي» (۳۲۹) عن الضحاك بن مزاحم، قال: أول باب من العلم: الصمت، والثاني: استماعه، والثالث: العمل به، والرابع: نشره وتعليمه.
الحاشية ص ٢٢٧
صفته مَعَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا
٤٩ - وَأَمَّا مَا يَسْتَعْمِلُ مَعَ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنِ الْعِلْمِ وَالْفُتْيَا:
فَإِنَّ مِنْ صِفَتِهِ إِذَا سَأَلَهُ سَائِلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ:
• فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ أَجَابَ، وَجَعَلَ أَصْلَهُ أَنَّ الْجَوَابَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ.
• فَإِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْعِلْمِ اجْتَهَدَ فِيهَا:
فَمَا كَانَ أَشْبَهَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ وَقَوْلِ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ قَالَ بِهِ، إِذَا كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَقَوْلِ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ بِهِ.
• وَإِنْ كَانَ [ما] رَآهُ مِمَّا يُخَالِفُ بِهِ قَوْلَ الصَّحَابَةِ وَقَوْلَ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْ قَوْلِهِمْ لَمْ يَقُلْ بِهِ، وَاتَّهَمَ رَأْيَهُ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ، حَتَّى يَنْكَشِفَ لَهُ الْحَقُّ، وَيَسْأَلَ مَوْلَاهُ أَنْ يُوَفِّقَهُ لِإِصَابَةِ الْخَيْرِ وَالْحَقِّ.
ص ٢٢٨
في «الإبانة الكبرى» (٦٩٩) قال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: لست أتكلم إلا ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله، أو عن أصحابه، أو عن التابعين، فأما غير ذلك فالكلام فيه غير محمود.
وفي «طبقات الحنابلة» (۲۹/۳) قال الإمام أحمد ﷺ: إنما على الناس اتباع الآثار عن رسول الله، ومعرفة صحيحها من سقيمها، ثم يتبع إذا لم يكن لها مخالف، ثم بعد ذلك: قول أصحاب رسول الله ﷺ الأكابر، وأئمة الهدى يتبعون على ما قالوا، وأصحاب رسول الله ﷺ كذلك لا يُخالفون، إذا لم يكن قول بعضهم لبعض مخالفًا، فإن اختلفوا: نظر في الكتاب فأي قولهم كان أشبه بالكتاب أخذ به، أو كان أشبه بقول رسول الله ﷺ أخذ به، فإذا لم يأتِ عن رسول الله ﷺ، ولا عن أحد من أصحاب النبي ﷺ؛ نظر في قول التابعين، فأي قولهم كان أشبه بالكتاب والسنة أخذ به، وترك ما أحدث الناس بعدهم.
وفيه (۲۸/۳) قال الفضل: سمعت أبا عبد الله وسُئل عن الرجل يسأل عن الشيء من المسائل.. فيفتي بقول مالك وهؤلاء؟ قال: لا، إلا بسنة رسول الله ﷺ وآثاره، وما روي عن أصحابه، فإن لم يكن روي عن أصحابه شيء فعن التابعين.
وقال حرب الكرماني رحمة الله في عقيدته (۸۷): والدين إنما هو: كتاب الله، وآثار، وسنن، وروايات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحيحة القوية المعروفة المشهورة، يرويها الثقة الأول المعروف عن الثاني الثقة المعروف، يُصدِّقُ بعضهم بعضًا، حتى ينتهي ذلك إلى النبي ﷺ، أو أصحاب النبي ﷺ، أو التابعين، أو تابع التابعين، أو من بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم، المتمسكين بالسُّنةِ، والمُتعلّقين بالأثر، الذين لا يُعرفون ببدعة، ولا يُطعن عليهم بكذب، ولا يُرمون بخلاف، وليسوا أصحاب قياس، ولا رأي؛ لأن القياس في الدِّينِ باطل، والرَّأي كذلك، وأبطل منه. اهـ.
الحاشية ص ٢٢٨ - ٢٢٩
• وَإِذَا سُئِلَ عَنْ عَلِمٍ لَا يَعْلَمُهُ لَمْ يَسْتَحِ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ.
• وَإِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الشَّغَبِ، وَمِمَّا يُورِثُ الْفِتَنَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، اسْتَعْفَى مِنْهَا، وَرَدَّ السَّائِلَ إِلَى مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ، عَلَى أَرْفَقِ مَا يَكُونُ.
• وَإِنْ أَفْتَى بِمَسْأَلَةٍ فَعَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ لَمْ يَسْتَنْكِفْ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهَا.
• وَإِنْ قَالَ قَوْلًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ - مِمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ أَوْ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ - فَعَلِمَ أَنَّ الْقَوْلَ كَذَلِكَ، رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، وَحَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَجَزَاهُ خَيْرًا.
• وَإِنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ اشْتَبَهَ الْقَوْلُ عَلَيْهِ فِيهَا قَالَ: سَلُوا غَيْرِي، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ مَا لَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ،
• يَحْذَرُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَاتِ فِي الْبِدَعِ، لَا يُصْغِي إِلَى أَهْلِهَا بِسَمْعِهِ، وَلَا يَرْضَى بِمُجَالَسَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا يُمَارِيهِمْ.
• أَصْلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،
• يَأْمُرُ بِالِاتِّبَاعِ، وَيَنْهَى عَنِ الِابْتِدَاعِ.
• لَا يُجَادِلُ الْعُلَمَاءَ، وَلَا يُمَارِي السُّفَهَاءَ.
ص ٢٢٩ - ٢٣٠
-
عقد المصنف رحمه الله بابًا في «الشريعة» في هجر أهل البدع والأهواء، والتحذير منهم، والاستماع لكلامهم، فقال: (باب ذكر هجرة أهل البدع والأهواء)، ومما قال فيه: (ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا أن يهجر جميع أهل الأهواء من مثل: الخوارج، والقدرية، والمرجئة، والجهمية، وكل من ينتسب إلى المعتزلة، وجميع الروافض، وجميع النواصب، وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه مبتدع بدعة ضلالة، وصح عنه ذلك، فلا ينبغي أن يُكلّم، ولا يُسلّم عليه، ولا يُجالس، ولا يُصلى خلفه، ولا يُزَوّج، ولا يتزوج إليه من عرفه، ولا يشاركه، ولا يعامله، ولا يناظره، ولا يجادله؛ بل يذله بالهوان له، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك). اهـ
-
فإن جاءه من يسأله ويجادله عن بعض الأهواء والبدع التي ظهرت، والمذاهب القبيحة التي قد انتشرت، وعَلِمَ من حاله وسؤاله أنه يريد الحق، وأن سؤاله سؤال مسترشد يلتمس المخرج مما بُلي به أو بلي به غيره، فعليه أن يرشده، ويبين له الحق والصواب، ويحذره من الأهواء والبدع ومن شبههم وضلالتهم؛ ولكن كما قال ابن بطة الحمدلله في «إبانته الكبرى» (٧٠٥): وليكن ما ترشده به، وتوقفه عليه من: الكتاب والسنة، والآثار الصحيحة عن علماء الأمة من الصحابة والتابعين. وكلُّ ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة. وإياك والتكلف لما لا تعرفه، وتمحل الرأي، والغوص على دقيق الكلام: فإن ذلك من فعلك بدعة، وإن كنت تريد به السنة، فإن إرادتك للحقِّ من غير طريق الحق باطل، وكلامك على السُّنة من غير السُّنة بدعة. فلا تلتمس لصاحبك الشفاء بسقم نفسك، ولا تطلب صلاحه بفسادك، فإنه لا ينصح الناس من غش نفسه، ومن لا خير فيه لنفسه، لا خير فيه لغيره. فمن أراد الله وفقه وسدده، ومن اتقى الله أعانه ونصره. اهـ.
الحاشية ص ٢٣٠ - ٢٣١
• هَمُّهُ فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ الْفَهْمُ
• وَفِي سُنَنِ الرَّسُولِ ﷺ الْفِقْهُ لِئَلَّا يُضَيِّعَ مَا لِلَّهِ عَلَيْهِ، وَلِيَعْلَمَ كَيْفَ يَتَقَرَّبُ إِلَى مَوْلَاهُ،
• مُذَّكِرٌ لِلْغَافِلِ، مُعَلِّمٌ لِلْجَاهِلِ،
• يَضَعُ الْحِكْمَةَ عِنْدَ أَهْلِهَا، وَيَمْنَعُهَا مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِهَا،
• مَثَلُهُ مَثَلُ الطَّبِيبِ: يَضَعُ الدَّوَاءَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْفَعُ.
فَهَذِهِ صِفَتُهُ، وَمَا يُشْبِهُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ الشَّرِيفَةَ، إِذَا كَانَ اللَّهُ عز وجل قَدْ نَشَرَ لَهُ الذِّكْرَ بِالْعِلْمِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ عِلْمًا ازْدَادَ لِلَّهِ تَوَاضُعًا، يَطْلُبُ الرِّفْعَةَ مِنَ اللَّهِ عز وجل، مَعَ شِدَّةِ حَذَرِهِ مِنْ وَاجِبِ مَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْعِلْمِ.
ص ٢٣١
صِفَةِ مُنَاظَرَةِ هَذَا الْعَالِمِ
ذِكْرُ صِفَةِ مُنَاظَرَةِ هَذَا الْعَالِمِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى مُنَاظَرَةٍ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٥٠ - اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، وَوَفَّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِلرَّشَادِ، أَنَّ مِنْ صِفَةِ هَذَا الْعَالِمِ الْعَاقِلِ الَّذِي فَقَّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ، وَنَفَعَهُ بِالْعِلْمِ:
• أَنْ لَا يُجَادِلَ، وَلَا يُمَارِيَ، وَلَا يُغَالِبَ بِالْعِلْمِ إِلَّا مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يَغْلِبَهُ بِالْعِلْمِ الشَّافِي،
وَذَلِكَ يَحْتَاجُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَى مُنَاظَرَةِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الزَّيْغِ، لِيَدْفَعَ بِحَقِّهِ بَاطِلَ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ، وَخَرَجَ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونَ غَلَبَتُهُ لِأَهْلِ الزَّيْغِ تَعُودُ بَرَكَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، عَلَى الِاضْطِرَارِ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ، لَا عَلَى الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ مِنْ صِفَةِ الْعَالِمِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُجَالِسَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا يُجَادِلَهُمْ، فَأَمَّا فِي الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَلَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى عِلْمِ مَسْأَلَةٍ قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهَا، لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، لَابُدَّ لَهُ أَنْ يُجَالِسَ الْعُلَمَاءَ وَيُنَاظِرَهُمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْقَوْلَ فِيهَا عَلَى صِحَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنَاظِرْ لَمْ تَقْوَ مَعْرِفَتُهُ؟
قِيلَ لَهُ:
بِهَذِهِ الْحِجَّةِ يَدْخُلُ الْعَدُوُّ عَلَى النَّفْسِ الْمُتَّبِعَةِ لِلْهَوَى، فَيَقُولُ: إِنْ لَمْ تُنَاظِرْ وَتُجَادِلْ لَمْ تَفْقَهْ، فَيَجَعَلُ هَذَا سَبَبًا لِلْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ، الَّذِي حَذَّرَنَاهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَحَذَّرَنَاهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
…
٥٢ - وَعَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَالْمِرَاءَ، فَإِنَّهَا سَاعَةُ جَهْلِ الْعَالِمِ، وَبِهَا يَبْتَغِي الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُ».
…
٥٤ - وَعَنِ الْحَسَنِ، أَيْضًا قَالَ: «الْمُؤْمِنُ يُدَارِي، وَلَا يُمَارِي، يَنْشُرُ حِكْمَةَ اللَّهِ، فَإِنْ قُبِلَتْ حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ».
وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ: أَنَّ الْمِرَاءَ أَكْثَرُهُ يُغَيِّرُ قُلُوبَ الْإِخْوَانِ، وَيُوَرِّثُ التَّفْرِقَةَ بَعْدَ الْأُلْفَةِ، وَالْوَحْشَةَ بَعْدَ الْأُنْسِ.
…
فَالْمُؤْمِنُ الْعَالِمُ الْعَاقِلُ يَخَافُ عَلَى دِينِهِ مِنَ الْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ.
ص ٢٣١ - ٢٣٤
قال الخطيب في «الجامع لأخلاق الراوي» (١٥٦/١): يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح، والإكثار منه، فإنما يستجاز من المزاح يسيره ونادره وطريفه الذي لا يخرج عن حد الأدب، وطريقة العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر؛ فإنه مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة.اهـ
في «الشريعة» (١٤٣) قال وهب: دع المراء والجدال عن أمرك، فإنك لا تعجز أحد رجلين: - رجل هو أعلم منك، فكيف تُماري وتجادل من هو أعلم منك؟! - ورجل أنت أعلم منه، فكيف تُماري وتجادل من أنت أعلم منه، ولا يطيعك؟! فاقطع ذلك عنك.
وفي «الإبانة الكبرى» (٣٨٥) عن مصعب بن سعد قال: لا تجالس مفتونا فإنه لن يُخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه.
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الصغرى» (۳۳۱): إياك والمراء والجدال في الدين؛ فإن ذلك يورثُ الغِلَّ، ويُخرِجُ صاحِبَه - وإن كان سُنيًا - إلى البدعة؛ لأن أوَّلَ ما يَدخُلُ على السُّني من النقص في دينه إذا خاصم المبتدع:
أ - مجالسته للمبتدع، ومناظرته إياه.
ب - ثم لا تأمن أن يُدخِلَ عليه من دقيق الكلام وخبيث القول ما يفتنه.
ج - أو لا يفتنه؛ فيحتاج أن يتكلف له من رأيه ما يرد عليه قوله ما ليس له أصل في التأويل، ولا بيان في التنزيل، ولا أثر من أخبار الرسول ﷺ.
الحاشية ص ٢٣٣ - ص ٢٣٤
٥٨ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا يَصْنَعُ فِي عِلْمٍ قَدْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ؟
قِيلَ لَهُ:
إِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ عِلْمَ مَا أُشْكِلَ عَلَيْهِ:
• قَصَدَ إِلَى عَالِمٍ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ بِعِلْمِهِ اللَّهَ، مِمَّنْ يُرْتَضَى عِلْمُهُ وَفَهْمُهُ وَعَقْلُهُ، فَذَاكَرَهُ مُذَاكَرَةَ مَنْ يَطْلُبُ الْفَائِدَةَ.
• وَأَعْلِمْهُ أَنَّ مُنَاظَرَتِي إِيَّاكَ مُنَاظَرَةَ مَنْ يَطْلُبُ الْحَقَّ، وَلَيْسَتْ مُنَاظَرَةَ مُغَالِبٍ.
• ثُمَّ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْإِنْصَافَ لَهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحِبَّ صَوَابَ مُنَاظِرِهِ، وَيَكْرَهَ خَطَأَهُ، كَمَا يُحِبُّ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ،
• وَيُعْلِمُهُ أَيْضًا: إِنْ كَانَ مُرَادُكَ فِي مُنَاظَرَتِي أَنْ أُخْطِئَ الْحَقَّ، وَتَكُونَ أَنْتَ الْمُصِيبَ وَيَكُونُ أَنَا مُرَادِي أَنْ تُخْطِئَ الْحَقَّ وَأَكُونُ أَنَا الْمُصِيبُ، فَإِنَّ هَذَا حَرَامٌ عَلَيْنَا فِعْلُهُ، لِأَنَّ هَذَا خُلُقٌ لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ مِنَّا، وَوَاجِبٌ عَلَيْنَا أَنْ نَتُوبَ مِنْ هَذَا.
٥٩ - فَإِنْ قَالَ: فَكَيْفَ نَتَنَاظَرُ؟
قِيلَ لَهُ: مُنَاصَحَةً،
فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ الْمُنَاصَحَةُ؟
أَقُولُ لَهُ:
لَمَّا كَانَتْ مَسْأَلَةٌ فِيمَا بَيْنَنَا أَقُولُ أَنَا: إِنَّهَا حَلَالٌ، وَتَقُولُ أَنْتَ: إِنَّهَا حَرَامٌ، فَحُكْمُنَا جَمِيعًا أَنْ نَتَكَلَّمَ فِيهَا كَلَامَ مَنْ يَطْلُبُ السَّلَامَةَ، مُرَادِي أَنْ يَنْكَشِفَ لِي عَلَى لِسَانِكَ الْحَقُّ، فَأَصِيرَ إِلَى قَوْلِكَ، أَوْ يَنْكَشِفَ لَكَ عَلَى لِسَانِيَ الْحَقُّ، فَتَصِيرَ إِلَى قُولِي مِمَّا يُوَافِقُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ،
فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَنَا رَجَوْتُ أَنْ تُحْمَدَ عَوَاقِبُ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةِ، وَنُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ، وَلَا يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ نَصِيبٌ.
ص ٢٣٤ - ٢٣٥
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (۷۲۳): فإن قال قائل: فهذا النهي والتحذير عن الجدل في الأهواء، والمُمَاراة لأهل البدع قد فهمناه، ونرجو أنتكون لنا فيه عظة ومنفعة. فما نصنع بالجدل والحجاج فيما يعرض من مسائل الأحكام في الفقه، فإنا نرى الفقهاء وأهل العلم يتناظرون على ذلك كثيرًا في الجوامع والمساجد ولهم بذلك حلق ومجالس؟
فإني أقول له: هذا لست أمنعُكَ منه؛ ولكني أذكر لك الأصل الذي بنى المسلمون أمرهم عليه في هذا المعنى، كيف أسسوه ووضعوه، فمن كان ذلك الأصل أصله، وهو قصده ومُعَوَّله، فالحجاج والمناظرة له مباحة، وهو مأجور، ثم أنت أمين الله على نفسك، فهو المطلع على سرك.
فاعلم - رحمك الله - أن أصل الدين النصيحة، وليس المسلمون إلى شيء من وجوه النصيحة أفقر ولا أحوج ولا هي لبعضهم على بعض أفرض ولا ألزم من النصيحة في تعليم العلم الذي هو قوام الدين، وبه أديت الفرائض إلى رب العالمين.
فالذي يلزم المسلمين في مجالسهم ومناظراتهم في أبواب الفقه والأحكام:
أ - تصحيح النية بالنصيحة. ب - واستعمال الإنصاف والعدل. ج - ومراد الحق الذي به قامت السموات والأرض.
فمن النصيحة: أن تكون تُحبُّ صواب مناظرك، ويسوؤك خطؤه، كما تحب الصواب من نفسك، ويسوؤك الخطأ منها. فإنك إن لم تكن هكذا كنت غاشا لأخيك، ولجماعة المسلمين، وكنت مُحبًا أن يُخطأ في دين الله، وأن يكذب عليه، ولا يُصاب الحق في الدين ولا يُصدق. فإذا كانت نِيَّتُك أن يسرك صواب مناظرك، ويسوءك خطؤه، فأصاب وأخطأت لم يسؤك الصواب، ولم تدفع ما أنت تحبه، بل سرك ذلك، وتتلقاه بالقبول والسرور، والشكر الله حين وفق صاحبك لما كنت تُحبُّ أن تسمعه منه.
فإن أخطأ ساءك ذاك، وجعلت همتك التلطف لتزيله عنه؛ لأنك رجل من أهل العلم، يلزمك النصيحة للمسلمين بقول الحقِّ، فإن كان عندك بذلته، وأحببت قبوله، وإن كان عند غيرك قبلته، ومن ذلك عليه شكرت له. فإذا كان هذا أصلك، وهذه دعواك، فأين تذهب عما أنت له طالب، وعلى جمعه حريص، ولكنك والله - يا أخي - تأبى الحق، وتنكره إذا سبقك مناظرك إليه، وتحتال لإفساد،صوابه، وتصويب خطئك، وتغتاله، وتلقي عليه التغاليط، وتظهر التشنيع، ولا سيما إن كان في عينك وعند أهل مجلسك أنه أقل علمًا منك، فذاك الذي تجحد صوابه، وتُكذِّب حَقَّه. ولعل الأنفة تحملك إذا هو احتج عليك بشيء خالف قولك، فقال لك: قال رسول الله ﷺ. قلت: لم يقله رسول الله، فجحدت الحق الذي تعلمه، ورددت السنة. فإن كان مما لا يمكنك إنكاره أدخلت على قول رسول الله ﷺ عِلَّة تُغير بها معناه، وصرفت الحديث إلى غير وجهه.
فإرادتك أن يُخطأ صاحبك: خطأ منك.
واغتمامك بصوابه: غش فيك، وسوء نية في المسلمين.
فاعلم - يا أخي - أن من كره الصواب من غيره، ونصر الخطأ من نفسه؛ لم يؤمن عليه أن يسلبه الله ما علمه، ويُنسيه ما ذكره، بل يخاف عليه أن يسلبه الله إيمانه؛ لأن الحق رسول من الله إليك افترض عليك طاعته، فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه له؛ فهو من المُتكبّرين على الله، ومن نصر الخطأ؛ فهو من حزب الشيطان.
فإن قلت أنت الصواب، وأنكره خصمك، وردَّه عليك؛ كان ذلك أعظم لأنفتك، وأشد لغيظك وحَنَقِك وتشنيعك وإذاعتك، وكل ذلك مخالف للعلم، ولا موافق للحق…
قال حسن الزعفراني: سمعت الشافعي يحلف وهو يقول: ما ناظرت أحدًا قط إلا على النصيحة، وما ناظرت أحدًا فأحببت أن يُخطئ.
والذي يظهر من أهل وقتنا أنهم يناظرون مغالبةً لا مناظرة، ومكايدة لا مناصحةً، ولربما ظهر من أفعالهم ما قد كَثُرَ وانتشر في كثير من البلدان… ولقد رأيت المناظرين في قديم الزمان وحديثه فما رأيتُ ولا حدثتُ، ولا بلغني أن مُختلفين تناظرا في شَيءٍ ففلجت حجة أحدهما وظهر صوابه، وأخطأ الآخر وظهر خطؤه، فرجع المخطئ عن خطئه، ولا صبا إلى صواب صاحبه، ولا افترقا إلا على الاختلاف والمباينة، وكل واحد منهما متمسك بما كان عليه، ولربما علم أنه على الخطأ، فاجتهد في نصرته. وهذه أخلاق كلها تخالف الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من علماء الأمة…
الحاشية ص ٢٣٥ - ٢٣٧
٦٠ - وَمِنْ صِفَةِ هَذَا الْعَالِمِ الْعَاقِلِ إِذَا عَارَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ وَالْمُنَاظَرَةِ بَعْضُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ مُنَاظَرَتَهُ لِلْجَدَلِ، وَالْمِرَاءِ وَالْمُغَالَبَةِ:
لَمْ تسَعْهُ مُنَاظَرَتُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ قَوْلَهُ، وَيَنْصُرَ مَذْهَبَهُ، وَلَوْ أَتَاهُ بِكُلِّ حُجَّةٍ مِثْلِهَا يَجِبُ أَنْ يَقْبَلَهَا، لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ، وَنَصَرَ قَوْلَهُ. وَمَنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ لَمْ تُؤْمَنْ فِتْنَتُهُ، وَلَمْ تُحْمَدْ عَوَاقِبُهُ.
وَيُقَالُ لِمَنْ مُرَادُهُ فِي الْمُنَاظَرَةِ الْمُغَالَبَةُ وَالْجَدَلُ:
أَخْبِرْنِي، إِذَا كُنْتُ أَنَا حِجَازِيًّا، وَأَنْتَ عِرَاقِيًّا، وَبَيْنَنَا مَسْأَلَةٌ عَلَى مَذْهَبِي، أَقُولُ: إِنَّهَا حَلَالٌ، وَعَلَى مَذْهَبِكَ إِنَّهَا حَرَامٌ، فَسَأَلْتَنِي الْمُنَاظَرَةَ لَكَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِي مُنَاظَرَتِكَ الرُّجُوعُ عَنْ قَوْلِكَ، وَالْحَقُّ عِنْدَكَ أَنْ أَقُولَ فِيهَا قَوْلَكَ، وَكَانَ عِنْدِي أَنَا أَنْ أَقُولَ، وَلَيْسَ مُرَادِي فِي مُنَاظَرَتِي الرُّجُوعَ عَمَّا هُوَ عِنْدِي، وَإِنَّمَا مُرَادِي أَنْ أَرُدَّ قَوْلَكَ، وَمُرَادُكَ أَنْ تَرُدَّ قُولِي، فَلَا وَجْهَ لِمُنَاظَرَتِنَا، فَالْأَحْسَنُ بِنَا السُّكُوتُ عَلَى مَا تَعْرِفُ مِنْ قَوْلِكَ، وَعَلَى مَا أَعْرِفُ مِنْ قُولِي، وَهُوَ أَسْلَمُ لَنَا، وَأَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ نَسْتَعْمِلَهُ.
فَإِنْ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟
قِيلَ: لِأَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ أُخْطِئَ الْحَقَّ، وَأَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ، وَلَا أُوَفَّقَ لِلصَّوَابِ، ثُمَّ تُسَرَّ بِذَلِكَ، وَتَبْتَهِجَ بِهِ، وَيَكُونَ مُرَادِي فِيكَ كَذَلِكَ، فَإِذَا كُنَّا كَذَلِكَ، فَنَحْنُ قَوْمُ سُوءٍ، لَمْ نُوَفَّقْ لِلرَّشَادِ، وَكَانَ الْعِلْمُ عَلَيْنَا حُجَّةً، وَكَانَ الْجَاهِلُ أَعْذَرَ مِنَّا.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ رُبَّمَا احْتَجَّ أَحَدُهُمَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى خَصْمِهِ، فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَخْشَى أَنْ تَنْكَسِرَ حُجَّتُهُ، حَتَّى إِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَقُولَ بِسُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ثَابِتَةٍ، فَيَقُولَ: هَذَا بَاطِلٌ، وَهَذَا لَا أَقُولُ بِهِ، فَيَرُدَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَأْيِهِ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَجُّ فِي مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ خَصْمُهُ ذَلِكَ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا يَحْتَجُّ عَلَيْهِ، كُلُّ ذَلِكَ نُصْرَةً مِنْهُ لِقَوْلِهِ، لَا يُبَالِي أَنْ يَرُدَّ السُّنَنَ وَالْآثَارَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٦١ - مِنْ صِفَةِ الْجَاهِلِ: الْجَدَلُ، وَالْمِرَاءُ، وَالْمُغَالَبَةُ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِمَّنْ هَذَا مُرَادُهُ.
• وَمِنْ صِفَةِ الْعَالِمِ الْعَاقْلُ: الْمُنَاصَحَةُ فِي مُنَاظَرَتِهِ، وَطَلَبُ الْفَائِدَةِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ.
كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْعُلَمَاءِ مِثْلَ هَذَا، وَنَفَعَهُ بِالْعِلْمِ، وَزَيَّنَهُ بِالْحِلْمِ.
ص ٢٣٧ - ص ٢٣٩
أطال المصنف رحمه الله الكلام عن أقسام المناظرات والمجادلات في أبواب العقائد والفقهيات، وبين ما يجوز منها وما لا يجوز، وضوابط كل قسم في كتابه «الشريعة» (١٤٤).
وكذلك لابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (٧٠٥) كلام وتقسيم حسن في هذا الباب.
الحاشية ص ٢٣٩
أَخْلَاقِ هَذَا الْعَالِمِ وَمُعَاشَرَتِهِ لِمَنْ عَاشَرَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٦٢ - مَنْ كَانَتْ صِفَاتُهُ فِي عِلْمِهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِنْ أَخْلَاقِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
• أَنْ يَأْمَنَ شَرَّهُ مَنْ خَالَطَهُ، وَيَأْمَلَ خَيْرَهُ مَنْ صَاحَبَهُ.
• لَا يُؤَاخِذُ بِالْعَثَرَاتِ، وَلَا يُشِيعُ الذُّنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ.
• وَلَا يَقْطَعُ بِالْبَلَاغَاتِ، وَلَا يُفْشِي سِرَّ مَنْ عَادَاهُ.
• لم يَنْتَصِرُ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ عَنْهُ.
• ذَلِيلٌ لِلْحَقِّ، عَزِيزٌ عَنِ الْبَاطِلِ.
• كَاظِمٌ لِلْغَيْظِ عَمَّنْ آذَاهُ، شَدِيدُ الْبُغْضِ لِمَنْ عَصَى مَوْلَاهُ.
• يُجِيبُ السَّفِيهَ بِالصَّمْتِ عَنْهُ، وَالْعَالِمَ بِالْقَبُولِ مِنْهُ.
• لَا مُدَاهِنٌ، وَلَا مُشَاحِنٌ وَلَا مُخْتَالٌ، وَلَا حَسُودٌ، وَلَا حَقُودٌ، وَلَا سَفِيهٌ، وَلَا جَافٍ، وَلَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا طَعَّانٌ، وَلَا لَعَّانٌ، وَلَا مُغْتَابٌ، وَلَا سَبَّابٌ.
• يُخَالِطُ مِنَ الْإِخْوَانِ مَنْ عَاوَنَهُ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ، وَنَهَاهُ عَمَّا يَكْرَهُ مَوْلَاهُ، وَيُخَالِقُ بِالْجَمِيلِ مَنْ لَا يَأْمَنُ شَرَّهُ، إِتقَاءً عَلَى دِينِهِ.
• سَلِيمُ الْقَلْبِ لِلْعِبَادِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ.
• يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ مَا أَمْكَنَ فِيهِ الْعُذْرُ.
• لَا يُحِبُّ زَوَالَ النِّعَمِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ.
• يُدَارِي جَهْلَ مَنْ عَامَلَهُ بِرِفْقِهِ.
• إِذَا تَعَجَّبَ مِنْ جَهْلِ غَيْرِهِ ذَكَرَ أَنَّ جَهْلَهُ أَكْثَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل.
• لَا يَتَوَقَّعُ لَهُ بَائِقَةً، وَلَا يَخَافُ مِنْهُ غَائِلَةً.
• النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، وَنَفْسُهُ مِنْهُ فِي جَهْدٍ.
ص ٢٣٩ - ٢٤٠
في «الزهد» لهناد بن السري (٢/ ٥٧٩) قال أبو قلابة: إذا بلغك عن أخيك شيء تجد عليه فيه، فاطلب له العذر جهدك، فإن أعياك؛ فقل: لعل عذره أمر لم يبلغه علمي.
الحاشية ص ٢٤٠
أَخْلَاقِ هَذَا الْعَالِمِ وَأَوْصَافِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، كُلُّهَا تَجْرِي لَهُ بِتَوْفِيقٍ مِنْ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، وَمَنْ جَرَى لَهُ التَّوْفِيقُ بِمَا ذَكَرْنَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ لِلْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل، أَعْظَمَ شَأْنًا مِمَّا ذَكَرْتُ، مِمَّا قَدْ أَوْصَلَهُ مَوْلَاهُ الْكَرِيمُ إِلَى قَلْبِهِ، يُمَتِّعُهُ بِهَا شَرَفًا لَهُ بِمَا خَصَّهُ مِنْ عِلْمِهِ، إِذْ جَعَلَهُ وَارِثَ الْأَنْبِيَاءِ، وَقُرَّةَ عَيْنِ الْأَوْلِيَاءِ، وَطَبِيبًا لِقُلُوبِ أَهْلِ الْجَفَاءِ.
٦٣- فَمِنْ صِفَتِهِ:
• أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ شَاكِرًا، وَلَهُ ذَاكِرًا
• دَائِمَ الذِّكْرِ، بِحَلَاوَةِ حُبِّ الْمَذْكُورِ، فَنَعَّمَ قَلْبَهُ بِمُنَاجَاةِ الرَّحْمَنِ
• يَعُدُّ نَفْسَهُ مَعَ شِدَّةِ اجْتِهَادِهِ خَاطِئًا مُذْنِبًا، وَمَعَ الدُّؤُوبِ عَلَى حُسْنِ الْعَمَلِ مُقَصِّرًا
• لَجَأَ إِلَى اللَّهِ عز وجل فَقَوِيَ ظَهْرُهُ، وَوَثِقَ بِاللَّهِ فَلَمْ يَخَفْ غَيْرَهُ
• مُسْتَغْنٍ بِاللَّهِ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمُفْتَقِرٌ إِلَى اللَّهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
• أُنْسُهُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَحَشَتُهُ مِمَّنْ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ
• إِنِ ازْدَادَ عِلْمًا خَافَ تَوْكِيدَ الْحُجَّةِ
• مُشْفِقٌ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ
• هَمُّهُ فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ اللَّهِ الْفَهْمُ عَنْ مَوْلَاهُ
• وَفِي سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْفِقْهُ، لِئَلَّا يُضَيِّعَ مَا أُمِرَ بِهِ
• مُتَأَدِّبٌ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
• لَا يُنَافِسُ أَهْلَ الدُّنْيَا فِي عِزِّهَا، وَلَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا
• يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا بِالسَّكِينَةِ، وَالْوَقَارِ، وَمُشْتَغِلٌ قَلْبُهُ بِالْفَهْمِ وَالِاعْتِبَارِ
• إِنْ فَرَغَ قَلْبُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَمُصِيبَةٌ عِنْدَهُ عَظِيمَةٌ
• وَإِنْ أَطَاعَ اللَّهَ عز وجل بِغَيْرِ حُضُورِ فَهْمٍ فَخُسْرَانٌ عَنْهُ مُبِينٌ
• يَذْكُرُ اللَّهَ مَعَ الذَّاكِرِينَ، وَيَعْتَبِرُ بِلِسَانِ الْغَافِلِينَ
• عَالِمٌ بِدَاءِ نَفْسِهِ، وَمُتَّهِمٌ لَهَا فِي كُلِّ حَالٍ
• اتَّسَعَ فِي الْعُلُومِ، فَتَرَاكَمَتْ عَلَى قَلْبِهِ الْفُهُومُ، فَاسْتَحَى مِنَ الْحَيِّ الْقَيُّومِ.
• وَشُغْلُهُ بِاللَّهِ فِي جَمِيعِ سَعْيِهِ مُتَّصِلٌ، وَعَنْ غَيْرِهِ مُنْفَصِلٌ.
ص ٢٤١ - ٢٤٢
قال ابن رجب رحمه الله في «فضل علم السلف على علم الخلف» (ص ٨٨): من علامات أهل العلم النافع: أنهم لا يرون لأنفسهم حالاً ولا مقامًا، ويكرهون بقلوبهم التزكية والمدح ولا يتكبرون على أحد….
وأهل العلم النافع: كلما ازدادوا في هذا العلم ازدادوا تواضعًا لله وخشية وانكسارًا وذُلاً.
قال بعض السلف: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعًا لربه. فإنه كلما ازداد علمًا بربه ومعرفة به؛ ازداد منه خشية ومحبة، وازداد له ذُلاً وانكسارًا.
ومن علامات العلم النافع: أنه يدل صاحبه على الهرب من الدنيا، وأعظمها: الرئاسة والشهرة والمدح. فالتباعد عن ذلك والاجتهاد في مجانبته من علامات العلم النافع، فإذا وقع شيء من ذلك من غير قصد واختيار كان صاحبه في خوف شديد من عاقبته، بحيث أنه يخشى أن يكون مكراً واستدراجًا، كما كان الإمام أحمد يخاف ذلك على نفسه عند اشتهار اسمه وبعد صيته.
ومن علامات العلم النافع: أن صاحبه لا يدعي العلم، ولا يفخر به على أحد، ولا ينسب غيره إلى الجهل إلَّا من خالف السُّنة وأهلها، فإنه يتكلم فيه غضبا لله لا غضبا لنفسه، ولا قصدًا لرفعتها على أحد. اهـ.
الحاشية ص ٢٤٢ - ٢٤٣
٦٤ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَهَلْ لِهَذَا النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَّ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَوَصَفْتَهُمْ بِهِ أَصْلٌ فِي الْقُرْآنِ أَوِ السُّنَّةِ، أَوْ أَثَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ؟
قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٨].
أَفَلَا تَرَى، رَحِمَكَ اللَّهُ، كَيْفَ وَصَفَ الْعُلَمَاءَ بِالْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَالطَّاعَةِ وَالتَّذَلُّلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ؟
٦٥ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ، عَنْ مِسْعَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْأَعْلَى التَّيْمِيَّ يَقُولُ: «مَنْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ، فَخَلِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ أُوتِيَ عِلْمًا يَنْفَعُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل نَعَتَ الْعُلَمَاءَ وَقَرَأَ ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ [الإسراء: ١٠٧] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء: ١٠٩]».
ص ٢٤٣
قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ في «الذل والانكسار للعزيز الجبار» (٢٩٦/١): فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها: السكينة، والخشية، والإخبات لله، والتواضع، والانكسار له، وإذا لم يباشر القلب ذلك من العلم، وإنما كان على اللسان؛ فهو حُجَّة الله على ابن آدم، يقوم على صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. خرجه مسلم.
وقال الحسن رَحِمَهُ اللهُ: العلم علمان: علم باللسان، وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع وعلم اللسان: هو حجة الله على ابن آدم.
وروي عن الحسن مرسلاً عن النبي ﷺ. وروي عنه عن جابر مرفوعًا. وعنه عن أنس ﷺ مرفوعًا، ولا يصح وصله.
فأخبر النبي ﷺ أن العلم عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم، ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه، وهو وصوله إلى قلوبهم، حتى يجدوا حلاوة الإيمان به ومنفعته بحصول الخشية والإنابة لقلوبهم، وإنما هو على ألسنتهم تقوم به الحجة عليهم.
ولهذا المعنى وصف الله تعالى في كتابه العلماء بالخشية كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَؤُا﴾ [فاطر: ٢٨].
وقال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتُ ءَانَاءَ الَّيْلِ سَاجِدًا وَقَابِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: ٩].
ووصف العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الإسراء].
فقوله تبارك وتعالى في وصف هؤلاء الذين أوتوا العلم: ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾، مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه.
وقال تعالى: ﴿… فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَّثَانِي نَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر]، ولين القلوب: هو زوال قسوتها بحدوث الخشوع فيها والرقة.
وقد وبخ الله من لا يخشع قلبه لسماع كلامه وتدبره، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ [الحديد].
قال ابن مسعود ﷺ: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين.
خرجه مسلم، وخرجه غيره وزاد فيه: فجعل المسلمون يعاتب بعضهم بعضا.
وخرج ابن ماجه من حديث ابن الزبير قال: لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين…
وقد كان النبي ﷺ يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم: أن النبي ﷺ كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها».
وقد روي نحوه عن النبي ﷺ من وجوه متعددة.
ويروى عن كعب الأحبار قال: مكتوب في الإنجيل: يا عيسى، قلب لا يخشع، عمله لا ينفع، وصوته لا يُسمع، ودعاؤه لا يُرفع.
قال أسد بن موسى في كتاب «الورع»: حدثنا مبارك بن فضالة، قال: كان الحسن يقول: إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إلى قلوبهم خشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، كنت والله إذا رأيتهم رأيت قومًا كأنهم رأي عين، فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت فقال: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان: ٦٣]… إلخ.
الحاشية ص ٢٤٣ - ٢٤٥
٦٦ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقَطِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو هَمَّامٍ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: صَاحِبُ الْعِلْمِ، وَصَاحِبُ الدُّنْيَا، وَلَا يَسْتَوِيَانِ، أَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ، فَيَزْدَادُ رِضَا اللَّهِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا، فَيَزْدَادُ فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨]، ثُمَّ قَرَأَ لِلْآخَرِ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٧]».
ص ٢٤٥
في «مسند الدارمي» (٣٤٣) عن الحسن، قال: منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها، فمن تكن الآخرة همه، وبثه، وسَدَمَه، يكفي الله ضيعته، ويجعل غناه في قلبه، ومن تكن الدنيا همه، وبته، وسدمه، يُفشي الله عليه ضيعته، ويجعل فقره بين عينيه، ثم لا يصبح إلا فقيرًا، ولا يُمسي إلا فقيرًا.
قلت: طالب العلم لا يشبع من طلبه للعلم، ولهذا فهو يطلبه إلى الممات.
قال نعيم بن حماد رَحِمَهُ اللهُ: سمعت عبد الله بن المبارك رَحِمَهُ اللهُ يقول ـ وقد عابه قوم في كثرة طلبه للحديث، فقالوا له: إلى متى تسمع؟! - قال: إلى الممات.
وقال الحسين بن منصور الجصاص: قلت لأحمد بن حنبل: إلى متى يكتب الرجل الحديث؟ قال: إلى الموت.
وقال عبد الله بن محمد البغوي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إنما أطلب العلم إلى أن أدخل القبر.
وقال محمد بن إسماعيل الصائغ: كنت أصوغ مع أبي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء؟! قال: إلى الموت.
وقال عبد الله بن بشر الطالقاني: أرجو أن يأتيني أمر ربي والمحبرة بين يدي، ولم يفارقني القلم والمحبرة.
وقال حميد بن محمد بن يزيد البصري: جاء ابن بسطام الحافظ يسألني عن الحديث، فقلت له: ما أشدَّ حرصك على الحديث ! فقال: أو ما أحب أن أكون في قطار آل رسول الله ﷺ.
وقيل لبعض العلماء: متى يحسنُ بالمرء أن يتعلم؟ قال: ما حسنت به الحياة.
وسئل الحسن عن الرجل له ثمانون سنة: أيحسن أن يطلب العلم؟ قال: إن كان يحسنُ به أن يعيش.
[هذه الآثار من كتاب «مفتاح دار السعادة» (٢٠٣/١)]
الحاشية ص ٢٤٥ - ٢٤٦
٦٨ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، أَخْبَرَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ قَالَ: قَالَ مَسْرُوقٌ: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ يَخْشَى اللَّهَ، وَبِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ».
٧١ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: «إِنْ كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَبَ الْعِلْمَ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يُرَى ذَلِكَ فِي تَخَشُّعِهِ وَبَصَرِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَزُهْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَطْلُبُ الْبَابَ مِنْ أَبْوَابِ الْعِلْمِ، فَيَعْمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، لَوْ كَانَتْ لَهُ فَجَعَلَهَا فِي الْآخِرَةِ».
ص ٢٤٧
في «جامع بيان العلم» (۸۹۹) قال ابن وهب، سمعت مالكًا يقول: إن حقًّا على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعًا لآثار من مضى قبله.
وفي «شعب الإيمان» (١٦٧١) عن الأعمش قال: كان الرجل يسمع الحديث الواحد فنعرفه في علمه وأدبه.
وفي «تاريخ جرجان» (۹۹۷) قال وكيع بن الجراح: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني، اطلب العلم وأنا أكفيك من مغزلي. يا بني، إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيتك، وحلمك، ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك.
الحاشية ص ٢٤٧ - ٢٨
٧٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا هَارُونُ الْحَمَّالُ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ قَالَ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ فِيهَا،
فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ يَأْبَى عَلَيْكَ الْفُقَهَاءُ وَيُخَالِفُونَكَ،
فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ مَطَرُ، وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيهًا قَطُّ؟!
وَهَلْ تَدْرِي مَا الْفَقِيهُ؟!
الْفَقِيهُ الْوَرِعُ الزَّاهِدُ الَّذِي لَا يَسْخَرُ مِمَّنْ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلَا يَهْمِزُ مَنْ فَوْقَهُ، وَلَا يَأْخُذُ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَهُ اللَّهُ حُطَامًا.
٧٥- أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقَطِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ، سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ الْمِنْقَرِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِلْحَسَنِ يَوْمًا فِي شَيْءٍ قَالَهُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ.
قَالَ: فَقَالَ: وَيْحَكَ أَوَ رَأَيْتَ أَنْتَ فَقِيهًا قَطُّ؟
«إِنَّمَا الْفَقِيهُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، الرَّاغِبُ فِي الْآخِرَةِ، الْبَصِيرُ فِي أَمْرِ دِينِهِ، الْمُدَاوِمُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عز وجل».
ص ٢٤٩
وفي «إبطال الحيل» (۱۸) قال وهب بن منبه: الفقيه: العفيف، المتمسك بالسنة، أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان.
وفي «مسند الدارمي» (۳۰۳) عن سعد بن إبراهيم، قال: قيل له: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه.
-
وفيه (٣٠٤) عن مجاهد، قال: إنما الفقيه من يخاف الله تعالى.
-
وفيه (٢٦٤) عن مالك بن مغول، قال: قال رجل للشعبي: أفتني أيها العالم. فقال: العالم من يخاف الله ﷻ.
وفي «إبطال الحيل» (١٩) قال سفيان الثوري: الفقيه: الذي يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، وأفقه منه من لم يجترئ على الله ﷻ في شيء لعلمه به.
-
وفيه (٢٠) عن الحارث بن يعقوب، قال: يقال: إن الفقيه كل الفقه: من فقه في القرآن، وعرف مكيدة الشيطان.
-
وفيه (٢٤) عن الفضيل بن عياض، قال: إنما الفقيه: الذي أنطقته الخشية، وأسكتته الخشية، إن قال قال بالكتاب والسنة، وإن سكت سكت بالكتاب والسنة، وإن اشتبه عليه شيء وقف عنده ورده إلى عالمه.
-
وفيه (٣٨) عن محمد بن الحجاج، قال: كتب أحمد بن حنبل رحمه الله عني كلامًا. قال العباس القنطري: وأملاه علينا. قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه - يعني: للفتوى - حتى يكون فيه خمس خصال؛
-
أما أولاها: فأن يكون له نية، فإن لم تكن فيه نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور.
-
وأما الثانية: فيكون له حلم ووقار وسكينة.
-
وأما الثالثة: فيكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته.
-
وأما الرابعة: فالكفاية، وإلا مضغه الناس.
-
وأما الخامسة: فمعرفة الناس.
-
قلت: ورواها ابن أبي يعلى في «طبقات الحنابلة» (٣/ ١٠٨)، وقال: فأقول أنا والله العالم: لو أن رجلًا عاقلًا أنعم نظره وميز فكره وسما بطرفه، واستقصى بجهده طالبًا خصلة واحدةً في أحدٍ من فقهاء وقتنا، والمتصدرين للفتوى أخشى أن لا يجدها، والله نسأل صفحًا جميلا وعفوا كثيرا. اهـ.
وفي «جامع بيان العلم» (١٥١٦) عن أبي قلابة، عن أبي الدرداء ؓ قال: لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا كثيرة، ولن تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في ذات الله، ثم تقبل على نفسك فتكون لها أشد مقتا منك للناس.
وانظر «جامع بيان العلم» (۱/ ۸۰۷) (باب من يستحق أن يُسمى فقيها أو عالما حقيقة لا مجازًا، ومن يجوز له الفتيا عند العلماء).
الحاشية ص ٢٤٩ - ٢٥٠
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
هَذِهِ الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى مَا وَصَفْنَا بِهِ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ
٧٧ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
وَلِمَ دَاخَلَ الْعُلَمَاءَ هَذَا الْإِشْفَاقُ الشَّدِيدُ، وَخَافُوا مِنْ عِلْمِهِمْ هَذَا الْخَوْفَ كُلَّهُ؟
قِيلَ لَهُ: عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عز وجل يُسَائِلُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ: مَا عَمِلُوا فِيهِ؟ فَجَعَلُوا مُسَاءَلَةَ اللَّهِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، فَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ شِدَّةَ الْحَذَرِ، وَأَخَذُوا بِالثِّقَةِ فِي كُلِّ أَمْرِهِمْ.
ص ٢٥١ - ٢٥٢
باب ذِكْرُ سُؤَالِ اللَّهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ عِلْمِهِمْ مَاذَا عَمِلُوا فِيهِ
٧٨ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْيَمَانِيُّ، فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَخْبَرَنَا صَامِتُ بْنُ مُعَاذٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيِّ الصُّنَابِحِيِّ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ: مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ».
ص ٢٥٣
رواه الترمذي (٢٤١٧) من طريق الأعمش، عن سعيد بن عبد الله بن جريج، عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، عن النبي ﷺ. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
٨١ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَشَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا هِلَالُ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ: عَنْ هِلَالٍ الْوَزَّانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، فِي هَذَا الْمَسْجِدِ - يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ - بَدَأَ بِالْيَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُحَدِّثَنَا فَقَالَ: وَاللَّهِ «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَإِنَّ رَبَّهُ سَيَخْلُو بِهِ كَمَا يَخْلُو أَحَدُكُمْ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ البَدْر، ثُمَّ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَا غَرَّكَ بِي - ثَلَاثَ مِرَارٍ - مَاذَا أَجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟ كَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟».
ص ٢٥٤
رواه عبد الله بن أحمد في السنة (٤٥٩) وصححه ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (٧/ ٤٥).
الحاشية ص ٢٥٤
٨٢ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخَّبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ إِذَا وَقَفْتُ عَلَى الْحِسَابِ أَنْ يُقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ، فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ؟».
ص ٢٥٥
رواه ابن المبارك في «الزهد والرقائق» (۳۹).
رواه الخطيب في «اقتضاء العلم العمل» (٥٥) ولفظه: قال: إني لست أخشى أن يقال لي: يا عويمر ماذا علمت؟ ولكني أخشى أن يقال: يا عويمر، ماذا عملت فيما علمت؟
وفيه (٥١) عن أبي الدرداء، قال: إن العبد يوم القيامة لمسؤول: ما عملت بما علمت؟
الحاشية ص ٢٥٥
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
مَنْ تَدَبَّرَ هَذَا، أَشْفَقَ مِنْ عِلْمِهِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، فَإِذَا أَشْفَقَ، مَقَتَ نَفْسَهُ، وَبَانَ بَأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لَنَا وَلَكُمْ إِلَى الرَّشَادِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ.
ص ٢٥٦
كِتَابُ أَخْلَاقِ الْعَالِمِ الْجَاهِلِ الْمُفْتَتِنِ بِعِلْمِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٨٦ - قَدْ تَقَدَّمَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، وَعَنْ صَحَابَتِهِ رضي الله عنهم، وَعَنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ رحمهم الله بِصِفَةِ عُلَمَاءٍ فِي الظَّاهِرِ، لَمْ يَنْفَعْهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ، مِمَّنْ طَلَبَهُ لِلْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ وَالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ، وَتَأَكَّلَ بِهِ الْأَغْنِيَاءَ، وَجَالَسَ بِهِ الْمُلُوكَ، وَأَبْنَاءَ الْمُلُوكِ، لِيَنَالَ بِهِ الدُّنْيَا، فَهُوَ يَنْسِبُ نَفْسَهُ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَخْلَاقُهُ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجَفَاءِ، فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، لِسَانُهُ لِسَانُ الْعُلَمَاءِ، وَعَمَلُهُ عَمَلُ السُّفَهَاءِ.
ص ٢٥٧
٨٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، أَخْبَرَنَا الْمُطَرِّزُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ رَجَاءُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ الْهُنَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ اللَّهِ، أَوْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
ص ٢٥٨
رواه الترمذي (٢٦٥٥)، والنسائي في «السنن الكبرى» (٥٨٧٩). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه من حديث أيوب إلا من هذا الوجه. اهـ.
٨٨ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا لِتَجْتَرُّوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَالنَّارُ النَّارُ».
ص ٢٥٨
رواه ابن ماجه (٢٥٤)، وابن حبان في «صحيحه» (٧٧).
٨٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدٍ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حَرْبٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي ابْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ».
ص ٢٥٨
رواه الترمذي (٢٦٥٤)
أقسام العلماء
٩٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، أَخْبَرَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ مَكْحُولًا يَقُولُ: «إِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مَا يُوعَدُونَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمُهُمْ فِيهِمْ أَنْتَنَ مِنْ جِيفَةِ حِمَارٍ.».
ص ٢٦٠
قال ابن رجب رحمه الله كما في «مجموع رسائله» (٤٨١/٢): علماء السلف كانوا يُقسّمون العلماء ثلاثة أقسام: قسم يعرفون الله ويخشونه، ويحبونه، ويتوكلون عليه، وهم: العلماء بالله.
وقسم يعرفون أمر الله، ونهيه، وحلاله، وحرامه، وهم: العلماء بأمر الله.
وقسم يجمعون بين الأمرين، وهم أشرف العلماء، حيث جمعوا بين العلم بالله، والعلم بأمر الله.. وكذلك أكثر السلف الله يجمعون بين العلم بالله الذي يقتضي خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام.
ومنهم من كان متوسعًا في كلا العلمين كالحسن البصري، وسفيان، وأحمد بن حنبل.
ومنهم من كان نصيبه من أحدهما أوفر من نصيبه من الآخر.
وأما المتأخرون فقل فيهم من جمع بين العلمين الذي كان عليه علماء المسلمين، وسلك كلا الطريقين. والله الموفق للخير والمعين عليه بمنه وكرمه. اهـ.
الحاشية ص ٢٦٢
إنما أهلك أهل العلم ما دخل عليهم من الطمع في الدنيا
قَالَ الْفُضَيْلُ: «الْعُلَمَاءُ كَثِيرٌ، وَالْحُكَمَاءُ قَلِيلٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الْعِلْمِ الْحِكْمَةُ، فَمَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا». ص ٢٦٢
قال ابن رجب رحمه الله كما في «مجموع رسائله» (٥٣/١) بعد أن ذكر أثر الفضيل رحمه الله: وهكذا كان حال العلماء الربانيين كالحسن وسفيان وأحمد، اجتزؤوا من الدنيا باليسير إلى أن خرجوا منها، ولم يخلفوا سوى العلم، مع أن بعضهم كان يلبس لباسًا حسنًا، ويأكل أكلًا متوسطًا بعيدًا من التقشف، كالحسن البصري؛ فإنه كان يأكل اللحم كل يوم، كان يشتري بنصف درهم لحمًا فيطبخه مرقة طيبة فيأكل منه هو وعياله، ويطعم كل من دخل عليه، وكان يلبس الثياب الحسنة، وهو مع هذا أزهد الناس في الدنيا، وما زاحم على شيء منها قطُّ. وكان الناس إذا دخلوا عليه خرجوا من عنده، ولا يعدون الدنيا شيئًا، وما رأوا أشد احتقارًا لأهل الدنيا منه وكانوا يدخلون عليه في مرضه يعودونه وليس في بيته إلا سرير مرمول هو عليه، وليس في بيته قليل ولا كثير، حتى قال ابن عون: إنما استبد الحسن الناس بالزهد في الدنيا، فأما العلم فقد شورك فيه…
وكان سفيان الثوري أشد تقشفًا في ملبسه من الحسن، حتى كان من يراه ولا يعرفه يظنه من السؤال، وكان مع شدة ورعه إذا وجد الحلال أكل منه طيبًا، وإن لم يجد حلالًا استَفَّ الرَّمَل، وربما بقي ثلاثًا لا يطعم شيئًا مع عرض الناس عليه الأموال الكثيرة.
وكان إذا شبع من الحلال يزيد في عمله ويقول: أطعم الزنجي وكَدَّه.
وكان أزهد الناس في الدنيا في زمانه حتى كان يتعرى بمجلسه عن الدنيا، ولم تكن السلاطين والملوك والأغنياء أذل منهم في مجلسه، ولا الفقراء والمساكين أعز منهم في مجلسه.
وكان الخوف قد غلب عليه، فلما مرض مرض الموت حُمِلَ ماؤه إلى طبيب، فقال: ليس لهذا دواء، هذا قد فتت الحزن والخوف كبده.
ويقال: لم يكن في زمانه من هو أخوف الله منه، ولا من هيبة الله في صدره أعظم منه.
ولما مات قال بعض العلماء: معشر أهل الهوى كلوا الدنيا بالدين، فقد مات سفيان. يعني: ما بقي بعده أحدٌ يُستحيا منه.
وأما الإمام أحمد فكان أشد منهما تقشفًا في عيشه، وأكثر صبرًا على خشونة العيش للقلة، وكانت معيشته من حوانيت له ورثها من أبيه، ويأخذ أجرها في الشهر دون عشرين درهمًا، ومات لم يخلف إلا قطعا في خرقة له، كان وزنها دون نصف درهم، وترك عليه دينا قُضي عنه من أجرة حوانيته مع كثرة ما كان يَرِدُ عليه من الخلفاء من الجوائز والصلات.
وكان يحيى بن أبي كثير من العلماء الربانيين المتوسعين في العلم، وكان يقال: إنه لم يبق على وجه الأرض مثله، وكان حسن الثياب، حسن الهيئة، فلما مات خلف ثلاثين درهما كفنوه بها رحمه الله.
وكان محمد بن أسلم الطوسي من العلماء الربانيين الزُّهاد، فمات ولم يُخلف سوى كسائه ولبده، فوضعوهما على نعشه، وإناء للوضوء تصدقوا به. فكان النساء على السطوح يقلن في جنازته: هذا العالم الذي خرج من الدنيا، وهذا ميراثه الذي على جنازته، ليس مثل علمائنا هؤلاء عبيد بطونهم، يجلس أحدهم للعلم سنتين أو ثلاثًا فيشتري الضياع، ويستفيد المال.
وقال العباس بن مرثد: سمعت أصحابنا يقولون: صار إلى الأوزاعي أكثر من سبعين ألف دينار من السلطان من بني أُمية، فلما مات خلف سبعة دنانير بقيت بقية، وما كان له أرض ولا دار. قال العباس: نظرنا فإذا هو أخرجها في سبيل الله والفقراء.
وقد وصف الله سبحانه في كتابه العلماء بأوصاف منها: الخشية، والخشوع، والبكاء، كما سبق ذكره. ومنها: احتقار الدنيا، والتزهيد فيها كما قال تعالى في قصة قارون: ﴿فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ۖ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ [القصص].
وقيل للإمام أحمد: إن ابن المبارك قيل له: كيف يُعرف العالم الصادق؟ فقال: الذي يزهد في الدنيا ويُقبل على أمر الآخرة. فقال أحمد: نعم، هكذا ينبغي أن يكون.
وكان أحمد يُنكر على أهل العلم حب الدنيا والحرص على طلبها.
واعلم أنه إنما أهلك أهل العلم وأوجب إساءة ظنَّ الجهال بهم، وتقديم جهال المتعبدين عليهم ما دخل عليهم من الطمع في الدنيا. اهـ.
الحاشية ص ٢٦٣ - ٢٦٥
ودخل أعرابي البصرة، فقال: من سيد هذه القرية؟ فقالوا: [الحسن البصري]. قال: فيم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم. [نقلا من «مجموع رسائل ابن رجب» (٥٧/١)]
الحاشية ص ٢٦٨
خطر غياب الإخلاص في تعلم العلم
٩٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ، أَخْبَرَنَا مُبَشِّرُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لَيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
ص ٢٦٥
قال ابن رجب رحمه الله كما في «مجموع رسائله» (۱/ ۷۹) وهو يتكلم عن أقسام طلب المال والحرص عليه، فذكر القسم الأول وهو طلبه من الوجوه المحرمة، ثم قال:
القسم الثاني: طلب الشرف والعلو على الناس بالأمور الدينية، كالعلم والعمل والزهد.
فهذا أفحش من الأول وأقبح، وأشدّ فسادًا وخطرًا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب بها ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم، ويطلب بها ما عند الله والقرب منه والزلفى لديه.
قال الثوري: إنما فُضّل العلم؛ لأنه يُتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء.
فإذا طلب بشيء من هذا عرض الدنيا الفاني فهو أيضا نوعان:
أحدهما: أن يطلب به المال، فهذا من نوع الحرص على المال وطلبه بالأسباب المحرمة.
ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الأصل -، وقال: وسبب هذا والله أعلم - أن في الدنيا جنة مُعجلة، وهي معرفة الله تعالى ومحبته، والأنس به، والشوق إلى لقائه، وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.
ولهذا كان أشد الناس عذابًا في الآخرة عالم لم ينفعه الله بعلمه، وهو أشد الناس حسرةً يوم القيامة، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة عظيمة، فباعها ببعر أو شيء مستقذر لا يُنتفع به، بل حال من يطلب الدنيا بعلمه، أقبح وأقبح، وكذلك من يطلبها بإظهار الزهد فيها، فإن ذلك خداع قبيح جدا….
النوع الثاني: من يطلب بالعمل والعلم والزهد: الرياسة على الخلق، والتعاظم عليهم، وأن ينقاد الخلق ويخضعون له ويصرفون وجوههم إليه، وأن يُظهر للناس زيادة علمه على العلماء ليعلو به عليهم ونحو ذلك؛ فهذا موعده النار؛ لأن قصد التكبر على الخلق محرم في نفسه، فإذا استعمل فيه آلة الآخرة كان أقبح وأفحش من أن يستعمل فيه آلات الدنيا من المال والسلطان.
وفي «السنن» عن النبي ﷺ قال: «من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه الناس إليه أدخله الله النار». اهـ.
الحاشية ص ٢٦٥ - ٢٦٦
فتنة العلماء بالدنيا والسلاطين
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَإِذَا كَانَ يُخَافُ عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، أَنْ تَفْتِنَهُمُ الدُّنْيَا، فَمَا ظَنُّكَ فِي زَمَنِنَا هَذَا؟ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ مَا أَعْظَمَ مَا قَدْ حَلَّ بِالْعُلَمَاءِ مِنَ الْفِتَنِ، وَهُمْ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ.
ص ٢٧٠
وفي «الطبقات الكبرى» لابن سعد (٨٩/٦)، عن إبراهيم، عن علقمة، أنه قيل له حين مات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه]: لو قعدت فعلمت السنة. قال: أتريدون أن يوطأ عقبي. فقيل له: لو دخلت على الأمير فأمرته بخير. فقال: لن أصيب من دنياهم شيئًا إلا أصابوا من ديني أفضل منه.
قال ابن رجب كما في «مجموع رسائله» (١/ ٨٤) وهو يتكلم عن التحذير من طلب الشرف في الدنيا بالعلم والدين: ومن هذا الباب أيضًا: كراهة الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها.
وخرج الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن».
وخرج أحمد، وأبو داود نحوه من حديث أبي هريرة، عن النبي ﷺ وفي حديثه: «وما ازداد أحد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله بعدًا…»
ومن أعظم ما يُخشى على من يدخل على الملوك الظلمة: أن يصدقهم بكذبهم، ويُعينهم على ظلمهم ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم، فإن من يريد بدخوله عليهم الشرف والرياسة - وهو حريص عليهم - لا يقدم على الإنكار عليهم؛ بل ربما حسن لهم بعض أفعالهم القبيحة؛ تقربًا إليهم ليحسن موقعه عندهم، ويساعدوه على غرضه…
وقد كان كثير من السلف ينهون عن الدخول على الملوك لمن أراد أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر أيضًا.
وممن نهى عن ذلك: عمر بن عبد العزيز، وابن المبارك، والثوري، وغيرهم من الأئمة.
وقال ابن المبارك: ليس الآمر الناهي عندنا من دخل عليهم فأمرهم ونهاهم؛ إنما الآمر الناهي من اعتزلهم.
وسبب هذا: ما يُخشى من فتنة الدخول عليهم؛ فإن النفس قد تُخيل للإنسان إذا كان بعيدًا عنهم أنه يأمرهم وينهاهم ويغلظ عليهم، فإذا شاهدهم قريبا مالت النفس إليهم؛ لأن محبة الشرف كامنة في النفس، والنفس تُحسن له ذلك ومداهنتهم وملاطفتهم، وربما مال إليهم وأحبهم، ولا سيما إن لاطفوه وأكرموه وقبل ذلك منهم، وقد جرى ذلك لابن طاووس مع بعض الأمراء بحضرة أبيه طاووس فوبخه طاووس على فعله ذلك.
وكتب سفيان الثوري إلى عباد بن عباد، وكان في كتابه: إياك والأمراء أن تدنو منهم، أو تخالطهم في شيء من الأشياء، وإياك أن تُخدع ويُقال لك: لتشفع، وتدرأ عن مظلوم، أو ترُدَّ مظلمة؛ فإن ذلك خديعة إبليس، وإنما اتخذها فُجَّار القراء سُلَّماً، وما كفيت من المسألة والفتيا فاغتنم ذلك ولا تنافسهم، وإياك أن تكون كمن يُحب أن يُعمل بقوله، أو ينشر قوله، أو يُسمع قوله، فإذا تُرِكَ ذلك منه عُرِفَ فيه، وإياك وحُبَّ الرئاسة، فإن الرجل يكون حب الرئاسة أحب إليه من الذهب والفضة، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة، فتفقد بقلب، واعمل بنية، واعلم أنه قد دنا من الناس أمر يشتهي الرجل أن يموت، والسلام. اهـ.
وانظر: كتاب «أخلاق حملة القرآن» (۳۱) ففيه زيادة بيان مع التنبيه على أن أئمة السنة كما أنهم كانوا ينهون عن غشيان مجالس الأمراء خوفًا من الافتتان بهم، فإنهم قد أجمعوا على النهي عن الخروج عليهم وكانوا يأمرون بالسمع والطاعة لهم في المنشط والمكره والعسر واليسر ما لم يأمروا بمعصية.
الحاشية ص ٢٦٨ - ٢٧٠
أَخْلَاقُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ عِلْمُهُمْ حُجَّهٌ عَلَيْهِمْ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
١٠٥ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَصِفْ لَنَا أَخْلَاقَ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ عِلْمُهُمْ حُجَّهٌ عَلَيْهِمْ، حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ اعْتَبَرْنَا مَا ظَهَرَ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ، فَإِذَا رَأَيْنَا أَخْلَاقًا لَا تَحْسُنُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ اجْتَنَبْنَاهُمْ، وَعَلِمْنَا أَنَّ مَا اسْتَبْطَنُوهُ مِنْ دَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ أَقْبَحُ مِمَّا ظَهْرَ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ فِتْنَةٌ فَاجْتَنَبْنَاهُمْ، لِئَلَّا نُفْتَتَنَ كَمَا افْتُتِنُوا، وَاللَّهُ مُوَفِّقُنَا لِلرَّشَادِ.
قِيلَ لَهُ: نَعَمْ، سَنَذْكُرُ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ مَا إِذَا سَمِعَهَا مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعِلْمِ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ، فَتَصَفَّحَ أَمْرَهُ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ خُلُقٌ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ الْمَكْرُوَهَةِ الْمَذْمُومَةِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَأَسْرَعَ الرَّجْعَةَ عَنْهَا إِلَى أَخْلَاقٍ هِيَ أَوْلَى بِالْعِلْمِ، مِمَّا يُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وَتَجَافَى عَنِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي تُبَاعِدُهُمْ عَنِ اللَّهِ.
١٠٦ - فَمِنْ صِفَتِهِ فِي طَلَبِهِ لِلْعِلْمِ:
• يَطْلُبُ الْعِلْمَ بِالسَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنَ الْعِلْمِ مَا أَسْرَعَ إِلَيْهِ هَوَاهُ.
فَإِنْ قَالَ: كَيْفَ؟
قُلْتُ: لَيْسَ مُرَادُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ لِيَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيمَا يَعْبُدُهُ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ،
إِنَّمَا مُرَادُهُ فِي طَلَبِهِ أَنْ يُكْثِرَ التَّعَرُّفَ أَنَّهُ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ، وَلِيَكُونَ عِنْدَهُ فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ هَذَّبَ نَفْسَهُ،
• وَكُلُّ عِلْمٍ إِذَا سَمِعَهُ أَوْ حَفِظَهُ شَرُفَ بِهِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ، سَارَعَ إِلَيْهِ، وَخَفَّ فِي طَلَبِهِ،
• وَكُلُّ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عز وجل أَنْ يَعْلَمَهُ فَيَعْمَلَ بِهِ، ثَقُلَ عَلَيْهِ طَلَبُهُ، فَتَرَكَهُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، مَعَ شِدَّةِ فَقْرِهِ إِلَيْهِ.
• يَثْقُلُ عَلَيْهِ أَنْ يَفُوتَهُ سَمَاعٌ لِعِلْمٍ قَدْ أَرَادَهُ، حَتَّى يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالِاجْتِهَادِ فِي سَمَاعِهِ، فَإِذَا سَمِعَهُ هَانَ عَلَيْهِ ⦗٩٨⦘ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ، فَلَمْ يُلْزِمْهَا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا أَلْزَمَهَا السَّمَاعَ فَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ.
إِنْ فَاتَهُ سَمَاعُ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، أَحْزَنَهُ ذَلِكَ، وَأَسِفَ عَلَى فَوْتِهِ، كُلُّ ذَلِكَ بِغَيْرِ تَمْيِيزٍ مِنْهُ، وَكَانَ الْأَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَى عِلْمٍ قَدْ سَمِعَهُ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ بِهِ الْحُجَّةُ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْزَنَ عَلَيْهِ وَيَتَأَسَّفَ
• يَتَفَقَّهُ لِلرِّيَاءِ، وَيُحَاجُّ لِلْمِرَاءِ
• مُنَاظَرَتُهُ فِي الْعِلْمِ تُكْسِبُهُ الْمَأْثَمَ
• مُرَادُهُ فِي مُنَاظَرَتِهِ أَنْ يُعْرَفَ بِالْبَلَاغَةِ
• وَمُرَادُهُ أَنْ يُخَطِّئَ مُنَاظِرَهُ
• إِنْ أَصَابَ مُنَاظِرُهُ الْحَقَّ سَاءَهُ ذَلِكَ. فَهُوَ دَائِبٌ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّ الشَّيْطَانَ، وَيَكْرَهُ مَا يُحِبُّ الرَّحْمَنُ.
• يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ لَا يُنْصِفُ فِي الْمُنَاظَرَةِ، وَهُوَ يَجُورُ فِي الْمُحَاجَّةِ.
• يَحْتَجُّ عَلَى خَطَئِهِ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ، وَلَا يُقِرُّ بِهِ، خَوْفًا أَنْ يُذَمَّ عَلَى خَطَئِهِ.
• يُرَخِّصُ فِي الْفَتْوَى لِمَنْ أَحَبَّ، وَيُشَدِّدُ عَلَى مَنْ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ.
• يَذُمُّ بَعْضَ الرَّأْيِ، فَإِنِ احْتَاجَ الْحُكْمَ وَالْفُتْيَا لِمَنْ أَحَبَّ دَلَّهُ عَلَيْهِ، وَعَمِلَ بِهِ؟
• مَنْ تَعَلَّمَ مِنْهُ عِلْمًا، فَهِمَّتُهُ فِيهِ مَنَافِعُ الدُّنْيَا، فَإِنْ عَادَ عَلَيْهِ خَفَّ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِيهِ لِلدُّنْيَا - وَإِنَّمَا مَنْفَعَتُهُ الْآخِرَةُ - ثَقُلَ عَلَيْهِ.
• يَرْجُو ثَوَابَ عِلْمِ مَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَلَا يَخَافُ سُوءَ عَاقِبَةِ الْمُسَاءَلَةِ عَنْ تَخَلُّفِ الْعَمَلِ بِهِ.
• يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ عَلَى بُغْضِهِ مَنْ ظَنِّ بِهِ السُّوءَ مِنَ الْمَسْتُورِينَ، وَلَا يَخَافُ مَقْتَ اللَّهِ عَلَى مُدَاهَنَتِهِ لِلْمَهْتُوكِينَ.
• يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ، فَيَظُنُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلَا يَخَافُ عَظِيمَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ لِتَرْكِهِ اسْتِعْمَالَهَا.
• إِنْ عَلِمَ ازْدَادَ مُبَاهَاةً وَتَصَنُّعًا.
• وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمٍ تَرَكَهُ أَنَفًا.
• إِنْ كَثُرَ الْعُلَمَاءُ فِي عَصْرِهِ فَذُكِرُوا بِالْعِلْمِ أَحَبَّ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهُمْ، إِنْ سُئِلَ الْعُلَمَاءُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُسْأَلْ هُوَ، أَحَبَّ أَنْ يُسْأَلَ كَمَا سُئِلَ غَيْرُهُ، وَكَانَ أَوْلَى بِهِ أَنْ يَحْمَدَ رَبَّهُ إِذْ لَمْ يُسْأَلْ، وَإِذْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ كَفَاهُ.
• إِنْ بَلَغَهُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ أَخْطَأَ، وَأَصَابَ هُوَ، فَرِحَ بِخَطَأِ غَيْرِهِ، وَكَانَ حُكْمُهُ أَنْ يَسُوءَهُ ذَلِكَ.
• إِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ سَرَّهُ مَوْتُهُ، لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى عِلْمِهِ
• إِنْ سُئِلَ عَمَّا لَا يَعْلَمُ أَنِفَ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ، حَتَّى يَتَكَلَّفَ مَالَا يَسَعُهُ فِي الْجَوَابِ
• إِنْ عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ أَنْفَعُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ كَرِهَ حَيَاتَهُ، وَلَمْ يُرْشِدِ النَّاسَ إِلَيْهِ
• إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا فَتُوبِعَ عَلَيْهِ، وَصَارَتْ لَهُ بِهِ رُتْبَةٌ عِنْدَ مَنْ جَهِلَهُ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَنِفَ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ خَطَئِهِ، فَيَثْبُتُ.
• ينَصْرِ الْخَطَأِ، لِئَلَّا تَسْقُطَ رُتْبَتُهُ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ.
• يَتَوَاضَعُ بِعِلْمِهِ لِلْمُلُوكِ، وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، لِيَنَالَ حَظَّهُ مِنْهُمْ بِتَأْوِيلٍ يُقِيمُهُ
• وَيَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ لَا دُنْيَا لَهُ مِنَ الْمَسْتُورِينَ وَالْفُقَرَاءِ، فَيَحْرِمُهُمْ عِلْمَهُ بِتَأْوِيلٍ يُقِيمُهُ.
• يَعُدُّ نَفْسَهُ فِي الْعُلَمَاءِ، وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ السُّفَهَاءِ
• قَدْ فَتَنَهُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالثَّنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا
• يَتَجَمَّلُ بِالْعِلْمِ كَمَا تَتَجَمَّلُ بِالْحُلَّةِ الْحَسْنَاءُ لِلدُّنْيَا، وَلَا يُجَمِّلُ عِلْمَهُ بِالْعَمَلِ بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْخِصَالَ، فَعَرَفَ أَنَّ فِيهِ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ، وَأَنْ يُسْرِعَ الرُّجُوعَ إِلَى الْحَقِّ.
ص ٢٧٢ - ٢٧٦
في «طبقات الحنابلة» (۲۷/۱) قال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبي، قال: سمعت سفيان [يعني: ابن عيينة] يقول: ما ازداد رجل علما فازداد من الدنيا قرباً إلَّا ازداد من الله بُعدًا.
وفي «جامع ابن عبد الحكم» (٨٤) قال مالك: ولقد أدركت رجالًا يقولون: ما طلبنا هذا العلم حين طلبنا لنتحمل أمور الناس، وما طلبناه إلا لأنفسنا.
وفي جامع بيان العلم (١١٥٤) قال مسعر: من أراد الحديث للناس فليجتهد؛ فإن بلاءهم شديد، ومن أراد لنفسه فقد اكتفى. وكان شعبة حاضرًا، فقال: هذا والله ينبغي أن يكتب.
وفيه (١١٥٦) عن إبراهيم التيمي، قال: من طلب العلم الله آتاه الله منه ما يكفيه.
وفي لفظ (۱۲۷٦) قال: من تعلم علما يريد به وجه الله والدار الآخرة آتاه الله من العلم ما يحتاج إليه.
وفيه (٨٨٥) قال مالك بن دينار: من طلب العلم لنفسه فقليل العلم يكفيه، ومن طلبه للناس فحوائج الناس كثيرة.
الحاشية ص ٢٧٥ - ٢٧٧
كْرَاهُة الْفُتْيَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
وَأَمَّا: مَنْ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُفْتِيَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ:
١٠٩ - فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِئَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْأَنْصَارِ، «إِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنِ الشَّيْءِ، أَحَبَّ أَنْ يَكْفِيَهُ صَاحِبُهُ»
١١٠ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا جَعْفَرٌ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُعَافَى بْنَ عِمْرَانَ، يَذْكُرُ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: «أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا، وَلَا يُفْتُونَ حَتَّى لَا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا».
وَقَالَ الْمُعَافَى: سَأَلْتُ سُفْيَانَ فَقَالَ: «أَدْرَكْتُ النَّاسَ مِمَّنْ أَدْرَكْتُ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ، وَهُمْ يَتَرَادُّونَ الْمَسَائِلَ، يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِيهَا، فَإِذَا أُعْفُوا مِنْهَا، كَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ».
١١٣ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا حَمْزَةَ، لَقَدْ تَكَلَّمْتُ، وَلَوْ أَجِدُ بُدًّا مَا تَكَلَّمْتُ، وَإِنَّ زَمَانًا أَكُونُ فِيهِ فَقِيهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ لَزَمَانُ سُوءٍ
ص ٢٧٧ - ٢٨٠
قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في «إعلام الموقعين» (۷۲/۱): قال سحنون بن سعيد: أجْسَرُ الناس على الفتيا أقلهم علما، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
قلت (ابن القيم): الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم ومن غزارته وسعته، فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يُسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه.
ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنه من أوسع الصحابة فتيا، وقد تقدم أن فتاواه جُمِعَتْ عشرين سفرًا. وكان سعيد بن المسيب أيضًا واسع الفتيا، وكانوا يسمونه «الجريء»، كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي، عن أبي إسحاق، قال: كنت أرى الرجل في ذلك الزمان وإنه لَيَدْخُل يسأل عن الشيء، فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس، حتى يُدْفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا، قال: وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء.
وقال سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير؟ فَلِمَ ألام على حبس الجواب؟. اهـ.
وفيه (۱۹) عن أبي بكر الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله [أحمد بن حنبل] يقول: من عرض نفسه للفتيا فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تجيء الضرورة.
قال الحسن: إن تركناهم وكلناهم إلى عي شديد، فإنما تكلم القوم على هذا، كان قوم يرون أنهم أكثر من غيرهم فتكلموا.
قيل لأبي عبد الله: فأيما أفضل، الكلام أو الإمساك؟قال: الإمساك أحب إليَّ لا شك، الإمساك أسلم. قيل له: فإذا كانت الضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة، الضرورة.
الحاشية ص ٢٧٨ - ٢٨٨
كْرَاهُة الْفُتْيَا في الْأَمْرِ إِذَا لَمْ يَقَعْ
وَأَمَّا مَنْ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْأَمْرِ سَأَلَ: هَلْ كَانَ؟
فَإِنْ قِيلَ: كَانَ، أَفْتَى فِيهِ، وَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ، لَمْ يُفْتِ فِيهِ،
كُلُّ ذَلِكَ إِشْفَاقًا مِنَ الْفُتْيَا
١١٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو شُعَيْبٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «كَانَ إِذَا سُئِلَ [زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ] عَنْ شَيْءٍ قَالَ: هَلْ وَقَعَ؟ فَإِنْ قَالُوا لَهُ: لَمْ يَقَعْ، لَمْ يُخْبِرْهُمْ، وَإِنْ قَالُوا: قَدْ وَقَعَ، أَخْبَرَهُمْ».
ص ٢٨٠
ما بين [] من «الإبانة الكبرى» (٣٤٢)، و «جامع بيان العلم» لابن عبد البر (٢٠٥٨).
ورواه ابن أبي خيثمة في «العلم» (٧٦) عن موسى بن علي، عن أبيه، قال: كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء، قال: الله لكان هذا؟ فإن قال: نعم. تكلم فيه، وإلا لم يتكلم.
وهذه الآثار عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ثابتة.
الحاشية ص ٢٨٠
١١٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرٌ، أَخْبَرَنَا مَنْصُورُ بْنُ شُقَيْرٍ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أَخْبَرَنَا الصَّلْتُ بْنُ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: آللَّهِ، قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: أَصْحَابُنَا أَخْبَرُونَا، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، «لَا تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ، فَيَذْهَبَ بِكُمْ هَهُنَا وَهَهُنَا، فَإِنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُعَجِّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إِذَا سُئِلَ سُدِّدَ، أَوْ قَالَ وُفِّقَ».
ص ٢٨١ - ٢٨٢
قال ابن القيم الله في «إعلام الموقعين» (٥/١١٣): إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع فهل تُستحبُّ إجابته، أو تكره، أو يخير؟ فيه ثلاثة أقوال. وقد حكي عن كثير من السلف أنه كان لا يتكلم فيما لم يقع، وكان بعض السلف إذا سأله الرجل عن مسألة، قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم، تكلف له الجواب، وإلا قال: دعنا في عافية.
وقال الإمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام.
والحق: التفصيل؛ فإن كان في المسألة نص من كتاب الله، أو سنة عن رسول الله ﷺ، أو أثر عن الصحابة الله لم يُكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص، ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدَّرة لا تقع لم يُستحب له الكلام فيها.
وإن كان وقوعها غير نادر ولا مُستبعد، وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها، ويفرع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، والله أعلم. اهـ.
قال ابن رجب رحم لله في «جامع العلوم والحكم» (٢٥٠/١): قال الميموني: سمعت أبا عبد الله - يعني: أحمد - يسأل عن مسألة، فقال: وقعت هذه المسألة؟ بليتم بها بعد؟ وقد انقسم الناس في هذا الباب أقسامًا: فمن أتباع أهل الحديث من سد باب المسائل حتى قل فقهه وعلمه بحدود ما أنزل الله على رسوله، وصار حامل فقه غير فقيه. ومن فقهاء أهل الرأي من توسع في توليد المسائل قبل وقوعها، ما يقع في العادة منها وما لا يقع، واشتغلوا بتكلف الجواب عن ذلك، وكثرة الخصومات فيه، والجدال عليه حتى يتولد من ذلك افتراق القلوب، ويستقر فيها بسببه الأهواء والشحناء والعداوة والبغضاء، ويقترن ذلك كثيرًا بنية المغالبة، وطلب العلو والمباهاة، وصرف وجوه الناس، وهذا مما ذمه العلماء الربانيون، ودلت السنة على قبحه وتحريمه. وأما فقهاء أهل الحديث العاملون به، فإن معظم همهم البحث عن معاني كتاب الله، وما يفسره من السنن الصحيحة، وكلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وعن سنة رسول الله ﷺ، ومعرفة صحيحها وسقيمها، ثم التفقه فيها وتفهمها، والوقوف على معانيها، ثم معرفة كلام الصحابة والتابعين لهم بإحسان في أنواع العلوم من التفسير والحديث، ومسائل الحلال والحرام، وأصول السنة والزهد والرقائق وغير ذلك، وهذا هو طريقة الإمام أحمد ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين، وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما أحدث من الرأي ما لا ينتفع به، ولا يقع، وإنما يورث التجادل فيه كثرة الخصومات والجدال، وكثرة القيل والقال.
وكان الإمام أحمد كثيرًا إذا سُئل عن شيء من المسائل المتولدات التي لا تقع يقول: دعونا من هذه المسائل المحدثة… ومن سلك طريقة طلب العلم على ما ذكرناه، تمكن من فهم جواب الحوادث الواقعة غالبًا؛ لأن أصولها توجد في تلك الأصول المشار إليها، ولا بد أن يكون سلوك هذا الطريق خلف أئمة أهله المجمع على هدايتهم ودرايتهم كالشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، ومن سلك مسلكهم، فإن من ادعى سلوك هذا الطريق على غير طريقهم، وقع في مفاوز ومهالك، وأخذ بما لا يجوز الأخذ به، وترك ما يجب العمل به.
وملاك الأمر كله أن يقصد بذلك وجه الله، والتقرب إليه بمعرفة ما أنزل على رسوله، وسلوك طريقه، والعمل بذلك، ودعاء الخلق إليه، ومن كان كذلك وفقه الله وسدده، وألهمه رشده، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان من العلماء الممدوحين في الكتاب في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾ [فاطر: ٢٨]، ومن الراسخين في العلم. اهـ.
الحاشية ص ٢٨٢ - ٢٨٤
كْرَاهُة الْأُغْلُوطَاتِ وَتَعْقِيدِ الْمَسَائِلِ
١١٨ - قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
وَأَمَّا مَا ذَكَرْنَا فِي الْأُغْلُوطَاتِ، وَتَعْقِيدِ الْمَسَائِلِ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْبَحْثِ عَنْهُمَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ، وَلَعَلَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا، فَيُشْغِلُونَ نُفُوسَهُمْ بِالنَّظَرِ، وَالْجَدَلِ، وَالْمِرَاءِ فِيهِمَا، حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِهَا عَمَّا هُوَ أَوْلَى بِهِمْ، وَيُغَالِطُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَطْلُبُ بَعْضُهُمْ زَلَلَ بَعْضٍ، وَيَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
هَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لَا يَعُودُ عَلَى مَنْ أَرَادَ هَذَا مَنْفَعَةٌ فِي دِينِهِ، وَلَيْسَ هَذَا طَرِيقُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، مَا كَانَ يَطْلُبُ بَعْضُهُمْ غَلَطَ بَعْضٍ، وَلَا مُرَادُهُمْ أَنْ يُخَطِّئَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، بَلْ كَانُوا عُلَمَاءَ عُقَلَاءَ، يَتَكَلَّمُونَ فِي الْعِلْمِ مُنَاصَحَةً، قَدْ نَفَعَهُمُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ.
ص ٢٨٤
عقد ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» بابًا في هذه المسألة، فقال: (٨/ باب ترك السؤال عما لا يعني، والبحث والتنقير عما لا يضر جهله، والتحذير من قوم يتعمقون في المسائل، ويتعمدون إدخال الشكوك على المسلمين). ثم قال رحمه الله: (اعلموا - إخواني - أني فكرت في السبب الذي أخرج أقوامًا من السنة والجماعة، واضطرهم إلى البدعة والشناعة، وفتح باب البلية على أفئدتهم، وحَجَبَ نور الحقِّ عن بصيرتهم، فوجدت ذلك من وجهين:
أحدهما: البحث والتنقير، وكثرة السؤال عما لا يغني، ولا يضر العاقل جهله، ولا ينفع المؤمن فهمه.
والآخر: مجالسة من لا تؤمن فتنته، وتُفسد القلوب صحبته). اهـ.
الحاشية ص ٢٨٤
١٢٠ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ وَرَّادٍ، مَوْلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ».
ص ٢٨٥
رواه أحمد (١٥٢٠)، والبخاري (۷۲۸۹)، ومسلم (٢٣٥٨).
قال البغوي ﷺ في «شرح السنة» (۱ / ۳۱۰): (المسألة) وجهان:
-
أحدهما: ما كان على وجه التبين والتعلم فيما يحتاج إليه من أمر الدين، فهو جائز مأمور به، قال الله تعالى: ﴿فَسْتَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل].
-
والوجه الآخر: ما كان على وجه التكلف، فهو مكروه، فسكوت صاحب الشرع عن الجواب في مثل هذا زجر وردع للسائل، فإذا وقع الجواب، كان عقوبة وتغليظا.
والمراد من الحديث هذا النوع من السؤال، وقد شدد بنو إسرائيل على أنفسهم بالسؤال عن وصف البقرة مع وقوع الغنية عنه بالبيان المتقدم، فشدد الله عليهم. اهـ
الحاشية ص ٢٨٥
١٢٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا الزَّعْفَرَانِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنْ رَفِيعٍ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَوْمًا: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، فَقَالَ ابْنُ الْكَوَّاءِ: مَا السَّوَادُ فِي الْقَمَرِ؟ قَالَ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، أَلَا سَأَلْتَ عَمَّا يَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ؟ ذَاكَ مَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ».
ص ٢٨٧
رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (٣٥٩)، وقال: وفيه زيادة من طريق أخرى:
قال: أخبرنا عن قوله: وَالذارِيَاتِ ذَروا، قال: ثكلتك أُمُّك، سل تفقها، ولا تسل تعننا عما لا يعنيك، ودع ما لا يعنيك.. وذكر الأثر.
قال: وهكذا كان العلماء والعقلاء إذا سُئلوا عما لا ينفع السائل علمه، ولا يضره جهله.
وربما كان الجواب أيضًا مما لا يضبطه السائل، ولا يبلغه فهمه؛ منعوه الجواب، وربما زجروه وعنفوه.
قال ابن شبرمة من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسئول أن يُجيب عنها.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه - أيضًا -: إذا أراد الله بعبد خيرًا سدَّده، وجعل سؤاله عما يعنيه، وعلمه فيما ينفعه. وقال: إياكم والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق.
وقال أبو يوسف: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم.
وقال زيد بن علي لابنه: يا بني، اطلب ما يعنيك بترك ما لا يعنيك، فإن في تركك ما لا يعنيك دركًا لما يعنيك، واعلم أنك تقدم على ما قدمت، ولست تقدم على ما أخرت، فآثر ما تلقاه غدًا على ما لا تراه أبدًا.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئًا، وأخفى أشياء، وإن المحفوظين بولاية الإيمان حفظوا ما أبدى، وتركوا ما أخفى، وذهب آخرون يطلبون علم ما أخفى، فهتكوا، فهلكوا، فأداهم الترك لأمره إلى حدود الضلال، فكانوا زائغين…
وقال طاووس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن مما أسمع منهم.
وقال الشعبي: لو أدرك هؤلاء الأرائيون النبي صلى الله عليه وسلم لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك.
فالعجب يا إخواني - رحمكم الله - لقوم حيارى تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تندّ محاضره في أودية الردى، تركوا ما قد بينه الله تعالى في وحيه، وافترضه على خلقه، وتعبدهم بطلبه، وأمرهم بالنظر، والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلف سابق، فشغلوا به، وفرغوا له آراءهم، وجعلوه دينًا يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه. اهـ.
الحاشية ص ٢٨٧ - ٢٨٨
إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَلَوْ أَدَّبَ الْعُلَمَاءُ أَنْفُسَهُمْ، وَغَيْرَهُمْ، بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا مَنْ مَضَى مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ انْتَفَعُوا بِهَا، وَانْتَفَعَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ، وَبَارَكَ اللَّهُ لَهُمْ فِي قَلِيلِ عِلْمِهِمْ، وَصَارُوا أَئِمَّةً يُهْتَدَى بِهِمْ.
وَأَمَّا الْحُجَّةُ لِلْعَالِمِ يَسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَعْلَمُهُ، فَلَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَعْلَمُ، إِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ،
١٢٦ - وَهَذَا طَرِيقُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ نَبِيَّهُمْ ﷺ، لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْءِ بِمَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ فِيهِ عِلْمُ الْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ عز وجل فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي،
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ الْعِلْمُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ، وَلَا عِلْمَ لِي بِهِ، وَلَا يَتَكَلَّفْ مَا لَا يَعْلَمُهُ، فَهُوَ أَعْذَرُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، وَعِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ.
…
١٢٨ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَارُونَ بْنِ يُوسُفَ التَّاجِرُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ زَادَانَ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه يَوْمًا وَهُوَ يَمْسَحُ بَطْنَهُ وَهُوَ يَقُولُ: «يَا بَرْدَهَا عَلَى الْكَبِدِ، سُئِلَتُ عَمَّا لَا أَعْلَمُ فَقُلْتُ: لَا أَعْلَمُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».
…
١٣٢ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سُئِلَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ،، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ جَوَابٌ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَأُعْظِمُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُكَ ابْنُ إِمَامِ هُدًى يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ لَا يَكُونُ عِنْدَكَ مِنْهُ عِلْمٌ؟ فَقَالَ: «أَعْظَمُ وَاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ، وَعِنْدَ مَنْ عَقِلَ عَنِ اللَّهِ عز وجل، أَنْ أَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَوْ أُحَدِّثَ عَنْ غَيْرِ ثِقَةٍ».
١٣٣ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ يَذْكُرُ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَقُولُ: «إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ أَنْ يَقُولَ: لَا أَدْرِي، فَقَدْ أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ».
ص ٢٨٩ - ٢٩٢
في «جامع بيان العلم» (١٥٦٧) عن القاسم قال: يا أهل العراق، إنا والله لا نعلم كثيرًا مما تسألونا عنه، ولأن يعيش المرء جاهلًا إلا أنه يعلم ما افترض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم.
في «تعظيم الفتيا» (٢٥) عن عقبة بن مسلم، قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنه أربعة وثلاثين شهرا، وكان كثيرًا ما يُسأل، فيقول: لا أدري، ثم يلتفت إلي فيقول: هل تدري ما يريد هؤلاء؟ يريدون أن يجعلوا ظهورنا جسرًا إلى جهنم.
وفي «جامع بيان العلم» (١٥٧٤) قال مالك: ينبغي للعالم أن يألف فيما أشكل عليه قول: (لا أدري)؛ فإنه عسى أن يُهيأ له خير.
وفي «البيان والتحصيل» (١٨/ ٥٢٤) [قال ابن القاسم]: وحدثني عن بعض أصحاب مالك، قال: كنا عنده جلوسًا إذ أتاه ابن أبي حازم، فأدناه وقربه، وأقبل عليه بكلامه وحديثه، ثم قال له: يا ابن أبي حازم، إذا جاءك أحد، فإن قدرت أن تنجي نفسك قبل أن تنجيه فافعل. وحدثنا عن ابن وهب أنه قال: لما ودَّعتُ مالكًا قال لي: لا تجعل ظهرك للناس جِسْرًا يجوزون عليه إلى ما يحبون، فإن أخْسَرَ الناس من باع آخرته بدنيا غيره. اهـ.
وانظر: «جامع بيان العلم» (١/ ٨٢٦) (باب ما يلزم العالم إذا سُئِلَ عما لا يدريه من وجوه العلم).
الحاشية ص ٢٩١ - ٢٩٤
وَصْفُ مَنْ لم ينفعهم اللَّهُ بِالْعِلْمِ
١٣٦ - وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ أَوْصَافُهُ وَأَخْلَاقُهُ الْأَخْلَاقَ الْمَذْمُومَةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى هَذَا، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، وَتَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَتَجَبَّرَ، وَلَمْ يُؤَثِّرِ الْعِلْمُ فِي قَلْبِهِ أَثَرًا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ، وَكَانَتْ أَخْلَاقُهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ أَخْلَاقَ أَهْلِ الْجَفَاءِ وَالْغَفْلَةِ
وَسَأَذْكُرُ مِنْ أَخْلَاقِهِ الْجَافِيَةِ، مَا إِذَا تَصَفَّحَ نَفْسَهُ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ، الَّتِي لَا تَحْسُنُ بِالْعُلَمَاءِ، عَلِمَ أَنَّهَا فِيهِ، وَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، لَا يُمْكِنْهُ دَفْعُ ذَلِكَ، وَاللَّهُ الْعَظِيمُ مُطَّلِعٌ عَلَى سِرِّهِ.
فَمِنْ صِفَتِهِ:
• أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ هَمِّهِ مَعَاشَهُ، مِنْ حَيْثُ نُهِيَ عَنْهُ، مَخَافَةَ الْفَقْرِ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، لَا يَقْنَعُ بِمَا أُعْطِيَ، مُسْتَبْطِئًا لِمَا لَمْ يَجْرِ بِهِ الْمَقْدُورُ أَنْ يَأتي
• الشُغْلُ الدُّنْيَا دَائِمٌ فِي قَلْبِهِ، وَذِكْرُ الْآخِرَةِ خَطَرَاتٌ
• يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِالتَّعَبِ، وَالْحِرْصِ، وَالنَّصَبِ، وَيَطْلُبُ الْآخِرَةَ بِالتَّسْوِيفِ، وَالْمُنَى.
• يَذْكُرُ الرَّجَاءَ عِنْدَ الذُّنُوبِ، فَيَطْيبُ نَفْسَهُ بِالْمُقَامِ عَلَيْهَا، وَيَذْكُرُ الْعَجْزَ عِنْدَ الطَّاعَةِ حِينَ هَمَّ بِهَا، فَيَنْزَجِرُ عَنْهَا، وَيَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ بِاللَّهِ الظَّنَّ، وَأَنَّهُ وَاثِقٌ بِهِ فِي الْعَفْوِ، وَلَمْ يُضْمَنْ لَهُ، وَلَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ، وَيَثِقُ بِهِ فِي الرِّزْقِ الَّذِي ضُمِنَ لَهُ
• يَضْطَرِبُ قَلْبُهُ، وَيُشْغَلُ بِطَلَبِ رِزْقِهِ، وَقَدْ أُمِرَ بِالطُّمَأْنَينَةِ فِيهِ إِلَى رَبِّهِ، وَيَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَدْ نُدِبَ إِلَى أَنْ يَخَافَهُ، وَلَا يَسْكُنُ عِنْدَ الْحَذَرِ وَالْخَوْفِ مِنْ أَجْلِ رِزْقِهِ، وَقَدْ ضُمِنَ لَهُ، وَأَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ مَا قُدِّرَ لَهُ، فَمَا أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنْهُ يَخَافُهُ، وَمَا خَوَّفَهُ اللَّهُ مِنْهُ أَمِنَهُ.
• يَفْرَحُ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْسَى بِفَرَحِهِ شُكْرَ رَبِّهِ، وَيَغْتَمُّ بِالْمَصَائِبِ حَتَّى تَشْغَلَهُ عَنِ الرِّضَى عَنْ رَبِّهِ.
• إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ سَبَقَ إِلَى قَلْبِهِ الْفَزَعُ إِلَى الْعِبَادِ، وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ، يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ الْفَرَجَ إِذَا يَئِسَ مِنَ الْفَرَجِ مِنْ قِبَلِ الْخَلْقِ، فَإِنْ طَمِعَ فِي دُنُوٍّ إِلَى مَخْلُوقٍ نَسِيَ مَوْلَاهُ.
• مَنِ اصْطَنَعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفًا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ حُبُّ الْمُصْطَنِعِ إِلَيْهِ، وَشُغِلَ قَلْبُهُ بِذِكْرِهِ، وَأَلْزَمَ قَلْبَهُ حُبَّهُ وَشُكْرَهُ، نَاسٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ رَبَّهُ.
• يَثْقُلُ عَلَيْهِ بَذْلُ الْقَلِيلِ مِنْ مَالِهِ لِمَنْ لَا يُكَافِئُ عَلَيْهِ إِلَّا رَبُّهُ، وَيَخِفُّ عَلَيْهِ بَذْلُ الْكَثِيرِ لِمَنْ يُكَافِئُهُ، أَوْ يُؤَمِّلُ مِنْهُ مَنْفَعَتَهُ فِي دُنْيَاهُ،
• يَأْثَمُ فِيمَنْ أَحَبَّ فَيَمْدَحُهُ بِالْبَاطِلِ، وَيَعْصِي اللَّهَ فِيمَنْ يُبْغِضُهُ فَيَذُمُّهُ بِالْبَاطِلِ،
• يَقْطَعُ بِالظُّنُونِ، وَيُحَقِّقُ بِالتُّهَمِ.
• يَكْرَهُ ظُلْمَ مَنْ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ، أَوْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْعِبَادِ غَيْرُهُ، وَيَخِفُّ عَلَيْهِ ظُلْمُ مَنْ لَا نَاصِرَ لَهُ سِوَى رَبِّهِ.
• يَثْقُلُ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، وَيَخِفُّ عَلَيْهِ فُضُولَ الْقَوْلِ.
• إِنْ كَانَ فِي رَخَاءٍ فَرِحَ، وَلَهَى، وَأَسَى، وَطَغَى، وَبَغَى،
• وَإِنْ زَالَ عَنْهُ الرَّخَاءُ، شُلَّ قَلْبُهُ عَنِ الْوَاجِبَاتِ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَفْرَحُ، وَلَا يَمْرَحُ أَبَدًا.
• إِنْ مَرِضَ سَوَّفَ التَّوْبَةَ، وَأَظْهَرَ النَّدَامَةَ، وَعَاهَدَ أَنْ لَا يَعُودَ، وَإِنْ وَجَدَ الرَّاحَةَ نَقَضَ الْعَهْدَ، وَرَجَعَ مِنْ قَرِيبٍ.
• وَإِنْ خَافَ الْخَلْقَ، وَرَجَا دُنْيَاهُمْ، أَرْضَاهُمْ بِمَا يَكْرَهُ مَوْلَاهُ، وَإِنْ خَافَ اللَّهَ كَمَا يَزْعُمُ، لَمْ يُرْضِهِ بِمَا يَكْرَهُ الْخَلْقُ.
• يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ من هو فوقه من العباد ولا يعيذ من هو دونه من الخلق من شر نَفْسِهِ، شِفَاؤُهُ فِي إِمْضَاءِ غَيْظِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُسْخِطُ رَبَّهُ.
• يَنْظُرُ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، فَيَسْتَقِلُّ نِعَمَ رَبِّهِ، فَلَا يَشْكُرُهُ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْعَيْشِ فَيَشْكُرُ النِّعْمَةَ.
• يَتَشَاغَلُ بِالْفُضُولِ عَنِ الصَّلَوَاتِ إِلَى آخِرِ أَوْقَاتِهَا، فَإِنْ صَلَّى صَلَّى لَاهِيًا عَنْ صَلَاتِهِ، غَيْرَ مُعَظِّمٍ لِمَوْلَاهُ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ،
• إِذَا أَطَالَ إِمَامُهُ الصَّلَاةَ مَلَّهَا وَذَمَّهُ، وَإِنْ خَفَّفَهَا اغْتَنَمَ خِفَّتَهُ وَحَمِدَهُ.
• قَلِيلُ الدُّعَاءِ مَا لَمْ تَنْزِلْ بِهِ الشَّدَائِدُ وَالْعِلَلُ، فَإِنْ دَعَا فَبِقَلْبٍ مَشْغُولٍ بِالدُّنْيَا.
ص ٢٩٤ - ٢٩٧
قال ابن المبارك الله في «الزهد» (٤٨): أخبرنا رجل من أهل الشام، عن يزيد بن أبي حبيب، قال: إن من فتنة العالم الفقيه:
أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع وإن وجد من يكفيه، فإنه في الاستماع سلامة وزيادة في العلم، والمستمع شريك المتكلم، وفي الكلام - إلا ما عصم الله - تومق، وتزين، وزيادة ونقصان.
ومنهم من يرى أن بعض الناس لشرفه ووجهه أحق بكلام من غيره، ويزدري المساكين، ولا يراهم لذلك موضعاً.
ومنهم من يخزن علمه، ويرى أن تعليمه ضيعة، ولا يُحب أن يوجد إلا عنده.
ومنهم من يأخذ في علمه بأخذ السلطان حتى يغضب أن يُردَّ عليه شيء من قوله، وأن يغفل عن شيء من حقه.
ومنهم من ينصب نفسه للفتيا، فلعله يؤتى بالأمر لا علم له به، فيستحيي أن يقول: لا علم لي به فيَرْجُم، فيكتب من المتكلفين.
ومنهم من يروي كل ما سمع، حتى إنه يروي كلام اليهود والنصارى إرادة أن يُعزز كلامه.
قال ابن رجب الله في «مجموع رسائله» (۱۹/۱): وهؤلاء الذين وقفوا مع ظاهر العلم ولم يصل العلم النافع إلى قلوبهم ولا شموا له رائحة، غلبت عليهم الغفلة والقسوة، والإعراض عن الآخرة، والتنافس في الدنيا، ومحبة العلو فيها، والتقدم بين أهلها.
وقد منعوا إحسان الظن بمن وصل العلم النافع إلى قلبه، فلا يحبونهم، ولا يجالسونهم، وربما ذموهم وقالوا: ليسوا بعلماء، وهذا من خداع الشيطان وغروره، ليحرمهم الوصول إلى العلم النافع الذي مدحه الله ورسوله، وسلف الأمة وأئمتها.
ولهذا كان علماء الدنيا يبغضون علماء الآخرة، ويسعون في أذاهم جهدهم، كما سعوا في أذى سعيد بن المسيب، والحسن، وسفيان، ومالك، وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين، وذلك لأن علماء الآخرة خلفاء الرسل، وعلماء السوء فيهم شبه من اليهود، وهم أعداء الرسل، وقتلة الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، وهم أشد الناس عداوة وحسدًا للمؤمنين، ولشدة محبتهم للدنيا لا يعظمون علما ولا دينا، وإنما يعظمون المال، والجاه، والتقدم عند الملوك. اهـ.
الحاشية ص ٢٩٧ - ٢٩٨
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
هَذِهِ الْأَخْلَاقُ، وَمَا يُشْبِهُهَا، تَغْلِبُ عَلَى قَلْبِ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعِلْمِ، فَبَيْنَا هُوَ مُقَارِنٌ لِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ، إِذْ رَغِبَتْ نَفْسُهُ فِي حُبِّ الشُّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَأَحَبَّ مُجَالَسَةَ الْمُلُوكِ، وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَأَحَبَّ أَنْ يُشَارِكَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنْ رَاخِي عَيْشِهِمْ، مِنْ مَنْزِلٍ بَهِيٍّ، وَمَرْكَبٍ هَنِيٍّ، وَخَادِمٍ سَرِيٍّ، وَلِبَاسٍ لَيِّنٍ، وَفِرَاشٍ نَاعِمٍ، وَطَعَامٍ شَهِيٍّ،
وَأَحَبَّ أَنْ يُغْشَى بَابُهُ، وَيُسْمَعَ قَوْلُهُ، وَيُطَاعَ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْقَضَاءِ فَطَلَبَهُ، وَلَمْ يُمَكَّنْهُ إِلَّا بِبَذْلِ دِينِهِ فَتَذَلَّلَ لِلْمُلُوكِ وَلِأَتْبَاعِهِمْ، وَخَدَمَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأَكْرَمَهُمْ بِمَالِهِ، وَسَكَتَ عَنْ قَبِيحِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَنَاكِيرِهِمْ عَلَى أَبْوَابِهِمْ، وَفِي مَنَازِلِهِمْ، وَقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ثُمَّ زَيَّنَ لَهُمْ كَثِيرًا مِنْ قَبِيحِ فِعَالِهِمْ بِتَأْوِيلِهِ الْخَطَأَ، لِيَحْسُنَ مَوْقِعُهُ عِنْدَهُمْ،
فَلَمَّا فَعَلَ هَذَا مُدَّةً طَوِيلَةً، وَاسْتَحْكَمَ فِيهِ الْفَسَادُ، وَلُّوهُ الْقَضَاءَ، فَذَبَحُوهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ، فَصَارَتْ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ شُكْرُهُمْ، فَأَلْزَمَ نَفْسَهُ ذَلِكَ، لِئَلَّا يُغْضِبَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَعْزِلُوهُ عَنِ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى غَضِبِ مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، فَاقْتَطَعَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى، وَالْأَرَامِلِ، وَالْفُقَرَاءِ، وَالْمَسَاكِينِ، وَأَمْوَالَ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَأَهْلِ الشَّرَفِ، وَبِالْحَرَمَيْنِ، وَأَمْوَالًا يَعُودُ نَفْعُهَا عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَرْضَى بِهَا الْكَاتِبَ، وَالْحَاجِبَ، وَالْخَادِمَ، فَأَكَلَ الْحَرَامَ، وَأَطْعَمَ الْحَرَامَ، وَكَثُرَ الدَّاعِي عَلَيْهِ، فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَوْرَثَهُ عِلْمُهُ هَذِهِ الْأَخْلَاقَ.
ص ٢٩٨ - ٢٩٩
(۱) قال ابن القيم رحمه الله في «إعلام الموقعين» (٥٠٩/٢): وقد غر إبليس أكثر الخلق بأن حسَّنَ لهم القيام بنوع من الذكر، والقراءة، والصلاة، والصيام، والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات، فلم يُحدِّثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينا؛ فإن الدين هو القيام الله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالا عند الله ورسوله من مرتكب المعاصي؛ فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجها ذكرها شيخنا رحمه الله [يعني: ابن تيمية] في بعض تصانيفه، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله ﷺ، وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينا! والله المستعان.
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يُترك، وسنة رسوله ﷺ يرغب عنها؛ وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس؟ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مأكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ. ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل، وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء - مع سقوطهم من عين الله، ومَقْتِ الله لهم - قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه الله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل.
وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا: أن الله سبحانه أوحى إلى مَلَكِ من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ، فإنه لم يتمعر وجهه في يوما قط.
وذكر أبو عمر في كتاب «التمهيد»: أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إلي فقد اكتسبت به العِزَّ، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب، وأيُّ شيء لك عليَّ؟ قال: هل واليتَ في وليا، أو عاديت في عدوا؟.اهـ.
هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَمَرَ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْهُ، هَذَا الْعَالِمُ الَّذِي قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ».
ص ٣٠٠
نقل هذا الكلام ابن رجب رحمه الله في كتابه «ما ذئبان جائعان»، ثم قال: هذا كله كلام الإمام أبي بكر الآجري رحمه الله وكان في أواخر الثلاثمائة، ولم يزل الفساد متزايدًا على ما ذكرناه أضعافا مضاعفة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. اهـ.
الحاشية ص ٣٠٠
١٣٧ - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَنَا الْفِرْيَابِيُّ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَبَّادِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْأَرْبَعِ، مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ».
ص ٣٠٠
رواه أحمد (٨٤٨٨)، وأبو داود (١٥٤٨)، وابن ماجه (٢٥٠ و ٣٨٣٧).
وفي «مسند الدارمي» (٥٥٨) عن الحسن، قال: أدركت الناس، والناسك إذا نَسَكَ، لم يُعرف من قبل منطقه؛ ولكن يُعرف من قبل عمله، فذلك العلم النافع.
وفيه أيضًا (٣٧٦) عن الحسن قال: العلم علمان: فعلم في القلب؛ فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان؛ فذلك حجة الله على ابن آدم.
وفي «جامع بيان العلم» (١٠٨٦) قال سفيان بن عيينة: ليّس شيء أنفع من علم ينفع، وليس شيء أضرّ من علم لا ينفع.
قال ابن رجب ﷺ في «فضل علم السلف على علم الخلف» (ص ٧٦): فالعلم النافع من هذه العلوم كلها: ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة ﷺ والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد، والرقائق، والمعارف، وغير ذلك والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانيًا، وفي ذلك كفاية لمن عقل، وشُغل لمن بالعلم النافع عني واشتغل. ومن وقف على هذا وأخلص القصد فيه لوجه الله، واستعان عليه؛ أعانه وهداه ووفقه وسدده وفهمه وألهمه، وحينئذ يثمر له هذا العلم ثمرته الخاصة به، وهي: خشية الله كما قال ﷺ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨].
قال ابن مسعود ﷺ وغيره: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال بعض السلف: ليس العلم بكثرة الرواية؛ ولكن العلم الخشية.
وقال بعضهم: من خشي الله فهو عالم، ومن عصاه فهو جاهل.
وكلامهم في هذا المعنى كثير جدا.
وسبب ذلك: أن هذا العلم النافع يدل على أمرين:
-
أحدهما: على معرفة الله وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العلى، والأفعال الباهرة وذلك يستلزم: إجلاله وإعظامه، وخشيته ومهابته، ومحبته ورجاءه، والتوكل عليه، والرضى بقضائه، والصبر على بلائه.
-
والأمر الثاني: المعرفة بما يُحبه ويرضاه، وما يكرهه ويسخطه من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة والأقوال؛ فيوجب ذلك لمن علمه: المسارعة إلى ما فيه محبة الله ورضاه، والتباعد عما يكرهه ويسخطه.
فإذا أثمر العلم لصاحبه هذا فهو علم نافع.
فمتى كان العلم نافعًا ووقر في القلب فقد خشع القلب لله وانكسر له، وذل هيبة وإجلالًا وخشية ومحبة وتعظيمًا.
ومتى خشع القلب لله وذل وانكسر له؛ قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا، وشبعت به، فأوجب لها ذلك: القناعة والزهد في الدنيا، وكل ما هو فان لا يبقى من المال والجاه وفضول العيش الذي ينقص به حظ صاحبه عند الله من نعيم الآخرة وإن كان كريما على الله، كما قال ذلك ابن عمر رضي الله عنهما وغيره من السلف، وروي مرفوعًا.
وأوجب ذلك: أن يكون بين العبد وبين ربه معرفة خاصة، فإن سأله أعطاه، وإن دعاه أجابه، كما قال في الحديث الإلهي: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أُحِبَّه»، إلى قوله: «فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه». وفي رواية: «ولئن دعاني لأجيبنه».
وفي وصيته لابن عباس: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشِّدَّة… فأصل العلم بالله الذي يوجب خشيته ومحبته، والقرب منه، والأنس به، والشوق إليه، ثم يتلوه العلم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من العبد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد؛ فمن تحقق بهذين العلمين: كان عِلمه علمًا نافعًا، وحصل له العلم النافع، والقلب الخاشع والنفس القانعة، والدعاء المسموع.
ومن فاته هذا العلم النافع وقع في الأربع التي استعاذ منها النبي، وصار علمه وبالًا وحجة عليه، فلم ينتفع به؛ لأنه لم يخشع قلبه لربه، ولم تشبع نفسه من الدنيا، بل ازداد عليها حرصًا ولها طلبًا، ولم يسمع دعاؤه لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يُسخطه ويكرهه.
هذا إن كان علمه علمًا يمكن الانتفاع به؛ وهو المتلقى عن الكتاب والسنة.
فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه، ولا يمكن الانتفاع به، بل ضره أكثر من نفعه.
وعلامة هذا العلم الذي لا ينفعُ: أن يُكسب صاحبه الزهو، والفخر، والخيلاء، وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء، ومماراةِ السُّفهاء، وصرف وجوه الناس إليه. وقد ورد عن النبي ﷺ إن من طلب العلم لذلك فالنار النار.
وربما ادعى بعضُ أصحاب هذه العلوم معرفة الله، وطلبه، والإعراض عما سواه، وليس غرضهم بذلك إلا طلب التقدم في قلوب الناس من الملوك وغيرهم، وإحسان ظنهم بهم، وكثرة اتباعهم، والتعظم بذلك على الناس. اهـ.
وقال كما في «مجموع الرسائل» (١٦/١): وفي صحيح مسلم، عن ابن مسعود ﷺ قال: إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم؛ ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
فالعلم النافع: هو ما باشر القلب، فأوقر فيه معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح كلها تبعا لخشوعه.
وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه كان يقول: «إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع». وهذا يدل على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع للقلب فهو علم غير نافع.
وروي عنه ﷺ أنه كان يسأل الله علما نافعا.وفي حديث آخر قال: «سلوا الله علمًا نافعًا، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع».
وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم، كما قال النبي ﷺ: «والقرآن حجة لك أو عليك».
فإذا ذهب من الناس العلم الباطن بقي الظاهر على الألسنة حجة، ثم يذهب هذا العلم الذي هو حُجَّة بذهاب حملته، ولا يبقى من الدين إلا اسمه، فيبقى القرآن في المصاحف، ثم يُسرى به في آخر الزمان، فلا يبقى منه في المصاحف ولا في القلوب شيء.
ومن هنا قسم من قسم من العلماء العلم إلى باطن وظاهر، فالباطن: ما باشر القلوب، فأثمر لها الخشية والخشوع، والتعظيم والإجلال، والمحبة والأنس والشوق.
والظاهر: ما كان على اللسان، فيه تقوم حجة الله على عباده. وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: إنك امرؤ قد أصبت بما ظهر لك من علم الإسلام شرفًا، فاطلب بما بطن من علم الإسلام محبة وزلفى.
وفي رواية أخرى أنه كتب إليه: إنك قد بلغت بظاهر علمك عند الناس منزلة وشرفًا، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزُلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع الأخرى.
فأشار وهب بعلم الظاهر إلى علم الفتاوى والأحكام، والحلال والحرام، والقصص والوعظ وهو ما يظهر على اللسان. وهذا العلم يوجب لصاحبه محبة الناس له، وتقدمه عندهم، فحذره من الوقوف عند ذلك، والركون إليه، والالتفات إلى تعظيم الناس ومحبتهم؛ فإن من وقف مع ذلك فقد انقطع عن الله وانحجب بنظره إلى الخلق عن الحق.
وأشار بعلم الباطن إلى العلم الذي يباشر القلوب، فيحدث لها الخشية والإجلال والتعظيم، وأمره أن يطلب بهذا المحبة من الله والقرب منه والزلفى لديه. اهـ.
Generated at: 2025-01-16-09-36-08