المؤلف:: عادل آل حمدان الغامدي
الناشر::
سنة النشر:: 2011-01-01
الصفحات:: 215
الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1712279492l/53306369._SX318_.jpg
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/53306369
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات:: تقريب_تراث_السلف
الغرض::
المعرفة:: ,
التدريب:: ,
المؤثر:: ,
تاريخ القراءة:: 2024-10-27
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::
المقدمة
فالله المستعان على غُربة هذا الزَّمان، وقلّةِ السَّالكين فيه سَبيل السَّلف الصَّالح، أهل السنة والأثر، ورحمة الله على الإمام عبد الله بن المبارك إذ يقول في القرن الثاني من الهجرة: اعلم أي أخي أن الموتَ اليومَ كرامة لكُلِّ مُسلم لقي الله على السُّنة، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتنا، وذهاب الإخوان، وقلّة الأعوانِ، وظهور البدع، وإلى الله نشكو عظيم ما حَلَّ بهذه الأمّة مِن ذَهَابِ العُلماء وأهل السنة، وظهور البدع).
[«البدع» لابن وضاح (97)]
ص ٨
أن الله تعالى قد هدى أهل السنة والجماعة من بين سائر الفِرقِ للحقِّ، «فلم يتلوَّثوا بشَيْءٍ من أوضار هذه الفرق وأدناسها، وأثبتوا الله حقائق الأسماء والصفاتِ، ونفوا عنه مماثلة المخلوقات، فكان مذهبهم مذهبًا بين، مذهبين، وهدى بين ضلالتين، خرج من بين مذاهب المعطّلين والمُخيّلين، والمُجهّلين، والمُشبِّهين، كما خرجَ اللَّبَنُ مِن بين فَرِثٍ وَدَمٍ لبنًا خالصًا سَائِغًا للشَّاربين».
[«الصواعق المرسلة» (425/2)]
ص ٩
قال أبو المظفر السمعاني (489 هـ) رحمه الله في «الانتصار لأهل الحديث» (ص44): (أبى الله أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفًا عن سلف، وقرنًا عن قرنٍ، بإسنادٍ مُتصل إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذ التابعون من أصحاب النبي ﷺ، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله ﷺ الناس من الدين المستقيم، والصَّراط القويم إلَّا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث). اهـ.
ص ٩
واعلم أن من أعظم أسباب من ضلَّ في أبواب السنة والاعتقاد من أهل الكلام وغيرهم ممن ينتسب إلى السُّنة هو إعراضهم عن طريقةِ السَّلف الأوائل في الاستدلال، ودخولهم في علم الكلام المحدث، والنظر في مصنفاتهم التي أجمع أهل السنة أجمع أهل السنة على النهي النَّهى عن تعلمها، والنظر فيها. قال ابن تيمية رحمه الله في الحموية ص (216): (إن الضَّلال والتهوك إنَّما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عمّا بعث الله به محمدا لله من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقةِ السَّابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله تعالى). اهـ.
ص ١٠
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله في «الدرر السنية» (288/3) (فالواجب على من له نهمة في الخير وطلب العلم: أن يبحث عن مذاهب السَّلف، وأقوالهم في هذا الأصل العظيم [يعني: التوحيد] الذي قد يكفر الإنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك، وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد ﷺ من الكتاب والحكمة وما كان عليه سلف الأمة .. فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السَّلف، وأئمة الهدى، ورُزِقَ مع ذلك مُعلمًا من أهل السنة؛ فقد احتضنته السَّعادة ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة، وإن كان نظر العبد وميله إلى كلام اليونان وأهل المنطق والكلام، ومشايخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت وحلّت قريبًا من داره موجبات الطرد عن مائدة الرَّب وكتابه ومن عدم العلم، فليبتهل إلى معلّم إبراهيم في أن يهديه صراطه المستقيم) اهـ.
ص ١٠
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله في «عيون الرسائل» (591/2): (فإنّ الرّجل إذا خيف أن يفتتن به الجهال، ومن لا تمييز عندهم في نقد أقاويل الرّجال، فحينئذ يتعيّن الإعلان بالإنكار، والدعوة إلى الله في السِّرِّ والجهار، ليعرف الباطل فيجتنب، وتهجر مواقع التهم والريب، ولو طالعت كُتب الجرح والتعديل، وما قاله أئمة التحقيق والتأصيل، فيمن اتهم بشيء يقدح فيه، أو يحظُ مِن رتبة ما يُحدِّث به ويرويه، لرأيت من ذلك عجبًا). اهـ.
ص ١٢
التَّحذير من الرُّكون إلى كُلِّ أحدٍ، والأخذ مِن كُلِّ كِتابِ، فإن أغلب التفاسير وشروح الأحاديث المنتشرة المتداولة بين طلبة العلم قد سلك أصحابها مسلك أهل التأويل والتفويض، وأصبح كثير من طلبة العلم لا يُميّز بين مَن سَلكَ طريقة أهل السُّنة في الصفات فيتلقى عنه، ومَن خالفهم فوقع في التأويل فيحذره.
وقد كانت عادة أهل العلم من أئمة السُّنة وغيرهم ممن اقتفى أثرهم كأئمة الدعوة إذا وقع في أيديهم كتاب من تلك الكتب المنتشرة فتشوا في معتقده، وموافقته للسنة، كما قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: (واعلم أرشدك الله - أن الذي جرينا عليه أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير، أو شرح حديث اختبرناه واعتبرنا معتقده في العلو، والصفات، والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير من المُتأخرين، أو أكثرهم، مذهب الأشاعرة الذي حاصله: نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا الباب بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي، وأضرابه من أهل البدع والضَّلال، ومن نظر في شروح البخاري ومسلم ونحوهما، وجد ذلك فيها، وأما ما صُنف في الأصولِ والعقائدِ فالأمرُ فيه ظاهر لذوي الألباب..) إلخ.
قلت: أما اليوم؛ فقد هُجر هذا المنهج عند كثير من المتأخرين، بل وأصبحَ مَن يسلك هذا المنهج، ويحذِّر من الكتب التي فيها التَّأويل والتعطيل والتفويض، ويحذر من أصحابها؛ منبوذا مهجورًا عندهم، وهو الذي يُحذِّرُ منه!! والله المستعان.
ص ١٣ - ١٤
المبحث الأول: العلاقة بين توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وأن توحيد العبادة لا يتم إلا بإثبات الصِّفات؛ وكُلُ مُعطّل فلابد أن يكون مُشرِكًا، وأن التعطيل شَرٌّ من الشرك
قَرَّرَ أهلُ السُّنة أن توحيدَ العِبادة لا يتم إلا بإثبات أصلين عظيمين هما:
إثبات صفاتِ الكمال؛ رَدًّا على أهل التعطيل.
وبيان أنّه المُستحق للعبادة لا إله إلا هو ؛ رَدًّا على المشركين.
فالعلاقة بين توحيد الأسماء والصفات وتوحيد الألوهية لا تنفك؛ كما بين ذلك أهل السُّنة، وأنه لا يتمّ أحد التوحيدين إلا بالآخر.
ولهذا ترى كثيرًا من أهل الكلام ممن وقعَ في مُخالفاتٍ في بابِ الأسماء والصفاتِ؛ لا يخلو غالبًا مِن الوقوع في الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر في باب العبادة وتوحيد الله تعالى.
ص ١٦
قال ابن تيمية رحمه الله في «درء التعارض» (224/1) وهو يتكلم عن مُعطلة الصفات: (فهم يريدون بلفظ التوحيد، والواحد) في اصطلاحهم ما لا صفة له ولا يُعلم منه شيء دون شيء، ولا يُرى! والتوحيد الذي جاء به الرسول الله لم يتضمن شيئًا من هذا النفي، وإنما تضمن إثبات الإلهية الله وحده؛ بأن يشهد أن لا إله إلا هو، ولا يعبد إيَّاه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يُوالي إلَّا له، ولا يُعادي إلَّا فيه، ولا يعمل إلا لأجله، وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم، كما يظنّ ذلك مَن يَظنّه مِن أهل الكلام والتصوف، ويظنّ هؤلاء أنّهم إذا أثبتوا ذلك بالدَّليل فقد أثبتوا غاية التَّوحيدِ، ويظنّ هؤلاء أنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد!
…
وذلك أن الرجل لو أقرَّ بما يستحقه الرّب تعالى من الصفات، ونزّهه عن كُلِّ مَا يُنزّه عنه، وأقرّ بأنَّه وحدَهُ خالقُ كُلِّ شيءٍ؛ لم يكن موحدًا، بل ولا مؤمنًا حتَّى يشهد أن لا إله إلا الله، فيقرّ بأنَّ الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له.
والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى: القادر على الخلق، فإذا فسَّرَ المفسِّر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أنّ هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من مُتكلّمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مُقرِّينَ بأن الله وحده خالق كُل شيء، وكانوا مع هذا مُشركين.
ص ٣٤ - ٣٥
وقال رحمه الله في الصفدية (228/2): (والتوحيد الذي جاءت به الرُّسل، ونزلت به الكتب هو توحيد الإلهية، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريكَ لَهُ، وهو مُتضمّن لشيئين:
1 - أحدهما: القول العلمي، وهو إثبات صفات الكمال له، وتنزيهه عن النقائص، وتنزيهه عن أن يماثله أحدٌ في شيء من صفاته، فلا يوصف بنقص بحال، ولا يماثله أحد في شيءٍ من الكمال، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] فالصمدية تثبت له الكمال، والأحدية تنفي مماثلة شيء له في ذلك.
2 - والتوحيد العملي الإرادي: أن لا يُعبد إلا إياه، فلا يدعو إِلَّا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يخاف إلَّا إياه، ولا يرجو إلَّا إياه، ويكون الدين كُله الله، قال تعالى: قُلْ يَأَيُّهَا الكَفِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ) [الكافرون: 2-1] وهذا التوحيد يتضمن أن الله خالق كُلّ شيء، وربه، ومليكه لا شريك له في الملك.
ص ٣٦
قال ابن القيم رحمه الله في «اجتماع الجيوش» (93/1):
(وملاك السَّعادة والنَّجاة والفوز بتحقيق التَّوحيدين اللذين عليهما مدار كتاب الله تعالى وبتحقيقهما بعث الله رسوله، وإليهما دعت الرُّسل صلوات الله وسلامه عليهم كلهم من أولهم إلى آخرهم:
أحدهما: التَّوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، المتضمن إثبات صفات الكمال لله، وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص
والتوحيد الثاني: عبادته وحده لا شريك له، وتجريد محبته، والإخلاص له، وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، والرضا به رَبًّا، وإلها، ووليَّا، وأن لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء.
وقد جمع هذين النوعين من التَّوحيد في سورتي الإخلاص وهما: سُورة ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَفِرُونَ﴾ [الكافرون: 1] المتضمنة للتوحيد العملي الإرادي، وسُورة ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] المتضمنة للتوحيد العلمي الخبري …
ولا يتم أحد التوحيدين إلَّا بالآخر…
فالتَّوحيد العلمي الخبري له ضدان التَّعطيل والتشبيه والتمثيل، فمن نفى صفات الرَّبِّ وعطلها: كَذَّب تعطيله توحيده، ومن شبّهه بخلقه ومثله بهم: كَذَّبَ تشبيهه وتمثيله توحيده.
ص ٣٧
المبحث الثاني: إثبات صفات الله تعالى عند أهل السنة
أهل السنة يثبتون كل ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، وما أثبته له نبيه مما قد صح إسناده وتلقاه أهل السُّنة بالقبول والتسليم، وكذا ما أثبته الصحابة هل لربهم من صفات الله تعالى، وتلقاه بالقبول والاحتجاج.
قال الآجري (360 هـ) رحمه الله في «الشريعة» (1051/2): (إن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله ﷺ، وبما وصفه به الصَّحابة رضى الله عنهم، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع).
وقال ابن تيمية رحمه الله في «الحموية» (ص 271): (ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يُوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ﷺ، وبما وصفه به السابقون الأوّلون، لا يتجاوز القرآن والحديث).
ص ٤٣
قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (146 هـ) رحمه الله: (اعلم - رحمك الله - أن العصمة في الدين: أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما قد حُدَّ لك؛ فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر، فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله فى الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة؛ فلا تخافن في ذكره وصفته من ربِّك ما وصفه من نفسه عيبًا، ولا تكلفن بما وصف لك من ذلك قدرًا.
وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب رَبِّك، ولا في حديث عن نبيك - من ذكر صفة ربّك - فلا تتكلفن علمه بعقلك ولا تصفه بلسانك، واصمت عنه كما صمت الرّب عنه من نفسه؛ فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه؛ فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها .. والراسخون في العلم - الواقفون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التَّاركون لما ترك من ذكرها - لا ينكرون صفة ما سمى منها جحدًا، ولا يتكلفون وصفه بما لم يُسَمِّ تَعمقا…).
[«الإبانة الكبرى» لابن بطة (تتمة الرد على الجهمية) (59)، و«الفتوى الحموية الكبرى» لابن تيمية (ص319) وقال: إسناده صحيح]
ص ٤٤
قال الشافعي رحمه الله: (لله تبارك وتعالى أسماء وصفات، جاء به كتابه، وأخبر بها نبيه ﷺ أُمَّتَهُ، لا يسمع أحد من خلق الله عز وجل قامت لديه الحُجَّةُ أن القرآن نزل بها، وصَحْ عنده بقول النبي ﷺ فيما روى عنه العدل خلافَهُ، فإن خالف ذلك بعد ثُبوتِ الحُجَّةِ عليه؛ فهو كافر بالله عز وجل، فأما قبل ثبوتِ الحُجَّةِ عليه من جهة الخبر؛ فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدرَكُ بالعقل، ولا بالرَّويَّةِ والفكر).
[«الجامع في عقائد ورسائل أهل السنة والأثر» (237/1) بتحقيقي]
ص ٤٥
قال ابن بطه (387 هـ) رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (تتمة الرد على الجهمية) (91/3): (اعلموا - رحمكم الله - أن من صفات المؤمنين من أهل الحقِّ: تصديق الآثار الصحيحة وتلقيها بالقبول، وترك الاعتراض عليها بالقياس، ومواضعة القول بالآراء والأهواء؛ فإن الإيمان: تصديق، والمؤمن هو المصَدِّق، قال الله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النِّسَاء: 65].
فَمِن علامات المؤمنين: أن يصفوا الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله، مما نقلته العلماء، ورواه الثّقات من أهل النقل الذين هم الحجة فيما رووه من الحلال والحرام والسنن والآثار، ولا يُقال فيما صح عن رسول الله ﷺ: كيف؟ ولا لِمَ؟ بل يتبعون ولا يبتدعون، ويُسلمون ولا يُعارضون ويتيقنون ولا يشكون ولا يرتابون).
ص ٤٦
قال ابن قدامة (620 هـ) رحمه الله في ذم التأويل (100): (ينبغي أن يُعلم أن الأخبار الصَّحيحة التي ثبتت بها صفات الله تعالى هي الأخبار الصَّحيحة الثّابتة بنقل العُدولِ الثَّقات التي قبلها السلف، ونقلوها ولم ينكروها، ولا تكلموا فيها.
وأما الأحاديث الموضوعة التي وضعتها الزنادقة ليلبسوا بها على أهل الإسلام، أو الأحاديث الضعيفة: إما لضعف رواتها، أو جهالتهم، أو لعلة فيها؛ لا يجوز أن يُقال بها، ولا اعتقاد ما فيها، بل وجودها كعدمها، وما وضعته الزنادقة، فهو كقولهم الذي أضافوه إلى أنفسهم.
فمن كان من أهل المعرفة بذلك وجب عليه اتباع الصحيح، واطراح ما سواه، ومَن كان عاميًّا ففرضه: تقليد العُلماء وسؤالهم، لقول الله تعالى: ﴿فَأسْألُوا أَهْلَ الذِكرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43].
وإن أشكل عليهِ عِلم ذلك، ولم يجد من يسأله: فليقف؛ وليقل: آمنتُ بما قاله رسول الله ﷺ، ولا يثبت به شيئًا، فإن كان هذا مما قاله رسول الله ﷺ فقد آمن به وإن لم يكن منه؛ فما آمن به).
ص ٤٧
فصل: ما حَدَّثَ به العلماء وتلقوه بالقبول من أحاديث الصفات
هناك كثير من الأحاديث والروايات في إثبات صفات الله تعالى قد تلقاها أهل السنة من السلف الأوائل ومَن بعدهم بالقبول والتسليم، وحدثوا بها على رُؤوس النَّاس؛ بل وأنكروا على مَن طعن فيها، أو ردّها؛ فمثل هذه الأحاديث نُحدّث بها، وننشرها ولا نتكلم فيها من قبل أَنفُسِنا فتخالف سلفنا الصالح فيما احتجوا به، وتلقوه بالقبول والتسليم، وخاصة وأن هذه الأحاديث التي فيها شيء مِن الضَّعف فيما يبدو لنا تعضدها متابعات وشواهد كثيرة من الكتاب والسُّنة الصّحيحة تشهد لها.
ومِن المُسلَّم به عند كُلِّ صاحب سُنةٍ واتباع: أنْ السَّلف الصالح مِن أئمة العلم والسُّنة والدِّين لا يُثبتون مَسائل التَّوحيد والاعتقاد إلا بدليل صحيح صريح، وأنهم أورع وأخشى الله تعالى من أن يصفوه بما لا يثبت، أو ما لا يليق به سُبحانه.
ص ٤٨
قال الآجري رحمه الله في «الشريعة» (301/1): (علامة من أراد الله به خيرا: سلوك هذه الطَّريق: كتاب الله، وسُنن رسول الله ﷺ، وسُنن أصحابه، ومن تبعهم بإحسان وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العُلماء مثل: الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على طريقتهم، ومُجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العُلماء).
ص ٤٨
وقال البربهاري (329 هـ) رحمه الله: (فالله الله في نفسك، وعليك بالآثار وأصحاب الآثار والتقليد، فإنّ الدِّين إنّما هو التقليد - يعني: للنبي ﷺ، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح ولا تجاوز الأثر، وأهل الأثر).
[«طبقات الحنابلة» (39/2)]
ص ٤٩
ورَحِمَ الله الإمام الأوزاعي إذ يقول: (اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقُل بما قالوا، وكُفَّ عمَّا كفُّوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنَّه يَسعك ما وَسِعهُم).
[رواه اللالكائي (104/1)]
ص ٤٩
وقال حرب الكرماني (280 هـ) رحمه الله في عقيدته 89:
«ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يقلد دينه أحدًا فهذا قول فاسق مبتدع عدوا لله ولرسوله ﷺ، ولدينه، ولكتابه، ولسنة نبيه ﷺ، إنما يريد بذلك إبطال الأثر، وتعطيل العلم، وإطفاء السنة، والتفرد بالرأي، والكلام، والبدعة والخلاف. فعلى قائل هذا القول لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فهذا من أخبث قول المبتدعة، وأقربها إلى الضلالة والردى، بل هو ضلالة».
ص ٤٩
قال الدارمي (280 هـ) رحمه الله في «النقض» (ص 343): (فقد أخذنا بما قال رسول الله ﷺ، فلم نقبل منها إلا ما روى الفقهاء الحفاظ المتقنون؛ مثل: معمر، ومالك بن أنس، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وزهير بن معاوية وزائدة وشريك، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، ووكيع، ونظرائهم الذين اشتهروا بروايتها ومعرفتها والتفقه فيها خلاف تفقه المريسي، وأصحابه فما تداول هؤلاء الأئمة ونظراؤهم على القبول قبلنا، وما رَدُّوه رددناه، وما لم يستعملوه تركناه؛ لأنهم كانوا أهل العلم والمعرفة بتأويل القرآن ومعانيه، وأبصر بما وافقه منها مما خالفه من المريسي وأصحابه، فاعتمدنا على روايتهم، وقبلنا ما قبلوا، وزيفنا منها ما روى الجاهلون من أئمة هذا المعارض، مثل: المريسي، والثّلجي ونظرائهم).
ص ٥٠
وقال أيضًا [السجزي في إثبات الحرف والصوت] (ص190): (وإذا ثبتَ مَا ذكرناه، وعلم أن طاعة الرسول ﷺ واجبة، وأن قبولَ خَبرِهِ لازم؛ وجب اعتقاد ما في هذه الأحاديث المذكورة في الصِّفاتِ، ولو لم يلزم اعتقاد ذلك لم تكن هذه الأخبار لا محالة دون سائر الأخبار الواردة فيما سبيله العمل به، فينبغي أن يعمل بها أيضًا، والعمل بها هو القول بمخبرها.
وقبل وبعد فالأئمة الذين رووها غير مُنكِرين لشيء منها؛ بل قد أوردوها فى السُّنن، وبَيَّنوا أن اعتقادها سُنة وحق؛ بل واجب وفرض.
ولا يخلو أمرهم من أن يكونوا مخطئين في فعلهم، أو مصيبين في رأيهم، فإن أصابوا فاتباعهم على الصواب هدى.
وإن أخطؤوا - بزعم المخالف - وهم الأئمة المقبولون، المرضيون بالاتفاق، فالمخالفون الذين قد حكم بأنهم من أهل الزيغ والضَّلال أقرب إلى الخطأ، وأبعد من الصَّواب منهم، فيجب أن لا يُصغى إليهم، ولا يعوّل على تمويههم).
ص ٥٢
فصل: ما رُوي موقوفا عن الصَّحابة له في باب الصفات
أما ما ثبت عن أصحاب النبي ﷺ في أبواب الصفات ولم يرفعوه إلى النبي ﷺ؛ فإن أهل السُّنة يقبلونه، ويَروونَه في مُصنفاتهم محتجين به على المعطلة، ويجعلونه من قبيل المرفوع؛ لأنَّه لا مجال للرأي فيه، ولعظيم شأن أصحاب النبي ﷺ أن يتكلموا في ذات الله تعالى بمحض آرائهم، ومن قبيل أهوائهم من غير أن يسمعوه من النبي.
ص ٥٨
قال الشافعي رحمه الله في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحَسَن ابن محمد الزّعفراني، وهذا لفظه: (وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدهم، فرحمهم الله، وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدوا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله ﷺ عاما وخاصًا، وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كُلّ عِلم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر استدرك به عِلم، واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنّا مِن رَأينا عند أنفُسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حُكِي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله ﷺ فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرّقوا، وهكذا نقولُ، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم، ولم يخالفه غيره؛ أخذنا بقوله).
[«إعلام الموقعين» (80/1)]
ص ٥٩
قال ابن تيمية رحمه الله في فضل القُرون المُفضّلة كما في «الحموية» ص (199): (مِن المُحال أن يكون خَيْر أُمته، وأفضل قرونها قصّروا في هذا الباب، زائدين فيه، أو ناقصين عنه.
ثم من المحال أيضًا أن تكون القُرون الفاضلة - القرن الذي بُعِثَ فيه رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خِلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما الأول: فلأن مَن في قلبهِ أدنى حياة وطلب للعلم، أو نَهمةٍ في العبادة يكون البحث عن هذا الباب، والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه؛ أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرَّبِّ وصفاته.
وليست النفوس الصحيحة إلى شيءٍ أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر… وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحقِّ أو قائليهِ؛ فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقِل عَرفَ حالَ القوم .. ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدرَ السَّلف؛ بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها..).
ص ٥٩
ما أخبر به الصَّحابي من صفات الله تعالى؛ فإن أهل السنة يعتبرونه مِن قبيل المرفوع؛ لأنه لا مجال لاجتهاد الرأي فيه.
وأما إن كان مما نقله عَن أهل الكتاب، فقد أذِنَ فيه النبي ﷺ فقال: «حدِّثُوا عن بَني إسرائيل ولا حرج». [رواه البخاري (3461)]
وكيف يظنّ به أنه ينقل عن بني إسرائيل ما لا يجوز نقله وروايته في ذاتِ الله تعالى، ويسكت عن بيان بطلانِهِ ونكارتِهِ؟! هذا لا يفعله من هو أدنى منزلة في العلمِ مِن هذا الصَّحابي الجليل الذي أخذ العلم عن النبي ﷺ؛ فيجب إحسان الظَّنّ به.
…
ويُقال كذلك: شَرعنا وشرع مَن قَبلنا في الصفاتِ سواء؛ لأن صفات الله تعالى لا تختلف باختلافِ الشَّرائع، فما ثبت في التوراة والإنجيل من صفات الله تعالى، فهو بلا شكٍّ ثابت عندنا؛ فإن هذا من باب الإخبار عن الله تعالى، وبابِ الإخبار لا يتبدل ولا يتغير من شرع إلى شرع.
ص ٦٣ - ٦٤
فصل: التحديث بأحاديث الصفات ونشرها بين العامة من غير حرج
درج أهل السنة والأثر على التَّحديث بأحاديثِ الصِّفات وروايتها في مصنفاتهم، والتَّحديث بها في مجالسهم الخاصة والعامة، ولم يتحرَّجوا من ذلك، ولم يمنعوا منه. وإنما جاء إنكار روايتها وترك التحديث بها من قِبل الجهمية والمعتزلة وغيرهم من معطلة الصفات، أو ممن تأثر بهم، وإن كان ليس على مذهبهم.
ص ٦٥
قال الدارمي رحمه الله في «الرد على الجهمية» (147): (فهذه الأحاديث قد جاءت كلها وأكثر منها في نزول الرَّبِّ تبارك وتعالى في هذه المواطن، وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا لا ينكرها منهم أحد، ولا يمتنع من روايتها؛ حتى ظهرت هذه العصابة فعارضت آثار رسول الله ﷺ بردها، وتشمروا لدفعها بجد.
ص ٦٦
قال ابن المبارك رحمه الله حين ذكر حديث: «لا يزني الزاني وهو مؤمن»: (وأنكره بعضهم فقال: يمنعنا هؤلاء الأنتان أن نترك حديث رسول الله ﷺ فلا نحدّث به؟! كلما جهلنا معنى حديث تركناه، لا بل نرويه كما سمعناه، وتُلزم الجهل أنفسنا).
[«مسند إسحاق بن راهويه» (419)]
ص ٦٧
قال أحمد البرمكي: (سألت أبا الحسن بن بشار عن حديث أُم الطفيل، وحديث ابن عباس في الرؤية، فقال: صحيحان، فعارض رجل فقال: هذه الأحاديث لا تُذكر في مثل هذا الوقت. فقال ابن بشار: فَيُدْرَسُ الإسلام؟! مُنكِرًا على من منع السُّؤال عن الخبرين).
[«طبقات الحنابلة» (59/2)]
ص ٦٨
قال السمعاني رحمه الله في «الانتصار لأصحاب الحديث» (ص 86):
(فإن قال قائل: إن الخوض في مسائل القدر والصفات، وشرط الإيمان يُورث: التَّقاطع والتَّدابر والاختلاف؛ فيجب طرحها، والإعراض عنها على ما زعمتم -.
الجواب: إنّما قُلنا هذا في المسائل المُحْدَثَة؛ فأما الإيمان في هذه المسائل فهو من شرط أصل الدين، ولا بدّ من قبوله على نحو ما ثبت فيه النقل عن رسول الله ﷺ وأصحابه.
ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها لتفرُّق الناس في ذلك، كما في أصل الإسلام والدُّعاء إلى التوحيد وإظهار الشهادتين.
وقد ظهر بما قدمنا وذكرنا - بحمد الله ومنه - أن الطريق المستقيم مع أهل الحديث، وأن الحق ما نقلوه ورَوَوْهُ).
وقال: (أجمع أهل الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله، وفي مسائل القدر، والرؤية..).
ص ٦٨ - ٦٩
[قال ابن تيمية رحمه الله في التسعينية (127/1):] (فأما المنع من تبليغ عموم أحاديث الصفات لعموم الأمة فهذا ما ذهب إليه من يؤمن بالله واليوم الآخر، وإنّما هذا ونحوه رأي الخارجين المارقين من شريعة الإسلام كالرافضة، والجهمية والحرورية ونحوهم، وهو عادة أهل الأهواء..).
ص ٧٠
فصل: فيمن رُوي عنه من السلف كراهية رواية بعض أحاديث الصفات
وفي ترتيب المدارك (44/2): في رواية ابن القاسم، وابن وهب: وكره مالك أن يُحدّث بها عوام الناس الذين لا يعرفون وجهه، ولا تبلغه عقولهم فينكروه، أو يضعوه في غير موضعه. اهـ.
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية (374/6): (ولكن كان من العلماء في القرنِ الثَّالث من يكره روايته، ويروي، بعضه، كما يكره رواية بعض الأحاديث لمن يخاف أن يَفسُدَ عقله، أو دينه، كما قال عبد الله بن مسعود: «مَا مِن رَجُلٍ يُحدّث قومًا حديثًا لم تبلغه عُقولهم إلا كان فتنة لبعضهم..»).
ص ٧٢
وقال [ابن تيمية رحمه الله] في جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية (ص 158): (… فهذا الكلام فيما نُقِلَ عن مالك في هذا، وأما بقية السَّلفِ الذين كانوا قبله وبعدَهُ نظراءه فقد رَوَوهُ كلَّه،وبلغوه، وحملهُ أكابر العلماء بعضهم عن بعض). اهـ.
قلت: بَين ابن تيمية رحمه الله أن الجهمية والمعتزلة اتخذوا كلام الإمام مالك الله في هذا الحديث حُجَّة لترك التحديث أحاديث الصفات بجميع ونشرها، والإمام مالك حمدلله بريءٌ مِن هذا القول ومن هذا المذهب، كيف لا وقد روى في موطئه» كثيرًا مِن أحاديث الصفات.
ص ٧٤
المبحث الثالث: إمرار صفات الله عز وجل كما جاءت بلا كيف
أجمع السَّلفُ الصَّالح أهل السنة والأثر على إثبات صفات الرَّبِّ عز وجل وإمرارها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
وأما قول السلف: (أمروها بلا كيف)، فمعناه كما قال ابن القيم رحمه الله في اجتماع الجيوش (ص199): (مُراد السَّلفِ بقولهم: (بلا كيف)، هو نفي التأويل؛ فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل؛ فإنهم هم الذين يُثبتون كيفيةً تُخالف الحقيقة، فيقعون في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف بالتأويل، وتعطيل الرَّبِّ تعالى عن صفته التي أثبتها لنفسه).
ص ٧٧
قال الوليد بن مسلم (195هـ) رحمه الله: (سألت الأوزاعي (157هـ)، ومالك بن أنس (179هـ)، وسُفيان الثوري (161هـ)، والليث ابن سعد (175هـ) عن هذه الأخبار التي فيها الصفات، فقالوا: أمرُّوها كما جاءت).
[رواه الآجري في «الشريعة» (720)، والدارقطني في «الصفات» (67)]
قال يحيى بن عمار (442 هـ) رحمه الله: (وهؤلاء أئمة الأمصار: فمالك إمام أهل الحجاز، والثوري إمام أهل العراق، والأوزاعي إمام أهل الشّام، والليث إمام أهل مصر والمغرب).
[رواه ابن قدامة في «ذم التأويل» (25)]
ص ٧٨
قال وكيع (197 هـ) رحمه الله: (نُسلّم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول كيف هذا؟ ولم جاء هذا؟).
[رواه الدارقطني في «الصفات» (62)]
ص ٧٨
قال الحميدي (219 هـ) رحمه الله في كتابه [«أصول السنة» (6)]: (أصول السنة عندنا - فذكر أشياء - ثُمّ قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة: 64]، ومثل قوله: ﴿وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتُ بِيَمِينِهِ﴾ [الزمر: 67]، وما أشبهه من القرآن والحديث، لا نزيد فيه، ولا نُفسّره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه 5]، ومن زعم غير هذا؛ فهو مُبطل جهمي.
وقال: وذكر حديث: «إِنَّ الله خلق آدم»، يعني: بيديه. فقال: لا نقول غير هذا على التسليم والرضا بما جاء به القرآن والحديث، لا نستوحش أن نقول كما قال القرآن والحديث).
[رواه ابن منده في «التوحيد» (903)]
ص ٨٠
قال إسحاق بن راهويه (238 هـ) رحمه الله: (قال لي عبد الله ابن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها في النزول، ما هي؟!
قال: قلتُ: أيها الأمير! هذه الأحاديث جاءت مجيء الأحكام، الحلال والحرام ونقلها العلماء، ولا يجوز أن تُردّ، هي كما جاءت بلا كيف.
فقال عبد الله بن طاهر: صدقت، ما كنت أعرف وجوهها حتى الآن.
وفي رواية قال: رواها من روى الطَّهارة، والغُسل، والصَّلاة، والأحكام، وذكر أشياء، فإن يكونوا مع هذه عُدولًا، وإلا فقد ارتفعت الأحكام، وبطل الشَّرع. فقال: شَفاكَ الله كما شفيتني - أو كما قال -).
[«بيان تلبيس الجهمية» (439/1)]
ص ٨٢
قال ابن بطة العٌكبري (387 هـ) رحمه الله في «الإبانة» (2443): (كل ما جاء من هذه الأحاديث وصحت عن رسول الله ﷺ؛ ففرض على المسلمين قبولها، والتصديقُ بها، والتسليم لها، وترك الاعتراض عليها، وواجب على من قبلها وصدَّق بها أن لا يضرب لها المقاييس، ولا يتحمّل لها المعاني والتفاسير؛ لكن تمر على ما جاءت، ولا يُقال فيها: لِمَ؟ ولا: كيف؟ إيمانا بها وتصديقًا، ونقف من لفظها وروايتها حيث وقف أئمتنا وشيوخنا، وننتهي منها حيث انتهى بنا، كما قال المصطفى نبينا ﷺ، بلا مُعارضة، ولا تكذيب ولا تنقير، ولا تفتيش والله الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فإن الذين نقلوها إلينا هم الذين نقلوا إلينا القرآن وأصل الشريعة، فالطَّعنُ عليهم والرَّد لما نقلوه من هذه الأحاديث طعن في الدين، ورد لشريعة المسلمين، ومن فعل ذلك فالله حسيبه والمنتقم منه بما هو أهله).
ص ٨٣
فصل: نماذج من طريقة أهل السنة في إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت
قال ابن خزيمة رحمه الله في «التوحيد» (106/1): (باب إثبات السمع، والرُّؤية الله جلّ وعلا الذي هو كما وصف نفسه سَمِيعٌ بصير، ومَن كان معبوده غير سميع بصير؛ فهو كافر بالله السميع البصير، يعبد غير الخالق الباري الذي هو سميع بصير.
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرُ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء﴾ [آل عمران: 181]، وقال - في قصة المجادلة -: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي﴾ [المجادلة: 1] ..
قال أبو بكر: وتدبروا أيها العلماء، ومقتبسو العلم؛ مخاطبة خليل الرحمن أباه، وتوبيخه إياه لعبادته من كان يعبد، تعقلوا بتوفيق خالقنا جلَّ وعلا صحة مذهبنا، وبطلان مُخالفينا من الجهمية المعطلة.
قال خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - لأبيه: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَابَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا﴾ [مريم: 42].
أفليس من المحال يا ذوي الحِجى: أن يقول خليل الرحمن لأبيه: آزر ﴿ولِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ﴾ [مريم: 42] ويعيبه بعبادة ما لا يسمع: ولا يبصر، ثُمّ يدعوه إلى عبادة من لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتان لا من الحيوان أيضًا، فكيف يكون ربنا الخالق البارئ السميع البصير كما يصفه هؤلاء الجُهّال المعطّلة عزَّ رُبنا وجلّ عن أن يكون غير سميع، ولا بصير؟!).
ص ٨٧ - ٨٨
قال محمد بن علي الكرجي القصاب في «نكت القرآن» (457/4):
(قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجِ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[الإنسان: 2] حُجَّة على الجهمية شديدة خانقة، ألا تراه كيف أخبر عن تجعيله الأمشاج المبتلى سميعا بصيرا، ووصفه به بما وصف به نفسه من السمع والبصر، إذ يقول: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 134]، فسوى بين الصفتين، ولم يخالف بين اللفظين فأخبر ذلك؛ لأن الله سميع بسمع وبصر غير مخلوقين يعرف صفتهما من نفسِهِ كهيئة ما هما له سبحانه، ولاً نقول نحن بكيفيتهما من غير أن نتجاهلهما، فنزيل عنهما الحقائق، ونأخذ بهما طريق المجازات، فندخل في التَّعطيل؛ لأن من نفى على الله حقائق وصفه، أو حقائق فِعله فقد عطّله، ومَن عطله فقد كفر وحلَّ دمه.
وإن لم يثبت وأخذ بالسميع والبصير إلى معنى: (الإدراك) خوفًا مِن التشبيه؛ لم يسلم من التشبيه؛ بل تَعجَّلَ الخُسران في تركِ لفظين نازلين في کتابه، ورد اسمين له سبحانه إلى اسم،واحد وهو: (المدرك)…).
ص ٨٨
فصل: أهل السنة يمرون الصفات كما جاءت مع إثبات حقيقة معناها التي خاطبنا الله تعالى بها
أهل السنة كما أمروا بإمرار نصوص صفات الله تعالى كما جاءت فإنهم:
١- يثبتون ما دلّت عليها من المعاني التي خاطبنا الله تعالى بها.
٢- يُثبتون حقيقة صفات الله تعالى على ما يليق به، مع نفي العلم بكيفية الصفة.
فليس أمرهم بإمرارِ الصِّفات مُجرَّدًا عن إثباتِ ما دلّت عليه من المعاني، كما يظنّه أهل التَّجهيل من المفوّضة والمعطلة.
ص ٩١
قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن، ومالك بن أنس - رحمهما الله - في قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]: (الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب، والسُّؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضَالَّا).
[«اعتقاد أهل السنة» للالكائي (664)]
ص ٩٣
قال سفيان بن عُيينه (198 هـ) رحمه الله: (هذه الأحاديث التي جاءت عن رسول الله ﷺ فى الصفات والنزول، والرؤية، حقٌّ نُؤمن بها، ولا نُفسّرها إِلَّا مَا فُسِّرَ لنا مِن فوق).
[رواه ابن منده في «التوحيد» (897)]
ص ٩٤
فصل: إثبات الصفات مع الإشارة إليها بما هو محسوس معهود
ثبت في كثير من الأحاديث الصَّحيحة إثبات الصفة لله تعالى مع الإشارة إليها بما هو محسوس بَيِّن؛ وذلك لبيان إثبات حقيقة الصفة لله تعالى، لا من باب التشبيه والتَّمثيل تعالى الله عن ذلك، ولبيان أن كلام الله تعالى إنما هو بلسان عربي مبين.
فرسول الله ﷺ كان أعلم الناس بتفاصيل الأسماء والصفات وحقائقها، وكان أفصح النَّاس في التعبير عنها، وإيضاحها، وكشفها بكُلِّ طريق كما يفعله بإشارته وحالِهِ من بابِ تحقيقِ الصِّفةِ لا من باب التشبيه والتمثيل.
[انظر: «مختصر الصواعق» (1420/4)]
ص ٩٥
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ وهو على المنبر يقول: «يأخذُ الجَبَّارُ سماواتِهِ وأرضه بيدِهِ، وقبض بيدِهِ فجعل يقبضُها ويبسُطُها، ثم يقول: أنا الجبَّارُ، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟». قال: ويتميلُ رسول الله ﷺ عن يمينه وعن يساره، حتى نظرتُ إلى المنبر يتحرَّكُ من أسفل شيءٍ منه حتَّى إنِّي أقولُ: أساقط هو برسُولِ الله؟
[رواه مسلم (2148/4 - 2149)، والنسائي في «الكبرى» (7689)، وابن ماجه (198)، وابن جرير الطبري في «تفسيره» (27/24)]
قال ابن القيم رحمه الله: (ولمَّا أخبرهم رسول الله ﷺ جعل يقبض يديه ويبسطهما تحقيقًا للرّفةِ لا تشبيها لها كما قرأ: ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 134] ووضع يديه على عينيه وأذنيه تحقيقا لصفة السمع والبصر، وأنهما حقيقة لا مجاز).
[«مختصر الصواعق» (948/3)]
ص ٩٧ - ٩٨
فصل: حكم اقتران إثبات الصفة الله تعالى بالإشارة إليها بالفعل المحسوس
دلّت النصوص السابقة على جواز اقتران إثبات الصفة الله تعالى بالإشارة إليها بالفعل، وقد تلقى أهل السُّنة هذه النصوص بالقبول والاحتجاج بها على أهل البدع من مُعطّلةِ الصِّفاتِ، وبينوا أن المراد منها إثبات حقيقة الصفة، وأنّه ليس فيها تمثيل لصفات الله بصفات خلقه.
وعليه؛ فلا محظور على من اتبع الحديث، وأشار إلى ما أشار إليه النبي ﷺ عند ذكر السمع والبصر وغيرها مما ثبت به النَّص، كما فعل ذلك السلف.
وأما ما رُوي من النَّهي عن ذلك عن بعض أئمة السُّنّة: فلا يثبت ذلك عنهم، وعلى فرض ثبوته فقد ثبتت عن النبي الله الإشارة، ولنا فيه أسوة.
ص ٩٩
فصل: في تقسيم الصفات
المتتبع لطريقة السلف الصالح في إثبات صفات الله تعالى يتبين له أنّهم يُثبتون كل ما ثبت بالكتاب والسنة، ويُمسكون عما سوى ذلك. وأما أهل الكلام؛ فإنّهم لما خاضوا في باب الأسماء والصفات بعقولهم، وحكموها على نصوص الكتاب والسُّنة، فأثبتوا ما أثبته العقل، ونفوا ما نفاه العقل، وخاضُوا فيها بالتحريف والتعطيل، احتاجوا إلى تقسيم صفات الله تعالى إلى أقسام كثيرة، تتماشى مع طريقتهم المحدثة في التعطيل، فخاضوا في تلك التَّقاسيم واختلفوا واضطربوا فيها اضطرابًا كبيرًا …
ص ١٠١
والمقصود هنا أن السَّلف الأوائل لم يتطرّقوا لهذه المباحث والتقسيمات، وإنما يثبتون ما وردت به النُّصوص دون أن يفرّقوا بين صفة وأُخرى، ولا يقولون هذه صفة خبرية، وهذه صفة معنوية، وهذه كذا وهذه كذا.
ص ١٠٢
وهاهنا تنبيه على أمر وهو أن بعض تلك التقاسيم للصفات لها الصحة والنظر؛ ولكن أحببتُ أن أذكر في هذا الفصل منشأ هذا التقسيم، وأنه نشأ من أهل الكلام مِن مُعطّلة الصفات وغيرهم، وأن السلف الأوائل لم يتكلموا فيه، ولا ذكروه في مُصنفاتهم - حسب علمي - فأراحوا أنفسهم وغيرهم من الخوض والاختلاف في ضبطه، ولهذا لم أتطرق بذكره في هذا الكتاب. والله أعلم.
ص ١٠٣
فصل: لا مدخل فى صفات الله تعالى للرأي ولا القياس
قال محمد بن أسلم الطوسي (242 هـ) رحمه الله وهو يتكلم عن أهل البدع: ضلوا عن جهة قياسهم، يقيسون على الله دينه، والله لا يقاس عليه دينه، فما عُبدت الأوثان والأصنام إلا بالقايسين، فاحذروا يا أمة محمد القياس على الله في دينه واتبعوا ولا تبتدعوا، فإنَّ دين الله استنان واقتداء واتباع، لا قياس ولا ابتداع.
[«الحلية» (238/9)]
ص ١٠٤
المبحث الرابع: ما نفاه الله تعالى عن نفسه من الصفات
نُصوصُ الصفات الواردة اشتملت على النَّفِي والإثبات: كما وصف الله تعالى نفسه في كتابه ووصفه نبيه في سنته بصفات الكمال، فقد جاء كذلك في القرآن والسُّنة نفي صفات النَّقص. فالقرآن والسنة اشتملتا على باب النفي والإثبات.
ومن أمثلة الصفات المثبتة:
قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البَقَرَة: 231]. وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ [الحج: 75] وغيرها من النصوص.
ومن أمثلة الصفات المنفية: قال تعالى: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255].
ص ١٠٧
ضابط النَّفي عند أهل السنة والجماعة ما اجتمع فيه أمران:
1 - نفي النقص.
2 - ونفي مماثلة غيره له في صفات الكمال.
[انظر: «منهاج السنة» (187/2)]
أما المُعطلة من الجهمية،وغيرهم، فضابط النَّفي عندهم هو: (التشبيه)! فنفوا جميع صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة، بحُجَّةِ أن في إثباتها تشبيه الله تعالى بخلقه!!
ص ١٠٨
طريقة القُرآن والسُّنَّة في صِفاتِ اللهِ تعالى: الإجمال النَّفي، والتفصيل في الإثبات: فهذا هو المنهج الذي جاءت به الرُّسل، ودَلَّ عليه القرآن والسنة، وسَارَ عليه السَّلف … وأما النفي والتنزيه؛ فإنه جاء على طريق الإجمال، فقال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ﴾ [الشورى: 11]، وقال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65]، وقال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 4] … وأما الجهمية والمعطلة فخالفوا؛ فأخبروا بإثباتِ مُجمل، ونفي مفصل.
[انظر: كتاب «النفي في باب الصفات» (ص166)، ودرء التعارض (163/5)، و«الصواعق المرسلة» (1369/4)]
ص ١٠٨ - ١٠٩
النَّفي المُجرد عن الإثباتِ ليسَ فِيهِ مَدح:
قال ابن تيمية رحمه الله في التدمرية (353): (ينبغي أن يُعلم: أن النَّفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتًا، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال؛ لأن النفي المحض عدم محض، والعدم المحض ليس بشيء، وما ليس بشيء فهو كما قيل: ليس بشيء؛ فضلًا عن أن يكون مدحًا، أو كمالًا، ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع، والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال.
فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النَّفي متضمنا لإثبات مدح؛ كقوله: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْم﴾، إلى قوله: ﴿وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] فنفي السِّنة والنَّوم: يتضمن كمال الحياة والقيام؛ فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم…).
وانظر: «الدرء» (176/6)، و ( الصواعق المرسلة» (1369/4)]
ص ١٠٩
النَّفي توقيفي يَحتاج إلى دليل كالإثبات:
وهذه من الأمور المهمة التي يجب التنبه لها، فإن السلف - رحمهم الله تعالى - كما لا يثبتون إلا ما ثبت بالشرع، فكذلك لا ينفون إلا ما نفاه الشَّرع، فليس عمدتهم في النَّفي: عدم ورود النصّ، كما يتوهمه بعضهم؛ فينفي عن الله تعالى بعض الصفات التي لم ترد في الكتاب والسنة بحُجَّة عدم ورودها!
ص ١١٠
قال ابن عقيل في «الكفاية»: (فصل عجيب يخفى على كثير من الأصوليين؛ وذلك أنّه لا يجوز الإغراق في الإثبات مُجاوزة لما أثبته الشرع، ودلّ عليه، كذلك لا يجوز الإغراق في النفي، ولا الإقدام على نفي شيء عن الله إلا بدليل؛ لأن النفي أيضًا لا يؤمن معه إزالة ما وجب له سبحانه، فالنفي يحتاج إلى دليل كما أن الإثبات يحتاج إلى دليل، كما أن إثبات ما لا يجب له كفر، فنفي ما جوز عليه خطأ وفسق، ومثال ذلك: أن يغرق هؤلاء الخطباء والقُصَّاص في نفي النَّقائص ثم يدرجون فيها ما وردت به السنن، ويقولون: ليس بفوق، ولا تحت ولا يدرك، ولا يعلم، ولا يعرف، ولا، ولا .. فَرُبما ساقوا في نفيهم نفي صفة وردت بها السنن).
ص ١١١
المبحث الخامس: الإخبار عن الله تعالى
أجمع أهل السُّنة على أن أسماء الله تعالى وصفاتِهِ توقيفية لا نُثبت إلَّا ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له نبيه ﷺ، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: .. لا نتجاوز القرآن والسنة.
ص ١١٤
أما باب الإخبار عن الله؛ فهو أوسع من باب الأسماء والصفات.
فقد أطلق الله تعالى على نفسه أفعالا في كتابه، كـ: (الصُّنع)، و(الصبغة)، و(الفعّال)، و(المريد)، ونحوها.
قال تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النَّمل: 88] .
وقال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ [البقرة: 138].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود: 107].
فما يُشتق من هذه الصفات: كالمريد من الإرادة، والمُتكلّم من الكلام، والشّائي من المشيئة، والصانع من الصنع … ونحو ذلك؛ لا يجوز إطلاقها في حقّ الله تعالى؛ لا اسمًا ولا وصفًا؛ ولكن يجوز الإخبار بها عن الله تعالى إذا كانت خالصةً في الدّلالة على ما يمدح الله عز وجل، دون الوصف والتسمية، فتقول مُخبرًا لا مُسمّيًا ولا واصِفًا: الله مُريد للخير، وشائي البرِّ، ومُتكلّم بالحقِّ، ونحو ذلك مُقيّدة.
أما إذا استعملت هذه الألفاظ في سياق المدح والثناء؛ فيجوز أن يُخبر ويُوصف الله تعالى بها، فتقول مُخبرًا وواصفًا: الله موصوف بأنه يُريد الخير واليُسر، ويشاء البِرّ، ويتكلّم الصدق، ونحو ذلك.
وتقول مخبرا: الله يُريد نفع العباد، ويشاء الخير، ويتكلم بالصدق.
ص ١١٥
قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد» (1/ 284):
(ما يدخل في باب الإخبار أوسع مما يدخل في باب أسمائِهِ وصفاته:
كـ (الشَّيء)، و(الموجود) و (القائم بنفسِهِ)؛ فإن هذا يُخبر به عنه، ولا يدخل في أسمائه الحسنى، ولا صفاته العلى.
وقال: إن ما يُطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يُطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كـ (القديم)، و(الشيء) فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية؟ أو يجوز أن يطلق عليه منها بعض ما لم يَرِد به السَّمع).
ص ١١٥
ما رُوي في السُّنّة من باب الإخبار عن الله تعالى:
1 - الإخبار عن الله تعالى بأنه: (شَخْصٌ).
دلّت السنة على جواز إطلاق لفظ: (شخص) على الله تعالى من باب الإخبار.
وقد بوّب على ذلك أهل السنة في مصنفاتهم، ومِن ذلك:
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في (كتاب التوحيد): (20/باب: قول النبي ﷺ: «لا شَخص أغيرُ مِن الله…» الحديث.
…
2 - الإخبار عن الله تعالى بأنه: (شيء).
دلّ الكتاب والسنة على جواز إطلاقِ لفظ: (شيء) على الله تعالى، أو على صفة من صفاته، من باب الإخبار عنه.
وعلى ذلك بوب أهل السنة في مصنفاتهم.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه في (كتاب التوحيد)، (21/ باب ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَدَةٌ قُلِ اللَّهُ﴾ [الأنعام: 19]، فسمَّى الله نفسه شيئًا: ﴿قُلِ الله﴾ [الأنعام: 64] وسمَّى النبي ﷺ القرآن شيئًا، وهو صفة من صفات الله، وقال: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88].
ص ١١٨ - ١١٩
ما جاء عن السلف الصالح من باب الإخبار عن الله تعالى:
من أمثلة ذلك:
1 - قول أهل السُّنة الله فوق العرش (بذاته):
وقد نطق بهذا القول أئمة أهل السنة في إثبات استواء الله تعالى على عرشه لمَّا قالت المعطلة: استواؤه على عرشِهِ من باب المجاز لا الحقيقة!
قال ابن القيم رحمه الله: (إنّ الجهمية لما قالوا: إن الاستواء مجاز، صرح أهل السنة بأنه مستو بذاته على عرشه).
[«مختصر الصواعق» (902/3)]
…
وممن صرح بذلك من أهل السنة عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)، وأبو محمد بن أبي زيد القيرواني شيخ المالكية (386 هـ)، ويحيى بن عمار السجزي (442 هـ)، وأبو عُمر الظلمنكي (429 هـ)، وأبو نصر السجزي (444 هـ) في كتاب الإبانة له فإنه قال: وأئمتنا: كالثوري، ومالك، والحمادين وابن عيينة وابن المبارك، والفضيل وأحمد، وإسحاق؛ مُتفقون على أن الله فوق العرش (بذاته)، وأن علمه بكل مكان).
…
2 و 3 - الإخبار عن الله تعالى بأن له حَدًا وأنه بائن من خلقه.
قال عبد الله بن المبارك (181هـ) رحمه الله: (نعرفُ رَبَّنا عز وجل فوق سبع سماوات على العرش، بائنا من خلقِهِ (بحدٌ)، ولا نقول كما قالت الجهمية هاهنا. وأشار بيده إلى الأرض).
[«السُّنة» لعبد الله بن أحمد (202)، و«النقض» للدارمي (33)]
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية» (491/3): (ثبت عن أئمة السلف أنهم قالوا: (الله حد)، وأن ذلك لا يعلمه غيره، وأنّه مُباين لخلقه وفي ذلك لأهل السنة مصنفات).
وسبب ذكر أئمة السلف الصالح الحدَّ الله تعالى:
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (443/1): ( .. لما كان الجهمية يقولون ما مضمونه: إن الخالق لا يتميّز عن الخلق، فيجحدون صفاته التي تميّز بها، ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة - إذا عرفوا أنه حي عالِمٌ قدير - قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون: إنه لا يُباين غيره، بل إمّا أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولوا: لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا كذا، ولا كذا، أو يجعلوه حالا في المخلوقات، أو وجود المخلوقات.
فبين ابن المبارك أن الرَّبِّ سبحانه وتعالى على عرشِهِ، مُباينُ لِخَلقِهِ، مُنفصل عنه، وذكر الحدّ؛ لأن الجهمية كانوا يقولون: ليس له حد، وما لا حد له لا يباين المخلوقات، ولا يكون فوق العالم، لأن ذلك مستلزم للحد. فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شيءٍ عبد الله بن المبارك: بماذا نعرفه؟
قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.
فذكروا لازِمَ ذلك الذي تنفيه الجهمية، وبنفيهم له ينفون ملزومه الذي هو موجود فوق العرش، ومباينته للمخلوقات، فقالوا له: بحد؟ قال: بحدّ. وهذا يفهمُهُ كُلِّ مَن عرف ما بين قولِ المؤمنين أهل السنة والجماعة، وبين الجهمية الملاحدة من الفرق).
قلت: وممن أثبت البينونة والحدّ من أئمة أهل السنة وغيرهم:
ابن المبارك، والحميدي، وأحمد، وإسحاق، وحرب الكرماني بن أحمد، والخلال، والدارمي وابن بطة، وابن منده، وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم ممن يطول ذِكرُهُم هاهنا.
ص ١٢٠ - ١٢٣
المُتعيِّن على السُّني ترك التوسع في باب الإخبار، وأن يكون مُتَّبعًا لمن كان قبله من علماء أهل السنة والأثر؛ فينطق بما نطقوا به، ويسكت عما سكتوا عنه، أو نَهَوا عن الخوض في الكلام فيه.
قال البربهاري رحمه الله في شرح السنة (86): (واعلم أن النَّاسَ لو وقفوا عند محدثات الأمور، ولم يُجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلاما مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله ﷺ، ولا عن أصحابه: لم تكن بدعة).
قال ابن تيمية رحمه الله درء التعارض (1/ 271): (والمقصود هنا: أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المُبتدعة المُجملة المُشتَبِهة، لما فيها من لبس الحقِّ بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلافِ والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة، والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثورًا حصلت به الألفة وما كان معروفًا حصلت به المعرفة، كما يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: إذا قلّ العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء. فإذا لم يكن اللفظ منقولا، ولا معناه معقولا ظهر الجفاء والأهواء).
ص ١٢٤ - ١٢٥
المبحث السادس: لا اختلافَ بَينَ السَّلَفِ في مَسَائل الاعتقاد ومنها: إثبات الصفات وإمرارها كما جاءت
نقل غير واحد من أهل العلم اتفاق السَّلف الصالح على مسائل الاعتقاد، وأنّه لم يخالفهم فيها إلا أهل الأهواء والبدع ممن اتبع غير سبيل المؤمنين.
ص ١٢٧
قال محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) رحمه الله: لقيتُ أكثر من ألف رجل من أهل العلم أهل الحجاز، ومكة، والمدينة، والكوفة .. لقيتهم كرَّاتٍ قرنًا بعد قرن .. أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنةً ثم ذكر أسماء أهل العلم الذين التقى بهم في تلك الأمصار ثم قال: واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصرًا .. فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء: .. وذكر عقيدة أهل السنّة ومنها قوله: وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ الآية [الأعراف: 54].
[رواه اللالكائي (172)]
ص ١٢٧
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم - رحمهما الله -: سألت أبي (277 هـ)، وأبا زرعة (264 هـ) عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك.
فقالا: أدركنا العُلماء في جميع الأمصار: حجازًا، وعراقًا، وشامًا، ويمنًا، فكان من مذهبهم .. وذكرا اعتقاد أهل السنة في أكثر أبواب الاعتقاد، ومنها:
وأن الله عز وجل على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ بلا كيف، أحاط بكلِّ شيءٍ علمًا ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وأنه تبارك وتعالى يرى في الآخرة .. ويسمعون كلامه كيف شاء، وكما شاء … إلى آخر العقيدة.
[رواه اللالكائي (321)]
ص ١٢٨
قال أبو المظفر السمعاني (489 هـ) رحمه الله في الانتصار لأصحاب الحديث ص 45 - 49: (ومما يدل على أن أهل الحديثِ هم على الحقِّ: أنك لو طالعت جميع كتبهم المُصنفة .. قديمهم وحديثهم، مع اختلاف بلدانهم .. وجدتهم في بيان الاعتقادِ على وتيرة واحدة .. يجرون فيه على طريقةٍ لا يَحِيدون عنها، ولا يميلون فيها ..لا ترى بينهم اختلافا، ولا تَفرُّقًا في شيء ما، وإن قل.
بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحدٍ .. وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النِّسَاء: 82].
وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع: رأيتهم متفرقين مختلفين، وشيعا وأحزابًا لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يُبدع بعضهم بعضًا، بل يرتقون إلى التكفير .. وكان السبب في اتفاق أهل الحديث: أنهم أخذوا الدِّينَ مِن: الكتاب والسنة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف وأهل البدعة أخذوا الدِّين من المعقولات والآراء؛ فأورثهم الافتراق والاختلاف .. وهذا بين والحمد الله).
ص ١٢٩ - ١٣٠
قال ابن القيم (751 هـ) رحمه الله في إعلام الموقعين (83/1):
(أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصَّحابةُ في كثير من مسائل الأحكام …
ولكن - بحمد الله - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال؛ بل كلّهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم لم يَسُوموها تأويلا، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا، ولا ضربوا لها أمثالًا .. ولم يقل أحد منهم: يجب صرفُها عن حقائقها وحملها على مجازها؛ بل تلقوها بالقبول والتسليم .. وجعلوا الأمر فيها كُلها أمرًا واحدًا، وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوها عضين، وأقرُّوا ببعضها، وأنكروا بعضها من غير فُرقان مُبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقرُّوا به وأثبتوه).
[وانظر: «الصواعق المرسلة» (210/1)]
ص ١٣٢
يستدلّ بعضهم على وقوع الاختلاف في مسائل الاعتقاد ببعض المسائل الفرعية الاعتقادية؛ كاختلافِ بعض أصحاب النبي ﷺ في رؤية النبي ﷺ لربه عز وجل في الدُّنيا، فمنهم مَن أثبتها، ومنهم من نفاها.
وكالاختلاف الذي حَدثَ بين طوائف من أهل السنة العرش بعد إثباتِ حقيقة نُزولِ الله تعالى إلى السّماءِ الدُّنيا.
…
هذه المسائل التي وقع الخلاف والنزاع فيها بينهم تعتبر مسائل،فرعية وهي مُتفرّعة عن أصل من أصول مسائل السنة الكبرى، ولم يكن السَّلف يُعاملون المخالف في المسائل الفرعية معاملة المخالف في مسائل الأصول المستفيضة؛ كإثبات الرؤية، والعلو، والاستواء التي دلّ عليها الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة.
ص ١٣٢ - ١٣٣
المبحث السابع: لا اجتهاد في مسائل الاعتقاد
أجمع أهل السنة على أنّه لا خِلافَ في مسائل الاعتقاد كما تقدَّم، فقد أجمعوا كذلك على أنه لا اجتهاد فيها، وأنه لا مجال للرأي وإعمال العقل في المسائل الاعتقادية التي أجمع عليها السلف الصالح، وأنه لا يسع المسلم فيها إلَّا التَّسليم والاتباع لهم، وأنه من لم يسعه ما وسِعَهُم فلا وسَّعَ الله عليه كما قال الأوزاعي الله (157هـ): (اصبر نفسك على السُّنةِ، وَقِف حيثُ وقفَ القوم، وقُل بما قالوا، وكُف عما كفَّوا عنه، واسلك سَبيلَ سلفك الصَّالح، فإنه يسعك ما وسعهم).
[رواه اللالكائي (315)]
ص ١٣٦
وإذا فُتِحَ باب الاجتهاد في مسائل الاعتقاد؛ فلا تكاد تجد مُبتدعا على وجه الأرض؛ لأن الكُلّ مُجتهد، والكُلّ يريد الحق والأجر!
فمن اجتهد في مسألة العلو - مثلاً - وأدّاه اجتهاده إلى القول بنفي - العلوّ؛ فلا يُسمّى مُبتدعًا على قولهم؛ بل مُجتهدًا مَغفُورًا له؛ بل ومَأجورًا على اجتهاده هذا الذي نفى به علوّ الله تعالى على خلقه!!
ولا يخفى فَساد هذا القول ومخالفته لإجماع أهل السُّنة؛ لأنَّ حقيقته تعطيل باب الولاء والبراء، والأسماء والأحكام والرَّد على المُخالفِ، فليس هناك مبتدع؛ بل ولا كافِر؛ لأن الكُلَّ مُجتهد مأجور - كما زعموا!!
ص ١٣٦ - ١٣٧
والأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وأهل السنة مِن المُتقدمين والمُتأخرين في الرَّدِّ على من قال بالاجتهاد في مسائل الاعتقاد، وبيان فسادِ هذا القول كثيرة جدًّا.
ص ١٤٠
قال عُثمان الدارمي ( 280 هـ) رحمه الله في «النقض» (54): (وأما ما ذكرت من اجتهاد الرأي في تكييف صفات الله؛ فإنا لا نُجيز اجتهاد الرأي في كثير من الفرائضِ والأحكام التي نراها بأعيننا، ونسمع في آذاننا، فكيف في صفاتِ الله التي لم ترها العيون، وقصرت عنها الظنون؟).
وقال أيضًا رحمه الله: (ما خاض في هذا الباب أحدٌ ممن كانوا يُذكرون إِلَّا سقط. - فذكر الكرابيسي، فسقط حتّى لا يُذكر، وكان معنا رَجُلٌ حافظ بصير، وكان سليمان بن حرب والمشايخ بالبصرة يُكرمونه، وكان صاحبي ورفيقي - يعني: فتكلّم فيه - فسقط).
[«ذم الكلام» للأنصاري (1215)]
ص ١٤٣
قال ابن جرير (310 هـ) رحمه الله في التبصير في معالم الدين (ص 113): (قال رسول الله ﷺ: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر»، وذلك الخطأ فيما كانت الأدلة على الصحيح من القول فيه مختلِفةً غيرَ مُؤتلفة، والأصول في الدّلالة عليه مفترقةً غير متفقةٍ، وإن كان لا يخلو من دليل على الصَّحيح من القول فيه، فميز بينه وبين السقيم منه، غير أنَّه يغمضُ بعضُه غموضا يخفى على كثير من طلابه، ويلتبس على كثير من بغاتِهِ.
والآخرُ منهما غير معذورٍ بالخطأ فيه مُكلّف قد بلغ حدّ الأمر والنهي، ومُكفَّرٌ بالجهل به الجاهل، وذلك ما كانت الأدلة الدالة على صحتِهِ مُتَّفقةً غير مُفترقةٍ، ومُؤتِلفةً غير مُختلفة، وهي مع ذلك ظاهرةٌ للحواس).
ص ١٤٣
قال أبو المظفّر السمعاني (489 هـ) رحمه الله في «الانتصار لأصحاب الحديث» (ص 32 - 33): (إن الحوادث للناس والفتاوى في المعاملاتِ ليس لها حَصَرٌ ولا نهايةٌ وبالنَّاس إليها حاجة عامة، فلو لم يجز الاجتهاد في الفُروع، وطلب الأشبه بالنظر والاعتبار، وردّ المسكوت عنه إلى المنصوص عليه بالأقيسة؛ لتعطلت الأحكام، وفسدت على النَّاسِ أمورهم .. ولا بُدّ للعاميّ من مُفتِ، فإذا لم يجد حكم الحادثة في الكتاب والسنة؛ فلا بد من الرُّجوع إلى المستنبطات منهما، فوسع الله هذا الأمر وجوز الاجتهاد، ورد الفروع إلى الأصولِ لهذا النوع من الضرورة، ومثل هذا لا يوجد في المعتقدات لأنها محصورة محدودة، قد وردت النصوص فيها من الكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى أمرَ في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ باعتقادِ أشياء معلومة لا مزيد عليها ولا نُقصان عنها، وقد أكملها بقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] فإذا كان قد أكمله وأتمه .. فبماذا يحتاج إلى الرُّجوع إلى دلائل العقل.. والله أغناه عنه بفضله، وجعل له المندوحة عنه، ولم يدخل في أمر يدخل عليه منه يدخل عليه منه الشُّبهة والإشكالات، ويُوقعه في المهالك والورطات!).
ص ١٤٥ - ١٤٦
المبحث الثامن: إنكار أهل السُّنّة على مُعطلة الصفات والتصريح بأسمائهم والتحذير من مصنفاتهم
من الأبواب المهجورة عند بعض أهل العلم التَّحذير مِن مُعطلة الصِّفاتِ ومَن تأثر بهم ومَن مُصنَّفاتِهم التي بثوا فيها تأويل وتعطيل الصفات.
ص ١٥٠
الأصل الذي كان يُوزن به الرِّجالُ عِند المتقدمين من أهل السنة والأثر هو اتباعهم للسُّنةِ والعقيدةِ السَّلفيةِ الصَّحيحة التي كان عليها النَّبي وأصحابه، وليس الميزان عندهم بكثرة الرواية، والعلم والحفظ، وتصنيف الكتب والشروحات كما هو الحال عند كثير من المتأخرين!!
ص ١٥٠
قال البربهاري (329 هـ) رحمه الله: (اعلم أن العلم ليس بكثرة الروايةِ والكُتب؛ ولكن العالم: من اتبع الكتاب والسنة، وإن كان قليل العلم والكُتب، ومَن خالف الكتاب والسنة؛ فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير الروايةِ والكُتب).
ص ١٥١
قال السجزي (444 هـ) رحمه الله في رسالته في الحرف (ص 220): (فالمتبع للأثر: يجب تقديمه وإكرامه؛ وإن كان صغير السِّنِّ غير نسيب، والمُخالف له يلزمُ اجتنابه؛ وإن كان مُسِنا شريفًا).
وقال (ص216): (ومَن زاغَ عن الطَّريق، وفاوض أهل البدع والكلام، وجانب الحديث وأهله؛ استحقّ الهجران والترك، وإن كان متقدما في تلك العلوم).
وقال (ص130): (وإن زمانًا يُقبل فيه قول مَن يَرُدُّ على الله سبحانه، وعلى الرَّسول ﷺ، ويُخالف العقل، ويُعَدُّ مع ذلك إمامًا؛ لزمان صغب [أي: لا خير فيه]، والله المستعان).
[«طبقات الحنابلة» (30/2)]
ص ١٥١
وأما من وقع في البدعة، وقال بها، ودعا إليها؛ فلا يُعد عند أهل السنة من العلماء الذين يؤخذ عنهم العلم.
قال السجزي (444 هـ) رحمه الله فى رسالته في الحرف والصوت (ص 214): (وكان في وقتهم عُلماء لهم تقدّم في عُلوم، واتباع على مذهبهم؛ لكنَّهم وقعوا في شيء من البدع: إما القدر، وإما التشيع، أو الإرجاء، عرفوا بذلك؛ فانحطت منزلتهم عند أهل الحقِّ).
ص ١٥١
قال عنبسة بن سعيد الكلاعي: (ما ابتدعَ رَجُل بدعة إِلَّا غَلَّ صدره على المسلمين، واختلجت منه الأمانة. قال نعيم: فسمعه مني الأوزاعي فقال: أنت سمعته من عنبسة؟ قلت: نعم. قال: صدق، لقد كُنا نتحدث أنّه ما ابتدعَ رَجُلٌ بدعة إِلَّا سُلِبَ ورعه).
[«ذم الكلام» (932)]
ص ١٥٢
قال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (63/1): (من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه بخلافِ مَن أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يُهجر حتّى ينتهي عن إظهار بدعتِهِ، ومِن هَجْرِهِ: أن لا يؤخذ عنه العلم، ولا يستشهد).
وبين في مجموع الفتاوى (385/7) أن هذا هو مذهب الفقهاء من أهل الحديث؛ كأحمد ومالك في حكم الدَّاعية للبدعة، وأن أقل العقوبة له: (أن يُهجر فلا يكون له مرتبة في الدِّين، لا يؤخذ عنه العلم، ولا يستقضى، ولا تقبل شهادته، ونحو ذلك).
ص ١٥٣
اعلم أن التَّحذير من البدع وأهلها، والنهي عنها من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أمر الله تعالى به، وأمر به رسوله ﷺ.
قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].
ص ١٥٤
قال الأوزاعي (157 هـ) رحمه الله: (إذا جهر أهل البدع ببدعهم، وكثرت دعوتهم ودعاتهم إليها، فنشر العلم حياة والبلاغ عن رسول الله ﷺ رحمة يُعتصم بها على كُلِّ مُصِرٌ مُلحدٍ).
[«البدع لابن وضاح» (524)]
ص ١٥٤
قال عاصم الأحول (142 هـ) رحمه الله: (جلست إلى قتادة (117 هـ) فذكر عمرو بن عُبيد [إمام المعتزلة] فوقع فيه، ونال منه. فقلت له: أبا الخطاب؛ ألا أرى العُلماء يقع بعضهم في بعض! فقال: يا أحول، ألا تدري أن الرَّجلَ إذا ابتدع بدعةً، فينبغي لها أن تُذكر حتّى تحذر).
[«الكامل لابن عدي (97/5)، و تاريخ بغداد» (78/14)]
ص ١٥٤
قال المروذي: (قلتُ لأبي عبد الله - أحمد بن حنبل -: ترى للرَّجُلِ أن يشتغل بالصَّومِ والصَّلاةِ، ويسكُتَ عن الكلام في أهل البدع؟ فكلح وجهه، وقال: إذا هو صامَ وصلَّى واعتزل النَّاسَ أليس إنَّما هو لنفسه؟ قلتُ: بلى. قال: فإذا تكلَّم كان له ولغيرِهِ؛ يتكلَّمُ أفضل).
[«طبقات الحنابلة» (400/3)]
ص ١٥٥
قال محمد بن بندار السباك الجرجاني: (قلت لأحمد: إنّي ليشتدّ عليّ أن أقول: فلان ضَعِيفٌ، فلان كَذَّابٌ! قال أحمد: إذا سكت أنت وسكت أنا فمتى يَعرفُ الجاهلُ الصَّحيحَ من السَّقيمِ؟)
[«طبقات الحنابلة» (278/2)]
ص ١٥٥
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الصُّغرى» (544): (ولهذه المقالات والمذاهب رؤساءُ مِن أئِمَّةِ الضّلالِ، ومُتقدِّمون في الكفر وسوء المقال، يقولون على الله ما لا يعلمون ويعيبون أهل الحق فيما يأتون، ويتهمون الثّقاتِ في النقل، ولا يتهمون آراءَهُم في التَّأويل، قد عقدوا ألوِيَةَ البدع، وأقاموا سُوق الفتنة، وفتحوا باب البلية، يفترون على الله البهتان، ويتقولون في كتابه بالكذِبِ والعُدوان.
إخوانُ الشَّياطين، وأعداء المؤمنين، وكهف الباغين، وملجأ الحاسدين، هُم شُعوبٌ وقبائِلُ، وصُنوفٌ وطوائِفُ.
أنا أذكرُ طرفًا مِن أسمائهم، وشيئًا مِن صِفاتِهم؛ لأنَّ لهم كتبا قد انتشرت، ومقالات قد ظهرت لا يعرفُها الغِرُّ مِن النَّاسِ، ولا النَّشءُ مِن الأحداث، تخفى معانيها على أكثر من يقرؤها؛ فلعل الحدث يقعُ إليه الكتاب لرجل من أهل هذه المقالاتِ؛ قد ابتدأ الكتاب بحمد الله، والثَّناءِ عليه، والإطناب في الصَّلاةِ على النبي ﷺ، ثُم أتبع بذلك بدقيق كُفْرِهِ، وخفي اختراعِهِ وشَرِّهِ، فيظُنُّ الحدث - الذي لا علم له -، والأعجمي، والغُمْرُ مِن النَّاسِ: أَنَّ الواضعَ لذلك الكتابِ عالم مِن العُلماء، أو فقيةٌ مِن الفقهاء، ولعلَّهُ يَعتقدُ في هذه الأُمَّةِ ما يراه فيها عبدَةُ الأوثانِ، ومَن بَارِزَ الله، ووالى الشَّيطان).
ص ١٥٥ - ١٥٦
قال البربهاري رحمه الله في شرح السُّنة (9): (واعلم أن الخروج عن الطريق على وجهين:
أما أحدهما فرجل قد زَلَّ عن الطَّريق، وهو لا يُريد إلا الخير، فلا يقتدى بزلته؛ فإنه هالك.
وآخر عاند الحق، وخالف من كان قبله من المتقين؛ فهو ضَالٌ مُضلَّ شيطان مريد في هذه الأمة حقيق على من عرفه أن يُحذر الناس منه، ويُبين لهم قصَّته لئلا أحد يقع في بدعتِهِ فيهلك).
ص ١٥٦
وقد أجمع أهل السنة على هجر أهل البدع، وإذلالهم كما قال الصابوني في «عقيدته» (175): (واتفقوا .. على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ومهاجرتهم).
وأهل السنة على ترك مدحهم، بل وهجر من يمدحهم ويثني عليهم. وقد روي عن النبي الله أنه قال: «مَن وقَرَ صاحب بدعةٍ؛ فقد أعانَ على هدم الإسلام». وهو حديث حسن.
ص ١٥٧
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوی (231/28): (ومثل أئمة البدع من أهل المقالاتِ المُخالفة للكتاب والسُّنة، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة؛ فإن بيان حالهم، وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين؛ حتى قيل لأحمد بن حنبل: الرَّجلُ يصومُ ويُصلّي ويعتكف، أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟ فقال: إذا قام وصلّى واعتكف فإنّما هو لنفسه، وإذا تكلّم في أهلِ البدع فإنّما هو للمسلمين، هذا أفضل.
فبَيَّنَ أن نفع هذا عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين، ولولا من يُقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسدَ الدّين وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يُفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلَّا تبعًا، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء).
وقال في مجموع الفتاوى (414/35): (والداعي إلى البدعة مستحق العقوبة باتفاق المسلمين، وعُقوبته تكون تارة بالقتل، وتارة بما دونه؛ كما قتل السَّلف جهم بن صفوان والجعد بن درهم، وغيلان: القدري، وغيرهم، ولو قُدّر أنه لا يستحق العقوبة، أو لا يمكن عقوبته، فلا بُدَّ من بيان،بدعته والتَّحذير منها، فإن هذا مِن جُملة الأمر بالمعروف والنَّهى عن المنكر الذي أمر الله به ورسوله ﷺ.
والبدعة التي يُعدّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسُّنة مخالفتها للكتاب والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة.. والجهمية نفاة الصفات الذين يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن محمدا ﷺ لم يعرج به إلى الله، وأن الله لا علم له، ولا قدرة، ولا حياة، ونحو ذلك، كما يقوله المعتزلة والمتفلسفة ومن اتبعهم).
ص ١٥٨
لا بد من معرفة علامات أهل السنة والأثر حتى يُقتدى بهم، وعلامات أهل الرأي والبدع حتى يجتنبوا؛ فإنه ليس كُل من اشتهر بالعلم والحفظ والتصنيف فهو صاحبَ سُنة سلفيًا، وإمامًا مِن أئمة المسلمين، كما ذلك عند كثير من المتأخرين فتراهم لا يذكرون أحدا ممن اشتهر بالتصنيف إلا ووصفوه بـ (الإمام)!! وإن كان من كبار الجهمية، أو الأشاعرة، أو غيرها من الفرق. وفي المقابل فإن هؤلاء المؤوّلة لا يذكرون أهل السنة مُثبتة الصفات إلَّا ووصفوهم بالمُجسمة الحشوية، وحذروا أتباعهم منهم!!
ص ١٥٩
قال السجزي رحمه الله في رسالته في الحرف والصوت (ص 206): (فلما علم أن الأئمة على ضربين:
1 - أئمة حق ممدوحون، 2 - وأئمة ضلال مذمومون،
احتجنا أن نبين الضربين ليتبع المحقُّ، ويُهجر المُبطل.
فأئمة الحقِّ: هم المتبعون لكتاب ربهم سبحانه، المقتفون سُنةَ نبيهم، المتمسكون بآثارِ سلفهم الذين أمروا بالاقتداء بهم… ثم سمى علماء أهل السنة في كل بلدٍ من التابعين وغيرهم، ثم قال: وأما أئمة الضَّلال: فالمشركون، والمدَّعون الربوبية، والمنافقون، ثم كُلّ من أحدث في الإسلام حدثًا، وأسس بخلافِ الحديث طريقا، ورد أمر المعتقدات إلى العقليات، ولم يُعرف شُيوخه باتباع الأثر، ولم يأخذ السنة عن أهلها، أو أخذ عنهم ثم خالفهم.
وهم فرق، والأصول أربعة: القدرية والمرجئة، والرافضة، والخوارج، ثم تشعبت المذاهب من هذه الأربعة، والكُلّ ضلال.
وقال: والذي بلي كثير من أهل العلم بهم: المعتزلة، وهم أعداء الأثر وأهله… ثم ذكر أسماءهم.
ثم بلي أهل السُّنة بعد هؤلاء بقوم يدّعون أنهم من أهل الاتباع، وضررهم أكثر من ضرر المعتزلة وغيرهم، وهم: أبو محمد بن كُلَّابَ، وأبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري).
ص ١٥٩ - ١٦٠
وقال حرب الكرماني رحمه الله في عقيدته المشهورة في السنة وهو يصف أهل العلم الثقات الذي يأخذ عنهم العلم بعد الصحابة والتابعين: قال: (أو من بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم، المتمسكين بالسُّنَّةِ والمُتعلّقين بالأثر، الذين لا يُعرَفون ببدعة، ولا يُطعن عليهم بكذب، ولا يُرمون بخلاف. وليسوا أصحاب قياس، ولا رأي؛ لأن القياس في الدِّينِ باطل، والرأي كذلك، وأبطل مِنهُ.
ووصفهم بعد أن حكى أقوالهم فقال: فهذه الأقاويل التي وصفت: مذاهب أهلِ السُّنَّةِ والجماعة، والأثر، وأصحابِ الرّوايات، وحملة العلم الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم الحديث، وتعلمنا منهم السُّنَنَ؛ وكانوا أئمَّةً معروفين، ثقات، أهلَ صدق وأمانةٍ يُقتدى بهم، ويُؤخذ عنهم. ولم يكونوا أصحاب بدع، ولا خلافٍ، ولا تخليط وهو قول أئمتهم، وعلمائهم الذين كانوا قبلَهُم).
[«السنة» لحرب الكرماني (78 و90) بتحقيقي]
ص ١٦٠
أما أهل البدع من أهل الكلام فليسوا أئمة عند أهل السنة والجماعة.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله» (942/2): (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار؛ أن أهل الكلام أهلُ بدع وزيغ، ولا يُعَدُّون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنّما العلماء أهل الأثر، والتفقه فيه).
وقال قوام السنة الأصبهاني (536) رحمة الله في «الحجة في بيان المحجة» (306/1): (بيان الأمور التي يكون بها الرجل إمامًا في الدِّين، وأن أهل الكلام ليسوا من العلماء).
ص ١٦٠ - ١٦١
في مدح أهل التأويل والتعطيل والثناء عليهم أمام الخاصة والعامة؛ ضررًا وبلاءً وفتنة على المادح، والممدوح.
١- أما ضرره على المادح:
أ) في نفسه. إذ يتهم بأنَّه على مثل بدعتِهِ، وقد قال عمر رضي الله عنه: «مَن عَرَّضَ نفسه للتهمة فلا يلومَنَّ مَن أساءَ بهِ الظَّنَّ» [«الصمت» لابن أبي الدنيا (747)].
ب) في النَّاس. فإنه بمدحه للمبتدع يدلّ النَّاس على بدعتِهِ، ويروجها لهم، وبذلك سيحمل وِزرَ كُلِّ مَن اتبع هذا الممدوح الذي مدحه على ما فيهِ مِن مخالفات للعقيدة ولم يحذرهم منها.
وقد قال النبي ﷺ: «مَن دَعَا إِلى هُدًى كانَ لَهُ مِن الأَجر مِثلُ أُجُور مَن تَبِعَهُ لا يَنقُصُ ذلك مِن أَجُورِهِم شيئًا، وَمَن دَعَا إلى ضلالة كان عليهِ مِن الإثم مِثلُ آثَامٍ مَن تَبِعَهُ لا يَنقُصُ ذلِك مِن آثامِهِم شيئًا». [رواه مسلم (4831)].
قال سفيان الثوري رحمه الله: مَن جالسَ صَاحِبَ البدعة لم يسلم من إحدى ثلاث: إما أن يكون فتنة لغيره..) وذكر الباقي.
[«البدع والنهي عنها» لابن وضاح (127)]
ص ١٦١
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: (مَن أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع؛ فقد غش الإسلام). [اللالكائي (261)]
ص ١٦١
وقال الإمام أحمد رحمه الله: مَن دلَّ على صاحبِ رَأي أو بدعةٍ؛ فقد أعان على هدم الإسلام). [«طبقات الحنابلة» (133/1)]
ص ١٦١
قال البربهاري رحمه الله في شرح السنة (144): (إذا رأيت الرَّجُلَ جالسًا مع رَجُلٍ مِن أهل الأهواء؛ فاحذره، وعرّفه، فإن جلس معه بعدما علم فاتقه؛ فإنه صاحب هوى).
قلت: هذا فيمن جَالسَهُ، أو دلَّ عليهِ فقط، فكيف بمن مدحه، وأثنى عليه، وأوصى بقراءة كتبه على ما فيها من مخالفات عقدية، ولم يُنبِّه ويُحذِّر مما فيها؟! وإذا أثنى عليه ومسدحه أمام العامة فمتى يعرف الناس بدعته، ومخالفته لأهل السنة فيحذروها؟
ص ١٦٢
فإذا لم يتكلّم علماء أهل السنة فيمن خالفوا السُّنة، ووقعوا في بدع التعطيل والتأويل وغيرها من البدع، وحذروا النَّاس مِن بدعهم، ومَن كُتبهم التي نقلوا وبثوا فيها بدعهم، أو نقلوا فيها البدع عن غيرهم، فسيقول العامة: لو كان لهؤلاء مخالفات لأهل السنة في اعتقادهم لما سكت عنهم العلماء، ولحذروا الناس مِن مُخالفاتهم، ومن قراءة كتبهم. أقول: كيف والأمر لم يقتصر على السكوت عن بدعهم فقط!! بل زاد إلى مدحهم، والوصية بقراءة كتبهم دون التَّحذير مما فيها من العقائد المخالفة لأهل السنة!! بل زاد الأمر إلى الإنكار على مَن حَدْرَ أو منهم، من كُتبهم، ووصفهم له بأبشع الأوصاف!! والله المستعان.
ص ١٦٢
٢- وأما ضرره على الممدوح:
فإن ثناء المادح على الممدوح سبب في نشرِ بدعِهِ التي خالف بها أهل السنة، وبالتالي سيحمل هذا الممدوح وِزرَ كُلَّ مَن اتبعه وتأثر به، كما قال الله تعالى ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25].
قال بشر بن الحارث: كُن خيرًا لأهل البدع منهم لأنفسهم، تمنع النَّاسَ عنهم لا تكثر آثامهم). [«مختصر الحجة على بيان المحجة» (353)]
ص ١٦٤
بعض كلام أهل السنة في التَّحذير من مُعطّلة الصفات، ومن مُصنفاتهم:
12 ـ قال المروذي رحمه الله: (إن أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - ذكر حارثًا المُحاسبي (243 هـ)، فقال: حارِثُ أصلُ البلية، - يعني: حوادث كلام جهم - ما الآفة إلا حارثٌ .. حَذَّروا عن حارث أَشَدَّ التَّحذير.
قلت: إن قوما يختلفون إليه. قال: نتقدم إليهم لعلهم لا يعرفون بدعته، فإن قبلوا وإلَّا هُجروا، ليس للحارث توبةٌ، يُشْهَدُ عليه ويجحد، إنّما التوبة لمن اعترف).
[«طبقات الحنابلة» (150/1)]
ص ١٦٧
15 - قال أبو بكر المروذي رحمه الله: (سألت أبا عبد الله - أحمد ابن حنبل - عن الأحاديث التي تردّها الجهمية في الصِّفاتِ، والرُّؤية، والإسراء، وقصّة العرش. فصححها أبو عبد الله وقال: قد تلقتها العلماء بالقبولِ، نُسلّم الأخبار كما جاءت.
قال: فقلت له: إن رجُلاً اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت. فقال: يُجفى. وقال: ما اعتراضه في هذا الموضع؟ يُسلّم الأخبار كما جاءت).
[«السنة» للخلال (283)]
ص ١٦٨
18 - قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل - وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله تعالى لا يرى في الآخرة! - فغضب غضبًا شَدِيدًا ثم قال: مَن قال بأن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد كَفَرَ، عليه لعنة الله وغضبه، مَن كان مِن النَّاسِ، أليس الله عز وجل قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئذِ نَّاضِرَة إِلَى رَبها نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 22، 23]).
[«الشريعة» للآجري (577)]
ص ١٦٩
29 - قال ابن بطه (387 هـ) رحمه الله في «الإبانة» (الرد على الجهمية) (83/2): (تفهموا رحمكم الله ما جاءت به الأخبار، وما رويناه من الآثار عن السَّلفِ الصَّالحين .. الذين من تفيأ بظلهم لا يضحى … وسوءة لمن عدل عنهم وكان تابعًا ومؤتما بجهم الملعون وشيعته؛ مثل: ضرار وأبي بكر الأصم، وبشر المريسي وابن أبي دؤاد، والكرابيسي، وشعيب الحجام، وبرغوث، والنظام ونظرائهم من رؤساء الكُفْرِ، وأئمة الضَّلال الذين جَحَدوا القرآن وأنكروا السُّنة، وردوا كتاب الله وسنة رسوله، وكفروا جهارًا وعَمدًا، وعنادًا وحسدًا، وبغيًا وكفرًا، وسأبثك من أخبارهم وسوء مناهجهم، وأقوالهم ما فيه معتبر لمن غفل).
ص ١٧٠
31 - قال أبو إسماعيل الهروي (481 هـ) رحمه الله في «ذم الكلام» (402/4): (سألتُ يحيى بن عمار عن أبي حاتم بن حبان البستي، قلت: رأيته؟
قال: كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان؟! كان له علم كثير، ولم يكن له كبير دين قدِمَ علينا، فأنكر الحدَّ الله، فأخرجناه من سجستان).
ص ١٧٢
37 - وقال [ابن تيمية رحمه الله] في بيان تلبيس الجهمية (1557): (الرَّازي هو في الحقيقة يجمع البدعتين [إنكار الصِّفات وتأويلها]، فلا يتبع الحق لا في إسنادها، ولا في دلائلها؛ بل لا يفعل ذلك في دلالة القرآن، ولذلك كانت طريقته صدا عن سبيل الله، ومنعا للناس عن اتباع ما جاء به الرسول ﷺ، فإن ذلك لا يثبت إلَّا بالنَّقل وبدلالة الألفاظ، وهو دائما يطعن في الطريقين).
ص ١٧٥
38 - وقال [ابن تيمية] رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (386/13): (وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة، وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات، والرُّؤية، والقول بخلق القرآن وإنكار أن الله مريد للكائنات، وخالق لأفعال العباد، وغير ذلك من أصول المعتزلة).
ص ١٧٦
39 - وقال [ابن تيمية رحمه الله] في الدرء (31/7): (فأبو الحسين، وأمثاله من المعتزلة، وكذلك الغزالي، والرَّازي وأمثالهما من فروع الجهمية هم من أقل الناس علمًا بالأحاديث النبوية، وأقوال السلف في أصول الدين).
ص ١٧٦
40 - وقال [ابن تيمية رحمه الله] أيضًا في «الرد على المنطقيين» (ص 130) - وهو يتكلم على العزّ بن عبد السَّلام -: فيُقال لهؤلاء الجهمية الكلابية - كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله .. - إلخ).
ويقول أيضًا - وهو يتكلم عن العزّ بن عبد السلام - (ص 131): (وأبو محمد وأمثاله سلكوا مسلك الملاحدة الذين يقولون: إن الرسول لم يبين الحق في باب التوحيد، ولا بيّن للنَّاسِ ما هو الأمر عليه في نفسه!).
ص ١٧٦
42 - قال ابن عبد الهادي رحمه الله في طبقات «علماء الحديث» (350/3): (وقد طالعت أكثر كتاب «الملل والنحل» لابن حزم، فرأيته قد ذكر فيه عجائب كثيرة، ونقول غريبة، وهو يدلُّ على قوَّةِ ذكاءِ مُؤلفه، وكثرة اطلاعه؛ لكن تبين لي أنَّه جهميٌّ جَلْدٌ لا يُثبت من معاني أسماء الله الحسنى الا القليل؛ كالخالق، والحقِّ، وسائر الأسماء عنده لا تَدلُّ على معنى أصلاً: كالرَّحيم، والعليم، والقديرِ، ونحوها، بل العلم عنده هو: القدرة، والقدرة هي: العلم، وهما عينُ الذَّاتِ، ولا يدلُّ العلم على معنى زائد على الذَّاتِ المجردة أصلا، وهذا عين السفسطة والمُكابرة).
ص ١٧٦
43 - قال الشيخ حسين والشيخ عبد الله ابنا الامام محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -: (فإيَّاك أن تغتر بما أحدثه المتأخّرون وابتدعوه كابن حجر الهيتمي).
[«مجموعة الرسائل» (532/5)، و«الدرر السنية» (156/2)]
47 - وقال أيضًا [الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله] في الدرر السنية (209/3) وهو يتكلم عن الجهمية: (فهم خصوم أهل التوحيد والسُّنة إلى اليوم؛ فإياكم أن تغتروا بمن هذه حاله، ولو كان له صورة ودعوى في العلم ممن امتلأ قلبه من فرث التعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلة الصَّحيحة الصريحة شُبهات التّأويل. قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التّأويل والقياس. فصنف المتأخرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنفات؛ كالأرجوزة التي يسمونها: «جوهرة التوحيد»؛ وهي إلحاد وتعطيل، لا يجوز النظر إليها، ولهم مُصنفات أُخرُ، نَفَوا فيها علو الرب تعالى؛ وأكثر صفات كماله نفوها، ونفوا حكمة الرب تعالى).
ص ١٧٨
48 وقال أيضًا [الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله]: (والسَّنوسي، وأمثاله من المتأخرين، ليسوا مِن السَّلف، ولا من الخلف المعروفين بالنَّظر والبحث، بل هو من جهلة المتأخرين، المُقلّدين لأهل البدع، وهؤلاء ليسوا من أهل العلم. أما ابن حجر الهيتمي فهو مِن مُتأخري الشَّافعية، وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات).
[«مجموعة الرسائل» (371/4)، الدرر السنية» (225/3)]
ص ١٧٨
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ الله رحمه الله في «الدرر السنية» (3/ 270) - وهو يتكلّم عن البيضاوي -: (وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم. والحق خلاف ذلك).
ص ١٧٩
50 - قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله في «البيان المبدي لشناعة القول المجدي» (ص 67) - وهو يتكلّم عن ابن حجر الهيتمي -: (إن هذا الرجل ممن أعمى الله بصيرته، وأضلّه على علم، قد انقدحت في قلبه الشبهات وصادف قلبًا خاليًا، فهو لا يقبل إلَّا ما لفقوا مِن الترهات، وما فاض من غيض ذوي الحسد والحقد والتمويهات…) إلخ.
ص ١٧٩
51 - وقال أيضًا [الشيخ سليمان بن سحمان] رحمه الله فى «الصواعق المرسلة الشهابية» (ص 214):
(فإذا تحققت مما ذكره أهل العلم في شيخ الإسلام تبين لك أن السبكي هو الذي خرج عن الصِّراط المستقيم، وخالف ما عليه الأئمة من علماء المسلمين، وأنه هو الذي ابتدع ما لم يقله عالم قبله، فصار بافترائه وعدوانه مثلةٌ بين أهل الإسلام ممن له معرفة بالعلوم ومدارك الأحكام، فلا يلتفت إلى مفترياته عاقل ولا ينظر في أساطيل أساطيرها فاضل).
ص ١٧٩
52 - وقال [الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله] في تعليقه على كلام رشيد رضا في تعليقاته على رسائل أئمة الدعوة (ص 141 - 142): (قوله في صفحة (88) على قوله في الحديث القدسي: «كنت سمعه الذي يسمع به ..» الحديث. فذكر كلام النووي وهو كلام باطل من التأويلات المبتدعة، فلا يُعول عليه).
ص ١٧٩
53 - قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في «الفتاوى» (201/1): (في تعليقه على قول البهوتي في «الروض المربع شرح زاد المستقنع» (الرحمن الرحيم) قال: الموصوف بكمال الإنعام أو بإرادة ذلك). هذا جرى فيه الشَّارح على آثارِ الشُّرَّاح، وهذا من اعتقاد الأشاعرة، ومن المعلوم أنه شُعبة من المذهب الجهمي الوبي.
وقد اشتهر في النفي مذاهب أربعة المعتزلة والأشاعرة، والجهمية، والماتريدية. والماتريدية قريبة من الأشعرية إلا أن بينها فروق مذكورة في مواضعها. اهـ.
ص ١٧٩
54 - قال الشيخ تقي الدين الهلالي رحمه الله: (كنت أظن أن ابن الأثير سلفي العقيدة، بريء من التعطيل والتَّجهم؛ لأني رأيت المتأخرين من المشتغلين ينقلون من كتابه: «شرح غريب الحديث»، ولما رأيت شرحه لأسماء الله الحسنى، وجدته من شرار الجهمية المعطلة).
[«سبيل الرشاد» (19/1)]
ص ١٨٠
قلت: فهذا بعض أقوال أهل السنة والجماعة في التَّحذير من أهل التأويل والتعطيل، أو ممن تأثر بهم، والتصريح بأسمائهم، والتحذير من مصنفاتهم، فتأمله، وانظر إلى حالِ كثير من المتأخرين ممن يثني على هؤلاء، ويجعلهم أئمة للمسلمين، ويوصي العامة والخاصة بقراءة كتبهم!! دون التنبيه على ما فيها من التَّحريف والتَّعطيل!! فيضلون بذلك كثيرًا مِن اتباعهم، وممن يسمعون لهم. والله المستعان.
ص ١٨٠
فصل: في تحذير السلف من كتب أهل البدع، وترك النظر فيها، والأمر بإتلافها أو إحراقها
قال أبو محمد بن أبي حاتم (327 هـ) رحمه الله: (سمعت أبي (277 هـ)، وأبا زرعة (264 هـ) يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع، ويُغلِّظَانِ في ذلك أشدّ تغليظ، ويُنكرانِ وضع الكتبِ برأي في غير آثار، وينهيان عن مجالسة أهلِ الكلامِ والنَّظرِ في كُتبِ المُتكلّمين، ويقولان: لا يُفلح صاحب كلام أبدًا).
[«شرح اعتقاد أهل السنة» للالكائي (322)]
ص ١٨١
قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله - أحمد بن حنبل - ودفع إليه رجلٌ كِتابًا فيه أحاديث مُجتمعة، ما ينكر في أصحاب رسول الله ﷺ ونحوه، فنظر فيه، ثم قال: ما يجمع هذه إلا رجل سُوء.
وسمعت أبا عبد الله يقول: بلغني عن سلام بن أبي مطيع أنه جاء إلى أبي عوانة، فاستعار منه كتابًا كان عنده فيه بلايا مما رواه الأعمش، فدفعه على أبي عوانة، فذهب سلام به، فأحرقه فقال رجل لأبي عبد الله: أرجو أن لا يضره ذلك شيئًا إن شاء الله؟
فقال أبو عبد الله: يضره؟! بل يؤجر عليه إن شاء الله).
[«السنة» للخلال (822)]
ص ١٨٢
قال الحافظ سعيد بن عمرو البرذعي: (شهدت أبا زرعة سئل عن الحارث المحاسبي، وكتبه؟ فقلت للسائل: إياك وهذه الكتب؛ هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغني عن هذه الكتب.
قيل له: في هذه الكتب عبرة. قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس، وهذه الأشياء؟! هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، فأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحيم الدبيلي، ومرة بحاتم).
[«سؤالات البرذعي» (ص562)]
ص ١٨٣
وقال ابن القيم رحمه الله في «الطرق الحكمية» (2/ 710): (لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافها. قال المروذي: قلت لأحمد: استعرت كتابًا فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه، أو أحرقه؟ قال: نعم، فأحرقه.
وقد رأى النبي ﷺ بيد عمر له كتابًا اكتتبه من التوراة، وأعجبه موافقته للقرآن. فَتمَعر وجه النبي ﷺ حَتَّى ذَهَبَ ذَهَبَ بِهِ عُمر إلى التنور فألقاه فيه.
فكيف لو رأى النبي ﷺ مَا صُنّف بعده مِن الكتب التي يعارض بها ما في القرآن والسنة؟ والله المستعان.
وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السُّنة غير مأذون فيها؛ بل مأذون في مَحْقِها وإتلافها، وما على الأمة أضر منها. وقد حَرَّقَ الصَّحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عُثمان، لمَّا خَافوا على الأُمّة من الاختلاف. فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة؟!
قال أحمد أهلكهم وضع الكتب تركوا آثار رسول ﷺ، وأقبلوا على الكلام.
قال حماد بن زيد قال لي ابن عون يا حماد؛ هذه الكتب تُضلّ.
قال أبو عبد الله: يضعون البدع في كتبهم، إنّما أحذر عنها أشدّ التحذير.
والمقصود أن هذه الكتب المشتملة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها، وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف، وإتلاف آنية الخمر، فإن ضررها أعظم من ضرر هذه، ولا ضمان فيها).
وقال في زاد المعاد (761/5): (وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها؛ فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها؛ فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها).
ص ١٨٤ - ١٨٥
قال الشيخ حمد بن عتيق (1301 هـ) رحمه الله في نصيحته لصديق حسن خان): (… واعلم - أرشدك الله - أن الذي جرينا عليه أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير، أو شرح حديثِ، اختبرناه، واعتبرنا معتقده في العلو، والصِّفاتِ والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير من المُتأخرين، أو أكثرهم، مذهب الأشاعرة الذي حاصله: نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا الباب بالتَّأويلات الموروثة عن بشر المريسي، وأضرابه من أهل البدع والضَّلالِ ومَن نظر في شروح البخاري ومسلم ونحوهما، وجد ذلك فيها، وأما ما صَنَّف في الأصول والعقائدِ فالأمر فيه ظاهرُ لذوي الألباب، فمن رزَقَه الله بصيرةً ونُوراً، وأمعن النظر فيما قالوه، وعرضه على مَا جَاء عن الله ورسوله ﷺ، وما عليه أهل السنة المحضة، تبين له المُنافاة بينهما، وعرف ذلك كما يعرف الفرق بين الليل والنهار. فأعرض عما قالوه وأَقبل على الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، ففيه الشَّفاء والمَقْنَع).
[وانظر تمام الرسالة في هداية الطريق من رسائل الشيخ حمد بن عتيق» (ص169)]
ص ١٨٦
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (من محمد بن إبراهيم إلى حضرة المكرم مدير المكتبة السعودية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم).
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛ فقد وصلني كتابكم المؤرخ (1367/5/15 هـ)، وفهمت مضمونه خصوصا إشارتكم بأنكم تودون أن لو أرسلت إليكم أسماء الكتب الممنوع توريدها لئلا تطلبوها.
وأفيدكم أن الكتب الممنوعة لا تنحصر أسماؤها، فإن كل كتاب يشتمل على باطل فإنه ممنوع).
[فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (4465)]
ص ١٨٦
فصل: الحذر من الركون إلى كُلِّ أحدٍ، والأخذ من كُلِّ كتاب؛ لأن التلبيس قد كثر، والكذب على المذاهب قد انتشر
بَوَّبَ السجزي (ت 444 هـ) رحمه الله في رسالته إلى أهل زبيد في «الرَّدِّ على من أنكر الحرف والصوت» (ص 231) وقال:
(اعلموا - رحمنا وإياكم الله سبحانه، أن هذا الفصل من أولى هذه الفصول بالضَّبط لعموم البلاء، وما يدخل على النَّاس بإهماله، وذلك أن أحوال أهل الزمان قد اضطربت، والمعتمد فيهم قد عَزَّ، ومن يبيع دينه بعرض يسير أو تحببًا إلى من يراه قد كثر والكذب على المذاهب قد انتشر.
فالواجب على كل مسلم يحب الخلاص ألا يركن إلى كلّ أحدٍ، ولا يعتمد على كُلِّ كتاب، ولا يُسلَّم عنانه إلى من أظهر له الموافقة.
…
فمن رامَ النَّجاة من هؤلاء، والسلامة من الأهواء، فليكن ميزانه الكتاب والأثر - في كُلّ ما يسمع ويرى، فإن كان عالما بهما عرضه عليهما - واتباعه للسلف.
ولا يقبل من أحدٍ قولاً إلَّا وطالبه على صحته بآيةٍ مُحكمة، أو سُنةٍ ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح.
وليكثر النظر في كتب السُّنن لمن تقدم مثل: أبي داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل السّيرجاني، وخُشَيش بن أصرم النسائي، وعروة بن مروان الرقي، وعُثمان ابن سعيد الدارمي السجستاني.
وليحذر تصانيف من تغيّر حالهم، فإن فيها العقارب، وربما تعذر الترياق، ولقد قال بعض السلف: سمعتُ من مبتدع قولًا أجتهد في إخراجه من قلبي وسمعي، ولا يتم لي ذلك.
وكان ابن طاووس يسُدُّ أذنه إذا سمع مبتدعا يتكلّم ويقول: القلب ضعيف.
وليكن مِن قَصْد من تكلَّم في من تكلَّم في السُّنّة اتباعها، وقبولها، لا مغالبة الخصوم، فإنه يُعان بذلك عليهم، وإذا أراد المغالبة ربما غُلِبَ.
وقال الحسن: المؤمن يَنشُرُ حكمة الله، فإن قُبلت منه حَمِدَ الله، وإن رُدَّت عليه حَمِدَ الله وموضع الحمد في الرَّدِّ أنَّه قد وُفِّق لأداء ما عليه.
وقال الهيثم بن جميل: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله الرّجل يكون عالما بالسُّنة، يُجادِل عليها؟ قال: لا، يُخبرُ بالسُّنة، فإن قُبلت منه، وإلا أمسك.
…
وقال النبي ﷺ: «عليكم بسُنّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإِيَّاكُم والمُحدَثات، فإن كُلّ مُحدَثَةٍ بدعة». فليحذر كُلّ مُسلم مسؤول ومناظرِ من الدُّخول فيما ينكره على غيره، وليجتهد في اتباع السنة، واجتناب المحدثات كما أمر.
وليعلم أنَّ الله سبحانه لو أراد أن يَكِل الأمر إلى النَّاس، ويأمرهم بالاجتهاد فيه برأيهم لفعل؛ لكنَّه أبى ذلك، وأمرهم، ونهاهم، ثم ألزمهم الاجتهاد في القيام بما أمروا به، واجتناب ما نهوا عنه. وأنا أرجو أن مَن تأمّل هذه الرَّسالة حقّ التّأمل، وجد فيها بتوفيق الله سبحانه شفاء غليله.
وأسأل الله تعالى أن يجعل قيامي بها لوجهه خالصًا، وأن ينفع بها من نظر فيها، إنه ولي ذلك والقادر عليه).
انتهى كلام السجزي رحمة الله.
ص ١٨٨ - ١٩١
المبحث التاسع التحذير من الكلام وأهله
قال الإمام أحمد رحمه الله في وصفه لأهل البدع: هم مُختلِفون في الكتاب، مُخالِفون للكتاب، متفقون على مُخالفة الكتاب، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويُلبسون على جُهّال الناس بما يتكلمون من المتشابه).
[«الرد على الزنادقة والجهمية» للإمام أحمد (ص170)]
ص ١٩٣
ولقد عَلِمَ أئمة الإسلام وأئمة السُّنة خطر علم الكلام على أهلِ الإسلام، فأجمعوا على النّهي عن النَّظر فيه؛ أو تعلمه أو تعليمه؛ لأنه لا يأتي بخير، ولا يُفلح صاحبه أبدًا وإن أراد بذلك نصر السُّنة، فالسنة لا تنصر بهذا العلم، إنما تنصر بالآياتِ والأحاديث والآثار، كما قال ذلك أهلُ السُّنة، ولا يُسمّى الرَّجُلُ عالِمًا إلا بتعلم كتاب الله تعالى وسنة النبي، وما كان عليه السَّلف الصالح، ولو تعلم الرَّجلُ علم الكلام والمنطق حتى وصل فيه إلى غايتِهِ؛ لم يُعدّ عالمًا.
ص ١٩٤
قال قوام السنة الأصبهاني (536) رحمه الله في «الحجة في بيان المحجة» (306/1): (بيان الأمور التي يكون بها الرجل إمامًا في الدِّينِ، وأن أهل الكلام ليسوا من العلماء).
ص ١٩٤
قال ابن عبد البر (463 هـ) رحمه الله في «جامع بيان العلم» (942/2): (أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار: أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ، ولا يُعدُّون ولا يُعدُّون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر، والتفقه فيه).
ص ١٩٤
ومما رُوي عن أئمة السُّنة ومن بعدهم في باب النهي عن الخوض في علم الكلام: …
قال عبد الرحمن بن مهدي (198 هـ) رحمه الله: (دخلتُ على مالك، وعنده رجل يسأله عن القرآنِ والقدر؟
فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عُبيد، لعن الله عمرا؛ فإنَّه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصَّحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشَّرائع؛ ولكنه باطل يدلّ على باطل).
[«مختصر الحجة على تارك المحجة» (212)]
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى (245/5): (وهذا صريح في رد الكلام والتوحيد الذي كان تقوله المعتزلة والجهمية وليس له أصل عن الصَّحابة والتابعين بخلاف ما رُوي من الآثار الصحيحة في الصفات والتوحيد عن الصَّحابة والتابعين فإن ذلك لم ينكروه، إنما أنكروا الكلام والتَّوحيد المبتدع في أسماء الله وصفاته وكلامه).
ص ١٩٥
سئل أبو جعفر الباهلي عن الخوض في الكلام: فقال: سُئِلَ الأوزاعي (157 هـ) عنه فقال: اجتنب عِلمًا إذا بلغت فيه المنتهى نسبوك إلى الزَّندقة، وعليك بالاقتداء والتقليد.
[«مختصر الحجة على تارك المحجة لأبي الفتح المقدسي (224)]
ص ١٩٦
قال الشافعي (204هـ) رحمه الله: (ما رأيت أحدًا ارتدى بالكلام فأفلح، ولأن يبتلى المرء بكل ذنب نهى الله عنه ما خلا الشرك، خيرٌ له من أن يُبتلى بالكلام).
[«الإبانة الكبرى لابن بطة (661)، و (664)، و «مختصر الحجة» (215)]
ص ١٩٦
فهذه بعض أقوال الإمام الشافعي تخلله في ذم الكلام وأهله، ولقد كان أئمة الشّافعية على ذلك كما قال الشيخ أبو الحسن الكرجي الشافعي (532 هـ) رحمه الله في كتابه «الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول»: (ولم يزل الأئمة الشَّافعية يأنفون ويستنكفون أن يُنسبوا إلى الأشعري، ويتبرَّؤون مما بَنَى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه).
[«درء التعارض» (96/2)]
قال ابن تيمية رحمه الله في «الاستقامة» (1/ 15): (الشافعي من أعظم النَّاسِ ذما لأهل الكلام ولأهل التَّغيير، ونهيًا عن ذلك، وجعلا له من البدعة الخارجة عن السُّنةَ.
ثم إن كثيرًا من أصحابِهِ عكسوا الأمر حتَّى جعلوا الكلام الذي ذمَّهُ الشَّافعي هو السُّنة، وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها).
ص ١٩٧ - ١٩٨
قال أحمد بن حنبل (241 هـ) رحمه الله: (لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلامِ إِلَّا وفي قلبهِ دَغل). [«جامع بيان العلم وفضله» (1796)]
وقال رحمه الله: (صاحبُ الكلام لا يُفلح، مَن تعاطى الكلام لم يخلُ مِن أن يتجهم). [«الإبانة» لابن بطة الرد على الجهمية) (403)]
وقال رحمه الله: (.. من تعاطى الكلام لا يخلو من بدعةٍ). [«طبقات الحنابلة» (149/1)]
وقال: (لا تجالسوا أصحاب الكلام وإن ذبوا عن السنة، لا يؤول أمرهم إلى خير). [«ذم الكلام للهروي (1273)، و ( طبقات الحنابلة» (405/2)]
ص ١٩٨
قال عبد الله بن داود الخُريبي (213 هـ) رحمه الله: (ليس الدين بالكلام؛ إنما الدين بالآثارِ). [ذم الكلام (1067)، و«الطيوريات» (1042)]
ص ٢٠٠
قال رجل لأبي عبيد القاسم بن سلام (224 هـ) رحمه الله: (ما ترى في رأي أصحاب الكلام؟ فقال أبو عبيد: لقد دلّك الله عز وجل على سبيل الرشد، وطريق الحق فقال: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، أما لك فيما دلك عليه ربك عز وجل من كلامه وسنة نبيه ﷺ ما يُغنيك عن الرجوع إلى رأيك وعقلك؟ وقد نهاك الله عز وجل عن الكلام في ذاتِهِ وصفاته إلا حسب ما أطلقه لك، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ [الأنعام 68] وقال: ﴿وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتنَا مَا لَهُم مِّن مَحيص﴾ [الشورى: 35]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتنَا لَا يَحْفَوْنَ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: 40]). [«مختصر الحجة» (693)]
ص ٢٠٠
قال إبراهيم بن أدهم (162هـ) رحمه الله: (كثرة النَّظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحقِّ من القلب).
[«الحلية» (22/8)]
ص ٢٠١
قال سهل بن عبد الله رحمه الله: (الكلام في الدِّينِ لأهل السنة بدعة، وأدنى البدعة أن يقف عن طلب العلم، وعقوبة الكلام في الدين ثلاثة أشياء عاجلة: أوّل ذلك: أنه يُرقّ الإيمان.
والثاني: لا يرى لأمر الله ونهيه في قلبه موضعًا.
والثالث: يشهد بالكفر على من تعلم يقينًا أنه أتقى الله كل منه، وأورع، وأخير عند الله).
[«مختصر الحجة» (241)]
ص ٢٠١
قال البربهاري (329 هـ) رحمه الله في «شرح السنة» (153): (وإذا أردت الاستقامة على الحقِّ وطريق أهل السنة قبلك؛ فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام، والجدال والمراء، والقياس .. فإن استماعك منهم ـ وإن لم تقبل منهم ـ يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولا؛ فتهلك، وما كانت زندقة قط، ولا بدعةٌ ولا هوى، ولا ضلالة، إلَّا من الكلام والجدال والمراء والقياس، وهي أبواب البدع والشكوك والزندقة).
ص ٢٠٢
قال أبو منصور معمر بن أحمد (418 هـ) رحمه الله: ( .. من السُّنة ترك الرَّأي والقياس في الدِّين، وترك الجدال والخصومات، وترك مفاتحة القدرية، والقياس، وأصحاب الكلام، وتركُ النظر في كُتب الكلام، وكُتب النُّجوم، فهذه السُّنة التي أجمعت عليها الأئمة).
[«الحجة في بيان المحجة» (236/1)]
ص ٢٠٢
فصل: فيمن يحتج بابن تيمية على تعلم علم الكلام المذموم والنظر فيه
يحتج بعضهم على جواز دراسة وتعلّم الكلام والخوض فيه بفعل ابن تيمية رحمه الله في رُدودِهِ على أهل الكلام ومناقشاته معهم، فقد كان يخوض معهم في كثير من المباحث الأصولية المنطقية بعباراتهم ومصطلحاتهم الفلسفية الكلامية.
ولا حُجَّة لهم في ذلك لما يلي:
١- أن أهل السنة والحديث في عصر ابن تيمية قد كرهوا منه توغله مع أهل الكلام والفلاسفة في مباحثهم الكلامية. فقد جاء في ترجمة ابن تيمية في ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (505/4): (وطوائف من أئمة أهل الحديث وحُفّاظهم وفقهائهم: كانوا يُحبون الشيخ، ويعظمونه، ولم يكونوا يُحبّون له التوغل مع أهل الكلام، ولا الفلاسفة، كما هو طريق أئمة أهل الحديث المتقدمين؛ كالشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد ونحوهم).
ص ٢٠٤
٢- أن ابن تيمية لم يخالف السلف في التحذير من الكلام.
فهو كثيرًا ما يُحذِّر منه في كتبه ورسائله، ويُبين كتبه ورسائله، ويُبيِّن مُخالفته للشرع والعقل، ويحكي اتفاق السلف على ذمّهِ، كما قال في «درء التعارض»:(173/8): (والسَّلف والأئمة كلهم ذموا الكلامَ المحدَثَ وأهله، وأخبروا أنهم يتكلمون بالجهل، ويُخالفون الكتاب والسُّنة وإجماع السلف، مع أن كلامهم جهل وضلال، مخالف للعقل كما هو مخالف للشرع).
وقال في الدرء (306/2): (فليتدبر المؤمن العالم كيف فرق هذا الكلام المحدث المبتدع بين الأمة وألقى بينها العداوة والبغضاء).
وقال: (والكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمّه، وذم أصحابه والنَّهي عنه وتجهيل أربابه، وتبديعهم وتضليلهم؛ وهو هذه الطرق الباطلة التي بنوا عليها نفي الصفات والعلو، والاستواء على العرش، وجعلوا بها القرآن مخلوقا، ونفوا بها رُؤية الله في الدار الآخرة فإنهم سلكوا فيه طرقًا غير مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة، وصريح المعقول، وكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ورسائلهم … وكلام السلف والأئمة في ذلك مشهور … وقد أفرد النَّاس في ذلك مُصنّفات؛ مثل: أبي عبد الرحمن السلمي، ومثل شيخ الإسلام أبي إسماعيل عبد الله ابن محمد الأنصاري، وسمى كتابه: «ذم الكلام وأهله»).
[نقلا من كتاب الصواعق المرسلة» (1267/4)]
ص ٢٠٦
٣- أنه اضطر إلى الرَّد على أهل الكلام بلسانهم لما كان لأهل الكلام من الشَّوكة والتَّأثير على الخاصة والعامة، فرأى أن الحاجة ملحة في كشف ضلالاتهم ومقالاتهم، فخاطبهم بلسانهم الذي يفهمونه من باب الاضطرار.
ص ٢٠٧
٤- أنه رأى أن أهل الكلام لن ينتفعوا بما عنده من الحق إلا بعد أن يُبين فساد أصولهم، ومناقضتها للدين والعقل.
فقال في مجموع الفتاوى (159/17): إن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد؛ متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء، أخذ يعارضك فيه لما قام في نفسه من الشُّبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعيًا أن الحق معه أن يبدأ بِهدَم ما عنده، فإذا انكسر، وطلب الحقَّ فأعطه إيَّاه، وإلا فما دام مُعتقدًا نقيض الحق لم يدخل الحق إلى قلبه؛ كاللوح الذي كُتِبَ فيه كلام باطل؛ أمحه أولا، ثم اكتب فيه الحق. اهـ.
قال بعض أهل العلم: فلو سلّمنا هذا فلا يجوز لغير أهل الكلام قراءة مثل هذه الردود، ولا يجوز لمن لم يتلوّث بالكلام أن يدرسه ليرد على أهله ويكفيه رَدَّ غيره…
ص ٢٠٨
فصل: في السكوت عمّا أحدثه أهل الكلام من المسائل المُحدثة في أبواب الأسماء والصفات وغيرها من أبواب السنة والاعتقاد التي لم يتكلم فيها السلف الصالح ولا الأئمة
قال سليم بن منصور بن عمر الله: كتب بشر المريسي إلى أبي: أخبرني عن القرآن، أخالق أو مخلوق؟
قال: فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم عافانا الله وإياك من كل فتنة، وجعلنا وإياك من أهل السُّنة، وممن لا يرغب بدينه عن الجماعة؛ فإنه أن يفعل فأولى بها من نعمة وإلا فهي الهلكة وليس لأحدٍ على الله بعد المرسلين حجة. نحن نرى أن الكلام في القرآن،بدعة تشارك فيه السائل والمُجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلف المجيب ما ليس عليه، ولا أعلم خالقًا إلا الله، والقرآن كلام الله). [«مختصر الحجة» (514)]
قلت: كان قولهم هذا في أوّلِ الأمرِ قبل أن يُظهر أهل البدع الكلام في القرآن ويمتحنوا النَّاسِ عليها، ويُلبسوا على النَّاس أمر دينهم، كما قال الإمام أحمد: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه؛ لم نجد بدا من مخالفتهم والرَّد عليهم.
ص ٢١١
قال أحمد بن الدورقي: (سمعت أبا النضر يقول: دعانا إبراهيم بن شكلة وأحضر المريسي؛ أراد ضرب عُنقه، فقال لنا: ما تقولون في القرآن؟
قال: فقلت: القرآن كلام الله غير مخلوق.
فقال: لما لم نقل: كلام الله، ونسكت؟
قال: قلت: لأن هذا العدو الله قال: مخلوق، فلم نجد بدا من أن نقول: غير مخلوق).
[«السنة» للخلال (134/5)]
ص ٢١٢
قال أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي (490 هـ) رحمه الله في «مختصر الحجة (2/ 537)» - بعد أن ذكر الآثار السابقة -: (فإذا كانت الشيوخ والأئمة المتقدمون ينهون عن السُّؤال فيما يعلمون جوابه، ويتحققون صوابه، فكيف بمن يتجرأ على الله - جلت قدرته - بالتكلُّفِ في دينِهِ ما لم يُنزل به سُلطانًا، ولا أرسل به بيانًا، ويسأل عن أشياء لم يتقدمه فيها إمام مذكور، ولا لها في الشريعة أصل مشهور، قد كان بالسكوت عنها أولى، وباقتفاء آثار السلف الصالح في ذلك أصوب وأحرى؛ ولكن الله يفعل ما يُريد، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة، وإن الله لسميع عليم).
ص ٢١٢
قال محمد بن جعفر بن محمد بن بيان البغدادي: (سمعت إبراهيم الحربي (285 هـ) - ولم يكن في وقته مثله - يقول - وقد سُئِلَ عن الاسم والمُسمّى -: (لي مذ أجالس أهل العلم سبعون سنة ما سمعت أحدًا منهم يتكلم في الاسم والمُسمّى).
[«السير» (359/13)]
ص ٢١٣
قال ابن بطة (387 هـ) رحمه الله «الإبانة الكبرى» (423/1):
(الله الله إخواني يا أهل القرآن ويا حملة الحديث، لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه، ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السَّلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تُكلّفوا أنفسكم ما لا قوّة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا، ولا تبحثوا عن مصون الغيب، ومكنون العلوم فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد، ولا ناقد بصيرٍ أتراكم أرجح أحلاما، وأوفر عقولا من الملائكة المقربين حين قالوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].
إخواني! فمن كان بالله مؤمنًا فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة، والجادة السابلة، والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك و تجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما نهي عنه، يقع والله في بحور المنازعة، وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه، والمخالفة لأمره، والتَّعدي لحدوده. والعجب لمن خُلِقَ من نطفة من ماء مهين فإذا هو خصيمٌ، مبين كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟ أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق؟ فسبحان الله أنى تؤفكون).
ص ٢١٤
قال ابن قدامة المقدسي (620 هـ) رحمه الله في «تحريم النظر في كتب الكلام» (ص 70): (وإيّاكم والكلام في المسائل المحدثات التي لم تسبق فيها سُنة ماضية، ولا إمام مرضي؛ فإنها بدع محدثة، وقد حذركم نبيكم المحدثات، فقال ﷺ: «إيَّاكم ومُحدَثاتِ الأمور فإِنَّ كُلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وقال ﷺ: «شر الأمور محدثاتها».
وذلك مثل مسألة: النَّقط، والشَّكل، ومسألة تخليد أهل البدع في النَّارِ، وأشباه ذلك من المحدثات، والحماقات التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام مرضي فيُستمع، فإن الخوض فيها شين، والصمت عنها زين، والمتكلم فيها مُبتدع خائض في البدعةِ مُرتكب شرّ الأُمور بشهادة الخبر المأثور، والله سبحانه وتعالى سائل من تكلَّمَ فيها عن كلامِهِ، ومطالبه بحجته وبرهانه.
قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: ما أحدث أحد في العلم شيئًا إِلَّا يُسأل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنة وإلا فهو العطب.
ومن سكت عن هذه الحماقات لم يُسأل عنها، وله في رسول الله ﷺ وصحابته رضي الله عنهم وتابعيهم أسوة حسنة.
ونحن إن شاء الله تعالى أعلم بالآثار منكم وأشدّ لها طلبا، وقد رضينا لأنفُسِنا باتباع سلفنا واجتناب المحدثات بعدهم، أفلا ترضون لأنفسكم بذلك؟ أولا يسعنا ما وسعهم، أوليس لنا في السنة سعة عن البدعة؟ ومن لم يسعه ما وسع رسول الله ﷺ وسلفه وأئمته فلا وسَّعَ الله عليه، ومن لم يكتف بما اكتفوا به ويرضى بما رضوا به ويسلك سبيلهم وكُلّ آخذ منهم فهو من حزب الشَّيطان، وإنّما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، ومن لم يرضَ الصَّراط المستقيم سلك إلى صراط الجحيم، ومن سلك غير طريق سلفه، أفضت به إلى تلفه، ومن مال عن السنة فقد انحرف عن طريق الجنَّة، فاتقوا الله تعالى، وخافوا على أنفسكم، فإنّ الأمر صعب، وما بعد الجنَّة إلَّا النَّار، وما بعد الحقِّ إِلَّا الضَّلال، ولا بعد السُّنة إلَّا البدعة، وقد علمتم أن كل محدثة بدعة، فلا تتكلموا في مُحدثة …
واتقوا - رحمكم الله - المراء، في القرآن والبحث عن أمور لم يكلفكم الله تعالى إيّاها، ولا عمل فيها، فقد رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: «المِرَاءُ في القرآنِ كُفر»، ونهى السلف رضي الله عنهم عن الجدال في الله جل ثناؤه وفي صفاته وأسمائه، وقد نهينا عن التفكير في الله عز وجل.
وقال مالك - رحمه الله ورضي عنه -: الكلام في الدِّينِ أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، ولا أحبّ الكلامَ إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين وفي الله؛ فالسُّكوت أحبُّ إليّ؛ لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدِّينِ إلا ما تحته عمل.
والذي قاله مالك رحمه الله تعالى عليه جماعة العلماء والفقهاء قديما وحديثًا من أهل الحديث والفتوى وإنّما خالف ذلك أهل البدع، فأما الجماعة فعلى ما قال مالك.
فإذا أردتم الكلامَ والتَّوسع في العلم فابحثوا في الفقه، ومسائله، وأحكامه، والفرائض، ومسائلها، والمناسخات وقسم التركات، ومسائل الإقرار، والولاء ودوره وجوه، ثم الوصايا ومسائلها، ثم المسائل التي تعمل بالجبر والمقابلة والحِساب والمساحة فلكم في هذا سعة عمّا قد نُهيتم عن الخوض فيه مما لم يتكلم فيه سلفكم، وكَرِهَهُ إمامكم، ولا يُفضي بكم إلى خير، ولا تخلون فيه من إحداث بدعة إمامكم فيها إبليس، يمقتكم الله بها، ويتبرأ منكم نبيكم من أجلها، ويفارقكم إخوانكم من أهل السنة لمفارقتكم سنة نبيكم عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام، وتُردّون عن حوض نبيكم ﷺ كما قد جاء أنه يأتي يوم القيامة قوم إلى الحوض، فيختلجون دون النبي ﷺ قال: «فأقولُ: أصحابي أصحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول: بُعدًا، وسُحقا».
أعاذنا الله وإياكم من ذلك؛ ولكن إن لزمتم سنة نبيكم ﷺ، وقبلتم وصيته، وسلكتم طريق سلفكم، وتركتم الفُضول، فكونوا على يقين من السلامة، وأبشروا بالفضل والكرامة، والخلود في دار المقامة، مع الذين أنعم الله عليهم من النَّبيين والصديقين والشُّهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا).
ص ٢١٤ - ٢١٦
فصل: اعتراف الخائضين في علم الكلام بفساده، وأنه ما زادهم إلا حيرة وشكا وندمهم في آخر حياتهم على الخوض فيه
علي بن عقيل أبو الوفاء (513 هـ): سأل رجُلٌ ابن عقيل فقال له: هل ترى لي أن أقرأ الكلام فإني أحسّ من نفسي بذكاء؟
فقال له: إن الدين النصيحة؛ فأنت الآن على ما بك مسلم سليم، وإن لم تنظر في (الجزء)، يعني الجوهر الفرد وتعرف الطفرة، يعني: طفرة النظام، ولم تخطر ببالك الأحوال، ولا عرفت الخلاء، والملاء، والجوهر، والعرض، وهل يبقى العرض زمانين؟ وهل القُدرة مع الفعل، أو قبله؟ وهل الصفات زوائد على الذات؟ وهل الاسم المسمى، أو غيره؟ وهل الرُّوح جسم، أو عرض؟ فإني أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا ذلك، ولا تذاكروه، فإن رضيت أن تكون مثلهم بإيمان ليس فيه معرفة هذا؛ فكن، وإن رأيت طريقة المتكلمين اليوم أجود من طريقة أبو بكر وعمر [رضي الله عنهما] والجماعة؛ فبئس الاعتقاد والرأي.
[«درء التعارض» (127/4)]
ص ٢١٨
الرّازي ويعرف بابن الخطيب (606 هـ):
قال في كتابه «أقسام اللذات»:
نهاية إقدام العقول عقالُ … وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشةٍ من جُسومنا … وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثِنَا طُولَ عُمرنا … سُوى أن جَمعنا فيه قيل وقالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها … رجال فماتوا والجبالُ جبال
وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه﴾ [فاطر: 10] وأقرأ في النَّفي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء﴾ [الشورى: 11] ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، ومن جرَّبَ مِثلَ تَجربتي عرف مثل معرفتي.
[«مجموع الفتاوى» (11/5)، و «نفح الطيب» (232/5)]
ص ٢١٩
قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة» (669/2): (فهذا اعتراف هؤلاء الفضلاء في آخر سيرهم بما أفادتهم الأدلة العقلية من ضدّ اليقين، ومن الحيرة والشكٍّ؛ فمن الذي شكا من القرآن والسنة والأدلة اللفظية هذه الشكاية؟ ومن الذي ذكر أنها حيّرته ولم تهده؟ أو ليس بها هَدَى الله أنبياءه ورُسُله وخير خلقه، قال تعالى لأكمل خلقه وأوفرهم عقلا: ﴿قل إن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُ عَلَى نَفْسِى وَإِن اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحَى إِلَى رَبِّي﴾ [سبأ: 50]. فهذا أكمل الخلق عقلا - صلوات الله وسلامه عليه - يُخبر أن اهتداءه بالأدلة اللفظية التي أوحاها الله إليه، وهؤلاء المتهوّكون المتحيّرون يقولون: إنها لا تفيد يقينًا ولا علمًا، ولا هدى)!!
ص ٢٢٠
من يذكر توبة أمثال هؤلاء ويُصححها - كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما - لا نراهم يمدحونهم، ويُثنون عليهم، ولا يدلون الناس على كتبهم؛ بل كتبهما طافحة بالرَّد عليهم، وتحذير النَّاس منهم، ومن بدعهم التي خَلّفوها وتركوها في فهؤلاء الذين نُقلت توبتهم من أئمة أهل البدع لا تزال كتبهم ومباحثهم الكلامية منتشرة بين الناس، ولا تزال بدعهم يتلقفها أصحابهم وأتباعهم إلى اليوم، ويُشكّكون في توبتهم، ففي مدح أمثال هؤلاء، والثناء عليهم ترويج لباطلهم الذي خلّفوه للأمة، فإنهم لم يكتبوا بعد توبتهم ما ينقض ضلالهم الذي كانوا عليه ونشروه في كتبهم ورسائلهم. وانظر إلى فعل عُمر الله مع صبيغ بن عسل الذي كان يسأل النَّاس عن متشابه القرآن.
فقد قام إليه عمر رضي الله عنه له، وحَسَرَ عن ذِراعيهِ، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: «والذي نفس عُمر بيدِهِ؛ لو وجدتك محلوقًا لضربت رأسك، ألبسوه ثيابًا، واحملوه على قتب، ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلاده، ثم ليقم خطيبًا، ثم يقول: إن صَبيغا ابتغى العلم فأخطأه».
فلم يزل وضيعًا في قومه حتَّى هلك، وكان سيد قومه.
[رواه أحمد في فضائل الصحابة» (717)، والآجري في «الشريعة » (2064)، واللالكائي (1136)]
ص ٢٢٠
قال الحسن بن شقيق: كنا عند ابن المبارك إذ جاءه رَجُل فقال له: أنت ذاك الجهمي؟ قال: نعم. قال: إذا خرجت من عندي فلا تعد إليّ. قال الرَّجلُ: فأنا تائب. قال ابن المبارك: لا، حتّى يظهر من توبتك مِثلُ الذي ظهرَ مِن بدعتِكَ).
[«الإبانة الصُّغرى» (149)]
ص ٢٢١
قال أبو حاتم محمد بن إدريس: (ولقد ذكر لأحمد بن حنبل رجل من أهل العلم، كانت له زلةٌ، وأنَّه تاب من زلَّته. فقال: لا يقبلُ الله ذلك منه حتى يُظهر التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلمنَّ أنه قال مقالته كيت وكيت وأنه تاب إلى الله تعالى من مقالته ورجع عنه، فإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبلُ. ثم تلا أبو عبد الله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا﴾ [البقرة: 160]).
[«ذيل الطبقات» (300/1)]
ص ٢٢١
والمقصود من هذا: أن هؤلاء وأمثالهم من أئمة أهل البدع ممن روي عنهم التوبة؛ أمرهم إلى الله تعالى فهو يقبل التوبة عن عباده؛ ولكن الكلام عن آثارهم التي بقيت في الأُمّة مِن من كتبهم التي نشروا فيها العقائد الفاسدة والأهواء المضلّة، ولم ينقضوها ويُبينوا فسادها بعد توبتهم، أن نحذر النَّاسَ منها، ونكشف عن ضلالها وبدعها.
ص ٢٢٢
فصل: من أسباب التخليط في مسائل الاعتقاد عند كثير من المُتأخرين: النظر في كُتُب أهل الكلام والنقل من مصنفاتهم
لما توسع كثيرٌ مِن المُتأخرين ممَّن يدَّعي اتِّباع السَّلفِ في أبوابِ الاعتقادِ مِن النظرِ في كُتب أهل التَّأويل، والنقل عنها، وحسن الظن بهم؛ راجت عليهم كثير مِن بدعهم وضلالاتهم، ولم يتفطنوا لها.
ص ٢٢٣
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ( كثرة النظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحقِّ من القلب).
[«الحلية» (22/8)]
ص ٢٢٣
وسُئِل ابن تيمية رحمه الله عن سبب وقوع بعض من له علم وعقل في بعض البدع والضلال؟
فقال: طلب الأمور العَليّة مِن غير الطرق النَّبوية؛ فقادته قسرًا إلى المناهج الفلسفية.
[«الصواعق» (996/3)]
قلت: ولهذا تجد بعض من كان على السنة وقع في البدعة بسبب: تعظيمه لأهل البدع، ومُجالسته إيَّاهم، وأخذه العلم عنهم، واغتراره بحسن سَمْتهم وخشوعهم.
ص ٢٢٤
قال هشام بن حسان: قال رَجلٌ لابن سيرين (110 هـ): إن فلانا يُريد أن يأتيك، ولا يتكلم بشيء.
قال: قل لفلان لا ما يأتيني فإن قلب ابن آدم ضعيف، وإني أخاف أن أسمع منه كلمةً، فلا يرجع قلبي إلى ما كان.
[«الإبانة الكبرى» (399)]
ص ٢٢٥
قال مغيرة: خرج محمد بن السائب وما كان له هوى، فقال: اذهبوا بنا حتى نسمع قولهم [يعني : المرجئة]، فما رجع حتى أخذ بها، وعلقت قلبه.
[الإبانة الكبرى (503)]
ص ٢٢٥
وأمثلة تأثر بعض المتأخّرين بعلم الكلام وأهله، ووقوعهم في تلبيساتهم وبدعهم كثيرة جدًّا.
…
قال ابن تيمية رحمه الله في الحموية (ص 554) - وهو يصف هؤلاء الحيارى من عُلماء أهل الكلام -: (أُتوا ذكاء، وما أتوا زكاء، وأُعطوا فهومًا، وما أُعطوا عُلومًا، وأعطوا سُمعا وأبصارًا، وأفئدةٌ، ﴿فَمَا أَغْنَى عنهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَرُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾ [الأحقاف: 26] ومَن كان عليمًا بهذه الأُمورِ: تبيّنَ له بذلك حذق السلف، وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام، ونهوا عنه، وذمّوا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلَّا بُعدًا).
ص ٢٣١
قال الشيخ حمد بن عتيق (1301 هـ) رحمه الله في «الدرر السنية» (357/3):
(وليحذر طالب الحقِّ مِن كُتب أهل البدع: كالأشاعرة، والمعتزلة، ونحوهم، فإن فيها من التشكيك والإيهام ومخالفة نصوص الكتاب والسنة، ما أخرج كثيرًا من النَّاسِ عن الصراط المستقيم، نعوذ بالله من الخذلان).
ص ٢٣١
فصل: كراهة أهل السنة لسماع كلام أهل البدع، وذكره أمام العامة
قال سفيان الثوري (161 هـ) رحمه الله: من سَمِعَ ببدعة؛ فلا يحكها لجلسائه، لا يُلْقها في قلوبهم.
[«الحلية» (34/7)، «شرح السنة» (227/1)]
ص ٢٣٢
قال حرب الكرماني (280 هـ) رحمه الله في «مسائله» (ص 427): (ذكرت عند علي بن عبد الله بعض كلامهم [يعني: الجهمية] قلت: قوم يقولون كذا ثم كذا أترون هؤلاء مسلمين؟
فقال: لو ذكر هذا رجل عند حماد وغيره من المشايخ لطردوه، وما حدثوا بشيء، يكره أن يحكى كلامهم أشد الكراهية.
قلت لعلي: ويكره أن يذكر رجل كلام أهل البدع؟
قال: نعم، لأني أخاف أن يذكره عند رجل ضعيف القلب فيقع في قلبه).
ص ٢٣٤
قال الحسن البصري: لا تجالس أصحاب الأهواء وإن ظننت أن عندك الجواب.
[«ذم الكلام» (765)]
ص ٢٣٤
قال ابن بطه في «الإبانة الكبرى» (482) مُعلِّقًا على قول النبي ﷺ: «مَن سمع منكم بخروج الدجال فليناً عنه ما استطاع؛ فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فما يزال به حتّى يتبعه لما يرى من الشبهات».
قال: (هذا قول الرسول ﷺ وهو الصادق المصدوق، فالله الله معشر المسلمين؛ لا يحملن أحدًا منكم حسن ظنَّه بنفسه، وما عهده من معرفته بصحة مذهبه، على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء، فيقول: أداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه؛ فإنهم أشد فتنةً من الدَّجَّالِ، وكلامُهُم الصقُ مِن الجَرَبِ، وأحرقُ للقلوبِ مِن اللَّهبِ، ولقد رأيتُ جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم، فجالسوهم على سبيل الإنكار والرَّدُ عليهم، فما زالتُ المباسطة وخفي المكر، ودقيقُ الكُفْرِ بهم حتى صبوا إليهم).
ص ٢٣٥
فصل: سبب رد أهل السنة على أهل البدع مع إجماعهم على النهي عن مجادلتهم وسماع كلامهم
ما ذكره بعض أهل السُّنة في مُصنفاتهم من أقوال وحجج أهل البدع، فإنما ذكروه لغرض الرَّدِّ عليهم؛ لأن المعطلة قد نشروا مذهبهم، وتكلّموا بشبههم أمام العامة والخاصة، فلبسوا على الناس أمر دينهم، فلم يجد عُلماء السنة والأثر بُدَّا مِن الرَّدّ عليهم، وكشف ضلاهم.
عن حنبل قال: (قلتُ لأبي عبد الله: إن يعقوب بن شيبة، وزكريا الشركي بن عمار إنهما أخذا عنك هذا الوقف.
قال أبو عبد الله: كنا نأمرُ بالسُّكوتِ، ونَترك الخوض في الكلام، وفي القرآن، فلما دعينا إلى أمرٍ ما كان بُدا لنا مِن أن ندفع ذاك، ونُبَيِّن من أمرِهِ مَا ينبغي).
[«السنة» للخلال (1797)]
ص ٢٣٦
قال بلال بن سعد رحمه الله: (إن المعصية إذا خفيت لم تضرَّ إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تُغيّر ضرت العامة).
[«شعب الإيمان» (99/6)]
ص ٢٣٧
وقال [الدارمي رحمه الله في «النقض»] (ص 575): (واعلموا أني لم أرَ كتابًا أجمع لحُجج الجهمية من هذا الكتاب الذي نُسِبَ إلى هذا المعارض، ولا أنقض لعرى الإسلام منه ولو وسعني لافتديت من الجواب فيه بمحال؛ ولكن خفت ألا أحدًا عنده شيء من البيان يكون ببلد ينشر فيه هذا الكلام ثم لا ينقضه على ناشرِهِ ذَبًّا عن الله تعالى ومحاماة عن أهل الغفلة من ضعفاء الرجال والنساء والصبيان أن يضلوا به ويفتتنوا أو يشكّوا في الله وفي صفاته، ولم نألكم فيه والإسلام نصحا إن قبلتم ومن لم يقبله فلينصح نفسه وأهله وإخوانه من أهل الإسلام فليعرضه على مَن بقي مِن عُلماء الحجاز والعراق ومن غَبَرَ مِن علماء خراسان حتى يستقرّ عنده،نُصحنا وخيانة هذا المعارض للإسلام وأهله، فإنه أحدث أشنع المحدثات، وجاء بأنكر المنكرات، ولا آمن على من أحدث هذا بين ظهريهم فأغضوا له عنه ولم ينكروه عليه بجد الله بعقاب من عنده، أو مسخ، أو خسف، أو حذف، فإن يصيبهم الخطب فيه أعظم مما يذهب إليه العوام؛ لأن رسول الله ﷺ قال: «سيكون في أُمّتي أُمتي مسخ؛ وذلك في قدرية وزندقية»).
ص ٢٣٨
المبحث العاشر: أهم أصول المُعطّلة التي بنوا عليها مذهبهم في تعطيل الصفات
قال ابن تيمية رحمه الله في «الفتوى الحموية» (ص 243-253): أصل هذه المقالة - مقالة التَّعطيل للصِّفاتِ -: إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود، والمشركين، وضُلال الصَّابئين، فإن أول من حُفِظَ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام - أعني: أن الله ليس على العرش حقيقةً، وأن الله معنى استوى بمعنى استولى، ونحو ذلك، هو: الجعد بن درهم، عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فُنُسِبت مقالة «الجهمية» إليه.
…
فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين، والمشركين، والفلاسفة الضَّالين هم إما من الصَّابئين، وإما من المشركين.
ثم لمَّا عُرّبت الكتب الرُّومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشَّيطان في قلوب الظُّلالِ ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم.
ولما كان في حدودِ المائة الثالثة: انتشرت هذه المقالة التي كان السَّلف يُسمّونَها مقالة: (الجهمية) بسبب بشر بن غياث المريسي، وطبقته، وكلام الأئمة مثل: مالك، وسُفيان بن عيينة وابن المبارك .. والشافعي، وأحمد، وإسحاق .. وغيرهم كثير في ذمهم، وتضليلهم…
فإذا كان أصل هذه المقالة - مقالة التعطيل والتأويل - مأخوذا عن تلامذة المشركين والصَّابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن - بل نفس عاقل - أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم، أو الضَّالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟ …).
قلت: فهذه أسانيد المعطلة في نفي الصفات والرحمه الله على العافية والسنة، ورَحِمَ الله شريك بن عبد الله إذ يقول: أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التابعين عن أصحاب رسول الله، فهم عمن أخذوا؟
[رواه عبد الله في «السنة» (494)]
ص ٢٤٢ - ٢٤٤
وأهم تلك الأصول هي:
١- تقديم العقل على النقل.
٢- الطعن في ثُبوتِ أخبار الصِّفات بأنها أخبار آحادٍ لا تُفيد.
٣- الطعن في دلالة نُصوص الصفات، بأنها أدلة لفظية، لا تفيد علما - ولا يحصل منها يقين.
٤- حمل نصوص الصفات على المجاز.
قال ابن القيم رحمه الله فى الصواعق المرسلة» (632/2): (فهذه الطواغيت الأربع هي التي فعلت بالإسلام ما فعلت، وهي التي محت رسومه وأزالت معالمه وهدمت قواعده، وأسقطت حرمة النصوص من القلوب، ونهجت طريق الطعن فيها لكل زنديق وملحد، فلا يحتج عليه المحتج بحجة من كتاب الله، أو سنة رسوله ﷺ إلا لجأ إلى طاغوت مِن هذه الطواغيت، واعتصم به واتخذه جُنّة يَصُدّ به عن سبيل الله، والله تعالى بحوله وقوته ومنه وفضله قد كسر هذه الطواغيت طاغوتًا طاغوتا على ألسنة خُلفاء رُسله، وورثة أنبيائه، فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض، ويرجمونهم بشهب الوحي، وأدلة المعقول).
ص ٢٤٤ - ٢٤٥
الأصل الأول: تقديم العقل على النقل
من أعظم أصول معطلة الصِّفاتِ: نبذهم كتاب الله تعالى وسنة نبيه وراء ظهورهم، واحتكامهم إلى أهوائهم وعقولهم الفاسدة، فجعلوها مصدر هدايتهم، وأصلا يُصار إليه عند الاختلاف، وادعوا أن نصوص الوحيين تبع لها!
…
فمدار الإثبات والنفي عندهم ما توحيه عليه عُقولهم الفاسدة، لا على النقل الصحيح الصّريح.
ص ٢٤٥
وقد صرَّحوا بذلك في كلامهم ومصنفاتهم، ومن ذلك:
قال أبو المعالي الجويني (478 هـ): إنه إذا ورد الدَّليل السَّمعي مُخالفًا لقضية العقل، فهو مردود قطعا!!
قال الزمخشري المعتزلي (538 هـ) ـ وكان يُلقب العقل بالسلطان: قال: امش في دينك تحت رايةِ السُّلطان ولا تقنع بالرواية عن فلانٍ وفلان! وقال في تفسيره: القانون الذي يُستند إليه: السنة، والإجماع، والقياس بعد أدلة العقل!!
الغزالي (الملقب بحجة الإسلام!!) (505 هـ): ألف كتابه «قانون التأويل، وبَيَّن فيه أن الفرقة الحق في أبواب التأويل: هم الذين يُقدِّمون عُقولهم عند تصادمها مع النقل. ويقول: وأما ما قضى العقل باستحالته؛ فيجب في تأويله ما ورد السَّمع به، ولا يُتصور أن يشمل السمع على قاطع مخالف للمعقول، وظواهر أحاديث التشبيه أكثرها غير صحيحة، والصحيح منها ليس بقاطع؛ بل هو قابل للتأويل.اهـ.
الرّازي (الملقب بفخر الدين!!) (606 هـ): وهو إمامهم الذي قعد لهم هذا الأصل وجعل له قانونًا، وصنف فيه المصنفات، وأدخل على مذهبه كثيرًا مِن آراء الجهمية والفلاسفة. قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة» (2/ 640): (لا يُعرف أحد مِن فِرق الإسلام قبل ابن الخطيب [يعني: الرَّازي] وضع هذا الطاغوت، وقرَّرَه، وشيّد بنيانه، وأحكمه مثله). قال الرازي: (إن نصوص الكتاب والسُّنة أدلة لفظية، لا تفيد اليقين)!! وقال: (إن العقل أصلُ النَّقل، فإذا جاء النَّقل بما يُخالف مقتضى العقل؛ قدَّمنا العقل)!
قلت: بل وصل الحال ببعضهم أن عدَّ مِن أسباب الضلال: التمسك بظواهر الكتاب والسنة وترك العقل!! كما في قول السنوسي (895 هـ): قال في «شرح الكبرى»: (أصول الكُفْرِ ستة… السادس… التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل: هو أصل ضلال الحشوية فقالوا بالتَّشبيه والجهة، عملا بظاهر قوله تعالى: ﴿أَمِنتُم مِّن فِي السَّمَاءِ﴾ [المُلكُ: 16] ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5] ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى﴾ [ص: 75]، ونحو ذلك).
قلت: فلما كانت عُقولهم مُقدَّمَةٌ عندهم على النصوص سلكوا فيها مسلكين: ١- التأويل. ٢- والتفويض. «ومن العجب أن هؤلاء المقدِّمين عُقولهم على الوحي خاضعون لأئمتهم وسلفهم، مستسلمون لهم في أمور كثيرة، يقولون هم أعلم بها منا، وعقولهم أكمل من عقولنا، فليس لنا أن نعترض عليهم، فكيف يعترض على الوحي بعقله من نسبته إليه أدق وأقل من نسبة عقل الطفل إلى عقله. وجماع الأمر: أن قضايا المعقول مشتملة على العلم، والظن، والوهم، وقضايا الوحي كُلها حق، فأين قضايا مأخوذة عن عقل قاصر عاجز عرضة للخطأ من قضايا مأخوذة عن خالق العقول وواهبها هي كلامه وصفاته»!!
[«الصواعق المرسلة» (894/3)]
ص ٢٤٦ - ٢٤٧
ردّ أهل السنة والأثر على هذا الأصل الفاسد:
قال الدارمي (280 هـ) رحمه الله في «الرد على الجهمية» (211):
(فقال قائل منهم: (لا؛ بل نقول بالمعقول).
قلنا: هاهنا ضللتم عن سَواء السبيل، ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه؛ لأن المعقول ليس لشَيءٍ واحدٍ موصوف بحدود عند جميع الناس فيقتصر عليه.
ولو كان كذلك كان راحةً للنَّاسِ، ولقلنا به ولم نَعْد، ولم يكن الله تبارك وتعالى قال: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: 53] فوجدنا المعقول عند كُلِّ حزب ما هم عليه والمجهول عندهم ما خالفهم، فوجدنا فرقكم - معشر الجهمية - في المعقول مختلفين، كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه، والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء، ولم نقف له على حد بين في كُلِّ شيء، رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن نَرُدَّ المعقولات كُلّها إلى أمر رسول الله ﷺ، وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم؛ لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم، فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم، وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يفترقوا فيه، ولم يظهر فيهم البدع والأهواء الحائدة عن الطريق.
فالمعقول عندنا ما وافق هديهم، والمجهول ما خالفهم، ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقتهم إلا هذه الآثار، وقد انسلختم منها، وانتفيتم منها بزعمكم فأنى تهتدون؟)
ص ٢٤٩
قال أبو المظفر السمعاني (489 هـ) رحمه الله في «الانتصار لأصحاب الحديث» (ص 81 - 82): (واعلم أن فصل ما بيننا وبين المبتدعة:
هو مسألة العقل؛ فإنّهم أسَسُوا دينهم على المعقول، وجعلوا الاتباع والمأثور تبعًا للمعقول.
وأما أهل السنة قالوا: الأصلَ الاتباع والعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء صلوات الله عليهم، ولبطل معنى الأمر والنهي ولقال من شاء ما شاء..).
وقال (ص 44): (غير أن الله تعالى أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثارِ؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف .. وأما سائر الفرقِ فطلبوا الدِّين لا بطريقه؛ لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم، فطلبوا الدّين من قِبَلِهِ، فإذا سمعوا شيئًا من الكتاب والسنة عرضوه على معيارِ عُقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزانِ عُقولهم ردّوه، فإن اضطروا إلى قبوله حرّفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المُستنكرة، فحادوا عن الحقِّ، وزاغوا عنه، ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السُّنة تحت أقدامهم تعالى الله عما يصفون.
وقال: وأما الكلام في أُمورِ الدِّين، وما يرجع إلى الاعتقادِ مِن طريقِ المعقول، فلم يُنقل عن أحدٍ منهم، بل عدوه من البدع والمحدثات، وزجروا عنه غاية الزجر ونهوا عنه).
ص ٢٥٠ - ٢٥١
وقد صَنَّف ابن تيمية رحمه الله كتابه الكبير «درء تعارض العقل والنقل لدحض هذا الأصل، وكسر هذا الطَّاغوت.
ص ٢٥١
قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة» (898/3):
(معارضة أمر الرسل وخبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار، فهم سلف للخَلفِ بعدهم، فبئس السَّلف، وبئس الخلف، ومن تأمّل معارضة المشركين والكفار للرُّسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوّه على خلقه وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم ..).
[وانظر كذلك (821/3) وغيرها]
ص ٢٥١
الأصل الثاني: الطعن في ثبوت أخبار الصفات بدعوى أنها أخبار آحاد لا تفيد اليقين
من طواغيت أهل التعطيل لردّ نصوص الصفات: رد أحاديث الآحاد؛ لأنّها ظنية،الثبوت وترك الاستدلال بها في المسائل العقدية التي لا يُحتج فيها إلا بالقطعيات.
فرد أهل البدع بهذه الشبهة الشَّيطانية كثيرًا من السنن والآثارِ الصحيحة المثبتة لصفات الرَّبِّ ل وغيرها من مسائل الدين؛ كأحاديث الشفاعة، وأحاديث الرُّؤية وغيرها مما يطول ذكره.
وهم مع ذلك يُعظمون الكلام ويجعلون مسائله قطعية، ويستدلون عليه بأقوال أهل الكتاب وغيرهم من المشركين، كما استدلوا على أن معنى الاستواء بالاستيلاء ببيتٍ منسوب إلى نصراني، وكما استدلوا بأقوال أبي معشر أحد دعاة الشرك وعبادة الكواكب، كما فعل الرازي في كتابه «التأسيس».
ص ٢٥٢
ومن أقوالهم في رد أحاديث الآحاد:
قال الجويني في الشامل في أصول الدين»: وقد قدمنا أن أخبار الآحاد لا يجب انقضاؤها في القطعيات. اهـ.
قال الرازي فى أساس التقديس أما التمسك بخبر الواحد في معرفة الله فغير جائز. اهـ.
ص ٢٥٢ - ٢٥٣
ولا شك أن شبهتهم في طعنهم في أحاديث الصفات بأنها أخبار آحادِ شبة شيطانية داحضة؛ فإنه لم يُنقل التفريق بين مسائل العقيدة وغيرها من مسائل الدِّين - مِن حيثُ الأخذ بالنُّصوص الشرعية - لا عن الرسول ﷺ، ولا عن صحابته، ولا التابعين ولا عن أحدٍ مِن سَلف هذه الأمة.
وإجماع السَّلفِ أهل السنة والأثرِ مِن المتقدمين والمتأخرين على الأخذ بهذه الأحاديث في بابِ الصِّفاتِ، وعدم التفريق بين المتواتر والآحاد.
ص ٢٥٣
والأدلة على قبول خبر الواحدِ العدل وأنَّها تفيد العلم كثيرة، ومنها:
عن عباد بن العوام قال: (قَدِمَ علينا شريك، فسألناه عن الحديثِ: «إِنَّ الله ينزل ليلة النّصف من شعبان»، قلنا: إن قومًا يُنكرون هذه الأحاديث.
قال: فما يقولون؟ قلنا: يطعنون فيها.
فقال: إن الذين جاءوا بهذه الأحاديث هم الذين جاءوا بالقرآن، وبأن الصلوات خمس، وبحج البيت، وبصوم رمضان، فما نعرف الله إلا بهذه الأحاديث.
وفي لفظ قال: فحدثني بنحو من عشرة أحاديث في هذا، وقال:
أما نحن فقد أخذنا ديننا عن التّابعين عن أصحاب رسول الله ﷺ، فهم عمن أخذوا؟!).
[«السُّنة» لعبد الله بن أحمد (493 و 494)]
ص ٢٥٣ - ٢٥٤
قال الشافعي (204 هـ) رحمه الله في «الرسالة» (457/1): لم أحفظ عن فقهاء المسلمين اختلفوا في تثبيت خبر الواحد. اهـ.
ص ٢٥٤
قال أبو المظفر السمعاني (489 هـ) رحمه الله في «الانتصار لأصحاب الحديث» (ص 34-37): (حُجيّة خبر الواحد) ونشتغل الآن بالجواب عن قولهم فيما سبقَ: (إن أخبار الآحادِ لا تقبل فيما طريقه العلم)، وهذا رأس شغب المبتدعة في ردّ الأخبار، وطلب الدَّليل من النظر والاعتبار.
فنقول وبالله التوفيق: إنّ الخبر إذا صح عن رسول الله ﷺ، ورواه الثقات والأئمة، وأسنده خلَفُهم عن سلفهم إلى رسول الله ﷺ، وتلقته الأمة بالقبول؛ فإنه يُوجب العلم فيما سبيله العلم هذا قول عامة أهل الحديث، والمتقنين من القائمين على السُّنة.
وإنما هذا القول الذي يُذكر: إن خبر الواحد لا يُفيد العلم بحال، ولابد مِن نقله بطريقِ التَّواتر لوقوع العلم به؛ شيء اخترعته القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه: ردّ الأخبار، وتلقَّفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قَدَم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول.
ولو أنصفت الفرق من الأمة لأقرُّوا بأنَّ خبر الواحد يُوجب العلم؛ فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كُلّ فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحدِ .. ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث ورجوعهم إليها، فهذا إجماعٌ منهم على القول بأخبار الآحاد. وكذلك أجمع أهل الإسلام - مُتقدِّموهم ومُتأخروهم - على رواية الأحاديثِ في صفاتِ الله عز وجل، وفي مسائل القدر، والرؤية .. وما أشبه ذلك مما يكثر عده وذكره.
وهذه الأشياء كُلّها علمية لا عملية، وإنما تروى لوقوع علم السامع بها، فإذا قلنا: (إن خبر الواحد بها لا يجوز أن يُوجب العلم)، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هادين مشتغلين بما لا يفيد أحدًا شيئًا ولا ينفعه … وربما يترقي هذا القول إلى أعظم من هذا؛ فإن النبي ﷺ أدى هذا الدين إلى الواحد، فالواحد من أصحابه ليؤدُّوه إلى الأمة، وينقلوا عنه، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدّي، نعوذ بالله من هذا القول الشنيع، والاعتقاد القبيح.اهـ.
ص ٢٥٤ - ٢٥٥
والكلام في الرَّدِّ على هذا الأصل الفاسد يطول، كما فعل ابن القيم رحمه الله في (الصواعق المرسلة) (4/ 1530) حيث بين فساده من خمسة وسبعين وجها، وقال: (إن هذا القول لا يجامع دين الإسلام بل مناقضته للدين معلومة بالضَّرورة بعد التأمل لحقيقته ولازمه).
[وانظر: «الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (129/1)]
ص ٢٥٦
الأصل الثالث: الطّعن في دلالة نصوص الصِّفات بأنَّها أدلة لفظية لا تفيد علما، ولا يحصل منها يقين
… أبطلوا حقيقتها بالطعن في دلالتها بدعوى أنها أدلة لفظية لا تفيد علمًا، ولا يحصل منها يقين.
فحينئذ أوجبوا معها أحد أمرين:
1 - إِمَّا التَّأويل.
2 - وإِمَّا التفويض.
وهذان الطريقان استقرّ عليهما المذهب الأشعري كما قال اللقاني (1041 هـ): وكُلُّ نص أوهم التشبيها … أوله أو فوض ورم تنزيها
والذي أوقعهم في ذلك إقحام عقولهم الفاسدة على نصوص الصفات، وتقديمها على النَّصّ كما تقدم في أصلهم الأول.
فقالوا: إن ظواهر نصوص الصِّفات مُوهمةٌ للتشبيه، وإن ظاهرها غير مراد الله تعالى؛ بل المراد منها شيء آخر غير ظاهرها! ولا بُدَّ من صرفها عن ذلك، وتأويلها لتنزيه الله عما سموه تشبيها.
فرُّوا مِن هذه الشُّبهة بسلوك طريقين: التأويل، والتفويض.
ص ٢٥٧
ومن أمثله سلوك مُتأخري الأشاعرة وغيرهم هذين المسلكين في مصنفاتهم:
النووي (676 هـ): قال في مقدمة كتابه «المجموع شرح المهذب» (25/1): (فرع) اختلفوا [يعني: أهل الكلام] في آيات الصِّفاتِ وأخبارها هل يخاض فيها بالتأويل أم لا؟ فقال قائلون: تُتأوّل على ما يليق بها، وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين. وقال آخرون: لا تُتأوّل؛ بل يُمسك الكلام في معناها، ويوكل علمها إلى الله تعالى .. وهي أسلم .. فإن دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه تأوّلوا حينئذ، وعلى هذا يُحمل ما جاء عن العلماء في هذا. قلت: وكرَّرَ هذا كثيرًا في شرحه لـ «صحيح مسلم».
ابن حجر العسقلاني (852 هـ): قال في آخر «شرح الصحيح (458/13): وإذا ثبت ذِكْر الصَّوتِ بهذه الأحاديث الصّحيحة؛ وجب الإيمان به، ثم: 1 - إما التفويض، 2 - وإما التأويل. اهـ. قلت: وعلى ذلك سار في شرحه لـ «صحيح البخاري» بين التأويل والتفويض.
ص ٢٥٨
رد أهل السنة والأثر على هذا الأصل:
قال ابن تيمية رحمه الله في «بيان تلبيس الجهمية» (490/8):
(إن هذا القول [أن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين] مضمونه جحد الرسالة في الحقيقة، وإن أقرَّ بها بلسانه؛ بل مضمونه أن ترك النَّاس بلا رسول يرسل إليهم خيرٌ من أن يرسل إليهم الرسول، وأن الرسول ﷺ لم يهتد به أحد في أصول الدين؛ بل ضلّ به الناس، وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول! وذلك أن القرآن على ما زعم هؤلاء: لا يستفاد منه عِلم، ولا حُجّة؛ بل إذا علم بالعقل شيء اعتقد، ثم القرآن إن كان موافقًا لذلك أقرَّ لكونه معلومًا بذلك الدليل الذي استنبطناه، لا لكون الرسول أخبر به، ولا لكونه أرشد إلى دليل عقلي يدلّ عليه. وإن كان الظاهر مُخالفًا للعقل اتبعنا العقل، وكان ذلك الظاهر وجوده كعدمه، إما نصَّا، وإما ظاهرا، فاحتاجوا: 1 - إما إلى التأويل؛ 2 - وإما إلى التفويض؛
لئلا يضلوا، وغيرهم ضلّ باتباع ما جاء به الرسول ﷺ، وكان مقتضيا لضلال قوم، وشفاء قوم، فكانت الطائفتان بسببه في ضلال وسعر، وإنما اهتدوا بعقلهم الذي لم يحتاجوا فيه إلى الرسول، فهذا حقيقة قول هؤلاء الملحدين).
ص ٢٥٩
قال ابن القيم رحمه الله: قالوا: الأخبار قسمان: ١- متواتر. ٢- وآحاد.
فالمتواتر وإن كان قطعي السَّند؛ لكنه غير قطعي الدلالة، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات.
والآحاد لا تُفيد العلم، فسدُّوا على القلوب معرفة الرَّبِّ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ من جهةِ الرَّسول ﷺ، وأحالوا النَّاس إلى قضايا وهمية، ومقدمات خيالية، سمّوها قواطع عقلية، وبراهين نقلية، وهي في التحقيق: ﴿كَسَرَابِ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]، ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص)!!
[«مختصر الصواعق» (1401/4)]
ص ٢٦٠
ولقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتابه «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» الرَّد عليهم في هذا الطاغوت، فذكر في نقضه ثلاثة وسبعون وجهًا من (ص 632 إلى ص 795).
ص ٢٦١
الأصل الرابع: حمل نصوص الصفات على المجاز
من أصول أهل التَّعطيل من الجهمية والأشاعرة وغيرهم في نفي حقيقة صفات الله تعالى: دعوى أن نصوص الصفات محمولة على المجاز لا على الحقيقة، فأدخلوا المجاز فيها.
وهو من طواغيتهم التي ينفون بها حقيقة صفات الله تعالى، حاولوا من خلالِهِ إبطال دلالة نصوص الكتاب والسُّنة على إثبات صفات الله تعالى، وهذه الدعوى يلجؤون إليها إذا أعيتهم الحيل في الطعن في أصل ثبوت تلك النصوص عن طريق التكذيب، أو التشكيك في الأسانيد التي نقلت بها.
ص ٢٦١
ومن أمثلة كلامهم في ذلك:
قال النووي في «شرحه لصحيح مسلم» (باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن) (792): (قوله ﷺ: «ما أَذِنَ الله لشيء ما أَذِنَ لنبي يتغنى بالقرآن»: قال العُلماء معنى: (أذِنَ) في اللغة: الاستماع .. قالوا: ولا يجوز أن تحمل هنا على الاستماع بمعنى الإصغاء؛ فإنّه يستحيل على الله تعالى (!!) بل هو مجاز، ومعناه الكناية عن تقريبه القارئ وإجزال ثوابه).
وكذا أوّل هذا الحديث في كتابه «رياض الصالحين»!! ولم يتفطن لهذا التأويل كثير ممن يقرأ هذا الكتاب على العامة في المساجد!!
قال العز بن عبد السلام في «الإشارات في المجاز»: (فإذا وصف البارئ بشيءٍ من ذلك لم يجز أن يكون موصوفا بحقيقة لأنه نقص (!!)، وإنما يتصف مجازه).
ص ٢٦٢
رد أهل السنة والأثر على هذا الأصل:
1 - قال الدارمي (280 هـ) رحمه الله في «النقض» (ص 550): (قد عرفنا - بحمد الله تعالى - مِن لغات العرب هذه المجازات التي اتخذتموها دلسة وأغلوطة على الجهال تنفون بها عن الله تعالى حقائق الصفات بعلل المجازات غير أنا نقول: لا يُحكم للأغرب من كلام العرب على الأغلب؛ ولكن نصرف معانيها إلى الأغلب حتى تأتوا بِبُرهان أنّه عنى بها الأغرب وهذا هو المذهب الذي إلى الإنصاف والعدل أقرب، لا أن تعترض صفات الله المعروفة المقبولة عند أهل البصر فنصرف معانيها بعلة المجازات إلى ما هو أنكر، ونرد على الله تعالى بداحض الحجج وبالتي هي أعوج، وكذلك ظاهر القرآن، وجميع ألفاظ الروايات تصرف معانيها إلى العموم، حتى يأتي متأوّل ببرهان بين: أنه أُريد بها الخصوص؛ لأن الله تعالى قال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبيّ مُّبِين﴾ [الشُّعَرَاء: 195]، فأثبته عند العلماء أعمّه وأشده استفاضة عند العرب، فمن أدخل منها الخاص على العام كان من الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهو يريد أن يتبع فيها غير سبيل المؤمنين).
ص ٢٦٢ - ٢٦٣
قال أبو أحمد محمد بن علي المعروف بالقصاب (360 هـ) رحمه الله:
(كُلُّ صِفةٍ وَصَفَ الله بها نفسه، أو وصفَهُ بها رسوله؛ فليست صفة مَجاز، ولو كانت صفه مجاز لتحتّم تأويلها، ولقيل: معنى البصر كذا، ومعنى السمع كذا، ولفُسّرت بغير السَّابقِ إلى الأفهام، فلما كان مذهبُ السلف إقرارها بلا تأويل، عُلم أنّها غير محمولة على المجاز، وإنّما هي حق بين).
[«السير» (213/16 - 214)]
ص ٢٦٣
قال محمد ابن القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي (526 هـ) رحمه الله في كتابه «الاعتقاد» (ص 31) وهو يتكلم عن إثبات الصفات، قال: (وإن تأوّلها على مقتضى اللُّغةِ، وعلى المجاز: فهو جهمي).
ص ٢٦٤
قال ابن رجب رحمه الله في (فتح الباري) (230/7): وزعموا [أي الجهمية] أن ما ورد في الكتاب والسُّنة من ذلك مع كثرته وانتشاره من بابِ التَّوسع والتَّجوز، وأنه يُحملُ على مَجازاتِ اللغة المُستبعدة، وهذا من أعظم أبواب القدح في الشريعة المحكمة المُطهَّرة، وهو من جنس حمل الباطنية نصوص الإخبار عن الغيوب كالمعادِ والجنَّة والنَّارِ على التَّوسُّعِ والمجاز دون الحقيقة، وحملهم نصوص الأمر والنهي عن مثل ذلك.
وهذا كلّه مُرُوق عن دين الإسلام، ولم ينه علماء السلف الصالح، وأئمة الإسلام: كالشَّافعي، وأحمد، وغيرهما عن الكلام، وحذَّروا عنه إلَّا خوفًا من الوقوع في مثل ذلك، ولو علم هؤلاء الأئمةُ أَن حملَ النُّصوص على ظاهرها كفر لوجب تبيين ذلك، وتحذيرُ الأمة منه، فإن ذلك من تمام نصيحة المسلمين، فكيف كانوا ينصحون الأمة فيما يتعلق بالأحكام العملية، ويدعون نصيحتهم فيما يتعلَّقُ بأصول الاعتقادات، هذا من أبطل الباطل).
ص ٢٦٥
ولقد بين أهل السُّنة في كُتب العقائد ضلال من أدخل المجاز في صفات الله تعالى ومنهم ابن القيم رحمه الله في كتابه «الصَّواعق المرسلة» وقد سمّى فيه المجاز طاغوتا، فقال: (فصل في كسرِ الطَّاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائقِ الأسماء والصفاتِ: وهو طاغوت المجاز).
وقال: (هذا الطَّاغوت لَهجَ به المتأخّرون، والتجأ إليه المُعطلون، جعلوه جُنَّةٌ يتتَرَّسُون بها من سهام الرَّاشقين، ويصُدُّون به عن حقائق الوحي المبين ..).
وقال: (تقسيم الألفاظ إلى: حقيقية، ومجاز، ليس تقسيما شرعيًّا، ولا عقليًّا، ولا لغويَّا، فهو اصطلاح محض، وهو اصطلاح حدث بعد القُرون الثَّلاثةِ المفضّلة بالنَّص، وكان منشؤه من جهة: المعتزلة، والجهمية، ومن سلك طريقهم من المتكلمين).
ثُم شرع في إبطاله بأكثر من خمسين وجها، وفيه الغنية والكفاية.
[انظر: مختصر الصواعق» (690/2 - 700)]
ص ٢٦٥
فصل: موقف المُعطلة من أحاديث الصفات وتحريفهم لها، وكراهتهم لسماعها وروايتها
لمَّا كانت أصول الجهمية مُنصبَّة لمعاداة نصوص صفات الله تعالى وتعطيلها عن حقيقتها اللائقة بالله تعالى فقد سلكوا فيها مسالك أُخرى لإبطالها، وصرف الناس عنها؛ فنهوا عن نشرها وقراءتها، وأخفوها وبدلوها، وحرَّفوا ألفاظها وزادوا فيها وأنقصوا منها، كل ذلك لإبطال ما دلت عليه من إثبات حقيقة صفات الله تعالى اللائقة به.
ولقد علم السَّلف حقيقة مذهبهم وما يبطنونه فسموهم: زنادقة، وقالوا: إنّما يدورون على التعطيل.
ص ٢٦٦
وَمِن أمثلةِ تَحريف الجهمية المعطلة لنصوص الصفات:
قال حنبل رحمه الله: حججت فى سنة إحدى وعشرين، فرأيت في المسجد الحرام كسوة البيت من الديباج، وهي تخاط في صحن المسجد، وقد كُتبَ في الدَّارَات: (ليس كمثله شيء وهو اللطيف الخبير)!! فلما قدمتُ سألني أبو عبد الله [يعني: الإمام أحمد] عن بعض الأخبار، فأخبرته بذلك. فقال أبو عبد الله: قاتله الله الخبيث عَمِدَ إلى كتاب الله فغيَّره - يعني: ابن أبي دؤاد - يعني أزال السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [غافر: 20].
[«طبقات الحنابلة» (386/1)]
ص ٢٦٦
قال عمرو بن عبيد المعتزلي لأبي عمرو بن العلاء - وهو أحد أئمة اللغة، وأحد القُراء السَّبعة -: أحبُّ أن تقرأ هذا الحرف: (وكلَّمَ الله موسى تكليما) ليكون مُوسى هو الذي كلَّمَ الله، ولا يكون في الكلامِ دلالة على أن الله كلَّمَ أحدًا.
فقال له أبو عمرو: فكيف تصنع بقوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾ [الأعراف: 143]؟
قال ابن القيم في (الصواعق المرسلة) (218/1): (ومن تحريف اللفظ: تحريف إعراب قوله: (وكلَّم الله) في الرفع إلى النصب، وقال: (وكلم الله) أي: موسى كلّم الله ولم يكلمه الله، وهذا من جنس تحريف اليهود بل أقبح منه. واليهود في هذا الموضع أولى بالحقِّ منهم).
ص ٢٦٧ - ٢٦٨
ومن تحريف الجهمية والأشاعرة وغيرهم:
تحريفهم (استوى) إلى (استولى)، فإن شيخهم الجهم ـ كما تقدم عنه - أراد حكها من المصحف فما استطاع، فعمدوا اتباعه الجهمية إلى حكّ معناها من قلوب العامة فزادوا فيها حَرفًا واحدًا فحرَّفوا معناها، فقالوا: (استولى)، فوافقوا شيخهم فيما أراد من عدم الإيمان بما دلّت عليه. وهذا الحرف كحرف أشياخهم اليهود أهل التحريف، فإنهم زادوا حرفًا أبطلوا به ما أمرهم الله بقوله: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: 58]، فقالوا: (حنطة).
قال ابن القيم رحمه الله في «النونية» (516/2):
١٩٢٣ - أُمِرَ اليهودُ بأنْ يَقُولُوا «حِطَّةٌ» … فَأَبَوْا وَقَالُوا: «حِنْطَةٌ» لِهَوَانِ ١٩٢٤ - وَكَذَلِكَ الجهْمِيُّ قِيلَ لَهُ «اسْتَوى» … فأبَى وَزَادَ الحَرْفَ لِلنُّقْصَانِ ١٩٢٥ - قَالَ اسْتَوى «اسْتَولَى» وَذَا مِنْ جَهْلِهِ … لُغَةً وعَقْلًا مَا هُمَا سِيَّانِ ١٩٣٠ - نُونُ اليَهُودِ وَلَامُ جَهْميٍّ هُمَا … فِي وَحْي رَب العَرْشِ زَائِدَتَانِ
ص ٢٦٩
ومن تحريف أتباع الجهمية من الأشاعرة والكلابية في تحقيقاتهم للكتب وهي كثيرة لا يمكن حصرها، ومن ذلك:
ما صنعه مصطفى البغا مُحقق «صحيح البخاري» من إسقاط حديث مُعلّق في الصحيح لا يوافق مذهبه الأشعري، وهو حديث: «لا شخص أغير من الله تعالى. تحت باب قول النبي ﷺ: «لا شخص أغيرُ مِن الله..»)، فقد ذكر البخاري رحمه الله تحته حديثين: الأول: مُعلّق، ولفظه: «لا شَخص أغيرُ مِن الله..»، وهو الموافق لما ترجم له في هذا الباب.
والآخر مُسند ولفظه: «لا أحد أغيرُ مِن الله..».
فأسقط الحديث الأول، ولما لم يستطع إسقاط الباب علق عليه بقوله:
«لا شخص» الأصح أن يُقال: «لا أحد» كما في الحديث (!!).
[انظر: كتاب «الصواعق المرسلة على تاريخ الجهمية والمعتزلة» (ص 109)]
قلت: ولفظة «لا شخص في صحيح مسلم» كما تقدم (ص119).
ص ٢٧٠ - ٢٧١
قلت: فهذا هو موقف أئمة أهل التعطيل من نصوص الصفات لما كانت لهم الشَّوكة والقوة، أما المتأخّرون منهم فإنهم لما جبنوا عن إظهار بدعتهم، والتصريح بما صرَّحَ به أئمتهم من التبديل والتحريف، وخافوا من الافتضاح والقتل، ذهبوا إلى إبقاء ظواهرها كما هي، وتسلّطوا على معانيها بالتحريف والتأويل المبتدع الذي هو نوع من التكذيب، كما قال ابن منده رحمه الله في كتابه «الرَّد على الجهمية»: التأويل عند أصحاب الحديث: من التكذيب. اهـ.
ص ٢٧١
وهذه هي وصية إمامهم الأكبر المريسي - أخزاه الله - الذي أخذوا دينهم عنه ومذهبهم في تعطيل نصوص الصفات.
قال عثمان الدارمي رحمه الله في «النقض» (ص 558): (وبلغنا أن بعض أصحاب المريسي قالوا له: كيف تصنع بهذه الأسانيد الجياد التي يحتجون بها علينا في ردّ مذهبنا مما لا يمكن التكذيب بها؟ مثل: سفيان، عن منصور، عن الزهري. والزُّهري عن سالم. وأيوب، وابن عون، عن ابن سيرين. وعمرو بن دينار، عن جابر عن النبي ﷺ وما أشبهها؟
قال: فقال المريسي: لا تردّوه فتفتضحوا؛ ولكن غالطوهم بالتأويل، فتكونوا قد رددتموها بلطف إذ لم يمكنكم ردّها بعنفٍ).
ص ٢٧١
قال ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» (216/1): (والجهمية فإنهم سلكوا في تحريف النُّصوص الواردة في الصفات مسالك إخوانهم من اليهود ولما لم يتمكنوا من تحريف نصوص القرآن حرَّفوا معانيه، وسطوا عليها، وفتحوا باب التأويل لكلِّ مُلحدِ يكيد الدِّين).
ص ٢٧٢
وقال أيضًا في الصواعق المرسلة (1036/3 - 1039) - وهو يتكلم عن بغض المعطلة لنصوص الصفات -:
(… ولهذا تجد كثيرًا من هؤلاء لا يحب تبليغ النُّصوص النبوية، أو إظهارها وإشاعتها، وقد يشترطون في أماكن يقفونها أن لا يقرأ فيها أحاديث الصِّفات، وكان بعض مُتأخّريهم وهو أفضلهم عندهم كلف بإعدام كتب السُّنة المصنّفة في الصِّفات وكتمانها، وإخفائها، وبلغني عن كثيرٍ منهم أنه كان يهم بالقيام والانصراف عند ختم صحيح البخاري وما فيه من التَّوحيد، والرَّد على الجهمية، وسُمِعَ الطعن في محمد بن إسماعيل.
وما ذنب البخاري وقد بلغ ما قاله رسول الله ﷺ.
وقال آخر من هؤلاء: لقد شان البخاري «صحيحه» بهذا الذي أتى به في آخره!!
ومعلوم أن هذه مُضادة صريحة لما يحبه الله ورسوله من التبليغ عنه، حيث يقول: «ليبلغ الشاهد الغائب» .. وقد ذَمَّ الله في كتابه الذين يكتمون ما أنزله من البينات والهدى، وهؤلاء يختارون كتمان ما أنزل الله؛ لأنه يُخالف ما يقولونه، ويعارض ما حکمت به عقولهم وآراؤهم، وهؤلاء الذين قال فيهم عمر له: إنهم أعداء السنن).
ص ٢٧٤
المبحث الحادي عشر: بطلان مذهب أهل التفويض
التفويض عند أهل البدع
«هو صرف اللفظ عن ظاهرِهِ، مع عدم التَّعرُّض لبيان المعنى المراد منه، بل يترك ويُفوّض علمه إلى الله تعالى بأن يقال: الله أعلم بمراده».
[«النظام الفريد بتحقيق جوهرة التوحيد» (ص 128)، «مذهب أهل التفويض» (ص152)]
فهؤلاء هم «أهل التَّجهيل الذين يقولون: نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها، ولا ندري ما أراد الله ورسوله منها؛ ولكن نقرأها ألفاظا لا معاني لها، ونعلم أن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهي عندنا بمنزلة: ﴿كهيعص﴾ [مريم: 1]، و ﴿حم (١) عسق﴾ [الشورى: 2،1]، و ﴿المص﴾ [الأعراف: 1] فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد فيه تمثيلا، ولا تشبيها، ولم نعرف معناه، وننكر على من تأوله ونكل علمه إلى الله».
[«الصواعق المرسلة» (422/2)]
ص ٢٧٦
فالتفويض عند المتكلمين من أهل البدع ما جمع:
1 - أن ظاهر النصوص الواردة في الصفات غير مراد.
2 - أن النصوص مجهولة المعنى بالنسبة لنا، فيكون الإيمان بِمُجرَّدِ الألفاظ الواردة، من غير اعتقاد ما دلّت عليه.
وقد بنى المفوضة مذهبهم الباطل على أصلين:
1 - أن هذه النُّصوص من المتشابه.
2 - أن للمُتشابه تأويلا لا يعلمه إلا الله تعالى.
[«الصواعق المرسلة» لابن القيم (423/2)]
ص ٢٧٧
تنبيه: يطلق بعض أهل السنة لفظ (التَّفويض)، ويريدون به: تفويض كيفية الصفة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى؛ كقول البربهاري رحمه الله تعالى في «شرح السُّنة» (50) بعد ذكر أحاديث الصفات: (فعليك بالتسليم والتصديق، والتَّفويض، ولا تُفسِّر شيئًا من هذه بهواك ..).
ص ٢٧٧
حقيقة مذهب المفوّضة
(اعلم أن حقيقة مذهب المفوضة لمعاني نصوص الصفات:
هو تعطيل الرَّبِّ عز وجل عن صفات الكمال، ونعوت الجلال، فالتفويض أخو التَّأويل الباطل الذي يتضمن تعطيل الصفات، وتحريف النصوص كما سيأتي.
فالمفوض «لا يُثبت الله الصِّفات، بل ينفيها؛ لأنه يقول: ظاهر نصوص الصفات غير مُرادٍ، فهو ينفي: العُلو، والاستواء، والنزول، واليدين والغضب والرّضا، ونحوها من الصفات؛ ويقول: إن النصوص لا تدلّ على هذه، وهي غير مُرادةٍ منها، وأن المراد غير معلوم، فقد وقع المفوّض في التعطيل من هذه الجهة من حيث لا يشعر، كما وقع في الجهل بصفات الله وتجهيل السلف»).
[«الماتريدية وموقفهم من توحيد الأسماء والصفات» (196/2)]
ص ٢٧٧ - ٢٧٨
ذكر الحجج والأدلة على فَسَاد قول المُفوّضة وضلاله
الحجة الأولى:
استدل أهل السنة والجماعة على بيان بطلان وفساد مذهب أهل التَّفويض والتَّجهيل بالأحاديث وآثارِ السَّلف الصالح التي فيها إثبات الصفة الله تعالى مع الإشارة إليها بما هو محسوس بَيِّن؛ وذلك لبيان إثبات حقيقة الصفة الله تعالى لا من بابِ التَّشبيه والتَّمثيل تعالى الله عن ذلك، ولبيان أن كلام الله تعالى إنما هو بلسان عربي مبين.
…
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58]: «رأيتُ رسول الله ﷺ يضعُ إبهامه على أُذُنه والتي تليها على عينه».
قال أبو هريرة رضي الله عنه: «رأيت رسول الله ﷺ يقرؤها ويضع إصبعيه».
قال ابن يونس - أحد رجال سند الحديث -: قال المقرئ: يعني: ﴿إن الله كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58] يعني: أَنَّ الله سمعا وبصرا.
[رواه أبو داود (4728) بإسناد صحيح]
قال أبو داود رحمه الله: وهذا رد على الجهمية.
قلت: ورد على المفوضة الذين لا يُثبتون حقيقة صفات الله تعالى.
ص ٢٨٧ - ٢٨٩
الحجة الثانية: ادعى المفوضة أن نصوص الصفات لا يعلم معناها إلا الله تعالى، ونسبوا هذا القول الكاذب للسلف الصالح.
ولكن أقوال السلف الكثيرة في تفسير نصوص الصفات وبيان أوجه معانيها دامغة لكل مُفترٍ عليهم، وقد تقدم في (ص 91) تفسيرات كثير من السلف لنصوص الصفات، ومنها:
عن عبد الله بن أبي الهذيل العنزي قال: قلت لعبد الله ابن مسعود: أبلغك أن الله عز وجل يعجبُ مِمن يذكره؟ فقال: لا، بل يضحك.
قال مجاهد (103 هـ) رحمه الله في تفسير ﴿اسْتَوَى﴾: علا على العرش.
قال أبو العالية رحمه الله في تفسير ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾ [فصلت: 11] قال: ارتفع.
وكذا فسره الحسن البصري (110 هـ) رحمه الله.
وفسر مجاهد، وابن المبارك - رحمهما الله تعالى الاستواء بالاستقرار.
عن وائل بن داود رحمه الله في قول الله عز وجل: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النِّسَاء: 164] قال: مُشافهة مِرارًا.
ص ٢٨٠ - ٢٨١
(فصل) المراد بمنع السَّلفِ من تفسير نصوص الصفات
رُوي عن بعض السلف النَّهي عن تفسير نُصوص الصفات؛ كقول أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله لمَّا سُئِلَ عن أحاديث الصفات - قال: (لا يُفسَّرُ هذا، ولا سمعنا أحدًا يُفسره). وغيره من الأقوال، كما في (المبحث الثالث)؛ فاستغلها أهل التجهيل من المفوّضة وغيرهم من أهل الأهواء من الذين يتبعون المتشابه من كلام الأئمة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله؛ فزعموا أن السَّلف الصَّالح كانوا يفوّضون معاني نصوص الصِّفاتِ، ولا يعلمون معانيها، وينهون عن الكلام فيها!!
ولا يخفى بطلان هذه النسبة للسَّلف الصَّالح، وبراءتهم منها ـ كما تقدم بيان شيء من ذلك.
وأما ما رُوي عن بعض السَّلف من ترك التَّعرض لتفسير نصوص الصِّفاتِ؛ فهو مِن كلامهم المُجمل الذي يُوضّحه ويُبينه كلامهم الآخر المتواتر المستفيض عنهم في إثبات حقيقة معاني الصفات الله تعالى.
فلهذا حَملَ المحققون مِن أهل السُّنة هذا المجمل من كلام السلف على المُبين الظاهر من كلامهم، وأن هذه النُّصوص المروية عن بعض السلف في النهي عن تفسير نصوص الصفات تحمل على معنيين: ١- أن المراد بالنهي عن تفسير نصوص الصفات عند السلف هو: تفسيرها بالتفسيرات المُحدثة المولَّدة المأخوذة من الجهمية وأفراخهم من معطلة الصفات.
٢- أن المراد بنهي السَّلف عن تفسير نصوص الصفات: ذكر كيفيتها، وتشبيهها بصفات المخلوقين.
ص ٢٨٢ - ٢٨٣
وعن يعقوب بن بختان: أن أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن حديث النبي ﷺ: «خلق الله آدم على صورته؟» فقال: لا تُفسِّره، ما لنا أن نفسره كما جاء الحديث.
[«السنة» للخلال كما في بيان تلبيس الجهمية» (414/6)]
ص ٢٨٢
قال ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (51/5) - مُعلقًا على قول أبي عُبيد: (لا يُفسَّرُ هذا، ولا سمعنا أحدًا يُفسره) - قال: (أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة الذين هم الشَّافعي وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزَّمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء وقد أخبر أنّه ما أدرك أحدًا من العلماء يفسرها، أي: تفسير الجهمية).
فهذه حكاية إجماع منه عن أهل ذلك العصر من العلماء.
ص ٢٨٢
ومما يُبين بطلان ما استدل به المفوّضة على مذهبهم الباطل من أقوال السلف في ترك تفسير نصوص الصّفاتِ: تصريح كثير من السلف وأئمة أهل السنة بتفسير نصوص الصفات، وأن لها تفسيرًا ومعنى معروفًا لا يحتاج فيه إلى صرفه عن ظاهره المتبادر للأذهان.
ص ٢٨٤
قال سفيان بن عيينه (198 هـ) رحمه الله: (هذه الأحاديث التي جاءت عن رسول الله له في الصفات والنزول، والرُّؤية، حقٌّ نُؤمن بها، ولا نفسرها إلَّا ما فُسّر لنا من فوق).
[رواه ابن منده في «التوحيد» (897)]
ص ٢٨٤وقوله (من فوق)، أي: ممن هم فوقنا في العلم والدين كالصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة السنة.
ص ٢٨٥
قال أحمد بن حنبل (224 هـ) رحمه الله في رسالة عبدوس: (ومن لم يعرف تفسير الحديث، ويبلغه عقله، فقد كفي ذلك، وأحكم له، فعليه الإيمان به، والتسليم له، مثل حديث الصَّادق المصدوق، وما كان مثله في القدر، ومثل أحاديث الرُّؤية كلها، وإن نَبَتْ عن الأسماع، واستوحش منها المستمع، فإنّما عليه الإيمان بها، وأن لا يرد منها جزءًا واحدًا..).
[رواه اللالكائي (317)]
ص ٢٨٥
قال البربهاري (329 هـ) رحمه الله في «شرح السنة» (ص 50) - بعد أن ساق آيات وأحاديث الصفات - قال: (ولا تُفسِّر شيئًا من هذا بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب فمن فسَّرَ شيئًا من هذا بهواه ورده: فهو جهمي).
قال عبيد الله بن محمد بن بطة (387 هـ) رحمه الله في «الإبانة الصغرى» (279): (ثم الإيمان، والقبول، والتصديق بكُلِّ ما روته العلماء، ونقله الثّقات أهل الآثار عن رسول الله ﷺ، وتلقوها بالقبول، ولا تُرَدُّ بالمعاريض، ولا يُقال: لم؟ وكيف؟ ولا تُحمل على المعقول، ولا تُضرب لها المقاييس، ولا يُعمَل لها التفاسير؛ إلّا ما فسّره رسول الله، أو رجل مِن عُلماء الأمة ممن قوله شفاء وحُجَّة، مثل أحاديث الصفات، والرؤية).
[وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (51/5)]
ص ٢٨٦
وأما المعنى الثاني لنهي السَّلف عن تفسير نصوص الصفات: وهو أن المراد به ذكر كيفيتها وتشبيهها بصفات المخلوقين. ويشهد لذلك أثر القاسم بن سلام الله في الصفاتِ: (ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يُفسَّر هذا، ولا سمعنا أحدا يفسره).
وقول سفيان بن عيينة رحمه الله: (كُلِّ شيءٍ وصف الله نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف، ولا مثل).
فإنهم نهوا عن تفسيرها في مقابل السُّؤال عنها بالكيف، والله اعلم.
ص ٢٨٦
(فصل) المراد بنفي معاني الصفات عند السلف
يستدل المفوضة كذلك على مذهبهم الباطل بما جاء عن بعض السَّلفِ من نفي معاني الصِّفاتِ في معرض كلامهم عنها.
…
وقد أجاب ابن تيمية رحمه الله عن هذه الشبهة فقال في «مجموع الفتاوی» (363/17):
(والمنتسبون إلى السُّنة من الحنابلة وغيرهم الذين جعلوا لفظ (التأويل) يعمُّ القسمين، يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه، مثل قول أحمد في رواية حنبل ولا)،كيف ولا معنى)، ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها.
وكلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع، وقد بيّن أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية ونحوهم الذين يتأوَّلون القرآن على غير تأويله، وصنف كتابه في «الرد على الزنادقة والجهمية فيما أنكرته من متشابه القرآن وتأوّلته على غير تأويله» فأنكر عليهم تأويل القرآن على غير مُرادِ الله ورسوله، وهم إذا تأوَّلوه يقولون: معنى هذه الآية كذا.
والمكيفون يُثبتون،كيفية، يقولون: إنهم علموا كيفية ما أخبر به من صِفاتِ الرَّبِّ.
فنفى أحمد قول هؤلاء، وقول هؤلاء؛ قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية، وقول المحرفة الذين يُحرفون الكَلِمَ عن مواضعه، ويقولون معناه كذا وكذا).
ص ٢٨٧ - ٢٨٨
(فصل) بطلان قولهم: (إن أسماء الله تعالى وصفاتِهِ من المُتشابهِ الذي لا يعلمه إلا الله تعالى)
«كل طائفة من أهل الكلام والأهواء والبدع يجعلون ما خالف مذهبهم من القرآن والحديث مُتشابها، وما وافقه مُحكما.
والجهمية والمعتزلة عندهم ما دلَّ على أن الله يُرى، وأن الله عِلما، أو قدرة، أو مشيئة، أو وجها، أو سَمعًا، أو بَصرًا، أو أنه يتكلّم بنفسه، أو غير ذلك، فهو عندهم من المتشابه
وغرضهم بذكر لفظ المتشابه: أن لا يؤمن بما دلّ عليه اللفظ؛ بل:
١- إما أَن يُعْرَضَ عنه.
٢- وإما أن يُحال إلى معنى آخر بعيد عن دلالة اللفظ».
[«بيان تلبيس الجهمية» (448/5) بتصرف يسير، وانظر درء التعارض» (16/1)]
ص ٢٨٩
ومن أقوالهم في ذلك:
قال الرازي في (التفسير الكبير) (94/14): ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العرشِ﴾ [الأعراف: 54]: (من المتشابهات التي يجب تأويلها).
قال العيني الحنفي في عمدة القاري» (273/8): قوله: بين يدي الله: هو من المتشابهات.
قال السيوطي في «الإتقان» (6/2): من المتشابه: آيات الصفات، ولابن اللبان فيها تصنيف مُفرد نحو: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، و ﴿وَيبقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: 27].
قال ابن حجر العسقلاني في «الفتح» (432/13): «على وجهه»: قال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات، فإما مفوض، وإما متأوّل!!
قال مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (1033 هـ) في «أقاويل الثقات» (ص 60): اعلم أن من المتشابهات: آيات الصفات التي التأويل فيها بعيد فلا تؤوّل، ولا تُفسَّر…
قلت: وتتبع أقوالهم في هذا يطول؛ ولا يخفى بطلان هذا القول وضلاله؛ لأن معاني الصفات ظاهرة لِكُلِّ مِن يعرف لسان العرب، وأما حقيقتها وكنهها فعلمها عند الله تعالى.
ص ٢٩٠
وقد أبطل ابن تيمية رحمه الله إدخال أسماء الله تعالى وصفاته في المتشابه، أو اعتقاد أنه متشابه بأمرين:
الأول: براءة السَّلف قاطبة من هذا الاعتقاد، بل الثابت المنقول عنهم هو إثبات المعاني.
فقال في مجموع الفتاوى (295/13): (فإني ما أعلم عن أحدٍ من سلف الأمة، ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره، أنه جعل ذلك من المُتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يُفهم).
…
الثاني: أن التشابه الذي يُطلقُه بعض السَّلفِ على بعض ما يستدل به الجهمية إنما هو تشابه المعاني الذي لا يختص بباب الصفات، والعلم بالمعنى المراد ممكن بل متحقق، والمنفي العلم بتأويله لا العلم بمعناه.
قال ابن تيمية رحمه الله: الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله؛ إما المتشابه، وإما الكتاب كُلّه كما تقدم، ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة.. ويُؤيده أيضًا: أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها، وهو ما يحتمل معنيين، وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب، كما أن ذلك في مسائل المعاد أولى، فإن نفى المشابهة بين الله وبين خلقه أعظم من نفى المشابهة بين موعود الجنَّة، وموجود الدنيا. وإنما نكتة الجواب هو ما قدَّمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيًا لعلم المعنى).
والخلاصة أن إطلاق القول بأن معاني أسماء الله وصفاته من المتشابه، أو هي المتشابه باطل لم يصدر عن أحدٍ من السلف؛ لكن قد يقع تشابه نسبي إضافي خاص لبعض النَّاسِ في هذا الباب فيزول بالإحكام الخاص الذي يعلمه الراسخون في العلم، أما حقائق هذه المعاني، وكيفياتها؛ فلا ريب أنه مما استأثر الله بعلمه وحجب إدراك كُنهه عن خلقه، فلا سبيل لأحد إلى العلم به.
[انظر: «مجموع الفتاوى» (294/13 - 295)، والصواعق المرسلة (212)، و«مذهب أهـل التفويض» (ص312)]
ص ٢٩١ - ٢٩٢
(فصل) في الوقف على قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾
مِن شُبَه المفوّضة: ما زعموه من أن آيات الصفات من المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله ومعناه مُستندين في ذلك إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ وَايَتٌ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَبِهَاتْ﴾ [آل عمران: 7] الآية.
وهذا منهم مبني على تعين الوقف التّام عند قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 7].
وقد ترتب على القول بأن آيات الصِّفات من المتشابه، القول بتفويض نصوص الصفات، وأنها مجهولة المعنى!
وقد تقدم بطلان المقدمة الأولى في الفصل السابق؛ وهي أن نصوص الصفات من المتشابه، وأنه قول مُحْدَثٌ لم يقله أحد من السلف.
وعليه؛ فإن المقدمة الثانية - وهي أن نصوص الصفات لا يعلم معناها إلَّا الله تعالى ـ قول باطل مردود بكلام السلف أنفسهم، فإن كلامهم في تفسير نصوص الصفات لا يُحصى، كما تقدم جمع بعض كلامهم في ذلك.
قال ابن تيمية في (الحموية) (ص 290) - وهو يتكلّم عن أهل التجهيل، ومراده بهم أهل التفويض - قال: (فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، يقولون: إن الرسول ﷺ لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات .. وهؤلاء يظنون أنّهم اتبعوا قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ﴾، فإنه وقف أكثر السلف على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله﴾، وهو وقف صحيح؛ لكن لم يفرِّقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه؛ وظنوا أن التأويل المذكور في كلام تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك.
فإن لفظ «التأويل» يُراد به ثلاث معان:
فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخّرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الرّاجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك. فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء؛ وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنُّصوص تأويلاً يُخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه المتأولون.
ثم كثير من هؤلاء يقولون: تُجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد، مع قولهم: (إن لها تأويلا بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله)، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة!!
والمعنى الثاني: أن التأويل: هو تفسير الكلام، سواء وافق ظاهره، أو لم يوافقه، وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم.
وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف السَّلف عند قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾، كما نقل ذلك عن: ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق، وابن قتيبة، وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر؛ ولهذا نُقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق.
والمعنى الثالث: أن التأويل: هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من: الأكل والشرب واللباس والنكاح، وقيام الساعة، وغير ذلك، هو الحقائق الموجودة أنفسها؛ لا ما يتصوّر من معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن .. قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 53]، وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله.
وتأويل الصِّفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السَّلف كمالك وغيره: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول). فالاستواء معلوم، يعلم معناه، ويُفسّر، ويُترجم بلغة أُخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
وقد روي عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: «تفسير القرآن على أربعة أوجه تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلَّا الله؛ فمن ادعى علمه فهو كاذب». وهذا كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسُ مَّا أُخْفِيَ لهُم مِّن قُرَةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السَّجدة: 17].
وكذلك علم وقت السَّاعة، ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى؛ وإن كُنَّا نفهم معاني ما خُوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إيَّاه، كما قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24]، وقال: فأمر بتدبر القرآن لا بتدبر بعضه).
[وانظر: «بيان تلبيس الجهمية» (277/8)] (الصواعق المرسلة» (921/3)]
ص ٢٩٣ - ٢٩٥
(فصل) في بطلان مَا ادَّعاهُ بعض المُتأخّرين مِن نِسبةِ مَذهَبٍ التفويض إلى السلف الصالح.
ادَّعى كثير من مُتأخّري الأشاعرة وغيرهم نسبة تفويض معاني نصوص الصِّفات إلى السَّلفِ من القُرون الثَّلاثة المفضلة، حتى قالوا مقالتهم الفاسدة المشهورة: (مذهب السَّلفِ أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم)! والتي مضمونها: «استجهالُ السَّابقين الأوَّلين واستبلاههم، واعتقاد أنَّهم كانوا قوما أُمِّيين بمنزلةِ الصَّالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائقِ العلم الإلهي وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كُلّه».
[«مجموع الفتاوى لابن تيمية» (9/5-12)، وسيأتي الكلام عن هذه المقولة الفاسدة]
والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها:
١- النووي (676 هـ):
قال في «شرحه لصحيح مسلم (193): (اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما: مذهب معظم السلف أو كلهم: أنَّه لا يتكلم في معناها)..!!
قلت: ثم ذكر المذهب الآخر وهو مذهب أهل التأويل والتعطيل الذي انتهجه في شرحه لأكثر آيات وأحاديث الصفات.
وأما حقيقة ما عليه السَّلف الصالح من إثبات حقيقة الصفات وإمرارها كما جاءت فلم يُعرّج عليه، ولم يذكره إلّا في مقام الدم والتحذير من مذهب المجسمة!! كما سيأتي، والله المستعان.
٢- الجويني المشهور بأبي المعالي! (478 هـ): وقد سار في أول أمرِهِ على مذهب أهل التأويل والتحريف، ثم انتقل عنه إلى مذهب أهل التفويض والتجهيل، واعتقد أنه مذهب السلف الذي يجب اتباعه، فقال: (وذهب أئمة السَّلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرَّبِّ سبحانه).
ثم ذكر أن هذا هو المذهب الحق الذي يجب سلوكه!!
قلت: ولقد ذهب بعض المتأخرين إلى اعتبار أن الجويني ممن رجع من التأويل إلى مذهب السلف في الصفات ومن ذلك قول الذهبي في «السير» (472/18): (كما أنه في الآخرِ رجّح مذهب السلف في الصفات وأقره)!!
ولكن في الحقيقة أنه رجع عن التَّأويل إلى التفويض، كما هو واضح جلي في كلامِهِ، وصرّح بذلك الشبكي في «طبقاته»!
وقال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (41/5) - وهو يتكلم عن موقف أبي المعالي مِن الصِّفات - قال: (والثاني: تفويض معانيها إلى الرَّبِّ، وهو آخر قولي أبي المعالي، كما ذكرَهُ في «الرسالة النظامية»).
٣- ابن خلدون (808 هـ):
قال وهو يتكلم عن مذهب السلف الصالح في الصفات في «مقدمته» (ص 343): (وردت في القرآنِ آي أُخرى قليلةٌ تُوهم التشبيه، مرَّةً في الذَّاتِ، وأُخرى في الصفات، فأما السَّلف فغلبوا أدلة التنزيه لكثرتها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل ..).
وقال (ص 353): (وإنما مذهب السَّلف ما قرَّرناه أولًا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها).
٤- السيوطي (911 هـ): قال في «الإتقان» (6/2) - وهو يتكلم عن آيات الصفات: (وجمهور أهل السنة [يعني: الأشاعرة] منهم السلف .. على الإيمان بها، وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى ولا نفسرها، مع تنزيهنا له عن حقيقتها) .
٥- محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (1188 هـ):
قال في كتابه لوامع الأنوار البهية) (97/1): (ومذهب السلف عدم الخوض في مثل هذا والسكوت عنه، وتفويض علمه إلى الله تعالى).
قلت: وقد تعقبه ابن سحمان رحمه الله في حاشية الكتاب بكلام طويل نقله عن ابن تيمية رحمه الله، بيَّن فيه بطلان نسبة التفويض إلى السلف.
٦- محمد رشيد رضا (1354 هـ):
قال في تعليقه على لمعة الاعتقاد (ص) (31): (لا نقول كيف هي، ولا نقول معناها كذا وكذا، بل نقول: صفة أثبتها الله تعالى لنفسه، فنحن نثبتها له ونكل كيفيتها ومعناها إليه،تعالى واعلم أن هذا ما كان عليه السلف الصالح كلهم!! والأئمة المقتدى بهم، وذهب إليه المحققون من الخلف، ومن كبار علماء الأشاعرة)!!
…
قلت: وتتبع كلام المتأخرين في نسبة مذهب أهل التفويض إلى السلف الصالح يطول، والمراد هاهنا بيان بطلان هذه النسبة، وأن السلف الصالح الله بريئون منها لأمرين:
١- قال ابن تيمية رحمه الله في «بيان تلبيس الجهمية» (536/8): (إن مذهب السَّلف يُعرف بنقل أقوالهم، أو نقل مَن هو خبير بأقوالهم، وما ذكره من العبارة - [يعني: الرَّازي من نسبة التَّفويض إلى السلف] - لم ينقله عن أحدٍ من السَّلف، ولا نقله من يحكي إجماع السَّلف .. ولكن ما ذكره هذا من مذهب السلف والتفويض إنما يعرض في كلام أبي حامد [يعني: الغزالي] ونحوه ممن ليس لهم خبرة بكلام السلف؛ بل ولا بكلام الرسول ﷺ، فلا يُميزون بين صحيح هذا وبين ضعيفه؛ ولكن ينقلون مذهب السلف بحسب اعتقادهم لا بأقوال السلف وما بينوه وقالوه في هذا الباب.
وأقوال السلف كثيرة مشهورة في كتب أهل الحديث والآثار الذين يروونها عنهم بالأسانيد المعروفة، وكذلك في كتب التفسير).
٢- أن نسبة تفويض معاني نصوص الصفات إلى السَّلفِ يستلزم لوازم فاسدة، ومنها:
أ) «الجهل بالله تعالى، وصفاته العلا.
ب) كما يستلزم الجهل بمذهب السلف، والتَّقول عليهم.
ج) ويستلزم - أيضًا - تجهيل السَّلف الصَّالح مِن الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمةِ هذا الدِّين بالله وصفاته الكمالية، كما يستلزم استبلادهم، وأنهم كانوا يتلون كتاب الله ويقرؤون أحاديث رسول الله ﷺ ولا يفهمون معاني ذلك!
د) ويستلزم تفضيل الخلف أهل الكلام والبدع على خيار هذه الأمة بحجة أن طريق السَّلف أسلم وطريق الخلف أحكم، وغيرها من اللوازم الفاسدة».
[من كتاب «الماتريدية» (160/2)]
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (204/1): (فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلامًا لا يعقلون معناه .. ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء، إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هُدى وبيانًا للناس، وأمر الرسول الله أن يبلغ البلاغ المبين .. وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه - وهو ما أخبر به الرَّبّ عن صفاته، أو عن كونه خالقا لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أَمَرَ ونَهَى، ووعد وتوعد .. لا يعلم أحد معناه فلا يُعقل ولا يُتدبَّر، ولا يكون الرسول ﷺ بيَّنَ للنَّاسِ ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين.
وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي وليس في النُّصوص ما يناقض ذلك؛ لأن تلك النُّصوص مُشكلةٌ مُتشابهة لا يعلمُ أحدٌ معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يُستدل به.
فيبقى هذا الكلام سَدًّا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحا لباب من يعارضهم ويقول: إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء، لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم.
فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم مُتَّبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد) اهـ.
ص ٢٦٩ - ٣٠٠
(فصل) في بطلان قولهم: (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم)
يزعم كثير من المعطلة أن خوض الخلف في التأويلات المحدثة لنصوص الصفات: أعلم وأحكم من طريقة السَّلف الذين اختاروا السكوت عن الكلام فيها، وأمروا بإمرارها كما جاءت، فقالوا:
(طريقة السلف أسلم، وطريق الخلف أعلم وأحكم).
وذلك لأن طريقة أهل التأويل فيها مخاطرة بالإخبار عن مُرادِ الله بالظَّنّ الذي يجوز أن يكون صوابا ويجوز أن يكون خطأ، وذلك قول عليه بما لا يُعلم، والأصل تحريم القول عليه بالظن، وكان تركها أسلم.
وفي طريقة أهل التأويل حسم مواد الاعتقادات الفاسدة، والشبهات الواردة، فكانت أحزم وأحكم».
[«جامع المسائل» لابن تيمية (90/9)]
ص ٣٠١
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بطلان هذه المقولة كثير من مصنفاته، ومن ذلك قوله في مجموع الفتاوى (8/5 - 12):
(ولا يجوز أيضًا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السَّلف؛ بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم)، فإن هؤلاء المُبتدعين الذين يُفضّلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف: إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السَّلف هي مُجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ إِلَّا أَمَانِى وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة: 78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواعِ المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها: نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السَّلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السَّلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضَّلال بتصويب طريقة الخلف.
وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلّت عليها هذه النُّصوص للشُّبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مُتردِّدِين بين:
الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى وهى التي يسمونها طريقة السلف!!
وبين صرف اللفظ إلى معانٍ بنوع تكلف، وهى التي يسمونها طريقة الخلف.
فصار هذا الباطل مُركبًا من: فسادِ العقل والكفر بالسمع؛ فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمورٍ عقليةٍ ظنوها، بينات وهي شبهات والشمع حرَّفوا فيه الكلم عن مواضعه.
فلما انبنى أمرهم على هاتين المُقدِّمتين الكفريتين الكاذبتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أُميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي. وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كُلَّه.
ثم هذا القول إذا تدبّره الإنسان وجده في غاية الجهالة؛ بل في غاية الضَّلالة .. كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضلون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله، وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين، والذين اتبعوهم بإحسان . .؟!
ثم كيف يكون خير قرونِ الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله، وأحكام أسمائه، وآياته - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟!
أم كيف يكون أفراخ المُتفلسفة، وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم، وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء، وأهل القرآن والإيمان؟! ..). اهـ.
قلت: فلهذا كله يعلم أن طريقة السَّلف: (أعلم)، و(أحكم)، و(أسلم)، و(أهدى).
[وانظر: «الصواعق المرسلة» (1134/3)]
ص ٣٠١ - ٣٠٣
(فصل) في بعض الأمثلة للقائلين بتفويض معاني نُصوص الصفات، ليكون السنّي منها ومن أمثالها على حذر
والمراد من هذا الفصل الوقوف على بعض الأمثلة لبعض من قال بمذهب أهل التفويض ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة، ليكون القارئ على حَذرٍ ويقظة عند قراءته لكتب المُتأخّرين في مسائل الاعتقاد.
وإن من المؤسف أن ترى كثيرًا من المتأخرين يرد على مُؤوّلة الصفات، ويُبيِّن ضلالهم، ثم يختار هو مذهب أهل التفويض، وينسبه إلى منهج السلف الصالح الذي يجب اتباعه!
ص ٣٠٤
القاضي أبو يعلى الحنبلي (458 هـ)
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض» (34/7) - وهو يتكلّم عمن تأثر بأئمةِ النُّفاة من الجهمية والمعتزلة -: (.. وتارة يفوضون معانيها ويقولون: تجري على ظواهرها! كما فعل القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك).
ص ٣٠٤
ابن الجوزي (597 هـ)
قلت: عقيدة ابن الجوزي تدور بين التفويض والتأويل، وقد شنّعَ على السنة في عصره، فأنكروا عليه فرماهم بالتشبيه والتجسيم، كما في كتابه الآثم الذي سماه: «دفع شُبه التشبيه بأكفّ التنزيه».
وقد نُصح في وقته من أهلِ السُّنة وكتبوا إليه بالرَّسائل والنَّصائح، ومن ذلك ما كتبه إليه إسحاق بن أحمد بن محمد العلثي (634 هـ) رحمه الله في نصيحة مطولة، ذكرها ابن رجب رحمه الله في «ذيل طبقات الحنابلة» (446/3 - 453)، وقد تقدم نقل شيء منها (ص 173 - 174).
ولهذا ذكره ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض» (270/1) فيمن انتسب إلى الإمام أحمد رحمه الله ومال إلى المعتزلة.
ص ٣٠٥
الذهبي (748 هـ)
وللذهبي في «سيره» وغيرها من كتبه كثير من المُخالفات قد نَبَّة عليها العلماء، ومن أعظمها:
1 - القول بجواز التبرك بقبر النبي ﷺ، وشد الرحل إليه.
…
وهذه من المسائل التي نص الذهبي على أنه يُخالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية!! فقد قال في ترجمته لابن تيمية: (مع أني مخالف له في مسائل أصليه وفرعية)!! فهذه بعض مسائل الأصول التي خالفه فيها، وكذلك ما سيأتي.
قال ابن تيمية في «جامع المسائل» (المجموعة الثالثة / ص 45): (وكذلك التمسح بالقبور كاستلامها باليد، وتقبيلها بالفم - منهي عنه باتفاق المسلمين. حتى إنهم قالوا فيمن زار قبر النبي ﷺ: إنه لا يستلمه بيده، ولا يقبله بفمه). وانظر: مجموع الفتاوى» (136/27).
…
2 - قول الذهبي: إن الدعاء عند قبور الأولياء والصالحين مستجاب!!
…
قلت: هذا من الشرك!
3 - تعقبه لكبار أئمة السَّلف وأهل السنة فيما اتفقوا على القول به، والإنكار على من خالفهم فيها. ومن أمثلة ذلك:
أ) إنكاره عليهم زيادة لفظة: (بذاته) في النزول والمجيء وغيرها.
…
ب) إنكاره على أئمة أهل السنة إثباتهم الحد الله تعالى، واعتبار ذلك من فضول الكلام المنهي عنه، وأن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
…
4 - لينه ومدحه لأئمة أهل البدع في تراجمه لهم.
…
5 - التوسع في اعتبار كثير من طعون أهل السنة في مخالفيهم في الاعتقاد أنه الطعن في الأقران الذي يطوى ولا يُقرأ.
…
6 - تهوينه من شأن الإرجاء والمرجئة، واعتبار أن الخلاف بينهم وبين أهل السنة خلافًا لفظيًا فقط!!
فقال (233/5): (إرجاء الفقهاء، وهو أنهم لا يَعدُّون الصَّلاة والزكاة من الايمان، ويقولون: الإيمان إقرار باللسان، ويقين في القلب، والنّزاع على هذا لفظي إن شاء الله).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على شرح الطحاوية»: (وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة، وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيًّا؛ بل هو لفظي ومعنوي، ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة، والله المستعان).
…
قلت: كيف وقد أجمع السلف على ذم الإرجاء والمرجئة، وحذروا منهم، ومن مجالستهم، واعتبروا الإرجاء بدعة من أصول البدع؛ والتي هي: (الإرجاء، والخروج، والقدر، والشيعة).
قال الآجري في (الشريعة) (676/2): (باب في المرجئة، وسوء مذاهبهم عند العلماء). وذكر فيه إجماع السلف في ذمهم، ومن ذلك قول الزهري: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله هذه. من يعني: الإرجاء. وقول النخعي: المرجئة أخوف عندي على الإسلام من عدتهم من الأزارقة. يعني: الخوارج.
ص ٣٠٦ - ٣١٣
المبحث الثاني عشر: نهي أهل السنة عن التأويل وتحريف نُصوص الصفات
١. معنى التأويل
للتأويل ثلاثة معانٍ معنيان صحيحان، ومعنى باطل:
فأما المعنيان الصّحيحان فهما:
١. التأويل بمعنى التفسير والبيان وهو المراد به في اصطلاح أهل التفسير وغيرهم من السَّلف، ومنه قول ابن جرير رحمه الله وغيره من أهل العلم: القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا؛ أي تفسيره.
٢. التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، كما قال تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 53].
٣. وأما معنى التأويل الباطل فهو: التأويل عند المتأخرين من أهل الكلام، الذي هو بمعنى: صرف اللفظ عن ظاهره.
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض» (95/2): (وأما التأويل، بمعنى: صرف اللفظ عن الاحتمالِ الرَّاجح إلى الاحتمالِ المرجوح كتأويل من تأوَّلَ (استوى) بمعنى: (استولى) ونحوه؛ فهذا عند السلف والأئمة باطل لا حقيقة له؛ بل هو من باب تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته). اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما المعتزلة والجهمية وغيرهم من المُتكلّمين فمرادهم بالتّأويل: صرف اللفظ عن ظاهره، وهذا هو الشائع في عُرفِ المتأخرين من أهل الأصول والفقه .. وقد حكى غير واحد إجماع السَّلفِ على عدم القول به).
ثم أطال في بيان أنواعه وبطلانها.
[انظر: «الصواعق المرسلة (21/1 وما بعدها)، و«بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (452/5 و(277/8)]
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن - رحمهم الله - في «عيون الرسائل» (2/ 561): (والتأويل في عُرف هؤلاء: صرف الكلام عن ظاهره وعن المعنى الرَّاجح إلى المعنى المرجوح. ومن سَلَكَ هذه الطريقة في أخبار الرسول ﷺ، ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحادِ والزَّندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير مُراد؛ لأن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلّم وعُرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله ﷺ).
قلت: فلهذا كان التعبير (بالتَّحريف) أولى من التعبير عن هذا (بالتأويل)، كما قال ابن تيمية رحمه الله لما اعترض عليه تسمية تأويل نصوص الصفات تحريفًا قال: (إني عدلت عن لفظ: (التأويل)، إلى لفظ: (التحريف)؛ لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه وأنا تحرّيت في هذه العقيدة [أي: العقيدة الواسطية] اتباع الكتاب والسُّنة، فنفيت ما ذمَّه الله من التحريف، ولم أذكر فيها لفظ (التَّأويل) بنفي ولا إثبات؛ لأنه لفظ له عدة معان).
[«مجموع الفتاوى» (165/3)، وانظر: الصواعق المرسلة» (920/3)]
ص ٣١٧
٢. الفرق بين ما يؤوّل من النُّصوص وما لا يؤوّل
كل فرقة من الفرقِ تتأوّل النُّصوص التي لا تؤمن بها، فَفِرقُ الصُّوفية تتأوّل أركان الإسلام على ما تُريده، وهكذا القرامطة والخوارج والمرجئة و .. وكل طائفة تدَّعي أن تأويلها هو الحق الذي يجب أن يُصار إليه.
قال ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» (230/1): (وحقيقة الأمر: أن كل طائفة تتأوّل ما يُخالف نحلتها ومذهبها، فالمعيار على ما يُتأوّل وما لا يُتأوَّل: هو المذهب الذي ذهبت إليه، والقواعد التي أصلتها؛ فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعه وإلا تأولوه .. ولما أصلت الجهمية أن الله لا يتكلم، ولا يُكلّم أحدًا، ولا يرى بالأبصار، ولا هو فوق عرشه مُبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أوّلوا كل ما خالف ما أصلُوه ..) إلخ.
ص ٣١٨
٤. حقيقة قول المؤوّلة
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (202/1): (وحقيقة قول هؤلاء في المخاطب لنا أنه لم يُبيّن،الحق ولا أوضحه مع أمره لنا أن نعتقده، وأن ما خاطبنا به وأمرنا باتباعه والرّد إليه لم يُبيّن به الحق ولا كشفه؛ بل دلّ ظاهره على الكُفر،والباطل وأراد منا أن لا نفهم منه شيئًا، أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه، وهذا كُلّه مما يُعلم بالاضطرار تنزيه الله ورسوله عنه، وأنه من جنس أقوال أهل التحريف والإلحاد.
ص ٣١٩
٥. أهل التأويل عند تأويلهم لنصوص الصّفات لا يجزمون بأن هذا التأويل هو مراد الله تعالى
ولهذا يذكرون عِدة معانٍ في تأويل نص واحد، ولا يجزمون بواحد منها، وهذا في الحقيقة: كَذِبُ على الله، وعلى رسوله ﷺ.
…
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (121): (وهم في أكثر ما يتأوّلونه قد يعلم عقلاؤهم علمًا يقينًا أن الأنبياء لم يريدوا بقولهم ما حملوه عليه، وهؤلاء كثيرًا ما يجعلون التأويل من باب دفع المعارض؛ فيقصدون حمل اللفظ على ما يمكن أن يريده مُتكلّم بلفظه، لا يقصدون طلب مراد المتكلّم به، وحمله على ما يناسب حاله، وكل تأويل لا يقصد به صاحبه بيان مراد المتكلم وتفسير كلامه بما يعرف به مراده وعلى الوجه الذي به يعرف مراده؛ فصاحبه كاذب على من تأوّل كلامه، ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ).
ص ٣٢٠
٦. التأويل يتخذه المعطّلة جُنّة لإنكار حقيقة صفات الله تعالى
قال ابن تيمية رحمه الله في «الدرء» (217/5): (وقيل عن بعض رؤوس الجهمية إما بشر المريسي أو غيره أنه قال: ليس شيء أنقض لقولنا من القرآن، فأقروا به في الظاهر، ثم صرّفوه بالتأويل.
ويقال: إنه قال: إذا احتجوا عليكم بالحديث؛ فغالطوهم بالتكذيب، وإذا احتجوا بالآيات فغالطوهم بالتّأويل).
[وانظر: «بيان تلبيس الجهمية» (91/3)]
ص ٣٢١
قال ابن قدامة المقدسي (620 هـ) رحمه الله في «حكاية المناظرة في القرآن» (ص 35): (ولا نعلم من أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم، ولا يتجاسرون على إظهارها؛ إلَّا الجهمية والأشعرية).
ص ٣٢٢
وقال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله: (سمعت عدنان بن عبده النميري يقول: سمعت أبا عمر البسطامي يقول: كان أبو الحسن الأشعري أولا ينتحل الاعتزال، ثم رجع فتكلَّم عليهم، وإنما مذهبه التعطيل؛ إلا أنه رجع من التصريح إلى التمويه).
[«ذم الكلام» (1304)، و«بيان تلبيس الجهمية» (239/2)]
ص ٣٢٢
وقال ابن تيمية في (تلبيس الجهمية) (401/4): (فعلم أن هؤلاء [متأخري الأشاعرة] حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة، وإن كان ظاهرهم ظاهر أهل الإثبات، كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة أمرهم أمر الملاحدة نُفاة الأسماء والصفات بالكلية، وإن تظاهروا بالرَّد عليهم والملاحدة حقيقة أمرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية.
هذا - لعمري - عند التحقيق، وأما عوام الطوائف وإن كان فيهم فضيلة وتميز، فقد يجمعون بين المتناقضات تقليدًا وظنا، ولهذا لا يكونون جاحدين وكافرين مُطلقًا؛ لأنهم يثبتون من وجه، وينفون من وجه، فيجمعون بين النفي الإثبات).
ص ٣٢٢
(فصل) التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الأشاعرة هي بعينها: تأويلات بشر المريسي الجهمي
قال ابن تيمية رحمه الله في «الفتوى الحموية الكبرى» (ص254 - 260): (وهذه التّأويلات الموجودة اليوم بأيدي النَّاس مثل أكثرِ التَّأويلات التي ذكرها أبو بكر ابن فورك في كتاب «التأويلات»، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عُمر الرَّازي في كتابه الذي سماه «تأسيس التقديس» ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء مثل: أبي علي الجُبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني، وأبي الحسين البصري، وأبي الوفاء بن عقيل، وأبي حامد الغزالي، وغيرهم، هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاءِ التَّأويل وإبطاله أيضًا، ولهم كلام حسن في أشياء.
فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي.
ويدلُّ على ذلك كتاب «الرَّدِّ» الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنَّفَ كِتابًا سَمَّاهُ: «رَدْ عُثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افترى على الله في التوحيد» حكى فيه هذه التَّأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته، ثم ردّ ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي: عَلِمَ حقيقة ما كان عليه السَّلف، وتبيَّن له ظهور الحُجّة لطريقهم، وضعف حُجَّة من خالفهم، ثم إذا رأى الأئمة - أئمة الهدى - قد أجمعوا على ذمّ المريسية، وأكثرهم كفّروهم، أو ضَلَّلوهم.
وعَلِمَ أن هذا القول السَّاري في هؤلاءِ المُتأخرين هو مذهب المَرِّيسية، تبين له الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حول ولا قوة إِلَّا بالله).
ص ٣٢٣ - ٣٢٤
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين (1282 هـ) رحمه الله في «الرسائل والمسائل النجدية» (176/2 - 177): (اعلم أن أكثر أهل الأمصار اليوم أشعرية، ومذهبهم فى صفات الرَّبِّ الموافق لبعض ما عليه المعتزلة الجهمية.
فهم يُثبتون بعض الصفات دون بعض؛ فيثبتون: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة والسمع والبصر والكلام وينفون ما سوى هذه الصفات بالتّأويل الباطل، مع أنَّهم وإن أثبتوا صفة الكلام موافقة لأهل السنة، فهم في الحقيقة نافون لها؛ لأن الكلام عندهم هو المعنى فقط. ويقولون: حروف القرآن مخلوقة، لم يتكلم الله بحرف ولا صوت. فقالت لهم الجهمية هذا هو نفس قولنا إن كلام الله مخلوق، لأن المراد الحروف لا المعنى.
ومذهب السلف قاطبة: أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله تعالى تكلم بالقرآن حروفه ومعانيه، وأن الله سبحانه وتعالى يتكلم بصوت يُسمعه من يشاء.
والأشعرية لا يثبتون علوّ الربّ فوق سمواته واستواءه على عرشه، ويسمون من أثبت صفة العلوّ والاستواء على العرش مجسمًا مُشبّها.
وهذا خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون صفة العلو والاستواء، كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك عن نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ من غير تكييف ولا تعطيل، وصرح كثير من الشلف بكفر من لم يثبت صفة العلو والاستواء.
والأشاعرة وافقوا الجهمية في نفي هذه الصفة؛ لكن الجهمية يقولون: إنه سبحانه وتعالى في كل مكان، ويُسمون الحلولية.
والأشعرية يقولون كان ولا مكان فهو على ما كان قبل أن يخلق المكان.
والأشعرية يوافقون أهل السُّنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ثم يقولون: إن معنى الرُّؤية: إنَّما هو زيادة علم يخلقه الله في قلب الناظر ببصره، لا رؤية بالبصر حقيقة عيانًا.
فهم بذلك نافون للرؤية التي دلّ عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي ﷺ.
ومذهب الأشاعرة: أن الإيمان مجرد التصديق، ولا يدخلون فيه أعمال الجوارح. قالوا: وإن سُمِّيت الأعمال في الأحاديث إيمانًا فعلى المجاز لا على الحقيقة.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، وقد كفر جماعة من العلماء من أخرج العمل عن الإيمان.
فإذا تحققت ما ذكرنا عن مذهب الأشاعرة من نفي صفات الله سبحانه وتعالى غير السَّبع التي ذكرنا ويقولون: إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، وأن حروف القرآن مخلوقة، ويزعمون أن كلام الرَّبِّ سبحانه وتعالى معنى واحد، وأن نفس القرآن هو نفس التوراة والإنجيل؛ لكن إن عبّر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبّر عنه بالعبرانية فهو توراة، وإن عبّر عنه بالسريانية فهو إنجيل، ولا يثبتون رؤية أهل الجنَّة ربهم بأبصارهم، إذا عرفت ذلك عرفت جهل من جعل الأشعرية من أهل السنة كما ذكره السَّفاريني في بعض كلامه).
ص ٣٢٤ - ٣٢٦
(فصل) أقوال أهل السنة في ذم أهل التأويل ووصمهم بالجهمية
اشتدَّ نكيرُ أهل السنة والجماعة على مُؤوِّلة الصفات ممن يُنكرون حقيقة معانيها اللائقة به سُبحانه؛ بحملها على (المجاز)، أو (المشاكلة)، وغيرهما من المُصطلحات المحدثة التي اتخذوها ذريعة لتعطيل حقيقة صفات الرَّبِّ، وسمّوا ذلك التعطيل المُحدَث لصفاتِ الرَّب - مِن باب التلبيس والتمويه على العامة-: (تنزيها)، مِن قبيل تسمية الشَّيء بغيرِ اسمه، كما سمّوا إثبات صِفاتِ الله تعالى على ما يليق به عز وجل: (تشبيها، وتجسيمًا) كما سيأتي.
والمتتبع لأقوال أهلِ السُّنة والجماعة في باب الإنكار على أهل التأويل يجدهم كثيرًا ما ينسبونهم إلى الجهمية أعداء السنة والتَّوحيد؛ لأن حقيقة كلام الجهمية يدور على التكذيب والتَّعطيل لنصوص الكتاب والسنة.
ص ٣٢٧
وأما ذم السلف الصالح وغيرهم من أهل السنة لأهل التأويل والتحريف لنصوص الصفات ووصمهم بالجهمية فهو مستفيض، ومن ذلك:
قال شاذ بن يحيى رحمه الله: سمعت يزيد بن هارون (206 هـ) رحمه الله وقيل له: من الجهمية؟
قال: من زعم أن الرّحمن على العرش استوى على خلافِ ما يَقِرُّ في قلوب العامة فهو جهمي.
[«السنة» لعبد الله بن أحمد (1110,54)، وانظر التعليق عليه في «العلو» للذهبي (390)]
ص ٣٢٨
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: (مَن قال: إنَّ الله تعالى خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه)؟!
[رواه ابن بطة في «الإبانة» (تتمة) (الرد على الجهمية» (198)]
ص ٣٢٩
قال الميموني: قال أبو عبد الله: مَن زعم أن يدَهُ نعماه؛ كيف يصنع بقوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَىّ﴾ [ص: 75] مُشدَّدة؟
«وحِينَ خلق آدمَ عليه السلام فَقبَضَ»، يعني: مِن جميع الأرض.
و«القلوبُ بينَ أُصبعينَ».
[رواه غلام الخلال في «السنة» (14)]
قال عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ) رحمه الله في «الرَّدِ على الجهمية» (ص 174 - 175): (وقال الله تبارك وتعالى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64]، و ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَ﴾ [ص: 75] ..
قال هؤلاء: ليس الله يد، وما خلق آدم بيديه، إنما يداه: نعمتاه ورزقاه.
فادعوا في يدي الله أوحش مما ادعته اليهود: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغلُولَةً﴾ [المائدة: 64].
وقالت الجهمية: يد الله مخلوقة؛ لأن النعم والأرزاق مخلوقة لا شك فيها! وذاك محال في كلام العرب، فضلا أن يكون كُفْرًا؛ لأنه يستحيل أن يقال: خلق آدم بنعمتِه، ويستحيل أن يقال: في قول الله تبارك وتعالى: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عِمرَان: 26] بنعمتك الخير؛ لأن الخير نفسه هو النعم نفسها، ومُستحيل أن يقال في قول الله عز وجل: ﴿يدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: 10] نعمة الله فوق أيديهم، وإنما ذكرنا هاهنا اليد مع ذكر الأيدي في المبايعة بالأيدي فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُتُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفَتْح: 10].
ويستحيل أن يقال: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: 64] نعمتاه، فكأن ليس له إلّا نِعمتانِ مبسوطتان لا تُحصى نِعمَهُ، ولا تُستدرك، فلذلك قلنا إنّ هذا التَّأويلُ مُحالٌ من الكلام فضلا أن يكون كُفْرًا.
ونكفّرهم أيضًا بالمشهورِ مِن كُفرهم أنهم لا يُثبتون الله تبارك وتعالى: وجها، ولا سَمعًا ولا،بصرًا، ولا عِلمًا، ولا كلامًا، ولا صفةً، إلا بتأويل ضلال.
افتضحوا وتبينت عوراتهم، يقولون: سمعه وبصره، وعلمه، وكلامه بمعنى واحد، وهو بنفسه في كل مكان، وفي كل بيتٍ مُغلَقٍ، وصندوق مقفل، قد أحاطت به في دعواهم حيطانهم، وأغلاقها وأقفالها، فإلى الله نبرأ من إله هذه صفته، وهذا أيضًا واضح في إكفارهم).
ص ٣٣٠ - ٣٣١
قال أبو العباس ابن شريح (306 هـ) رحمه الله - إمام الشافعية في وقته -: (.. لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية، والجهمية، والملحدة، والمُجسّمة، والمُشبِّهة، والكرَّاميةِ، والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل، ونؤمن بها بلا تمثيل، ونقول: الإيمان بها واجب، والقول بها سنة، وابتغاء تأويلها بدعة).
[«اجتماع الجيوش» (ص174)]
ص ٣٣٢
قال البربهاري (329 هـ) رحمه الله في «شرح السنة» (50): (وكل ما سمعت من الآثارِ شيئًا مما لم يبلغه عقلك نحو قول رسول الله ﷺ: «قلوبُ العِبادِ بين إصبعين من أصابع الرَّحمنِ»، وقوله: «إِنَّ الله ينزل إلى سَماءِ الدُّنيا»، «وينزل يوم عرفة»، و «ينزلُ يومَ القِيامة»، و «إن جهنم لا يزالُ يطرح فيها حتى يضع عليها قدمه جل ثناؤه» وقول الله تعالى للعبد: «إن مشيت إليَّ هرولتُ إليك»، وقوله: «خلقَ الله آدمَ على صُورَتِهِ»، وقول رسول الله ﷺ: «رأيتُ رَبي في أحسَن صُورَةٍ»، وأشباه هذه الأحاديث: فعليك بالتسليم، والتصديق، والتَّفويض، ولا تُفسر شَيئًا من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فَسَّرَ شيئا من هذا بهواهِ أو رَدَّهُ فهو جهمي).
قلت: المراد بالتفويض: تفويض الكيفية دون المعنى، كما تقدم في (المبحث الحادي عشر).
ص ٣٣٢
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (3/ 112): (سألت أبا عمر محمد بن عبد الواحد (345 هـ) صاحب اللغة عن قول النبي ﷺ: ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره فقال الحديث معروف، وروايته سُنَّة، والاعتراض بالطعن عليه،بدعة، وتفسير الضحك تكلف وإلحاد).
ص ٣٣٢
قال عبد الله بن محمد بن حيان المشهور بأبي الشيخ الأصبهاني (369 هـ) رحمه الله في كتاب «السنة»:
(وإنّما يلزم المسلم أن يُثبت معرفة صفاتِ الله بالاتباع والاستسلام كما جاء، فمن جهل معرفة ذلك حتّى يقول: إنّما أصف ما قال الله، ولا أدري ما معاني ذلك حتَّى يُفضي إلى أن يقول بمعنى قول الجهمية: يدُ نعمة، ويحتج بقوله: ﴿أَيْدِينَا أَنْعمًا﴾ [يس: 71] ونحو ذلك، فقد ضل عن سواء السَّبيل، هذا محض كلام الجهمية حيث يؤمنون بجميع ما وصفناه من صفات الله، ثم يُحرفون معنى الصفات عن جهتها التي وصف الله بها نفسه، حتّى يقولوا: معنى ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] السميع هو: البصير، ومعنى البصير هو السميع، ويجعلون اليد يد نعمة، وأشباه ذلك، يُحرفونها عن جهتها؛ لأنهم هم المعطلة).
[«التسعينية» لابن تيمية (423/2)]
ص ٣٣٣
قال أبو منصور معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني (418 هـ) رحمه الله في وصيَّة لأصحابه بالسُّنة، وذكر ما أجمع عليه أهل الحديث والسنة من المتقدمين والمتأخرين وهي وصية طويلة ومما فيها:
(فكُلُّ هؤلاء سُرُج الدّين، وأئمة السُّنة، وأولوا الأمر من العلماء، فقد أجمعوا على جملة هذا الفصل من السُّنة وجعلوها في كتب السنة .. وذكرها من كتب المُتقدِّمين والمتأخرين .. ثم قال: فاجتمع هؤلاء كلهم على إثبات هذا الفصل من السنة وهجران أهل البدع والضلال والإنكار على أصحاب الكلام والقياس والجدال، وأن السنة هي اتباع الأثر والحديث، والسَّلامة والتسليم والإيمان بصفات الله عز وجل من غير تشبيه، ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل فجميع ما ورد من الأحاديث في الصفات مثل: «أنَّ الله عز وجل خلقَ آدَمَ على صُورتِهِ»، و«يد الله على رأس المؤذنين»، و«قلوبُ العِبادِ بين أصبعين من أصابع الرحمن»، و«أَنَّ الله يضعُ السموات على إصبع».. كل ذلك بلا كيف ولا تأويل .. فإنه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: 11]: ينفي كل تشبيه وتمثيل.
﴿وَهُوَ السَمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]: ينفي كل تعطيل وتأويل.
فهذا مذهب أهل السنة والأثر، فمن فارق مذهبهم فارق السنة، ومن اقتدى بهم وافق السنة …).
وقال: (وأنه سميع بصير، عليم خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويعجب، ويضحك، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا، وينزل كل ليلة إلى السَّماء الدُّنيا بلا كيف ولا تأويل كيف شاء فمن أنكر النُّزول، أو تأوَّل فهو مبتدع ضال).
[«الحجة في بيان المحجّة (242/1 - 243)، و«العلو» للذهبي (1308/2)]
ص ٣٣٥ - ٣٣٦
قال أبو إسماعيل الأنصاري الهروي (481 هـ) رحمه الله في «ذم الكلام» (137/5 - 138): (وأولئك [يعني: الجهمية] قالوا: لا صفة.
وهؤلاء [يعني: الأشاعرة] يقولون: وجه كما يقال: وجه النهار، ووجه الأمر، ووجه الحديث، وعَين كعين المتاع، وسَمِعَ كأذن الجدار، وبصر كما يقال: جداراهما يتراءيان، ويد كيد المنة والعطية، والأصابع كقولهم: خراسان هي أصبعي الأمير، والقدمين كقولهم: جعلت الخصومة تحت قدمي، والقبضة كما قيل: فلان في قبضتي، أنا مالك أمره.
وقالوا: الكُرسي العِلم، والعرش المُلك، والضحك الرّضا، والاستواء الاستيلاء والنُّزول القُرب، والهرولة مثله، فشبّهوا من وجه، وأنكروا من وجه، وخالفوا السَّلف، وتعدوا الظاهر، وردُّوا الأصل، ولم يثبتوا شيئًا، ولم يبقوا موجودًا، ولم يفرقوا بين التَّفسير والعبارة بالألسنة؛ فقالوا: لا نفسرها نجريها عربية كما وردت.
وقد تأوّلوا تلك التأويلات الخبيثة أرادوا بهذه المخرقة أن يكون عوام المسلمين أبعد غيابًا عنها، وأعيا ذهابًا منها؛ ليكونوا أوحش عند ذكرها، وأشمس عند سماعها، وكذبوا بل التفسير أن يقال: وجه ثم لا يُقال: كيف وليس كيف في هذا الباب من مقال المسلمين).
ص ٣٣٨
قال أبو القاسم إسماعيل التيمي الأصبهاني (535 هـ) رحمه الله: (نعلم بالاضطرار أن الصَّحابة والتابعين ومن بعدهم قد كان فيهم: الأعرابي، والأمي، والمرأة والصَّبي، والعامة، ونحوهم ممن لا يعرف التأويل، وكانوا مع هذا يسمعون هذه الآيات والأحاديث في الصفات، وحدث بها الأئمة من الصَّحابة والتابعين على رؤوس الأشهاد، ولم يؤوّلوا منها صفةً واحدةً يوما من الدَّهرِ، وإنما تركوا العوام على فطرهم وفهمهم.
فلو كان التَّأويل سائغًا لكانوا أسبقَ شيءٍ إليه، لما فيه من إزالة التشبيه والتجسيم على زعم من زعم أن ظاهرها اللائق بالله تجسيم، بل لما ظهر الجهم بن صفوان وهو أوّل مَن تأوّل، بدَّعَهُ مَن كان في عصرِهِ من الأئمة مثل: سفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وابن المبارك، وأبي يوسف، ومحمد ابن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي، والشافعي وأحمد، وإسحاق، ومن لا يحصيهم إلا الله، ومنهم من كفّره، ومنهم من أباح قتله).
[«إثبات اليد الله تعالى» للذهبي (ص45)]
ص ٣٤٠
قال عبد الغني المقدسي (600 هـ) رحمه الله في «الاقتصاد في الاعتقاد» (ص 222): (واعلم رحمك الله أن الإسلام وأهلَهُ أتوا من طوائف ثلاث:
فطائفة ردت أحاديث الصفات، وكذبوا رواتها، فهؤلاء أشدّ ضررًا على الإسلام وأهلِهِ من الكُفَّارِ.
وأخرى: قالوا بصحتها وقبولها ثم تأوَّلوها؛ فهؤلاء أعظم ضررًا من الطائفة الأولى.
والثالثة جانبوا القولين الأوَّلين، وأخذوا بزعمِهم يُنزهون وهم يكذبون فأداهم ذلك إلى القولين الأولين، وكانوا أعظم ضررا من الطائفتين الأوليتين.
فمن السُّنة اللازمة السكوت عمّا لم يرد فيه نص عن الله ورسوله، أو يتفق المسلمون على إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات.
فكما لا يثبت إلا بنص شرعيّ، كذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي.
نسأل الله أن يوفقنا لما يرضاه لنا من القول والعمل والنِّيةِ).
ص ٣٤٠ - ٣٤١
قال ابن قدامة المقدسي (620 هـ) رحمه الله «في ذم التأويل» (٧٨):
(وأما الإجماع؛ فإن الصحابة اللهم أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرنا عنهم، وكذلك أهل كل عصر بعدهم، ولم يُنقل التأويل إلا عن مبتدع، أو منسوب إلى بدعة).
وقال (79): (لأن تأويل هذه الصفات لا يخلو: إما أن يكون عَلِمَهُ النبي ﷺ، وخلفاؤه الراشدون وعلماء أصحابه، أو لم يعلموه؛ فإن لم يعلموه فكيف يجوز أن يعلمه غيرهم، وهل يجوز أن يكون قد خبّأ عنهم علما وخبأ للمتكلمين لفضل عندهم؟!
وإن كانوا قد علموه ووسعهم السكوت عنه؛ وسعنا ما وسعهم، ولا وسعَ الله على من لم يسعه ما وسعهم؛ ولأن هذا التأويل لا يخلو من أن يكون داخلا في عقد الدين بحيث لا يكمل إلا به، أو ليس بداخل، فمن ادعى أنه داخل في عقد الدين لا يكمل إلا به، فيقال له: هل كان الله تعالى صادقًا في قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3] قبل التأويل؟ أو أنت الصَّادق في أنه كان ناقصًا حتى أكملته أنت؟ ولأنه إن كان داخلًا في عقد الدين ولم يقبله النبي ﷺ، ولا أصحابه، وجب أن يكونوا قد أخلوا، ودينهم ناقص، ودين هذا المتأوّل كامل، ولا يقول هذا مسلم.
ولأنه إن كان داخلا في عقد الدِّين، ولم يبلغه النبي ﷺ أُمته فقد خانهم، وكتم عنهم دينهم، ولم يقبل أمر ربه في قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بلغ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ [المائدة: 67] الآية، وقوله: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ [الحجر: 94]، ويكون النبي ﷺ ومِن شَهِدَ له بالبلاغ غير صادق، وهذا كفر بالله تعالى ورسوله).
ص ٣٤١ - ٣٤٢
قال ابن تيمية رحمة الله في «التسعينية» (545/2): (وأهل السُّنة وسلف الأمة مُتفقون على أن مَن تأوّل (استوى) بمعنى: (استولى)، أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سماواته فهو: جهمي ضال).
ص ٣٤٢
وقال [ابن القيم] أيضًا: (إن إبطال حقيقة اليد وجعلها مجازا هو في الأصل قول الجهمية المعطلة وتبعهم عليه المعتزلة، وبعض المتأخرين ممن يُنسب إلى الأشعري).
[«مختصر الصواعق» 970/3)]
ص ٣٤٣
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (1258 هـ) رحمه الله في «فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد» (ص 558):
(الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبةً مُتقدّمهم، ومُتأخرهم: إثبات الصّفاتِ التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله ﷺ.. فمن جحدَ شَيئًا مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين).
وقال في الدرر السنية (223/3): (وأما قول الأشاعرة، في نفي علو الله تعالى على عرشه فهو قول الجهمية، سواء بسواء؛ وذلك يردّه ويبطله نصوص الكتاب والسنة.. و«جوهرة السنوسي»، ذكر فيها مذهب الأشاعرة، وأكثره مذهب الجهمية المعطلة، لكنهم تصرفوا فيه تصرفًا، لم يخرجهم عن كونهم جهمية).
ص ٣٤٣ - ٣٤٤
قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (1293 هـ) رحمه الله في «عيون الرسائل والأجوبة على المسائل» (372/1): (فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله؛ لكن نازع في المعنى، وزعم أنه الاستيلاء فهو جهمي، مُعطل، ضال، مُخالف لنصوص الكتاب والسُّنة وإجماع سلف الأمة، وهذا القول هو المعروف عند السَّلفِ عن جهم، وشيعته الجهمية، فإنهم لم يصرحوا برد لفظ القرآن: كالاستواء، وغيرِهِ من الصفات، وإنما خالفوا الشلف في المعنى المراد).
وقال أيضًا (2/ 795) رحمه الله: (ومن أهل البدع وأكفرهم: الجهمية الذين ينكرون صفات الله التي جاء بها القرآن والسنة، ويؤولون ذلك: كالاستواء، والكلام والمجيء، والنزول، والغضب، والرضا، والحُبِّ، والكراهة، وغير ذلك من الصِّفاتِ الذاتية والفعلية).
ص ٣٤٤
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: (أما التأويل للصفات وصرفها عن ظاهرها فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة، ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل أنكره أهل السنة والجماعة، وتبرءوا منه، وحذروا من أهله، والله ولي التوفيق).
[الإجابة على أسئلة طرحت بإحدى المحاضرات بمكة بجامعة أم القرى]
ص ٣٤٤
(فصل) فيما رُوي من التَّأويل الفاسد عن بعض أئمّة أهل السُّنَّةِ مِمَّا يُشكل على الجهلة الأغمار
صاحب الهوى كالغريق يتعلّقُ بكل عودٍ ضعيف أو قوي، فهو لا يتبع إلا ما يهوى وإن كان عند العلماء أوهاما، كما قال الدارمي الله في «النقض على المريسي» (ص 283): (إن المصيب يتعلّق من الآثار بكل واضح مشهور والمريب يتعلّق بكل متشابه مغمور).
ص ٣٤٥
فهم يستدلون على صحة تأويلاتهم الفاسدة:
1 - بأحاديث ضعيفة، أو روايات مُحرَّفة مبتورة، أو أحاديث صحيحة غير تامة، أو أحاديث لم يفهموا دلالتها.
قال قوام السنة التيمي الأصبهاني رحمه الله في «الحُجَّة» (386/2): (صاحبُ السُّنةِ لا يتبع إلَّا ما هو الأقوى، وأصحاب الأهواء، وصاحب الهوى يتبع ما يهوى).
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية» (132/6) وهو يتكلم عما نسبه الغزالي للإمام أحمد رحمه الله من التأويل، قال: (وإنَّما يصلح أن يثبت هذه الأحاديث ويجعلها مما يتأوّل مثل هؤلاء الذين لا يعرفون الأحاديث الصَّحيحة من الضَّعيفة، ولا يعرفون دلالة الألفاظ حتَّى يُميّزوا ما هو تأويل مُخالف للظَّاهر وما ليس تأويلا مخالفًا للظاهر، فلقلة معرفتهم بأعلام الهدى - وهي ألفاظ الرسول ﷺ، ووجه دلالتها - يقعون في الحيرة والاضطراب، حتى لا يُميزون بين ما قيل من كلام الفلاسفة والمتكلمين وما يُرَدّ؛ بل تارة يوافقونهم، وتارة يُخالفونهم، وتارة يُكفّرونهم، فهم دائماً مُتناقضون في قول مختلف، يؤفك عنه من أفك).
ص ٣٤٥ - ٣٤٦
2 - أن يستدلوا على تأويلاتهم الفاسدة بكلام بعض الأئمة فيما وافق أهواءهم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله في «الرد على الجهمية» (216): (إن الذي يُريد الشذوذ الحقِّ يتَّبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤم الحقَّ في نفسه يتبع المشهور من قولِ جماعتِهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان يُستدلّ بهما على اتباع الرَّجل وعلى ابتداعه).
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى» (409/5):
(بعض الخائضين بالتَّأويلات الفاسدة، يَتشبَّثُ بألفاظ تنقل عن بعض الأئمة وتكون إما غلطا أو مُحرَّفة).
ص ٣٤٦
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة» (الرد على الجهمية) (317/3):
(فالجهمي الملعون إنما أُتي من جهله باللسان العربي، ومن تعاشيه عن الجادة الواضحة وطلبه المتشابه، وثنيات الطرق ابتغاء الفتنة، ﴿لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا ساءَ مَا يَرْرُونَ﴾ [النحل: 25]).
فلهذا كل من احتج بأحدٍ من الأئمة فلا بد له من أمرين:
1 - صحة النقل عن ذلك القائل.
2 - معرفة كلامه.
[انظر: «مختصر الصواعق المرسلة» (1358/4)]
وعند البحث عن كثيرٍ من الروايات التي يحتج بها أهل التأويل على باطلهم في صحة التّأويل؛ يظهر كذبهم فيها كما قال الأوزاعي رحمه الله: (لم يبلغنا أن أحدًا من التَّابعين تكلَّمَ في القدرِ إِلَّا هذين الرجلين: الحسن ومكحول، فكشفنا عن ذلك؛ فإذا هو باطل).
[«الإبانة» (1775)]
ص ٣٤٧
قلت: والمتأمل فيما يستدلّ به أهل التعطيل في تأويلهم لنصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة، وما رُوي عن بعض أئمة أهل السنة؛ يجدها لا تخرج غالبًا عن الأحوال التالية:
الأول: استدلالهم على التأويل الباطل بما روي عن بعض أهل السنة من التأويل مما لا تصح نسبته إلى من رويت عنه.
الثاني: استدلالهم بظواهر بعض النصوص على أنها من نصوص الصفات، وليس كذلك.
الثالث: استدلالهم بما تنازع فيه أهل السنة والجماعة من دلالة النص: هل يُراد به الصفة أم لا؟
الرابع: أن يكون كلام السَّلف عن الصِّفة من باب الكلام عن معنى الصفة، واللازم منها، لا من باب التأويل الفاسد لحقيقة الصفة.
الخامس: استدلالهم بما صح عن بعض أهل السنة من التأويل الذي لم يوافقهم عليه أئمة أهل السنة، وعدوه من الأخطاء التي لا يتابعون عليها.
الأول: استدلالهم على التأويل الباطل بما روي عن بعض أهل السنة من التأويل مما لا تصح نسبته إلى من رويت عنه.
قال ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» (441/2) - وهو يتكلم عن الأسباب التي تُسَهّل على النفوس قبول التأويل -:
(أن يعزو المتأوّل تأويله إلى جليل القدر، نبيل الذِّكرِ من العُقلاء، أو آل بيت النبوة، أو من حَصَلَ له في الأمة ثناء جميل، ولسان صدق، ليحلّيه بذلك في قلوب الأغمار والجهال فإن من شأنِ النَّاسِ تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكُلّما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليُقدِّمون كلامه على كلام الله ورسوله ويقولون: هو أعلم بالله مِنًا).
ص ٣٤٨
قلت: فهم يحتجون على تأويلاتهم الباطلة بالروايات الضعيفة والمكذوبة المروية عن بعض أئمة أهل السنة، ومنها:
١- ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل الاستواء.
قال عثمان بن سعيد الدارمي رحت لله في «النقض» (248): (… والعجب ممن يدفع ما روى الزُّهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي هريرة وأبي سعيد، عن النبي ﷺ وعن زيد بن مسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد وسعيد المقبري وثابت البناني، من رواية معمر وسفيان وشعبة ومالك بن أنس وحماد بن زيد ونظرائهم من أعلام المسلمين، ويتعلق برواية ابن الثَّلجي والمريسي ونظرائهم من أهل الظنة في دين الله إذا وجد في شيء منها أدنى متعلق يدخل بها دلسة على الجُهّال).
ص ٣٤٩ - ٣٥٠
٢- المثال الثاني: ما رُوي عن الأوزاعي (157 هـ)، ومالك بن أنس (179 هـ)، - رحمهما الله تعالى - في تأويل حديث النزول.
…
قلت: لا يثبت هذا عن الأوزاعي الله تعالى. قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى» (409/5) في بيان بطلان نسبة هذا القول قال: (ولكن بعض الخائضين بالتأويلات الفاسدة، يتشبث بألفاظ تُنقل عن بعض الأئمة وتكون إما غلطا، أو محرَّفةً، كما تقدَّمَ من أن قول الأوزاعي وغيره من أئمة السَّلف في النزول: (يفعل الله ما يشاء)، فسَّره بعضهم أن النزول مفعول مخلوقٌ مُنفصل عن الله، وأنهم أرادوا بقولهم: يفعل الله ما يشاء، هذا المعنى، وليس الأمر كذلك..).
[وانظر كذلك «مجموع الفتاوى» (401/5)]
أما ما رُوي عن الإمام مالك رحمه الله… فقد أنكر يحيى بن بٌكير رحمه الله رواية حبيب هذه، وقال: خسئ والله، ولم أسمعه من مالك.
[«الصفات» لابن المحب]
وقال ابن تيميه رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (401/5): (وكذلك ذكرت هذه رواية عن مالك رويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب؛ لكن هذا كذَّاب باتفاق أهل العلم بالنقل، لا يقبل أحد منهم نقله عن مالك، ورويت من طريق أخرى ذكرها ابن عبد البر، وفي إسنادها من لا نعرفه).
قلت: ومما يُبيّن بطلان هذه الرواية عن الإمام مالك رحمه الله؛ ما ثبت عنه من إثبات هذه الصفة وإمرارها كما جاءت كسائر الصفات كما: قال زهير بن عباد الرواسي: كل من أدركتُ مِن المشايخ مالك بن أنس، وسفيان الثوري وفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك، ووكيع ابن الجراح، يقولون: النزول حق.
[«أصول السنة» لابن أبي زمنين (341)]
…
فليس للإمام مالك رحمه الله إلا قولًا واحدًا؛ وهو إثبات النزول على حقيقته من غير تأويل، كما تقدم عنه قوله: (أمروها كما جاءت).
ص ٣٥٠ - ٣٥٢
٣- المثال الثالث: ما روي عن الإمام أحمد بن حنبل الله من التأويل.
أ) ما نقله الغزالي عن الإمام أحمد من تأويله لثلاثة من أحاديث الصفات.
…
قلت: نقل هذا الكلام الرازي في كتابه «أساس التقديس» وارتضاه، وتبعه على ذلك خلق كثير!
ورحمه الله عبد الله بن المبارك إذ يقول: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
[رواه مسلم في مقدمته (15/1)]
…
قال ابن تيمية رحمه الله في «بيان تلبيس الجهمية» (126/6) - وهو يتكلم عن الغزالي -: (كان قليل المعرفة بالحديث والآثار، والمعرفة لمعانيها وكان يقول: بضاعتي في الحديث مُزجاة .. ولهذا في كتبه من المنقولات المكذوبة الموضوعة ما شاء الله… ومن ذلك هذا النقل الذي عن أحمد؛ فإنّه نقله عن مجهول لا يُعرف، وذلك المجهول أرسله إرسالا عن أحمد ولا يتنازع من يعرف أحمد وكلامه، أن هذا كَذِبٌ مُفترى عليه، ونصوصه المنقولة عنه بنقل الثّقات الأثبات والمتواترة عنه يرد هذا الهذيان الذي نقله عنه، بل إذا كان أبو حامد ينقل عن رسول الله ﷺ، وعن أصحابه والتابعين من الأكاذيب ما لا يحصيه إلا الله، فكيف ما ينقله عن مثل أحمد؟!).
ومما يدل أيضًا على بطلان هذا النقل ما ثبت عن أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب، قال عند ذكره لحديث: «قلبُ العَبدِ بين أصبعين»، وحديث: «خلق آدمَ بَيدِهِ»، قال رحمه الله: وكلما جاء الحديث مثل هذا قلنا به.
[«إبطال التأويلات» (45)]
ب) ما رُوي عن الإمام أحمد رحمه الله من تأويل قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22].
قلت: للبيهقي كتاب في «مناقب الإمام أحمد» ذكر فيه عقيدته، واعتمد في نقله لتلك العقيدة على ما ذكره أبو الفضل التميمي من فهمه لا من روايته، وأبو الفضل هذا كان يميل إلى مذهب الأشاعرة في نفي الصفات الاختيارية: كالنزول، والمجيء الله تعالى.
[وانظر: «مجموع الفتاوى» (167/4)]
وقد ذكر المحققون مِن أهلِ السُّنة بطلان نسبة هذا التأويل للإمام أحمد ولهم في تخريجها وجهان:
١- أن هذه الرواية انفرد بذكرها حنبل، وهو ينفرد بأشياء لا يُتابع عليها.
قال الخلال رحمه الله: (قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بغير شيء).
[«طبقات الحنابلة» (143/1)]
وقال ابن القيم رحمه الله: (وهو كثير المفاريد المخالفة للمشهور من مذهبه).
[«مختصر الصواعق» (406/2)]
وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (401/5): (ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يُناقض هذه الرواية، ويُبيِّن أنه لا يقول: إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره؛ بل هو يُنكر على من يقول ذلك).
٢- ولأهل السُّنة جواب آخر على فَرض ثبوت هذه الرواية، بحيث لا تُناقض ما ثبت وتواتر عن أحمد رحمه الله من ترك التأويل مطلقًا. وملخص هذا الجواب:
أن هذا الكلام قاله أحمد في معرض المناظرة مع خصومه الجهمية كما هو مدلول الرّواية نفسها … فردّ عليهم الإمام أحمد على هيئة الإلزام لهم بناء على أصولهم: أنه إذا كنتم تتأوّلون قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22] أي جاء ثوابه، فكذلك يلزمك هذا التأويل ها هنا فيكون المعنى يجيء ثواب البقرة، وثواب سورة آل عمران، أما القرآن فهو كلام الله لا يجيء، وهذا على سبيل التنزل في مناظرة الخصم على أصولهم لبيان تناقضهم.
قال ابن تيمية رحمه الله في «الاستقامة» (75/1): (وقال قوم منهم: إنما قال ذلك إلزاما للمُنَازعين له؛ فإنهم يتأوّلون مجيء الرَّب بمجيء أمره. قال: فكذلك قولوا: يجيء کلامه بمجيء ثوابه وهذا قريب).
وقال ابن رجب رحمه الله في فتح الباري (228/7): (ومنهم من قال: إنما قال ذلك إلزاما لمن ناظره في القرآن فإنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22]، أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره، وهذا أصح المسالك أي في هذا المروي).
[وانظر: «مجموع الفتاوى (405/16)، و«الاستقامة» (74/1)، و«مختصر الصواعق المرسلة» (260/2)]
ص ٣٥٢ - ٣٥٥
٤- المثال الرابع: مَا رُوي عن الإمام البخاري (256 هـ) رحمه الله:
…
قلت: لم يذكر البيهقي إسناده ولا عمن نقله حتى ننظر في صحته ولهذا قال ابن حجر في «الفتح» (632/8) مُبيِّنًا بطلان هذا النقل: (ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري).
ومن نظر في كتاب التوحيد من «صحيح البخاري» الله، وكتابه «خلق أفعال العباد» تبيَّن له بجلاء بطلان هذا النَّقل عن الإمام البخاري، وبهتان أهل التأويل على أئمة أهل السنة والجماعة في تلك النقول الخاطئة.
ومما يُبين بطلان هذه التأويل عن الإمام البخاري رحمه الله ذكره في «تاريخه الأوسط» (978) عن شيخه أبي نعيم الفضل بن كين بعد روايته لحديث ضحك الرب عز وجل قوله:
سمعت أبا نعيم حين حدث بهذا الحديث فلما بلغ قوله: (فضحك) ثم قال: لعن الله المريسي.
قلت: والأعجب من هذا النقل عن الإمام البخاري رحمه الله أن يدعي ابن حجر عنه أنه كان يستمد مباحثه العقدية عن أئمة أهل البدع الذين حذر السلف منهم أشد تحذير؛ كالكرابيسي، وابن كلاب!!
فيقول في «الفتح» (243/1):
(مع أن البخاري في جميع ما يُورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفَنِّ: كأبي عُبيدة، والنضر بن شميل، والفراء وغيرهم.
وأما المباحث الفقهيه فغالبها مستمدة من: الشافعي، وأبي عبيد، وأمثالهما.
وأما المسائل الكلامية فأكثرها من: الكرابيسي، وابن كلاب ونحوهما).
قلت: لا يخفى على كل صاحب سُنة وبصيرة بطلان هذا القول وجنايته على الإمام البخاري رحمه الله.
وتصانيف الإمام البخاري رحمه الله أكبر دليل على ردّ هذا الفرية، وكشف بطلانها.
وهذا الكرابيسي من الجهمية الضلال الذين حذر منهم السلف.
ص ٣٥٥ - ٣٥٦
الثاني: استدلالهم بظواهر بعض النصوص على أنها من نصوص الصفات، وليس كذلك.
…
يوضح ذلك: قول ابن منده رحمه الله في «الرد على الجهمية» (ص55) وهو يتكلم عن لفظة: (وجه الله) الوارد في النصوص، فمنها ما يدخل في باب الصفات، ومنها ما ليس له مدخل في صفات الله تعالى، فقال:
أحدهما وجه حقيقة.
والآخر: بمعنى الثواب.
فأما الذي هو بمعنى الوجه في الحقيقة ما جاء عن النبي ﷺ في حديث أبي موسى، وصهيب وغيرهم مما ذكروا فيه الوجه، وسؤال النبي ﷺ بوجهه جل وعز واستعاذته بوجه الله وسؤاله النظر إلى وجهه جل وعز، وقوله: «لا يسأل بوجه الله. وقوله: أضاءت السماوات بنور وجه الله، وإذا رضي عن قوم أقبل عليهم بوجهه جل وعز، وكذلك قول الله جل وعز: ﴿إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 23]. وقول الأئمة بمعنى إلى الوجه حقيقة الذي وعد الله جل وعز ورسوله الأولياء، وبشر به المؤمنين بأن ينظروا إلى وجه ربهم.
وأما الذي هو بمعنى الثواب فكقول الله: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ﴾ [الإنسان: 9] وقوله جل وعز: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوْةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الأنعام: 52]، وما أشبه ذلك في القرآن. وقول النبي ﷺ: «ما قائل يلتمس وجه الله». وما أشبه ذلك مما جاء عن النبي، فهو على معنى لثواب. اهـ.
قال ابن تيمية تحمل لله في درء التعارض» (232/5):
(إذا كان في كلام الله ورسولِهِ كلامٌ مُجمل، أو ظاهر قد فسر معناه وبيَّنه كلام آخرَ مُتَّصل به، أو منفصل عنه، أو مُنفصل عنه، لم يكن في هذا خروج عن کلامِ الله ورسوله، ولا عيب في ذلك ولا نقص).
…
وقال في الرد على البكري (5921): (فإن التأويل إنما يُحتاج إليه إذا أطلق المطلق لفظًا له ظاهر وأراد به غير ظاهره من غير بيان، وهذا لم يقع، فإن كان بعض النَّاسِ يظهر له من اللفظ ما لم يدلّ عليه، فالتفريط منه).
وكم من عائب قولاً صحيحًا … وآفته من الفهم السقيمِ
وعامة ما يورد على ألفاظ الكتاب والسُّنة ويُدعى أن ظاهرها ممتنع إنما أتي من سوء فهمه لا من قصور في بيان الله ورسوله؛ بل ممن تأول).
ص ٣٥٧ - ٣٥٩
١- المثال الأول: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبئهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيِّامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ﴾ [المجادلة: 7].
وهذه الآية يحتج بها أهل التأويل على صحة مذهبهم، فيقولون لأهل السُّنة: كما أجزتم التأويل في هذه الآية وقبلتموه في أن الله تعالى ليس معهم بذاته بل بعلمه، فكذلك يلزمكم في سائر نصوص الصفات.
…
وقد رد أهل السنة على هذه الشُّبه ودحضوها، ومن ذلك:
قال أبو عمر الطَّلمكني: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4]، ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السَّموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء).
[«العلو» للذهبي (566)]
قال ابن بطه (387 هـ) رحمه الله في «الإبانة» (الرد على الجهمية) (144/3): (واحتج الجهمي بقول الله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا﴾ [المجادلة: 7]، فقالوا: إن الله معنا، وفينا، واحتجوا بقوله: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط﴾ [فُصِلَت: 54]، وقد فسر العلماء هذه الآية: ﴿مَا يَكُونُ مِن نَجْوَى﴾ [المجادلة:] إلى قوله: ﴿مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبئهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7] إنما عنى بذلك علمه، ألا ترى أنه قال في أوّل الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [المجادلة: ٧]، فرجعت الهاء والواو من (هو) على علمه لا على ذاته.
ثم قال في آخر الآية: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة: 7] فعاد الوصف على العلم، وبيَّن أنه إنما أراد بذلك العلم، وأنه عليم بأمورهم كلّها.
ولو كان معنى قوله: ﴿أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 231] أنه إنما علم ذلك بالمشاهدة لم يكن له فضل على علم الخلائق، وبطل فضل علمه بعلم الغيب؛ لأن كل من شاهد شيئًا وعاينه وحله بذاته فقد علمه، فلا يقال لمن علم ما شاهده، وأحصى ما عاينه: إنه يعلم الغيب؛ لأن شأن من المخلوق أن لا يعلم الشيء حتى يراه بعينه، ويسمعه بأذنه، فإن غاب عنه جهله إلَّا أن يعلمُهُ غيره فيكون مُعلمًا لا عالِمًا، والله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما بين ذلك، وهو بكل شيء محيط بعلمه.
وأما قوله: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحيط] [فُصِلَت: 54]، فقد فسَّر ذلك في كتابه فقال: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12] فبيّن أن تلك الإحاطة إنما هي بالعلم لا بالمشاهدة بذاته .. فتفهموا الآن رحمكم الله كُفر الجهمي؛ لأنه يدخل على الجهمي أن الله تعالى لا يعلم الغيب، وذلك أن الجهمي يقول: إن الله شاهد لنا، وحال بذاته، فسار في كل شيء ذرأه وبرأه.
وقد أكذبهم الله تعالى فقال: ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلا الله﴾ [النمل: 65] فأخبر أنه يعلم الغيب.
وقال: ﴿عَلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: 9] فوصف نفسه تعالى: بعلم الغيب والكبر والعلو. ووصفه الجهمي بضد ذلك).
ص ٣٦٠ - ٣٦١
٢- المثال الثاني: قول الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَيْيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]:
نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى هذه الآية ﴿بِأَيْيْدٍ﴾ [الذاريات: 47]: أي بقوة وقدرة.
فظن بعضهم أن هذا من تأويل آيات الصفات.
وليس كذلك؛ فأن الأيد هنا ليس هو جمع لليد التي هي الصفة.
قال صاحب «مختار الصحاح»: (قال الله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَييْدِ﴾ [الذاريات: 47] قلت: قوله تعالى: ﴿بِأَييد﴾ أي: بقوة، وهو مصدر: آد يئيد إذا قوي، وليس جمعًا ليد ليذكر هنا، بل موضعه باب الدال، وقد نص الأزهري على هذه الآية في الأيد بمعنى المصدر، ولا أعرف أحدًا من أئمة اللغة، أو التفسير ذهب إلى ما ذهب إليه الجوهري من أنها جمع يد).
وقال ابن خزيمة رحمه الله في «التوحيد» (128/1):
(وزعم بعض الجهمية أن معنى قوله: «خلق الله آدم بيديه» أي: بقوته، فزعم أن اليد هي القوَّة، وهذا من التبديل أيضًا، وهو جهل بلغة العرب، والقوة إنما تُسمى: (الأيد) في لغة العرب لا (اليد).
فمن لا يفرق بين (اليد) و(الأيد) فهو إلى التعليم والتسليم إلى الكتاتيب أحوج منه إلى الترؤس والمناظرة).
[وانظر: «بيان تلبيس الجهمية» (342/3)]
ص ٣٦٣ - ٣٦٤
٣- المثال الثالث: حديث: «يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي».
قال القاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات» (1/ 224): (اعلم أن هذا الخبر قد اقترن به تفسير من النبي ﷺ في بعضه، فوجب الرجوع إلى تفسيره، وذلك أنه فسَّر قوله: (مرضت، واستطعمت، واستقيت)، على أنه إشارة إلى مرض وليه واستسقائه واستطعامه، وأضاف ذلك إلى نفسِهِ إكراما لوليه ورفعة لقدره، وهذه طريقة معتادة في الخطاب؛ يُخبر السيد عن نفسه ويُريد عبده إكراما له وتعظيمًا).
ص ٣٦٥
٤- المثال الرابع: حديث: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض يُصافح به خَلقه».
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية» (138/6):
(هذا الحديث سواء كان عن ابن عباس، أو كان مرفوعا؛ فلفظه نص صريح لا يَحتاجُ إلى تأويل؛ فإن لفظه: «الحَجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وقبله كأنما صافح الله وقبل يده».
وتسمية هذا تأويلا أبعد من تسمية الحديث الذي فيه: (جعت)، وذلك أنه يمين الله في الأرض، فقوله: (في الأرض) متصل بالكلام، مظهر لمعناه، فدلّ بطريق النّص أنه ليس هو يمين الله الذي هو صفة له، حيث قال: (في الأرض، كما لو قال الأمير - مُخاطبًا للقوم في جاسوس له: هذا عيني عندكم.
فإن هذا نص في أنه جاسوسه الذي هو بمنزلة عينه، ليس هو عينه التي هي صفة.
فكيف يجوز أن يقال: إن هذا متأوّل مصروف عن ظاهره؟! وهو نص في المعنى الصَّحيح، لا يحتمل الباطل، فضلًا عن أن يكون ظاهره باطلًا.
وأيضًا فإنه قال: (من استلمه،وقبله، فكأنّما صافح الله وقبل يده)، فجعل المستلم له كأنما صافح الله تعالى ولم يقل: فقد صافح الله، والمشبه ليس هو المشبه به، بل ذلك نَصَّ في المغايرة بينهما، فكيف يقال: إنه مصروف عن ظاهره، وهو نص في المعنى الصحيح؟!
بل تأويل هذا الحديث لو كان مما يقبل التَّأويل أن يجعل الحجر عين يمين الله، وهو الكفر الصريح الذي فروا منه).
[وانظر: «الرد على البكري (593/1)، و درء التعارض (384/3) و(239/5)]
ص ٣٦٦ - ٣٦٧
٦- المثال السادس: قول الله تعالى: ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَفِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67].
وأهل السنة أجابوا عن ذلك بجوابين:
١- أن الله تعالى قد نفى عن نفسه النسيان بقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيَّا﴾ [مريم: 64]، وقوله: ﴿لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ [طه: 52].
٢- أن النسيان المذكور في الآيات التي استدلوا بها على جواز التأويل غير النسيان الذي نفاه الله عز وجل عن نفسه.
فالنسيان المنفي عن الله تعالى: هو ما يقتضي نقصًا يجب تنزيه الله عنه، والذي يقدح في كمال علمه تعالى.
أما النسيان الذي جاء ذكره في هذه الآيات فهو من قبيل المعاملة بالمثل، والجزاء من جنس العمل، فجاء في سياق العقوبة لمن وقع منه نسيان وغفلة عما أخبر الله به من آياته وتكذيب للقائه، فيعامل معاملة الناسي؛ لأن الله تعالى لا ينسى شيئًا علمه.
وقيل: النسيان هنا بمعنى الترك، أي أن الله تعالى يتركهم ولا يلتفت إليهم.
فالنسيان في لغة العرب يكون على معنيين:
1 - بمعنى ترك الشيء عن ذهول وغفلة. وهذا الذي يُنزّه الله تعالى عنه، وهو ضد الذكر.
2 - ويكون بمعنى الترك عمدًا.
وهو الذي عناه الله تعالى في الآيات التي أطلق النسيان على نفسه؛ لكن لا يُستعمل في حقه إِلَّا مُقيَّدًا.
[انظر: «معجم مقاييس اللغة» (ص 1024)، و «لسان العرب» (322/15)، و«المصباح المنير» (ص311)]
ص ٣٦٩ - ٣٧٠
الثالث: استدلالهم بما تنازع فيه أهل السنة والجماعة من دلالة النص: هل يُراد به الصفة أم لا؟
تنازع أهل السنة في بعض أفراد نصوص الصفات هل يُراد منها إثبات الصفة الله تعالى، أم لا؟
فمن أمضاها على ظاهرها؛ فقد سار على الأصل الذي اتفق عليه السلف الصَّالح من إمرار الصفات على ظاهرها من غير تأويل. ومن ذهب مِن أهل السنة إلى تأويلها وصرفها عن ظاهرها؛ فلقرينة عنده:
1 - إما لدلالة في النَّص.
2 - أو لثبوت نص آخر قيّد ما أُطلِق في النَّص؛ كما تقدم.
ص ٣٧١
١- المثال الأول: قول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقِ [القلم: 42].
وقد أجاب عن ذلك ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (394/6) بقوله: (وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إِلَّا في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: 42] فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة أن المراد به الشَّدة أن الله يكشف عن الشِّدَّةِ في الآخرة.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه وطائفة؛ أنهم عدوها في الصِّفاتِ للحديث الذي رواه أبو سعيد في «الصحيحين».
ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفاتِ، فإنه قال: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾ [القلم: 42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل عن ساقه، فمع عدم التَّعريف بالإضافة لا يظهر أنه من الصِّفاتِ إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إنما التأويل صرفُ الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف؛ ولكنَّ كثيرًا من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، ثم يُريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلا، وهذا خطأ من وجهين كما قدمنا غير مرّة).
[وانظر كذلك بيان تلبيس الجهمية» (472/5)]
قلت: وأهلُ السُّنة لا يختلفون في إثبات صفة السَّاقِ الله تعالى، كما ثبت في الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «يكشِفُ رَبَّنا عن ساقهِ فيَسجُدُ له كُلُّ مُؤمِن ومؤمِنةٍ، فيبقى كُلُّ مَن كان يَسجُدُ في الدنيا رياءً وسُمعَةً، فيذهَبُ ليسجد فيعُودُ ظهرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا».
[رواه البخاري (4914)]
ص ٣٧٢ - ٣٧٣
٢- المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: 115]: فقد اختلف في هذه الآية هل تدخل في صفات الله تعالى، أم لا؟
قال [ابن تيمية رحمه الله] في بيان تلبيس الجهمية (74/6) وهو يتكلم عن هذا التأويل:
(إن من قال مِن السَّلف والأئمة لم يقولوه لأنهم ينفون وجه الله الذي يراه المؤمنون في الآخرة؛ بل قالوه لأن ذلك ظاهر الخطاب عندهم؛ لأن لفظ الوجه مشهور أنه يقصد به الجهة، والقبلة: هي الجهة، وقد أخبر أن وجهه ثم أي في ذلك المكان، وهذا يناسب أن يكون قبلته في ذلك المكان؛ لأن صفته ليست في مكان.
فهذا القول ليس عندنا من باب التأويل الذي هو مخالفة الظَّاهر أصلا، وليس المقصود نصر هذا القول بل بيان توجيهه وأن قائليه من السَّلف لم يكونوا من نفاة الصفة ولا ممن يقول ظاهر الآية ممتنع).
قلت: أثبت أهل السنة والجماعة الوجه الله تعالى بدلالة الكتاب والسنة، وإنما وقع الخلاف من بعضهم في هذه الآية هل يمكن الاستدلال بها على إثبات وجه الله أم لا؟ ولم يأتِ تأويل هذه الصفة إلا عن الجهمية، وأفراخهم من الأشاعرة وغيرهم.
ص ٣٧٣ - ٣٧٤
٣- المثال الثالث: الحديث فيه نسبة الهرولة إلى الله تعالى.
ولقد أمضاه أكثر أهل السنة على ظاهره، ولم يتعرضوا إلى تأويله.
وقد صح تأويله عن بعض أهل السنة؛ لقيام الدليل الصارف عندهم عن كونها صفة من صفات الله تعالى، لا أنه يوهم التشبيه والتمثيل كما يدعي ذلك الجهمية وأفراخهم المعطلة فيجب عندهم تأويله.
ومن ذلك: ما فسره به الترمذي رحمه الله في «سننه» (581/5) فقال:
(يروى عن الأعمش في تفسير هذا الحديثِ: «مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقرَّبتُ منه ذراعًا»، يعني بالمغفرة والرحمة، وهكذا فسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث قالوا: إنما معناه يقول: إذا تقرَّبَ إليَّ العبد بطاعتي وما أَمَرتُ، أُسرِعُ إليه بمغفرتي ورحمتي. ورُوي عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآيةِ: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: 152] قال: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي).
…
قال القاضي أبو يعلى في «إبطال التأويلات» (231/1): (وأما قوله: «من قرُبَ شِبرًا، قربتُ مِنه ذِرَاعًا»، فالمراد به: التَّقريب من رحمتِهِ وكرامته؛ لأنه رُوي ذلك مُفسَّرًا في بعض ألفاظ الحديث، رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ: «مَن جَاءَ يَمشي أقبلَ الله إليه بالخير يُهرول»، فقد ورد التفسير من رسول الله ﷺ في ذلك، فلهذا قضينا بالمطلق منه على المقيد).
…
والقاضي سلك في كتابه هذا مسلك أهل التفويض في جميع الصفات، كما تقدّم التنبيه على ذلك.
ص ٣٧٤ - ٣٧٦
الرابع: أن يكون كلام السَّلف عن الصِّفة من باب الكلام عن معنى الصفة، واللازم منها، لا من باب التأويل الفاسد لحقيقة الصفة.
فإن من عادة السَّلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها، أو لازمًا من لوازمها أو الغاية المقصودة منها، أو مثالًا يُنبه السامع على نظيره، وهذا كثير في كلامهم لمن تأمله مع عدم التعرض لصفات الله تعالى بنفي أو إثبات.
ص ٣٧٧
١- المثال الأول: صفة النور الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: (لو صح ذلك عن ابن عباس؛ فليس مقصوده به نفي حقيقة النُّور عن الله تعالى، وأنه ليس بنور، ولا له نور، كيف وابن عباس هو الذي سمع من النبي قوله في صلاة الليل: «ولك الحمدُ أَنتَ نورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض وَمَن فِيهِنَّ»، وهو الذي قال لعكرمة لما سأله عن قوله: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: 103] قال: ويحك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلّى بنوره لم يدركه شيء.
كيف ولفظ الآية والحديث ينبئ عن تفسير النُّور بالهادي؛ لأن الهداية تختص بالحيوان، وأما الأرض نفسها والسَّماء فلا توصف بهدي، والقرآن والحديث، وقول الصحابة صريح في أنه سبحانه نور السماوات والأرض؛ ولكن عادة السَّلف أن يذكر أحدهم فى تفسير اللفظةِ بعض معانيها، أو لازما من لوازمها، أو الغاية المقصودة منها، أو مِثالًا يُنبه السامع على نظيره، وهذا كثير في كلامهم لمن تأمله فكونه سبحانه هاديًا لا يُنافي كونه نورًا).
[«مختصر الصواعق (1047/3 - 1048 وانظر نحوه في بيان تلبيس الجهمية» (523/5)]
ص ٣٧٨
٢- المثال الثاني: حديث النبي ﷺ: «إن الله يُدني العبد المؤمن، فيضع عليه كنفه ويستره» الحديث رواه البخاري (2441).
…
وقد فسر ابن المبارك رحمه الله هذا الحديث بلازمِهِ، ولم يتأوله بتأويلات الجهمية المعطلة الذين يقولون: إن المراد بهذا الحديث التمثيل لا الحقيقة. قال البخاري رحمه الله في «خلق أفعال العباد» (343): (قال عبد الله بن المبارك: (كَنَفَه): يعني سِتره).
وقد بيّن الدارمي رحمه الله مقصود ابن المبارك رحمه الله من ذلك، فقال في «النقض على بشر المريسي» (ص 468): (فتأويل هذا: أنه على السترِ مع القرب والدُّنو والمُناجاة التي قالها النبي ﷺ.
قلت: ومراد الدارمي بالتأويل هنا التفسير وليس المراد به ما هو متعارف به عند أهل البدع من صرف الكلام عن حقيقته، كما تقدم. فأهل السنة والأثر يثبتون الصفة ولازمها.
…
وقال ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» (1218/4):
(إن الصفة يلزمها لوازم من حيث هي هي، فهذه اللوازم يجب إثباتها، ولا يصح نفيها إذ نفيها ملزوم كنفي الصفة؛ مثاله الفعل والإدراك للحياة، فإن كل حي فعال مُدرك، وإدراك المسموعات بصفة السمع وإدراك المبصرات بصفة البصر، وكشف المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصفات، فهذه اللوازم ينتفي رفعها عن الصفة، فإنها ذاتية لها، ولا يرتفع إلّا برفع الصفة).
ص ٣٧٨ - ٣٨٠
الخامس: استدلالهم بما صح عن بعض أهل السنة من التأويل الذي لم يوافقهم عليه أئمة أهل السنة، وعدوه من الأخطاء التي لا يتابعون عليها.
١- المثال الأول: ما رواه ابن جرير رحمه الله في تفسيره (192/29) عن وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرَةُ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 22، 23] قال: (تنتظر الثواب من رَبِّها).
فهذا التأويل لهذه الآية من مجاهد رحمه الله لم يوافقه عليه أحد من أهل السنة، فإن أهل السنة قد أجمعوا على أن المراد بهذه الآية رؤية المؤمنين لرَبِّهم في الجنة.
قال ابن عبد البر في (التمهيد) (157/7): (قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي، وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف، وهو قول ﷺ عند أهل السُّنة مهجور، والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم ﷺ، وليس من العلماء أحدٌ إِلَّا وهو يؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله ﷺ).
…
قال الدارمي رحمه الله في «الرد على الجهمية» (ص 108): (واحتج محتج منهم بقول مجاهد، قال: تنتظر ثواب ربّها.
قلنا: نعم، تنتظر ثواب ربّها، ولا ثواب أعظم من النَّظر إلى وجهه تبارك وتعالى.
فإن أبيتم إلا تعلقا بحديث مجاهد هذا، واحتجاجا به دون ما سواه من الآثار؛ فهذا آية شذوذكم عن الحقِّ، واتباعكم الباطل؛ لأن دعواكم هذه لو صحت عن مجاهد على المعنى الذي تذهبون إليه كان مدحوضا القول إليه مع هذه الآثار التي قد صحت فيه عن رسول الله وأصحابه وجماعة التابعين، أو لستم قد زعمتم أنكم لا تقبلون هذه الآثار، ولا تحتجون بها، فكيف تحتجون بالأثر عن مجاهد إذ وجدتم سبيلاً إلى التعلق به لباطلكم على غير بيان، وتركتم آثار رسول الله ﷺ له وأصحابه والتابعين إذ خالفت مذهبكم! فأما إذ أقررتم بقبول الأثر عن مجاهد، فقد حكمتم على أنفسكم بقبول آثار رسول الله وأصحابه والتابعين بعدهم؛ لأنكم لم تسمعوا عن مجاهد، بل تأثرونه عنه بإسناد، وتأثرون بأسانيد مثلها، أو أجود منها عن رسول الله وأصحابه والتابعين ما هو خلافه عندكم، فكيف ألزمتم أنفسكم اتباع المشتبه من آثار مجاهد وحده وتركتم الصحيح المنصوص من آثار رسول الله وأصحابه ونظراء مجاهد من التّابعين إلا من ريبة وشُذوذ عن الحق.
إن الذي يريد الشذوذ عن الحق يتبع الشاذ من قول العلماء، ويتعلق بزلاتهم، والذي يؤم الحق في نفسه يتبع المشهور من قول جماعتهم، وينقلب مع جمهورهم، فهما آيتان بينتان يستدلّ بهما على اتباع الرجل وعلى ابتداعه).
…
قلت: فقول مجاهد الله لم يوافقه عليه أحد مِن السلف الصالح فيما أعلم، ولا يُمكن أن يقال مِن هذا القول: إن مُجاهدًا لم يكن يُثبت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة؛ لأن نصوص إثبات الرؤية لا تقتصر على هذه الآية.
…
قال الكرجي رحمه الله في تفسيره «نكت القرآن» (441/1): (ورسول الله ﷺ أعرف بما أنزل عليه من مجاهد، مع أن مجاهدًا لا يدفع نظر العين؛ لأنه قال: هي مُنتظرة تنتظر الثواب وهي الزيادة التي قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة [يونس: 26]) . اهـ.
قلت: ويشهد لهذا ما رواه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (1429) قال: أخبرنا جرير، عن منصور قال: كان أناس يقولون في حديث: أنهم يرون رَبِّهم.
قال: فقلتُ لمجاهد: إنّ أناسًا يقولون: إنه يرى.
فقال: ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئذٍ نَاضِرَةُ﴾ [القِيَامَة: 22]، يقول: نضرة من السرور ﴿إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 23].
وما رواه عبد الله أحمد بن في «السنة» (464) قال: حدثني أبو الربيع الزهراني، نا شَريكٌ، عن منصور، عن مجاهد في قوله عز وجل: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئذ ناضِرة﴾ [القيامة: 22] قال: ضاحكة، ﴿إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القِيَامَة: 23].
ص ٣٨١ - ٣٨٤
٢- المثال الثاني: تأويل ابن خزيمة رحمه الله لحديث الصورة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: «إِذا ضَرَبَ أَحَدُكُم فَليَجتَنِب الوَجهَ، فَإِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ على صُورَتِه».
[رواه أحمد في «مسنده» (251،434/2)، والبخاري في «الأدب المفرد» (173)]
فقد خالف ابن خزيمة إجماع أهل السُّنة في عودِ الضّمير إلى الله تعالى، فقد جاء في رواية عبد الله بن عمر ما يُبين ذلك؛ وهو قوله ﷺ: «لا تُقبِّحُوا الوجه، فإنَّ الله خلقَ بني آدمَ على صُورةِ الرَّحمن».
[رواه ابن أبي عاصم في «السُّنة» (529)، والآجري في «الشريعة (725)، وعبد الله بن أحمد في «السُّنة» (498)] وقد صحَّحَهُ: أحمد وإسحاق بن راهويه - رحمهما الله تعالى ..
[انظر: «ميزان الاعتدال» (420/2)]
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية» (373/6):
(والكلام على ذلك أن يقال: هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مُستفيضُ من طرقٍ متعدّدة عن عددٍ من الصَّحابة، وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك ….
وقال أيضًا (376/6): ( لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة، جعل طائفة الضمير فيه عائدًا إلى غير الله تعالى..).
وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي (532 هـ) في كتابه الذي سماه «الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاما لذوي البدع والفضول»: (فأما إذا لم يكن السلف صحابيًا نظرنا في تأويله، فإن تابعه عليه الأئمة المشهورون من نقلة الحديث والسنة، ووافقه الثقات الأثبات تابعناه، ووافقناه؛ فإنه وإن لم يكن إجماعا حقيقة إلَّا أن فيه مشابهة،الإجماع، إذ هو سبيل المؤمنين وتوافق المتقين الذين لا يجتمعون على الضَّلالة، ولأن الأئمة لو لم يعلموا ذلك عن الرسول والصحابة لم يتابعوه عليه.
فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول، وإن صدر ذلك التأويل عن إمام معروف غير مجهولٍ؛ نحو ما يُنسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة من تأويل الحديث: «خلق آدم على صورته» فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل، ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث لما روينا عن أحمد رحمه الله تعالى، ولم يتابعه أيضًا من بعده .. فهذا وأمثال ذلك لا نقبله ولا نلتفت إليه بل نوافق ونتابع ما اتفق الجمهور عليه).
[«بيان تلبيس الجهمية» (404/6)]
قلت: وابن خزيمة رحمه الله كان شديدًا على أهل الكلام، وكان يقول لأصحابِهِ: ألم أنهكم غير مَرَّةٍ عن الخوض في الكلام؟
وقد صنف في الرَّد على الكُلابية والأشاعرة، وفضحهم، ورَدَّ على بدعهم، وقال: (مَن نظر في كُتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يُحكون عنِّي مما هو خلاف أصلي وديانتي).
[انظر: «درء التعارض» (79/2)]
ثم هو لم ينكر صفة الوجه الله تعالى كالجهمية المعطلة، وإنما ضعف رأيه عن إثبات هذا الحديث وإمراره كما جاء كسائر الأحاديث، ورحمه الله الإمام إسحاق بن راهويه إذ يقول عن هذا الحديث: صحيح، ولا يدعه إلا مبتدع، أو ضعيف الرأي.
[«مسائل الكوسج» (3332)]
ص ٣٨٤ - ٣٨٦
(فصل) فى أنّ التَّأويل شَرٌّ من التَّعطيل
قال ابن القيم رحمه الله رحمه تعالى في «الصواعق المرسلة» (296/1 - 301)
(الفصل العاشر: في أن التأويل شَرٌّ من التعطيل؛ فإنه يتضمن:
1 - التشبيه.
2 - التعطيل.
3 - والتلاعب بالنصوص، وإساءة الظَّنِّ بها).
فإن المعطل والمؤوّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات.
وامتاز المؤوّل بتلاعبه بالنُّصوص وانتهاكه لحُرمتِها، وإساءة الظَّنِّ بها، ونسبة قائلها إلى التكلّم بما ظاهره الضَّلالِ والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير:
المحذور الأوّل: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المحال الباطل، ففهموا التَّشبيه أولا، ثم انتقلوا عنه إلى:
المحذور الثاني: وهو التعطيل؛ فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ الله.
المحذور الثَّالث نسبة المتكلّم الكامل العلم، الكامل البيان، التّام النُّصح إلى ضد البيان والهدى والإرشاد، وأن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبارة في هذا البابِ وعبّروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المُتكلّم بتلك النُّصوص، ولا ريب عند كُلّ عاقل أن ذلك يتضمن: أنهم كانوا أعلم منه، أو أفصح، أو أنصح للنَّاس.
المحذور الرابع: تلاعبهم بالنُّصوص وانتهاك حرماتها، فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التَّأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سُوق من يزيد، فبذل كل واحدٍ في ثمنها من التأويلات ما يُريد، فلو شاهدتها بينهم وقد تخطفتها أيدي الاحتمالات، ثم قيدت بعد ما كانت مطلقة بأنواع الإشكالات وعُزلت عن سلطنة اليقين، وجعلت تحت حكم تأويل الجاهلين هذا وطالما نُصبت لها حبائل الإلحاد، وبقيت عُرضة للمطاعن والإفساد وقعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا لا طريق لكِ علينا، وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز … فلا إله إلا الله، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان؟! وثُلِمت بها حُصون حقائق السنة والقرآن؟! وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كُلّ جاهل أخرق، ومُنافق أرعن، وطرقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكُلِّ مُبتدع وزنديق؟!
ومن نظر في التأويلات المخالفة لحقائق النصوص، رأى من ذلك ما يُضحِكُ عجبًا، ويُبكي حُزنًا، ويثير حميّة للنصوص، وغضبًا قد أعاد عَذَبَ النُّصوص مِلحًا أَجاجًا، وخرّجتْ النَّاس من الهدى والعلم أفواجًا..
فكشف عورات هؤلاء، وبيان،فضائحهم وفساد قواعدهم، من أفضل الجهاد في سبيل الله.. إلخ.
ص ٣٨٧ - ٣٨٨
(فصل) في بطلان قولهم: إن السّلف كانوا يرون التَّأويل، وإِنَّما سكتوا عنه لعدم الحاجة إليه في عصرهم
يزعم بعض المعطلة أن السَّلف الصَّالح كانوا يرون التأويل ويذهبون إليه؛ ولكن لم يخوضوا فيه لعدم الحاجة إليه في وقتهم.
ومن ذلك: قول ابن حجر الهيتمي: (والآيات والأحاديث التي فيها ذكر الوجه واليد، فهذه ونحوها فيها مذهبان:
فذكر مذهب أهل التفويض ونسبه بهتانًا إلى السلف الصالح، ثم ذكر مذهب أهل التأويل).
ثم قارن بينهما فقال:
(وبما قررته عُلِمَ أنه لا خلاف بين الفريقين؛ لأنهم جميعًا مُتَّفقون على التأويل!! وإنما اختار السلف عدم التفصيل؛ لأنهم لم يضطروا إليه لقلة أهل البدع والأهواء في زمانهم!! والخلفُ التفصيل؛ لكثرة أولئك في زمانهم، والإجمال لا يغنيهم، فاضطروا إلى التفصيل).
قلت: قد تقدم بطلان نسبة التفويض إلى السلف في المبحث (11). وأما نسبة التأويل إلى السلف؛ فهو من الكذب عليهم، كما قال ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (108/5) - بعد أن ذكر نحوا من قول ابن حجر السَّابق - قال: (وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف).
ص ٣٨٩
(فصل) أمثلة لبعض التأويلات الفاسدة ليكون السني منها على حذر
يعلم كثير ممن يُحب السُّنة خطورة التأويل وفساده، وأنه مخالف لطريقة السَّلف الصَّالح في إمرار الصفات على ظاهرها؛ ولكنه يجهل كيفية تأويل وتحريف أهل التعطيل لنصوص الصِّفات، فإذا اضطر لقراءة بعض تفاسيرهم وشروحاتهم انطوت عليه كثير من تأويلاتهم وتحريفاتهم لنصوص الصفات فلا يتفطن لها، ولا يتنبه لتلك التأويلات الفاسدة التي شحنوا بها كتبهم؛ فلهذا أحببت أن يقف السُّني على بعض تلك التأويلات حتى يكون منها ومن أمثالها على حذر، ويجتهد ما استطاع من البعد عن قراءة كتبهم.
فمن تأويلاتهم وتحريفاتهم أنهم يفسِّرون الاستواء): بالاستيلاء أو الملك، و(اليد) بالقدرة أو النّعمة والوجه): بالذات، و(النَّفس): بالحقيقة والمحبة) بالإنعام أو الغفران و(الرَّحمة): بالمغفرة أو الثواب، و(الغضب) بالإنكار أو العقاب، والمكر والاستهزاء والسخرية بالمجازاة، وأمثال ذلك من التأويلات.
ص ٣٩٣
ومن أمثلة ذلك:
١- ابن حزم الظاهري (456 هـ):
ومذهبه في باب الأسماء والصِّفاتِ مذهب المعتزلة ممن يثبتون الأسماء وينفون الصفات.
…
وقال [ابن تيمية رحمه الله] في «منهاج السنة» (583/2): (وزعم ابن حزم أن أسماء الله تعالى الحسنى لا تدلُّ على المعاني، فلا يدلُّ عليمٌ على علم، ولا قدير على قدرة، بل هي أعلام محضة!).
قلت: ومن تأويلاته: تأويله لصِفةِ السَّمع: بالحفظ، والبصر: بالعلم.
ص ٣٩٣ - ٣٩٤
٢- يوسف بن عبد الله بن عبد البر المالكي (463 هـ):
وقد سلك مسلك أهل التأويل في بعض صفات الرب الفعلية: كالضحك والاستحياء، والإعراض والمكر والاستهزاء، وغيرها.
…
قلت: وقد تقدم (ص 337) أنه نقل الإجماع على النهي عن حمل نصوص الصفات على المجاز!!
ص ٣٩٤ - ٣٩٥
٣- الجويني (478 هـ)
…
٤- الشاطبي (790 هـ) صاحب كتاب «الاعتصام» و«الموافقات»:
…
واعلم أن الشاطبي في كتابيه الاعتصام، و«الموافقات» قد سلك مسلك أهل التَّفويض وأهل التَّأويل، فأوّل صفة: العلو، والاستواء، والكلام، والرُّؤية والحُبّ، والبغض وغيرها من الصفات.
والعجب بعد هذا كله من محقق كتاب الاعتصام»: (سليم الهلالي) فإنه لم يتعقب الشاطبي في هذه التأويلات والمخالفات الجلية؛ بل يقول في حاشية تحقيقه (305/1): (فمن تتبع عقيدة المصنف .. من سياق كتابه وجد ما يُثلج الصدر)!!
قلت: قد تتبعت فما وُجِدَ إِلَّا خلاف ذلك! والله المستعان.
وانظر كتاب: «الإعلام بِمُخالفات (الموافقات) و(الاعتصام)».
ص ٣٩٥ - ٣٩٦
٥- ابن حجر العسقلاني (852 هـ):
…
قلت: ويوجد في شرحه لصحيح البخاري ما يُقارب (200) مُخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة!! والله المستعان.
ص ٣٩٦ - ٣٩٧
٦- ابن حجر الهيتمي (974 هـ):
…
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ الله: (أما ابن حجر الهيتمي فهو من مُتأخّري الشَّافعية وعقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات).
[«مجموعة الرسائل» (371/4)، و ( الدرر السنية» (3/ 225)]
ص ٣٩٧
٧- السيوطي (911هـ)
…
٨- محمد بن علي بن أحمد الشوكاني (1255 هـ):
قلت: أقرّ الشوكاني على هذا التأويل الباطل بإضافة صفات الله إلى المجاز على طريقة أهل التَّأويل والتَّعطيل كما سبق، وهي عقيدة ابن الأثير التي سار عليها في كتابه: «النهاية في غريب الحديث»، والله المستعان.
وتفسير الشوكاني يعج بالتأويل لكثير من الصفات!
ص ٣٩٨
٩- المناوي (1031هـ)
١٠- محمد رشيد رضا (1354 هـ)
١١- صديق حسن خان (1307 هـ)
١٢- شعيب الأرنؤوط
…
فهذه بعض الأمثلة على التأويل والتحريف لنصوص الصفات ليكون القارئ منها ومن أمثالها على حذر.
ص ٣٩٩
وهذه التأويلات على فسادها وبعدها عن مراد الله تعالى ورسوله إلا أنها راجت وانتشرت في الآفاق، وتداولها كثير من الجُهَّالِ.
ولرواجها بين الناس عدة أسباب، ومن أعظمها ما ذكره ابن القيم في «الصواعق المرسلة» (436/2):
١- أن يأتي به صاحبه مموّهًا بزخرف الألفاظ، مكسوا حُلَّة الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه.
٢- أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولا إلى القلوب، وأشدَّها نفرة عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ، فيُسمون إثبات صفات الكمال الله: (تجسيمًا)، و(تشبيهًا)، و(تمثيلا)، ويُسمون إثبات الوجه واليدين له: (تركيبا)، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوّه على خلقه فوق سمواته: (تحيزا) و(تجسيمًا) .. ويسمون الصفات أعراضا)، والأفعال: (حوادث)، والوجه واليدين: (أبعاضًا) .. فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكرة الشنيعة تم لهم من نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغمار والأغفال اعلموا أن ربكم مُنزَّه عن (الأعراض)، و(الأغراض)، و(الأبعاض)، و(الجهات)، و(التركيب)، والتجسيم)، و(التشبيه) .. ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض؛ اخترعوا لأهل السُّنة الألقاب القبيحة، فسموهم: (حشوية)، و(نوابت)، و(نواصب)، و(مجبرة)، و(مجسمة)، و(مُشَبِّهة).
٣- أن يعزو المتأوّل تأويله وبدعته إلى جليل القدر، نبيه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حلَّ له في الأمة ثناء جميل، ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الأغمار والجهال، فإن من شأنِ النَّاس تعظیم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله ويقولون هو أعلم بالله ورسوله منا.
فهذه من أعظم الأسباب التي جعلت هذا التأويلات المبتدعة تروج وتنتشر عند العامة والخاصة.
ص ٣٩٩ - ٤٠٠
المبحث الثالث عشر: نَهي أهلُ السُّنَّة. عن التشبيه والتمثيل والتكييف في صفاتِ الله عز وحل، وتكفير المُشبِّهة
١. معنى التشبيه عِند أهل السنة والجماعة
وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه (238 هـ) رحمه الله: (إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مِثلُ يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع أو مثلُ سمع فهذا التشبيه.
وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد، وسمع، وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثلُ سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها. وهو كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]).
[سنن الترمذي (51/3)، وعن نُعيم بن حماد رحمه الله نحوه، وسيأتي]
ص ٤٠٢
٢. معنى التشبيه عند الجهمية وغيرهم من مُعطَّلة الصفات
يُريدون به: إثبات صفات الله الواردة في الكتاب والسنة.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في «الرد على الجهمية» (ص 104): (وزعمَ - يعني: الجهم بن صفوان - أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه، أو حدّث عنه رسوله ﷺ كان كافرًا، وكان من المشبهة، فأضل بكلامه بشرًا كثيرًا ..).
ص ٤٠٣
٣. الفرق بين أهل السنة والجهمية المعطلة للتشبيه
ذم بعض السلف للمشبهة أو التشبيه، كما روي ذلك عن عبد الرحمن ابن مهدي ويزيد بن هارون وأحمد وإسحاق، ونعيم بن حماد، وغيرهم - رحمهم الله - فإنما يريدون به غلاة أهل الإثبات الذين زادوا في الإثبات حتى مثلوا صفات الله بصفات خلقه. وذم الجهمية ومُعطلة الصفات للمشبهة فإنما يريدون به من أثبت الصفات وأمرها على ظاهرها، كما وردت من غير تحريف ولا تأويل.
فصارَ لفظ: (المشبهة) مذمومًا في كلام هؤلاء، كما هو مذموم في كلام الجهمية؛ لكن بين المعنيين فرق عظيم، ولهذا كان أئمة السلف يُفسرون مرادهم، ويقولون: من أغرق في نفي التَّشبيه وذمّ المُشبِّهة: كان جهميا.
[انظر «بيان تلبيس الجهمية (109/1)، و(484/6)]
ص ٤٠٣ - ٤٠٤
٤. أوّل مَن أظهر مقالة المشبهة
التصريح بتشبيه الخالق بالمخلوق ظهر به الرافضة، فهم أرباب التشبيه وأهله، كما قال الجاحظ عنهم: (ليس على ظهرها رافضي إلا وهو يزعم أن ربه مثله) فالجاحظ - وإن كان مُعتزليًّا مُعطّلًا - إلّا أن ما قاله عن الرافضة حق.
وأوّل الطوائف قولًا هم البابية أتباع: بيان بن سمعان الذي ظهر في أوائل القرن الثاني وزعم أن الله رجل من نور على صورة إنسان، وأنه يهلك كله إلّا، وجهه تعالى الله عن قوله علوا كبيرًا.
وذكر ابن تيمية أن أوّل من عُرف عنه في الإسلام أنه قال: (إن الله جسم) هو هشام بن الحكم.
[انظر: كتاب «مقالة التشبيه وموقف أهل السنة منهم» (178/1)]
ص ٤٠٤
٥. موقف أهل السنّة من المُشبّهة
اعلم ـ وفقك الله لاتباع السُّنة - أنّ أهل السنة كما حذروا من المؤوّلة المعطلة، فقد حذروا كذلك مِن المشبهة المُمثلة لصفات الله تعالى بصفات خلقِهِ، وبينوا للنَّاسِ شناعةَ قولهم وخطرِهِ ونزَّهوا الله تعالى من أن يشبهه أحد من خلقه.
وسيأتي عن كثير من السلف وأئمة أهل السنة التصريح بتكفير المشبهة، كما صرَّحُوا بتكفير الجهمية.
ص ٤٠٤
٦. كيفية ذات الله تعالى من الأمور الغيبيّة التي لا يعلمها إلا الله
كيفية ذات الله تعالى من الأمور الغيبيّة التي لا يعلمها الله تعالى ولا مجال للعقل فيها؛ لأن الله تعالى لم يخبرنا بكيفية وكُنه صفاته في كتابه، ولا على لسان رسوله ﷺ: وما وردت النصوص به إنما هو إثبات وجود الصفات لا إثبات كيفيتها.
فتكلف العقل بالنَّظر والتّفكر في الكيفية بدعة مُحرّمة في الدين، لم يكلف الله تعالى النَّاس بها لما يُفضي ذلك إلى التمثيل والتشبيه. وقد قال تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: 110]، وبين سبحانه أنه لا تدركه الأبصار.
ونهى النبي ﷺ عن التَّفكر في الله تعالى، فقال: «تَفكَّروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله».
ص ٤٠٥
٧. إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية
عدم العلم بالكيفية لا يقدح في الإيمان بالصفات، ومعرفة معانيها، فإثبات السلف للصِّفات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فهم يثبتون الصفات، ويفهمون معانيها ويفسرونها ويعتقدون ما دلّت عليه.
ص ٤٠٥
٨. العلم بالكيفية فرع عن العِلم بالذّاتِ
قال التيمي الأصبهاني رحمه الله في «الحجة في بيان المحجة» الذات، (189/1) (الكلام في الصفات فرع على الكلام في وإثبات الذات، إثبات وجود لا إثبات، كيفية فكذلك إثبات الصفات، وإنما أثبتناها لأن التوقيف ورد بها، وعلى هذا مضى السلف).
ص ٤٠٥
٩. معنى قولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف)
قول السَّلف قاطبة: (أمرُّوها كما جاءت بلا كيف) أي بلا كيف يعقله البشر، لا أن المراد نفي الكيفية مطلقًا، فإن كل شيء لا بد وأن يكون له كيفية معيَّنه ومراد السَّلف هو نفي العلم بهذه الكيفية، لا يعلم كيف الله عز وجل، ولا كيف صفاته إلا هو، وهذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فلا سَبيلَ للوصول إليه.
ص ٤٠٦
(فصل) في أقوال السلف الصالح ومن تبعهم من أهل العلم في النهي عن التمثيل والتشبيه
عن ابن عباس رضي الله عنهما: (ليس الله مثل). [«النقض» للدارمي (312)]
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم: 65] يقول: (هل تعلم للرَّبِّ مَثلا، أو شبيها؟). [تفسير الطبري (106/16)]
ص ٤٠٧
عن الحسن البصري (110 هـ) رحمه الله أنه سُئل: هل تصف ربك عز وجل؟ قال: نعم، أصفه بغير مثال.
[«السُّنة» لعبد الله (499)، و«النقض» للدارمي (311)، وفي إسناده انقطاع]
ص ٤٠٧
قال الفضيل بن عياض (187 هـ) رحمه الله: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف؛ لأنّ الله وصف نفسه فأبلغ فقال: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١) الله الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُن له كفوا أحد﴾ [الإخلاص: 1 - 4] فلا صفةَ أبلغ مما وصف الله به نفسه، وكذا النزول، والضَّحكِ، وهذه المباهاة، وهذا الاطلاع، كما شاء أن ينزل، وكما شاء أن يُباهي، وكما شاء أن يطلع، وكما شاء أن يضحك، فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف.
[«السنة» للخلال كما في درء التعارض» (23/2 - 24)]
ص ٤٠٧
قال وكيع (197 هـ) رحمه الله: (وصف داود الجواربي - يعني: الرَّبَّ عز وجل-، فكفر في صفتِهِ، فردّ عليه المَريسي فكفر المريسي في رده عليه، إذ قال: هو في كل شيء).
[«اعتقاد أهل السنة» اللالكائي (935)]
ص ٤٠٩
قال علي بن عاصم (201 هـ) رحمه الله: (تكلم داود الجواربي في التشبيه، فاجتمع فقهاء واسط، منهم: محمد بن يزيد، وخالد الطحان، و هشيم وغيرهم، فأتوا الأمير، وأخبروه بمقالته، فأجمعوا على سفك دمه. فمات في أيامِهِ، فلم يُصلِّ عليه علماء أهل واسط).
[الرد على الجهمية» لابن أبي حاتم (بيان) تلبيس الجهمية) (502/6)، واللالكائي (933)]
ص ٤٠٩
قال الشافعي (204 هـ) رحمه الله: ( .. وتُثبت هذه الصفات، وننفي عنها التشبيه كما نفى التشبيه عن نفسه تعالى فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: (11).
[رواه الهكاري في «اعتقاد الإمام الشافعي» (7)]
ص ٤٠٩
قال أبو داود الطيالسي (204 هـ) رحمه الله: (كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وأبو عوانة .. لا يُشبهون، ولا يُمثّلون الحديث لا يقولون: كيف؟ وإذا سُئلوا أجابوا بالأثر).
[«الأسماء والصفات» للبيهقي (901)]
ص ٤٠٩
قال محمد بن إسماعيل البخاري (265 هـ) رحمه الله في «خلق أفعال العباد» (479) وقال: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا﴾ [البقرة: 22] فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين).
ص ٤١١
قال عثمان بن سعيد الدارمي (280هـ) رحمه الله في «النقض» (ص 54): (أما قولك: (إن كيفية هذه الصفات وتشبيهها بما هو موجود في الخلق خطأ)، فإنا لا نقول: إنه خطأ كما قلت؛ بل هو عندنا كفر!! ونحن لكيفيتها وتشبيهها بما هو موجود في الخلق أشدّ أنفا منكم، غير أنا كما لا نشبهها ولا نكيفها لا نكفر بها ولا نكذب ولا نبطلها بتأويل الضلال).
ص ٢١٢
قال ابن تيمية (728 هـ) رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (482/11): (فمن قال: إن علم الله كعلمي أو قدرته كقدرتي، أو كلامه مثل كلامي، أو إرادته ومحبته، ورضاه وغضبه، مثل إرادتي، ومحبتي، ورضائي، وغضبي، أو استوائه على العرش كاستوائي، أو نزوله كنزولي، أو إتيانه كإتياني، ونحو ذلك، فهذا قد شبه الله ومثله بخلقه تعالى الله عما يقولون؛ وهو ضال حبيت مُبطل؛ بل كافر.
ومن قال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام، ولا مشيئة، ولا سمع، ولا بصر، ولا محبة ولا رضًا، ولا غضب، ولا استواء، ولا إتيان، ولا نزول، فقد عطّل أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، وألحد في أسماء الله،وآياته وهو ضال خبيث مبطل؛ بل كافر.
بل مذهب الأئمة والسَّلف إثبات الصفات، ونفي التشبيه بالمخلوقات، إثباتًا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل).
ص ٤١٥
قال ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد» (229/1) - وهو يتكلم عن أنواع الإلحاد في أسماء الله تعالى - قال:
(وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوا كبيرًا. فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها وهؤلاء شبَّهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقُه، وبرأ الله أتباع رسوله ﷺ، وورثته القائمين بسنته عن ذلك كُلّه، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات؛ فكان إثباتهم بريئًا من التَّشبيه، وتنزيههم خليًّا من التعطيل، لا كمن شبَّه حتّى كأنه يعبد صنما، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلَّا عَدَما.
وأهلُ السُّنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل، توقد مصابيح معارفهم من ﴿شَجَرَةٍ مُّبَرَكَةِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةِ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورُ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [النور: 35 فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره ويسهل لنا السبيل إلى الوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله، إنّه قريب مجيب).
ص ٤١٦
(فصل) من علامة المعطّلة: تسمية أهل السنة: (مُشبهة)
على كثرة ما ورد عن أهل السُّنة مِن النَّهي عن تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه، بل وتكفير الممثلة المُشبِّهة؛ إلّا أن معطلة الصفات لا يزالوا يلمزون أهل السنة ويصمونهم بوصم: (التَّشبيه، والتجسيم)، وسبب نبزهم بذلك:
١. أن التشبيه عند المعطلة هو إثبات الصفات كما تقدم.
قال ابن تيمية رحمه الله في «منهاج السُّنة» (2/ 105): فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفاة الصفات يجعلون كل من أثبتها: (مُجسمًا)، (مُشبِّها). اهـ.
٢. أنهم يريدون بذلك عيبهم والطعن عليهم؛ لينفروا العامة منهم.
قال الإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) رحمه الله: (وقد رأيت لأهل الأهواء والبدع والخِلافِ أسماء شنِعَةً قبيحةً يسمّون بها أهل السنة، يُريدون بذلك عيبهم، والطَّعن عليهم، والوقيعة فيهم، والإزراء بهم عند السُّفهاء والجهال؛ أما الجهمية فإنهم يسمون أهل السُّنة: (المشبهة)، وكذبَ الجهمية أعداء الله؛ بل هم أوّلى بالتشبيه. فالرحمه الله الذي هدانا لهذا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحقِّ).
[«إبطال التأويلات» (46/1)]
…
ولم يكتفوا بذلك؛ بل صنفوا في الرَّدِّ على أهل السنة المُصنفات الكثيرة لنفي الصفات، وتعطيل حقيقتها عن الله تعالى، ومن ذلك:
١. كتاب التوحيد وكُفر المُشبِّهة لبشر المريسي الجهمي (218 هـ). [«السير» (201/10)]
٢. كتاب «الرَّد على المشبهة» لابن الثلجي الجهمي (267 هـ).
٣. كتاب «دفع شُبَه التَّشبيه بأكفّ التنزيه» لابن الجوزي (598 هـ).
وقد نشره حامل لواء الجهمية حسن السَّقاف، وحشّاه بأقوال الجهمية وغيرهم من أهل البدع، مع ما فيه من الكذب والبهتان على أئمة أهل السنة.
٤. كتاب مُشكل الحديث لابن فورك (410 هـ).
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية (1557): (وابن فورك جمع في كتابه من تأويلات بشر المريسي ومن بعده ما يُناسب كتابه).
٥. كتاب الرَّدُ على المشبهة لابن عساكر (571 هـ) وغيره.
٦. «تأويل الأحاديث المُوهِمة للتّشبيه» للسيوطي (911 هـ).
فهذه الكتب وأمثالها أُلفت للرَّدِّ على أهل السنة والجماعة، ونبزهم بالتشبيه والتجسيم! والله المستعان.
ص ٤١٧ - ٤٢٠
قال قتيبة بن سعيد رحمه الله: إذا قال الرَّجل: المشبهة؛ فاحذره؛ فإنه يرى رأي جهم.
[«ذم الكلام» (1177)]
ص ٤٢٠
قال أبو زرعة الرازي (264 هـ) رحمه الله: (فمن نَسب الواصفين رَبِّهم تبارك وتعالى بما وَصَفَ به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه ﷺ مِن غير تمثيل، ولا تشبيه إلى (التشبيه)؛ فهو مُعطّل ناف، ويُستدلّ عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم مُعطّلة،نافية كذلك كان أهل العلم يقولون، منهم: عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح).
[«الحجة في بيان المحجة» (187/1)]
ص ٤٢١
قال علي بن المديني (234 هـ) رحمه الله: من قال: (فلان مشبه)، علمنا أنه جهمي.
[«اعتقاد أهل السنة» للالكائي (147/1)]
ص ٤٢١
وقال أبو حاتم الرازي (277 هـ) رحمه الله: (وعلامة أهل البدع: الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الجهمية أن يُسموا أهل السنة: (مُشبِّهة)، و (نابتة)).
[«اعتقاد أهل السنة» للالكائي (182/1)]
ص ٤٢٢
(فصل) مُعطلة الصِّفاتِ هم المُشبِّهة
إن مُعطلة الصفات لم يفهموا من نصوص الصفات إلا ما هو اللائق بالمخلوق؛
١. فوقعوا في التشبيه أولا،
ثم أرادوا أن يتخلّصوا من ذلك التشبيه؛
٢. ففروا منه إلى التعطيل ثانيًا.
[انظر: «مجموع الفتاوى» (27/5 - (28)، و«المدارج» (377/3)]
٣. ثُم وقعوا في التشبيه مَرَّةً أُخرى بأن شبّهوا الله تعالى بالناقص، كما قال البخاري رحمه الله تعالى في «خلق أفعال العباد» (ص 35 - 36):
(قال بعض أهل العلم: إن الجهمية هم المُشبِّهةِ؛ لأنّهم شبّهوا ريهم بالصنم، والأصم، والأبكم الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يخلق. وقالت الجهمية: وكذلك لا يتكلّم، ولا يُبصر بنفسه، وقالوا: إن اسم الله مخلوق).
وقال الدارمي (280 هـ) رحمه الله في «رده على المريسي» (ص129):
(وكيف استجزتَ أن تُسمِّي أهل السُّنة وأهل المعرفة بصفات الله المقدسة: (مُشبِّهة)؛ إذ وصفوا الله بما وصف به نفسه في كتابه بالأشياء التي أسماؤها موجودة في صفاتِ بني آدم بلا تكييف، وأنت قد شبّهت إلهك في يديه وسمعه وبصره بأعمى وأقطع وتوهمتَ في معبودك ما توهمت في الأعمى والأقطع، فمعبودك في دعواك مُجَدَّع منقوص، أعمى لا بصر له، وأبكم لا كلام له، وأصم لا سمع له، وأجذم لا يدان له، ومقعد لا حراك به!! وليس هذا بصفة إله المُصلين، أفأنت أوحش مذهبًا في تشبيهك إلهك بهؤلاء العُميان، والمقطوعين، أم هؤلاء الذين سميتهم مشبهة، إذ وصفوه بما وصف به نفسه بلا تشبیه؟
فلولا أنها كلمة هي محنة الجهمية التي بها ينبزون المؤمنين، ما سمينا مُشبهًا غيرك، لسماجة ما شبّهت ومثلت.
ويلك! إنما نصفه بالأسماء، لا بالتكييف ولا بالتشبيه، كما يقال: إنه مَلِكُ كريم، عليمٌ حكيم، حليمٌ، رحيم، لطيف مؤمن، عزيز جبار متكبر، وقد يجوز أن يُدعَى البشر ببعض هذه الأسماء، وإن كانت مخالفة لصفاتهم، فالأسماء فيها متفقة، والتشبيه والكيفية مفترقة، كما يقال: ليس في الدنيا مما في الجنَّة إلّا الأسماء. يعني: في الشَّبه، والطعم، والذوقِ، والمنظر، واللون، فإذا كان كذلك فالله أبعد من الشَّبه وأبعد، فإن كُنَّا مشبهة عندك إذ وحدنا الله إلها واحدًا بصفات أخذناها عنه من كتابه، فوصفناه بما وصف به نفسه في كتابه فالله في دعواكم أوّل المُشبِّهين بنفسه، ثم رسوله الذي أنبأنا ذلك عنه، فلا تظلموا أنفسكم، ولا تكابروا العلم إذ جهلتموه؛ فإن التّسمية في التشبيه بعيدة).
ص ٤٢٣ - ٤٢٤
(فصل) تشبيه المعطّلة لمثبتة الصّفات: باليهود المجسمة
من الألقاب التي تستخدمها الجهمية وغيرهم من معطلة الصفات لنبز أهل السنة والأثر والتنفير منهم: تشبيههم ب (اليهود المجسمة)!!
…
وسبب تشبيه المعطلة لأهل السنة باليهود: أن اليهود قد نُقل عنهم إثبات بعض صفات الله تعالى؛ كاليد والأصبع، والصورة، وغيرها كما سيأتي، وهذا هو التجسيم عند معطلة الصفات.
وكذلك أهل السنة والأثر أثبتوا صفات الله تعالى التي في كتابه، وفي سنة نبيه، وقالوا بها، وهذا عند معطلة الصفات هو التجسيم!!
ص ٤٢٦ - ٤٢٧
ومما أثبتته اليهود من الصفات:
١. صفة اليد كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَعْلُولَةٌ غُلَتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: 64].
…
٢. ومما أثبتته اليهود من صفات الله: (صفة الأصابع لله تعالى).
قال ابن خزيمة (311 هـ) رحمه الله في «التوحيد» (178/1): (.. وقد أجلَّ الله قدر نبيه ﷺ عن أن يُوصف الخالق البارئ بحضرته بما ليس من صفاته، فيسمعه فيضحك عنده ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلّم به ضَحِكًا تبدوا نواجذه تصديقًا وتعجبًا لقائله، لا يصف النبي بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته).
وقال (187/1): (باب إثبات الأصابع الله تعالى عز وجل من سنة النبي ﷺ قيلا له لا حكايةً عن غيره كما زعم بعض أهل الجهل والعِنادِ أن خبر ابن مسعود ليس هو قول النبي ﷺ وإنما هو قول اليهود، وأنكر أن يكون ضحك النبي ﷺ تصديقا لليهودي).
وقال إبراهيم بن أحمد شاقلًا (369 هـ) رحمه الله: (هذا قول من يروم هدم الإسلام، والطَّعن على الشَّرع؛ لأن من زعم أن ابن مسعود ظنَّ ولم يستيقن، فحكى عن النبي ﷺ على ظنّه؛ فقد جعل إلى هدم الإسلام مقالتَهُ هذه بأن يتجاهل أهلَ الزَّيغ فيتهجموا على كل خبر جاء عن النبي ﷺ لا يوافق مذهبهم؛ فيُسقطونه، بأن يقولوا هذا ظن من الصَّحابة على رسول الله ﷺ إذ لا فرق بين ابن مسعود وسائر الصحابة، وهذا ضد ما أجمع عليه المسلمون، وقد أكذب القرآن مقالة هذا القائل في الآية التي شهد فيها لابن مسعود بالصدق في جملة الصَّحابة).
[«طبقات الحنابلة» (232/3) وانظر: «نقض الدارمي على بشر المريسي» (ص 177)]
…
٣. ومما أثبته اليهود من الصفات: (صفة الصورة الله تعالى).
…
فهذه بعض الصفات التي ذكرها اليهود، وجاء الشرع بإقرارهم، وموافقتهم عليها.
وبهذا يعلم أن إثبات الصفات هو الأصل الذي عليه جميع الأديان السماوية المنزلة من عند الله تعالى، وأما التَّعطيل والتحريف فهو أمر مُحْدَث في دين الله تعالى قال به اليهود لما حرَّفوا دينهم الصحيح.
ص ٤٢٧ - ٤٣٠
المبحث الرابع عشر: إنكار أهل السنة وتكفيرهم لمن أنكر أو جحد صفات الله تعالى
١. مرضُ التَّعطيل وإنكار الصفات أعظم من مرض التشبيه
اشتدَّ نكير أهل السنة والجماعة من السَّلف ومن بعدهم على منكري صفات الله تعالى، وكان إنكارهم عليهم أعظم من إنكارهم على المشبهة؛ لأن مرضَ التَّعطيل أعظم مِن مَرضِ التَّشبيه؛ كما قيل: المُعطل يَعبدُ عدما، والمُشبِّه يعبدُ (صنما، ومَن يعبد إلها موجودًا موصوفا بما يعتقده هو من صفات الكمال، وإن كان مُخطئًا فى ذلك، خيرٌ ممن لا يعبد شيئًا، أو يعبد من لا يوصف إلا بالسلوب والإضافات».
[انظر: در تعارض العقل والنقل» (306/10)]
ص ٤٣٣
٢. غلاة الجهمية عند أئمّة السلف هم زنادقة ملحدين
إن حقيقة غلاة أئمة الجهمية ورؤوس المذهب الجهمي عند أئمة أهل السنة هم من الزنادقة الملحدين.
…
قال ابن تيمية رحمه الله في «مجموع الفتاوى» (352/12): (ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يعلمون مقصودهم وأن غرضهم التعطيل، وأنهم،زنادقة والزنديق المنافق، ولهذا تجد مُصنفات الأئمة يصفونهم فيها بالزندقة، كما صنّف الإمام أحمد «الرَّدّ على الزنادقة والجهمية»، وكما ترجم البخاري آخر كتاب الصَّحيح بـ «كتاب التَّوحيد، والرَّد على الزنادقة والجهمية»، وكان عبد الله بن المبارك يقول: إنا لنحكي كلام اليهود والنَّصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية).
…
وقال في مجموع الفتاوى (185/13): (حقيقة قول الجهمية المعطلة: هو قول فرعون؛ وهو جحد الخالق وتعطيل كلامه ودينه، كما كان فرعون يفعل، فكان يجحد الخالق له ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرِي [القصص: 38].. وكان ينكر أن يكون الله كلم موسى، أو يكون لموسى إله فوق السَّموات، ويريد أن يبطل عبادة الله وطاعته، ويكون هو المعبود المطاع، فلما كان قول الجهمية المعطلة النفاة يئول إلى قول فرعون كان منتهى قولهم إنكار رب العالمين وإنكار عبادته، وإنكار كلامه).
ص ٤٣٣ - ٤٣٥
٣. مؤسس مذهب التعطيل وإنكار الصفات: الجعد بن درهم، ثم تبعه عليه: الجهم بن صفون الذي تنسب إليه فرق الجهمية
وقال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوی (227/7):
(جهم اشتهر عنه نوعان من البدعة: نوع في (الأسماء والصفات)؛ فغلا في النفي، ووافقه على ذلك الباطنية والفلاسفة ونحوهم؛ والمعتزلة في الصفات دون الأسماء والكُلابية ومن وافقهم .. في نفي الصفات الاختيارية … فالمعتزلة في الصفات مخانيث الجهمية، وأما الكلابية في الصفات [فيثبتون الصفات في الجُملة]، وكذلك الأشعرية؛ ولكنهم كما قال أبو إسماعيل الأنصاري: الأشعرية الإناث هم مخانيث المعتزلة).
ص ٤٣٥ - ٤٣٦
(فصل) أقوال أهل السنة فيمن جحد الصفات، أو أنكرها، وتكفيرهم لهم
قال الشافعي (204 هـ) رحمه الله وقد سُئِلَ عن صفات الله تعالى، وما ينبغي، وما يؤمن به؟
فقال: الله تعالى أسماء وصفات جاء بها كِتابه، وأخبر بها نبيه ﷺ أمته، لا يسعُ أحدًا من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردَّها؛ لأن القرآن، نزل بها، وصح عن رسول الله ﷺ القول بها فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله تعالى.
فأما قبل ثبوت الحُجَّةِ عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدركُ بالعقل، ولا بالرؤية، ولا بالفكر.
[«ذم التأويل» لابن قدامة (ص13) و «طبقات الحنابلة» (269/2)]
ص ٤٣٧
عن حبيب بن أبي حبيب قال: شَهِدتُ خالد بن عبد الله القسري (126 هـ) وهو يخطبُ فلما فرغ من خُطبته - وذلك يوم النحر - قال: ارجعوا فضحوا تَقبَّل الله منكم، فإني مُضَحٌ بالجعدِ بن درهم، إنه زعم أن الله عز وجل لم يُكلِّم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد بن دِرهم علوا كبيرًا. ثم نزل فذبحه.
[«خلق أفعال العباد للبخاري (3)، والدارمي في «الرّد على الجهمية» (13)، والآجري في «الشريعة» (694)، والصابوني في «عقيدته» (37)، وغيرهم، وخالد القسري كان واليا على العراق]
قلت: وقد تلقى أهل السنة والأثر هذه القصة بالقبول والرضا.
ص ٤٣٨
قال أحمد بن أبي شريح: سمعت وكيعا (197هـ) يقول - وحدثنا بحديث في الرُّؤية، أو غيره - قال: مَن رأيتموه يُنكر هذه الأحاديث فاحسبوه من الجهمية.
[«الصفات» للدارقطني (60)]
ص ٤٣٩
قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: من زعم أن الله تعالى لم يُكلِّم موسى صلوات الله عليه يُستتاب فإن تاب وإلَّا ضُربت عُنقه.
[«السنة» لعبد الله بن أحمد (45)]
ص ٤٣٩
قال علي بن عاصم (201 هـ) رحمه الله: ما الذين قالوا: إن الله ولدًا، أكفر من الذين قالوا: إن الله لا يتكلّم.
وقال: احذر من المريسي وأصحابه فإن كلامهم أبي جاد الزندقة، وأنا كلمتُ أستاذهم جهما فلم يُثبت أن في السَّماءِ إلها.
[«خلق أفعال العباد للبخاري (21) (22)، ومعنى (أبي جاد الزندقة): أي بداية الدخول إليها، كما يريد من يتعلم لغة العرب فإنه يبدأ بتعلم حروف أبجد هوز]
ص ٤٤٠
قال نُعيم بن حماد (228 هـ) رحمه الله: من شبَّهَ الله تعالى بشيء من خلقِهِ فقد كفَرَ، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، فليس فيما وصف الله تعالى به نفسه ولا رسوله تشبيه.
[«اللالكائي» (936)، وانظر: «العلو» للذهبي (429)]
ص ٤٤١
قال علي بن المديني (234 هـ) رحمه الله على المنبر: من أن القرآن مخلوق فقد كفر، ومن زعم أن الله عز وجل لا يرى فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلم موسى على الحقيقه فهو كافر.
[«سؤالات محمد بن عثمان لابن المديني» (113)]
ص ٤٤١
قال أحمد بن حنبل (241 هـ) رحمه الله: ومن قال: إن الله لا يرى في الآخرة، فهو جهمي؛ وقد كفر.
[«الإبانة» لابن بطة الردّ على الجهمية) (53/3) (47)]
ص ٤٤٢
قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (311 هـ) رحمه الله: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سمواته فهو كافر بربه، حلال الدَّم، يُستتاب فإن تاب وإلَّا ضُربت عُنقه، وأُلقي على بعض المزابل حتى لا يتأذى به المسلمون ولا المعاهدون بنتن رائحة جیفته وكان ماله فينا لا يرثه أحدٌ من المسلمين، إذ المسلم لا يرث الكافر، كما قال النبي: لا يرثُ المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم».
[«عقيدة أصحاب الحديث للصابوني،(29)، وصححه ابن تيمية في «الحموية» (ص340)]
ص ٤٤٢
قال الآجري (360 هـ) رحمه الله في «الشريعة» (ص312):
من ادعى أنه مسلم ثم زَعم أن الله عز وجل لم يُكلّم موسى فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
فإن قال قائل: لم؟ قيل: لأنه ردّ القرآن وجحده، وردّ السُّنة، وخالف جميع علماء المسلمين، وزاغ عن الحقِّ، وكان ممن قال الله عز وجل: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
وأما الحُجّة عليهم من القرآن فإن الله جل وعزَّ قال في سورة النساء: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النِّسَاء: 164].
وقال: فإن قال منهم قائل: إن الله تعالى خلق كلاما في الشجرة، فکلم به موسى.
قيل له: هذا هو الكفر؛ لأنه يزعم أن الكلام مخلوق، تعالى الله عز وجل عن ذلك، ويزعم أن مخلوقا يدعي الربوبية، وهذا من أقبح القول وأسمجه.
وقيل له: يا ملحد، هل يجوز لغير الله أن يقول: (إنني أنا الله؟) نعوذ بالله أن يكون قائل هذا،مُسلما هذا كافرٌ يُستتاب فإن تاب ورجع عن مذهبه السُّوء وإلا قتله الإمام، فإن لم يقتله الإمام ولم يستتبه وعُلم منه أن هذا مذهبه؛ هُجر ولم يُكلّم، ولم يُسلّم عليه، ولم يُصلّ خلفه، ولم تقبل شهادته، ولم يُزوجه المسلم بكريمته.
ص ٤٤٣ - ٤٤٤
(فصل) المعطّلة يدورون في تعطيلهم للصفات: على إنكار علوّ الله تعالى على خلقه
أظهر المعطلة الأوائل الكلام في إنكارِ الرُّؤية، وكلام الله، وغيرها من الصفات، ولم يجترئوا على نفي علو الله تعالى واستوائه على عرشه، والتصريح بذلك حتى لا يفتضحوا أمام الخاصة والعامة، فكشف أئمة السلف عن حقيقة مذهبهم، وعما كانوا يبطنونه من نفي علو الله تعالى، وأنه ليس في السَّماء إله يُعبد.
قال حماد بن زيد - وذكر هؤلاء الجهمية ـ، قال: إنما يُحاولون أن يقولوا: ليسَ في السَّماءِ شيء.
[«السنة» » لعبد الله (41)]
ص ٤٤٥
وقال يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي: الجهمية تدور أن ليس في السماء شيء.
[«الإبانة الكبرى» (2276)]
ص ٤٤٦
قلت: ثم جاء المتأخّرون من معطلة الصفات فصرحوا بما لم يُصرّح به أئمتهم المعطلة، فنفوا علوّ الله تعالى على خلقه، وصنفوا المصنفات، وأظهروا نفي العلو، بل وتعدّى الأمر عند بعضهم إلى تكفير من أثبت علو الله على خلقهِ ووصفه بأقبح الأوصاف!!
ص ٤٤٦
ومن أمثلة ذلك:
١. ابن حجر الهيتمي الشافعي:
وكان كثيرًا ما يُصرّح في كتبه بنفي علو الذات، ويقول: (لتعاليه عن الجهة والمكان)!!
ويقول مقالة الأشاعرة المشهورة: (كان في القدم، ولا جهة، ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان)!!
وهو يتأول جميع الآيات والأحاديث الواردة في إثبات العلو بعلو القدر والقهر…
وقد اشتدَّ نكيره على ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله في إثباتهما العلو!!
فيقول: (هذا من قبيح رأيهما وضلالهما؛ إذ هو مبني على ما ذهبا إليه، وأطالا في الاستدلال له والحط على أهل السنة [يريد: الأشاعرة] في نفيهم له، وهو إثبات الجهة والجسمية له تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرًا. ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما عنه الآذان، تصم فيقضى عليه بالزور، والكذب والضَّلال والبهتان قبحهما الله!! وقبَّح من قال بقولهما، والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرؤون عن هذه الوصمة، كيف وهو كفر عند كثيرين).!! اهـ.
قلت: انظر إلى شدّة إنكاره على أهل السُّنة مُثبتة الصفات، وتلطف كثير من المتأخرين ممن ينتسب إلى السنة ووصفه بالإمامة والعلم!!
ص ٤٤٦ - ٤٤٧
٢. النووي:
قال في شرحه لصحيح مسلم (24/5) وهو يشرح حديث الأمة السوداء التي أشارت إلى الله تعالى في السَّماء، قال: .. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبةً، فقيههم، ومُحدِّثهم، ومُتكلّمهم، و نظارهم، ومقلّدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله ﴿ءأَمِنْتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم!!.اهـ.
ص ٤٤٧
٣. ابن حجر العسقلاني
أ) قال في «الفتح» (508/1) في حديث: «إنَّ رَبه بينه وبين القبلة»، قال: وفيه الرَّدّ على مَن زعم أنه على العرش بذاته. اهـ.
ب) وقال في (412/13) قال الكرماني: قوله: «في السماء» ظاهره غير مراد، إذ الله مُنّزه عن الحلول في المكان؛ لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علوّ الذات والصفات، وبنحو هذا أجاب غيره عن الألفاظ الواردة من الفوقية ونحوها. اهـ.
ص ٤٤٧ - ٤٤٨
٤. ابن عطية:
قال في «المحرر الوجيز» (342/1): ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255]: يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان؛ لأن الله منزّه عن التحيز، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وهذا قول جهلة مجهلة مُجسّمين، وكان الوجه أن لا يُحكى. اهـ.
ص ٤٤٨
٥. القرطبي (المفسر):
قال في «تفسيره» (107): ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 18] يعني: فوقية المكانة والرُّتبة لا فوقية المكان والجهة. اهـ.
وقال في كتابه «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» (2/ 132) بعد أن ذكر أقوال الناس في الاستواء، قال: وأظهر هذه الأقوال ـ وإن كنت لا أقول به ولا أختاره (!!)) ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار: أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه، هذا جملة السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات. اهـ.
ص ٤٤٨
٦. الشوكاني:
قال في «فتح القدير: ﴿فَوقَ عِبَادِهِ﴾ [الأنعام: 61] فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم لا فوقية المكان كما تقول: السلطان فوق رعيته، أي: بالمنزلة، والرفعة. اهـ.
ص ٤٤٨
٧. المناوي:
قال في فيض القدير (605/1): «يرحمك من في السماء» اختلف بالمراد بـ «مَن في السَّماءِ»، فقيل: هو الله، أي: ارحموا من في الأرض شفقة، يرحمكم الله تفضلا والتَّقدير: يرحمكم من أمره نافذ في السماء، أو من فيها ملكه وقدرته وسُلطانه، أو الذي فى العلو والجلال والرفعة؛ لأنه تعالى لا يحلّ في مكان فكيف يكون فيه محيطا، فهو من قبيل رضاه من السَّوداء بأن تقول في جواب: «أين الله؟»، فأشارت إلى السماء مُعبّرة عن الجلال والعظمة، لا عن المكان، وإنّما ينسب إلى السَّماءِ لأنها أعظم وأوسع من الأرض، أو لعلوها وارتفاعها أو لأنها قبلة الدُّعاء، ومكان الأرواح الظاهرة القدسية .. اهـ.
ص ٤٤٩
٨. الكوثري:
قال في «تبديد الظلام» (35) وهو يتكلم عن الذين أثبتوا علو الله على خلقه واستواءه على عرشه: لا حظ لهم في الإسلام، غير أن جعلوا صنمهم الأرضي صنما سماويًا. اهـ
ص ٤٤٩
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية» :(٣/٥٢٢)
.. الجهمية أظهروا مسألة القرآن وأنه مخلوق، وأظهروا أن الله لا يُرى في الآخرة، ولم يكونوا يُظهرون لعامة المؤمنين وعلمائهم إنكار أن الله فوق العرش، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وإنما كان العلماء يعلمون هذا منهم بالاستدلال والتَّوسّم، كما يُعلم المنافقون في لحن القول…
ومثل هذا كثير في كلام السَّلف والأئمة كانوا يردون ما أظهرته الجهمية من نفي الرؤية، وخلق القرآن، ويذكرون ما تبطنه الجهمية مما هو أعظم من ذلك أن الله ليس على العرش، ويجعلون هذا منتهى قولهم، وأن ذلك تعطيل للصَّانع، وجحود للخالق، إذ كانوا لا يتظاهرون بذلك بين المؤمنين كما كانوا يظهرون مسألة الكلام والرُّؤية؛ لأنه قد استقر في قلوب المؤمنين بالفطرة الضرورية التي خلقوا عليها، وبما جاءتهم به الرسل من البينات والهدى وبما اتفق عليه أهل الإيمان من ذلك ما لم يمكن الجهمية إظهار خلافه وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا نَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]، فهذا لله يُبيّن أن الاعتراف بأن الله فوق العالم في العقل والدين أعظم بكثير من الاعتراف بأن الله يُرى في الآخرة، وأن القرآن غير مخلوق.اهـ.
ص ٤٤٩ - ٤٥٠
واعلم أن مسألة علوّ الله تعالى على خلقه من المسائل المعلومة من الدين بالضرورة.
قال ابن خزيمة رحمه الله في «التوحيد» (1 / 254): باب ذكر البيان أن الله عز وجل في السَّماء كما أخبرنا في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه عليه، وكما هو مفهوم في فطرة المسلمين علمائهم وجهالهم، أحرارهم ومماليكهم، ذكرانهم وإناثهم بالغيهم وأطفالهم كل من دعا الله جل وعلا فإنما يرفع رأسه إلى السماء، ويمد يديه إلى الله إلى أعلى لا إلى أسفل. اهـ.
…
وقال [ابن تيمية رحمه الله] أيضًا في «الدرء (26/7): القول بأن الله تعالى فوق العالم معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة بعد تدبر ذلك؛ كالعلم بالأكل والشرب في الجنة، والعلم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والعلم بأن الله بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، والعلم بأنه خلق السموات والأرض وما بينهما، بل نصوص العلو قد قيل: إنها تبلغ مئين من المواضع. والأحاديث عن النبي ﷺ الله والصَّحابة والتابعين متواترة موافقة لذلك، ولهذا كان السَّلف مُطبقين على تكفير من أنكر ذلك؛ لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدِّين…
…
وقال الشيخ سليمان بن سلمان (1349 هـ) رحمه الله: مسألة علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه وإثبات صفات كماله، ونعوت جلاله من المسائل الجلية الظاهرة ومما عُلِمَ من الدين بالضرورة، فإن الله قد وضحها في كتابه، وعلى لسان رسوله، فمن سمع الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية: فقد قامت عليه الحُجّة، وإن لم يفهمها، فإن كان ممن يقرأ القرآن فالأمر أعظم وأطم، لاسيما إن عاند وزعم أن ما كان عليه هو الحق، وأن القرآن لم يُبيِّن ذلك بيانا شافيًا كافيًا؛ فهذا كفره أوضح من الشمس في نحر الظهيرة. ولا يتوقف في كُفره من عرف الإسلام وأحكامه وقواعده. اهـ.
[من كتاب: «إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية» (ص117)]
ص ٤٥٠ - ٤٥٢
(فصل) المُعطّل شَرٌّ من المُشرك
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج (402/2): … (والتعطيل شرٌّ من الشرك؛ فإن المعطل جاحد للذات، أو لكمالها، وهو جحد لحقيقة الإلهية، فإن ذاتا لا تسمع، ولا تبصر ولا تتكلّم ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئًا، وليست داخل العالم، ولا خارجه ولا متصلة بالعالم، ولا منفصلة، ولا مُجانبة له، ولا مُباينة له، ولا مجاورة، ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره سواء هي والعدم. والمشرك مُقرّ بالله وصفاته؛ لكن عبد معه غيره، فهو خيرٌ من المعطل للذات والصفات).
ص ٤٥٣
المبحث الخامس عشر: الألفاظ المُحدثة التي يستخدمها أهل الكلام ويريدون منها: نفي حقيقة صفات الله تعالى
أئمة السلف وأهل السنة من بعدهم يثبتون صفات الله تعالى التي أثبتها لنفسه ولا يتعرَّضون للألفاظ المبتدعة المحدثة التي لم ينطق بها الكتاب والسُّنة لا نفيًا ولا إثباتًا،كالتركيب والتجسيم والتبعيض ونحو ذلك؛ ولكن يُنزهون الله عما نزَّه عنه نفسه. أما مُعطلة الصفات فإنهم إذا أرادوا نفي ما ثبت من صفات الله تعالى بالحيلة والمكر؛ عمدوا إلى ألفاظ مُجملة كـ (الجسم)، و(الجارحة)، و (الحيز)، و(التركيب)، و(الأبعاض وغيرها ووضعوا لها معانى لم تأتِ في الكتاب ولا السُّنة ولا في لُغةِ العرب؛ ثم نفوها عن الله تعالى، وغرضهم بذلك أن يتوهم من لا يعرف مُرادهم أن قصدهم تنزيه الله وتوحيده.
ص ٤٥٦
قال ابن القيم رحمه الله في «الصواعق المرسلة» (1440/4): وهؤلاء النفاة تجدهم دائمًا يعتمدون هذه الطريقة المتضمنة للتلبيس والتدليس، وينفون بها حقائق ما أخبر الله به عن نفسه؛ فيأتون إلى ألفاظ معناها في اللغة العربية أخصّ العربية أخصّ من معناها في اصطلاحهم؛ فينفون معناها العام الذي اصطلحوا عليه، ويوهمون الناس أنهم إنما نفوا معناها المعروف في اللُّغةِ، والناس أوّل ما يسمعون تلك الألفاظ إنما يفهمون منها معناها اللغوي فيوافقونهم على النَّفي تعظيمًا الله، وتنزيها له، ومرادهم نفي المعنى العام الذي اصطلحوا عليه وقد جمعوا في ذلك:
تحريف لغةِ العَربِ عن مواضعها،
وتحريف كلام الله ورسوله عن مواضعه
ولبس الحق بالباطل في النفي والإثبات.
فمعرفة مراد هؤلاء وكلامهم من تمام مقاصد الدين؛ ليتمكن أهل السنة والحديث من ردّ باطلهم، وتبيين إفكهم. اهـ
[وانظر: «الصواعق المرسلة (438/2 ـ وما بعدها)]
ص ٤٥٦ - ٤٥٧
وقال [ابن تيمية رحمه الله] أيضًا في «درء التعارض» (10/2 وما بعدها): كانت المعتزلة تقول: إن اللهَ مُنزّه عن (الأعراض)، و(الأبعاض)، و(الحوادثِ)، و(الحدودِ) ومقصودهم نفي الصفات، ونفي الصفات، ونفى الأفعال الأفعال .. فإنهم .. فإنهم إذا قالوا:
(إن اللهَ مُنزَّه عن الأعراض لم يكن في ظاهر هذه العبارة ما يُنكر؛ لأن النَّاسَ يفهمون من ذلك أنه مُنزه عن الاستحالة، والفساد: كالأعراض التي تعرض لبني آدم من الأمراض والأسقام ولا ريب أن الله مُنزّه عن ذلك؛ ولكن مقصودهم أنه ليس له عِلم، ولا قدرة، ولا حياة، ولا كلام قائم به ..!!
وكذلك إذا قالوا: (إن اللهَ مُنزه عن الحُدودِ، والأحياز، والجهات) أوهموا النَّاسَ أن مقصودَهم بذلك: أنه لا تحصره المخلوقات، ولا تحوزه المصنوعات، وهذا المعنى صحيح ومقصودهم: أنه ليس مباينا للخلق، ولا منفصلا عنه، وأنه ليس فوق السَّموات ربِّ، ولا على العرش إله ..!!
وإذا قالوا: (إنه ليس بجسم)، أوهموا الناس أنه ليس من جنس المخلوقات ولا مثل أبدان الخلق، وهذا المعنى صحيح؛ ولكن مقصودهم بذلك: أنه لا يُرى، ولا يتكلم بنفسه، ولا يقوم به صفة .. وأمثال ذلك!!
وإذا قالوا: (لا تحله (الحوادث أوهموا النَّاسَ أن مرادهم أنه لا يكون محلا للتغيرات والاستحالات، ونحو ذلك من الأحداث التي تحدث للمخلوقين، فتُحيلهم وتفسدهم، وهذا معنى صحيح؛ ولكن مقصودهم بذلك: أنه ليس له فعل اختياري يقوم بنفسه، ولا له كلام، ولا فعل يقوم به يتعلّق بمشيئته وقدرته وأنّه لا يقدر على استواء، أو نزول، أو إتيان، أو مجيء .. ونحو ذلك!!. اهـ.
ص ٤٥٧ - ٤٥٨
وتتبع كلامهم في ذكر هذه الألفاظ المحدثة يطول.
فلهذا «لابد من ذكر كلام أئمة أهل الإسلام على هذه الألفاظ المبتدعة المخترعة التي أدخلها بعض المنتسبين إلى السُّنة من أهل الكلام وغيرهم في العقائد ونسبها بعضهم إلى مذهب السلف رضوان الله عليهم».
ص ٤٦٠
قال أبو نصر أحمد السجزي: قيل لأبي العباس ابن سريج (306 هـ) صاحب الشافعي: ما التوحيد؟
قال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ﷺ، وتوحيد أهل الباطل الخوض في (الأعراض)، و(الأجسام)، وإنّما بعث النبي ﷺ بإنكار ذلك.
[رواه الهكاري في «اعتقاد الشافعي» (20)]
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (305/17) معلقا على قول ابن سريج ولم يُرد بذلك أنه أنكر هذين اللفظين؛ فإنهما لم يكونا قد أُحدثا في زمنه، وإنما أراد إنكار ما يعنى بهما من المعاني الباطلة، فإن أوّل من أحدثهما الجهمية والمعتزلة، وقصدهم بذلك إنكار صفات الله تعالى، أو أن يرى أو أن يكون له كلام يتصف به، وأنكرت الجهمية أسماءه أيضًا. اهـ.
ص ٤٦٣
قال البربهاري (329 هـ) رحمه الله في شرح السنة» (8):
فانظر رحمك الله كُلَّ من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصةً فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيءٍ منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلّم فيه أحد من أصحاب النبي، أو أحد من العلماء؟ فإن وجدت فيه أثرًا عنهم؛ ﷺ، فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء، ولا تختار فيه شيئًا؛ فتسقط في النَّارِ.
وقال: واعلم أن النَّاس لو وقفوا عند مُحدثات الأمور ولم يُجاوزوها بشيء، ولم يولدوا كلامًا مما لم يجيء فيه أثر عن رسول الله ﷺ ولا عن أصحابه: لم تكن بدعة. اهـ.
ص ٤٦٣
قال قوام السنة التيمي رحمه الله في «الحجة في بيان المحجة» :(110/1):
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ»، قال: أنكر السَّلف الكلام في (الجواهر)، و(الأعراض)، وقالوا: لم يكن على عهد الصَّحابة ورحم والتابعين، رضي الله عن الصَّحابة، التابعين، ولا يخلو أن يكونوا سكتوا عن ذلك وهم عالمون به، فيسعنا السكوت عما سكتوا عنه، أو يكونوا سكتوا عنه وهم غير عالمين به فيسعنا أن لا نعلم ما لم يعلموه، والحديث الذي ذكرناه يقتضي أن ما تكلم فيه الآخرون من ذلك ولم يتكلم فيه الأولون يكون مردودا. اهـ.
ص ٤٦٤
قال ابن تيمية رحمه الله في «درء التعارض» (76/1): كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب إتباعه، فيُثبتون ما أثبته الله ورسوله وينفون ما نفاه الله ورسوله ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها نفيًا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل؛ فإذا تبين المعنى أثبت حقه، ونفى باطله، بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. اهـ.
ص ٤٦٤
(فصل) نماذج من رَدّ أهل السنة على المتكلمين بالألفاظ المبتدعة التي أدخلوها في باب الصفات
قال عبد الله أحمد بن بن حنبل رحمه الله: كُنت أنا وأبي عابرين في المسجد، فسمع قاصًا يقصُّ بحديث النزول، فقال: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا، بلا (زوال)، ولا (انتقال)، ولا تغير حال)، فارتعد أبي - رحمه الله -، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن ثم قال: قف بنا على هذا المتخوّض، فلما حاذاه، قال: يا هذا رسول الله ﷺ أغير على ربه تعالى منك، قل كما قال رسول الله، وانصرف.
[«الاقتصاد في الاعتقاد لعبد الغني المقدسي (21)]
ص ٤٦٥
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1206 هـ) رحمه الله عمن يقول (إنّ الله ليس بجوهر، ولا جسم، ولا عرض).
قلت: وهو قول السَّفاريني كما تقدم في (ص459).
فقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: إن مذهب الإمام أحمد وغيره السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما تكلّم الله تعالى به، ورسوله، فما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله أثبتوه مثل: الفوقية، والاستواء، والكلام، والمجيء، وغير ذلك، وما نفاه الله عن نفسه، ونفاه عنه رسوله،نفوه مثل المثل، والند، والسّمي وغير ذلك، وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ولا نفيه مثل: (الجوهر)، و(العرض)، و(الجهة) وغير ذلك لا يثبتونه.
فمن نفاه فهو عند أحمد والسلف مُبتدع.
ومن أثبته مثل هشام بن الحكم وغيره فهو عندهم مبتدع . اهـ.
[«تنبيه ذوي الألباب السليمة» (ص17)]
ص ٤٦٦
المبحث السادس عشر: الجامع لمسائل في صفات الله تعالى
المسألة الأولى: المضافات إلى الله تعالى
هذه من المسائل المهمة التي ينبغي ضبطها؛ لأن كثيرًا ما يستدل بها أهل التعطيل على نفي صفات الله تعالى.
…
قال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (9/4): وفي هذا الباب
[يعني: باب المضافات إلى الله تعالى] ضلت طائفتان:
١. طائفة جعلت جميع المضافات إلى الله إضافة خلق وملك؛ كإضافة البيت والناقة إليه، وهذا قول نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم، حتى ابن عقيل وابن الجوزي، وأمثالهما إذا مالوا إلى قول المعتزلة سلكوا هذا المسلك،
…
٢. وطائفة بإزاء هؤلاء يجعلون جميع المضافات إليه صفة…
ص ٤٧٠ - ٤٧١
قلت: اعلم أن الإضافة إلى الله تعالى نوعان:
النوع الأول: إضافة ملك وتشريف.
وضابطها: أن كل ما يُضاف إلى الله تعالى ويكون عينًا قائمة بنفسها، في ذلك القائم بنفسه، فهي إضافة ملك وتشريف.
ومثال ما يضاف ويكون عينًا قائمة بنفسها: قوله تعالى: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْياهَا﴾ [الشمس: 13].
ومثال ما يكون حالا في ذلك القائم بنفسه قوله تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29].
فهذا لا يكون صفة؛ لأن الصفة لا بُدَّ أن تكون قائمة بالموصوف.
النوع الثاني: إضافة الصفة إلى الله.
وضابطها ما قاله ابن تيمية رحمه الله في «رسالة العقل والرّوح»: ما كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به. اهـ.
…
وقال أيضًا في مجموع الفتاوى (151/17): … وأما إن كان المضاف إليه لا يقوم بنفسه، بل لا يكون إلا صفة: كالعلم والقدرة والكلام والرّضا والغضب، فهذا لا يكون إلّا إضافة صفة إليه، فتكون قائمة به سبحانه، فإذا قيل: «أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك»، فعلمه صفة قائمة به، وقدرته صفة قائمة به، وكذلك إذا قيل: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك»، فرضاه وسخطه قائم به، وكذلك عفوه وعقوبته.
ص ٤٧١ - ٤٧٢
المسألة الثانية: حُكم مَن قال: إن صفات الله تعالى مخلوقة
أجمع أهل السنة والجماعة أن صفات الله تعالى منه، وأن من قال: إن صفات الله تعالى مخلوقة ومحدثة فهو كافر بالله العظيم.
قال الإمام أحمد رحمه الله: تبارك وتعالى ليس شيء من صفاته، ولا كلامه، ولا أسمائه مخلوق.
[«الإبانة» لابن بطة الرد على الجهمية) (204/16/2)]
وقال: من زعم أن علم الله وأسماءه وصفاته مخلوقة؛ فهو كافر، لا شك في ذلك إذا اعتقد ذلك، وكان رأيه ومذهبه، وكان دينًا يتدين به كان عندنا كافرًا
[«الشريعة للآجري (170)]
…
قال الدارمي رحمه الله في «النقض» (ص 13): فمن ادعى أن صفة صفات الله تعالى مخلوقة، أو مستعارة؛ فقد كفر وفجر. اهـ.
قال أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة الله: الذي أقول به: .. مَن قال: إن شيئًا من صفاتِ الله صفات الذات، أو اسمًا مِن أسماء الله مخلوق فهو عندي جهمي، يُستتاب، فإن تاب وإلّا ضُربت عنقه، هذا مذهبي، ومذهب مَن رأيت مِن أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عنّي خلاف هذا فهو كاذب باهت. اهـ. [«درء التعارض» (79/2)]
قال ابن بطة العكبري رحمه الله في «الإبانة» (الرد على الجهمية) (213/1: من زعم أن أسماء الله وصفاته مخلوقة فقد زعم أن الله تعالى مخلوق،محدث، وأنه لم يكن ثم كان تعالى الله عما تقوله الجهمية الملحدة علوا كبيرًا. اهـ.
وقال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة» (421/5): وما يزعمه الجهمية والمعتزلة من أن كلامه، وإرادته، ومحبته، وكراهته، ورضاه وغضبه، وغير ذلك كل ذلك مخلوقات له، منفصلة عنه هو مما أنكره السَّلف عليهم، وجمهور الخلف بل قالوا: إنّ هذا من الكفر الذي يتضمن تكذيب الرّسول، وجحود ما يستحقه الله من صفاته، و كلام السَّلف في رَدّ هذا القول، بل وإطلاق الكُفر عليه كَثيرٌ منتشر. اهـ.
ص ٤٧٣ - ٤٧٥
المسألة الثالثة: الحلف بصفات الله تعالى
أجاز أهل السنة والجماعة الحلف بصفات الله تعالى؛ لأن صفات الله تعالى منه، وهي غير مخلوقة.
وفي كتاب الله تعالى قول إبليس لما حلف الله تعالى، فإنه حلف بصفة من صفاته: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: 82].
وقال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب الحلف بعزة الله وصفاته، وكلامه، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي ﷺ يقول: «أعوذ بعزتك»، وقال أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ: «يبقى رجل بين الجنة والنار، فیقول: یا رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسألك غيرها». وقال أيوب عليه السلام: (وعزتك لا غنى بي عن بركتك). اهـ.
قال الشافعي رحمه الله: من حلف بالله، أو باسم من أسماء الله تعالى؛ فحنث فعليه الكفارة، فإن قال: وحق الله وعظمة الله، وجلال الله، وقُدرة الله، يُريد بهذا كله،اليمين أو لا نية له، فهي يمين. اهـ.
[«الاسماء والصفات» للبيهقي (565)]
…
وقال ابن تيمية رحمه الله في «الدرء» (71/10): إن النبي ﷺ قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك»، وثبت عنه الحلف بعزة الله، والحلف بقوله: (العمر الله، فلو كان الحلف بصفاته حلفًا بغير الله لم يجز، فعلم أن الحالف بهما لم يحلف بغير الله؛ ولكن هو حالف بالله بطريق اللزوم؛ لأن الحلف بالصفة اللازمة حلف بالموصوف ﷺ. اهـ.
ص ٤٧٦ - ٤٧٧
المسألة الرابعة: هل صفات الله تعالى: هي الله، أم غيره؟
اعلم أن «مذهب السَّلف والأئمة أنهم لا يطلقون لفظ: (الغير) على الصفات لا نفيًا ولا إثباتًا فلا يطلقون القول بأنها غيره، ولا بأنها ليست غيره، إذ اللفظ مُجمل فإن أراد المطلق بالغير المباين فليست غيرا، وإن أراد بالغير ما قد يعلم أحدهما دون الآخر؛ فهي غير».
[«درء التعارض» (187/2)]
ص ٤٧٨
قال ابن بطه رحمه الله في (الإبانة) (الرد على الجهمية) (2/ 179 - 182):
ادعى [الجهمي] أمرًا ليفتن به عباد الله الضعفاء من خلقه؛
فقال: أخبرونا عن القرآن؛ هل هو الله، أو غير الله؟
فإن زعمتم أنه الله؛ فأنتم تعبدون القرآن.
وإن زعمتم أنه غير الله، فما كان غير الله فهو مخلوق.
فيظن الجهمي الخبيث أن قد فلجت حجته، وعلت بدعته، فإن لم يجبه العالم؛ ظن أنه قد نال بعض فتنته.
فالجواب للجهمي في ذلك أن يقال له: القرآن ليس هو الله؛ لأن القرآن كلام الله، وبذلك سَمّاه الله؛ قال: ﴿فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [التوبة: 6]، وبحسب العاقل العالم من العلم أن يُسمي الأشياء بأسمائها التي سماها الله بها، فمن سَمّى القرآن بالاسم الذي سَمّاه الله به؛ كان من المهتدين، ومن لم يرض بالله بما سماه به كان من الضَّالين، وعلى الله من الكاذبين..
فهذا من الغلو ومن مسائل الزَّندقة؛ لأن القرآن كلام الله.
فمن قال: إن القرآن هو الله؛ فقد جعل الله كلاما، وأبطل من تكلّم به.
ولا يقال: إن القرآن غير الله، كما لا يقال: إن علم الله غير الله، ولا قُدرة الله غير الله، ولا صفات الله غير الله، ولا عِزَّة الله غير الله، ولا سُلطان الله غير الله ولا وجود الله غير الله.
ولكن يقال: كلام الله، وعِزَّة الله، وصفات الله، وأسماء الله…
ص ٤٧٩
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (160/17): لا يطلق القول بأن (كلام الله) و (علم الله) ونحو ذلك هو هو؛ لأن هذا باطل. ولا يطلق أنه غيره؛ لئلا يفهم أنه بائن عنه، منفصل عنه.
وهذا الذي ذكره الإمام أحمد عليه الحذاق من أئمة السُّنة، فهؤلاء لا يطلقون أنه هو، ولا يُطلقون أنه غيره ولا يقولون: ليس هو هو، ولا غيره، فإن هذا أيضًا إثبات قسم ثالث، وهو خطأ، ففرق بين ترك إطلاق اللفظين لما في ذلك من الإجمال، وبين نفي مسمى اللفظين مطلقًا، وإثبات معنى ثالث خارج عن مسمى اللفظين. اهـ.
[وانظر: درء التعارض (270/2)، و «اقتضاء الصراط» (421/1)]
ص ٤٨٠
المسألة الخامسة: هل يقال: الصفات زائدة عن الذات؟
هذه من الألفاظ المجملة التي يريد بها أهل التعطيل إبطال صفات الله تعالى، كما تقدم بيان ذلك في (المبحث الخامس عشر).
وأمَا مَن أطلقها مِن أهل السنة فهو يُريد بها ما بينه ابن تيمية رحمه الله بقوله في «مجموع الفتاوى» (162/17) قال:
يريد محققو أهل السنة بقولهم: الصِّفات زائدة على الذات)، أنَّها زائدة على ما أثبته نفاة الصفات من الذات؛ فإنهم أثبتوا ذاتا مُجرّدة لا صفات لها فأثبت أهل السُّنة الصفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، فهي زيادة في العلم والاعتقاد والخبر، لا زيادة على نفس الله تعالى الله وتقدست أسماؤه، بل نفسه المقدسة متصفة بهذه الصفات لا يمكن أن تفارقها، فلا توجد الصفات بدون الذات ولا الذات بدون الصفات.
ص ٤٨١
خاتمة
إن مما يلزم السُّني المتبع لمنهج السلف الصالح أن يتعلَّمَ العقيدة الصَّحيحة من مصادرها الأولى الخالية من الكلام والجدال، القائمة على ذكر آثارِ السَّلف الأوائل من الصَّحابة والتابعين، ومن بعدهم ممن اقتفى أثرهم، وسار على طريقتهم في الاعتقاد، وأن يبتعد كل البعد عن كتب أهل الكلام والجدال التي لا تزيد مسائل الاعتقاد إلا تعقيدًا وتشتيتا.
وعليه أن يبتعد عن كتب كثير من المتأخرين الذين أدخلوا في مصنفاتهم مباحث علم الكلام المذموم وقالوا به، ودعوا إليه. وسأقتصر هنا على ذكر بعض مُصنفات السَّلف الأوائل ومن بعدهم إلى القرن السابع الهجري ممن ألف في اعتقاد أهل السنة والجماعة.
ومن تلك الكتب:
الجامع في عقائد ورسائل أهل السنة والأثر. وقد جمعت في هذا الكتاب (60) عقيدة من عقائد أهل السنة من القرن الأول إلى القرن الخامس. وقد صدر عن دار اللؤلؤة (1436هـ). وكثير من تلك العقائد لم أذكره هاهنا تفاديًا من التكرار.
«القدر» لعبد الله بن وهب المصري (197 هـ) رحمه الله.
«أصول السُّنّة» لأبي بكر الحميدي (219 هـ) رحمه الله. وهو العقيدة رقم (16) ضمن كتابي «الجامع في العقائد ورسائل أهل السنة».
«الإيمان» لأبي عُبيد القاسم بن سلام (224 هـ) الله بتحقيقي.
«الإيمان» لأبي بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (235 هـ) رحمه الله بتحقيقي.
«الرَّد على الجهمية والزنادقة» لأحمد بن حنبل (241 هـ) رحمه الله.
«الإيمان» لأحمد بن حنبل رحمه الله بتحقيقي.
«أصول السنة واعتقاد السَّلف» للإمام أحمد رحمه الله. وهو عبارة عن (11) عقائد ورسائل مختصرة للإمام أحمد رحمه الله، جمعتها في كتابي الجامع في عقائد ورسائل أهل السنة»، عقيدة رقم (20).
أبواب من صحيح البخاري لأبي عبد الله البخاري (256 هـ) رحمه الله. وهي الأبواب المتعلقة بالسنة والاعتقاد وهي: أ) (كتاب الإيمان). ب) (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنّة). ج) (كتاب التوحيد).
«خلق أفعال العباد» للبخاري (256 هـ) رحمه الله
«الرَّدْ على الجهمية» لعثمان الدارمي (280 هـ) رحمه الله.
«النقض على بشر المريسي» للدارمي (280 هـ) رحمه الله. قال ابن القيم رحمه الله في [«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 228)]: وكتاباه [يعني: الدارمي] من أجل الكتب المصنفة السنة في وأنفعها، وينبغي لكُلِّ طالب سُنّة مُراده الوقوف على ما كان عليه الصَّحابة والتابعون والأئمة أن يقرأ كتابيه، وكان شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله يوصي بهذين الكِتابين أشدّ الوصية، ويعظمهما جدًا، وفيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفاتِ بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما. اهـ.
«الإيمان» لمحمد بن أبي عمر العدني (243 هـ) رحمه الله بتحقيقي.
أبواب من «سنن أبي داود» سليمان بن الأشعث (275 هـ) رحمه الله. ومنها: (كتاب السُّنّة والرد على الجهمية).
أبواب من «سنن ابن ماجه» لأبي عبد الله القزويني (275 هـ) رحمه الله. ومنها:
أ - (المقدمة وفيها الأمر باتباع السُّنّة).
ب - (باب في القدر).«الاختلاف في اللفظ، والرد على الجهمية والمشبهة» لابن قتيبة (276 هـ) رحمه الله.
أبواب من «سنن الترمذي» لأبي عيسى الترمذي (279 هـ) رحمه الله. ومنها: (أبواب القدر) عن رسول الله ﷺ.
«السنة لحرب الكرماني (280 هـ) رحمه الله بتحقيقي.
«شرح السُّنَّة» لإسماعيل المزني المصري تلميذ الشافعي (264 هـ) رحمهما الله. وهي العقيدة رقم (29) ضمن كتابي «الجامع في عقائد ورسائل أهل السنة».
«السُّنَّة» لابن أبي عاصم (287 هـ) رحمه الله.
«ما جاء في البدع» لمحمد بن وضاح (287 هـ) رحمه الله.
«السُّنَّة» لعبد الله بن أحمد بن حنبل (290 هـ) رحمه الله. بتحقيقي (الطبعة الثانية دار اللؤلؤة).
«السُّنَّة» لمحمد بن نصر المروزي (294 هـ) رحمه الله.
«العرش» لمحمد بن عثمان ابن أبي شيبة (297 هـ) رحمه الله.
«القدر» للفريابي (301 هـ) رحمه الله.
«صفة النفاق وذم المنافقين» للفريابي رحمه لله.
«كتاب النعوت - الأسماء والصفات» لأحمد بن شعيب النسائي (303 هـ) رحمه الله. مأخوذ من «السنن الكبرى».
«صريح السنّة» لمحمد بن جرير الطبري (310 هـ) رحمه الله. وهي العقيدة رقم (44) ضمن كتاب «الجامع في عقائد أهل السنة».
«التبصير في معالم الدين» لابن جرير للطبري رحمه الله.
«التوحيد» لابن خُزيمة (311 هـ) رحمه الله.
«السُّنَّة» لأبي بكر الخلال (311 هـ) رحمه الله.
«قصيدة في السُّنّة» لابن أبي داود (316 هـ) رحمه الله. وهي العقيدة رقم (45) ضمن كتاب «الجامع في عقائد أهل السنة».
«كتاب البعث» لابن أبي داود رحمه الله.
«شرح السُّنَّة» للبربهاري (329 هـ) رحمه الله. وهي العقيدة رقم (49) ضمن كتاب «الجامع في عقائد أهل السنة».
«الرَّدّ على من يقول القرآن مخلوق» للنَّجاد (348 هـ) رحمه الله.
«الشريعة» لأبي بكر الآجري (360 هـ) رحمه الله.
كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (369 هـ) رحمه الله.
«النُّزول» للدارقطني (385 هـ) رحمه الله.
«الصفات» للدارقطني رحمه الله.
«الرؤية» للدارقطني رحمه الله.
«التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع» للملطي (377 هـ) رحمه الله.
«اللطيف في شرح مذاهب أهل السنة». لابن شاهين (385 هـ) رحمه الله.
«الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرقة المذمومة» لابن بطة العكبري (387 هـ) رحمه الله. المعروف بـ «الإبانة الكبرى».
«الشرح والإبانة على أصول السُّنَّة والديانة» المعروف بـ «الإبانة الصغرى لابن بطة رحمه الله. بتحقيقي.
«الرَّد على الجهمية» لمحمد بن إسحاق بن منده (395 هـ) رحمه الله.
«الإيمان» لابن منده رحمه الله.
«التوحيد ومعرفة أسماء الله وصفاته لابن منده رحمه الله.
«شرح السُّنَّة» لابن أبي زمنين (399 هـ) رحمه الله.
«شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة» لللالكائي (412 هـ) رحمه الله.
«رؤية الله تعالى» لأبي محمد عبد الله النحاس (416 هـ) رحمه الله.
«الرَّدّ على من أنكر الحرف والصوت» للسجزي (444 هـ) رحمه الله.
عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني (449 هـ) رحمه الله.
«أحاديث في ذم الكلام وأهله» لأبي الفضل المقرئ (454 هـ) رحمه الله.
«الرَّدْ على من يقول: (ألم) حرف …» لعبد الرحمن بن محمد ابن منده (470 هـ) رحمه الله.
«المختار في أصول السُّنَّة» لابن البناء الحنبلي (471 هـ) رحمه الله.
«الرد على المبتدعة» لابن البناء الله بتحقيقي.
«الأصول المجرَّدة على ترتيب القصيدة المجودة شرح القصيدة الحائية لابن أبي داود» لابن البناء.
«ذم الكلام وأهله» لأبي إسماعيل الأنصاري الهروي (481 هـ) رحمه الله.
«الأربعين في دلائل التَّوحيد» للأنصاري الهروي رحمه الله.
«اعتقاد الإمام أبي عبد الله الشافعي» لأبي الحسن الهكاري (486 هـ) رحمه الله. وهي العقيدة رقم (44) ضمن «كتاب الجامع في عقائد أهل السنة».
«جزء فيه امتحان السُّني مِن البدعي» للشيرازي (486 هـ) رحمه الله.
«الانتصار لأهل الحديثِ» لأبي المظفر السَّمعاني (489 هـ) رحمه الله.
«مُختصر الحُجَّة على تاركِ المحجّة» لأبي الفتح المقدسي (490 هـ) رحمه الله.
«الحُجّة على تارك المحَجّة» لابن طاهر المقدسي (507 هـ) رحمه الله.
«الحجّة في بيان المحَجّة» لأبي القاسم التيمي (535 هـ) رحمه الله.
«اعتقاد أهل السنة والجماعة» لأبي محمد الهكاري (577 أو 555هـ).
«فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف» لأبي العلاء العطار الهمذاني (569هـ) رحمه الله.
«كتاب التوحيد» لأبي محمد عبد الغني المقدسي (600هـ) رحمه الله.
«الاقتصاد في الاعتقاد» لأبي محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي.
عقيدة عبد الغني المقدسي رحمه الله.
إثبات الحد لله تعالى لمحمود بن أبي القاسم بن بدران الدشتي (ت ٦٦٥ هـ) بتحقيقي.
وغيرها من كتب أهل السُّنَّة والجماعة ممن أتى بعدهم واقتفى أثرهم.
فعلی متبع السنة والأثر تتبع كُتب السلف الأوائل، واقتنائها، وإدمان النظر فيها، وسؤال الله تعالى التوفيق والفهم، والهداية لاتباع الحقِّ والصَّواب والسُّنّة، فقد تقدم معك في هذا الكتاب كثيرا ممن له علم وحفظ و تصنيف قد ضَلَّ عن اتباع الحق وما كان عليه سلف الأمة في مسائل السُّنّة والاعتقاد، فسأل ربك التوفيق والثبات حتى الممات على الإسلام والسنة.
ص ٤٨٣ - ٤٨٨