معالج:: 1
التسميات:: البناء_المنهجي
الحالة:: مكتمل
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/57299557
الصفحات:: 142
الصيغة:: PDF
الغرض:: الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1614788569l/57299557._SX318*.jpg
المؤلف:: أحمد بن يوسف السيد الناشر:: مركز تكوين للدراسات والأبحاث
تاريخ القراءة:: 2021-04-24
سنة النشر:: 2020

عقيدة المؤمن ليست نصوصًا تحفظ، ولا أقوالًا يجادَل بها، وإنما هي إيمان وخشوع وإخبات، وعمل وفاعلية وحياة، ويقين وطمأنينة ورضا”..


ارتبط في أذهان كثير من الطلاب أن العقيدة علم جامد، صعب، نظري بحت لا يلامس الإيمان، ولا يُغذي الروح، وأنه مليء بأسماء الفرق والطوائف والخلافات التي إنما تهم المتخصصين أو طلاب العلم المتقدمين، بينما كانت العقيدة التي تلقاها الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم سهلة، واضحة، متينة، راسخة، عذبة، شفافة، وهي على سهولتها ووضوحها: فاعلة حية شمولية تملأ الروح وتغذيها، وتخاطب العقل وتنميه، وتؤثر على السلوك والعمل ولا تبقى حبيسة الأذهان، حتى جعلت نفوسهم كالجبال ،ثباتا وكالشمس ضياء وكالسهم سدادا.


ونحن إذا اعتنينا ببناء العلم الصحيح المبرهن وخاصة أصول العقيدة فإن هذا بحد ذاته يزاحم التصورات والأفكار الفاسدة ولو لم يتم الرد على جميع تفاصيلها، فإن الحق التام يُزهق الباطل، والصواب يقضي على الخطأ، وإذا ثبتت عظمة الإسلام ومتانة عقيدته لدى الشاب فإن من الصعب أن تؤثر عليه شبهة جزئية، أو أن تقضى على إيمانه فكرة باطلة، أو نزوة عابرة.


■ الفرق الأول: امتلاك الأدلة الواضحة على صحة (أصول العقيدة):

إن الأدلة التي يستدل بها المسلمون لإثبات أن الإسلام صحيح لا تقارن أبدًا بالأدلة التي يستدل بها اليهود أو النصارى على صحة أديانهم، وإن من أعظم ما يفتخر به المسلمون أنه بإمكانهم إثبات الدليل على صحة كل أصل من أصول اعتقادهم دون أن يستطيع الآخرون ذلك، فعلى سبيل المثال:

نحن نعلم أن القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، وأن الإنجيل هو كتاب النصارى، وأن التوراة هي كتاب اليهود، فالذي يميز كتابنا (القرآن) عن سائر الكتب السماوية الأخرى هو أن إثبات نسبته كاملا بكل سوره وآياته إلى محمد ﷺ تم عن طريق التواتر المتصل، أي أنه نُقل ليس عن طريق واحد عن واحد عن واحد، بل عن جماعات كثيرة عن جماعات كثيرة عن مثلهم، بسند متصل إلى النبي ﷺ.

بينما لا تمتلك الديانات الأخرى هذه الوسيلة لإثبات نسبة كتبهم إلى أنبيائهم، بل يوجد انقطاع كبير في الإسناد والاتصال.


■ الفرق الثاني: البرهان الذاتي «أي: مضمون القرآن ودلالته على صحة الدين الإسلامي» بعكس الكتب الأخرى:

كتب الدكتور محمد عبد الله دراز كتابًا في غاية الروعة والجمال، عنوانه (النبأ العظيم) وهدفه أن يشرح لماذا القرآن كلام الله وليس كلام البشر؟ وما الدليل على أنه لا يمكن أن يكون بشر قد أتى به؟ بطبيعة الحال قد ذكر أدلة كثيرة جدًا متعلقة بشخص النبي ﷺ، وأنه لا يمكن أن يكذب، وهو كلام جميل أدعوكم جميعًا للرجوع إليه، ولكن الذي يعنينا في هذه النقطة أنه استدل على صحة القرآن من مضمونه، بغض النظر عن الدلائل الأخرى التي تثبت صدق النبي ﷺ، ومما قال في ذلك: «هذا الكتاب الكريم يأبى بطبيعته أن يكون من صنع البشر، وينادي بلسان حاله أنه رسالة القضاء والقدر، حتى إنه لو وجد ملقى في صحراء لأيقن الناظر فيه أن ليس من هذه الأرض منبعه ومنبته، وإنما كان من أفق السماء مطلعه ومهبطه» (١). ثم أخذ يفصل الأدلة التي نستدل بها من بلاغة القرآن على أنه خارج قدرة البشر، وحين تقرأ له يقشعر جلدك من الدلائل والبينات والبراهين.

١٨ - ١٩


■ الفرق الثالث: وضوح العقيدة وموافقتها للعقل والفطرة:

حين يؤمن النصراني بأن الله ثلاثة وواحد في نفس الوقت! فإن هذا أمر لا يمكن تصديقه إلا بإكراه العقل على قبول المستحيل! وحين يقول اليهودي إن الله واحد ولكن صفاته منافية
للألوهية كما نجد في كتابهم أن الله تعالى أخذ يبحث عن آدم عليه السلام بعد أن اختبأ في الجنة حين أكل من الشجرة!! وينادي عليه أين أنت يا آدم ! (١) - تعالى الله عن ذلك - فإن هذا يدل كذلك على تحريف كتابهم.

ولكن.. حين تسأل عن صفات الله في القرآن فستجد الشفاء والعظمة والكمال، تجد الوضوح والبهاء والجمال، اقرأ معي: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ٢٢﴾

وهذه من سمات العقيدة الإسلامية وخصائصها ؛ أنها عقيدة واضحة فطرية تجعلك تعظم هذا الدين وتطمئن إليه، وقد ذكرت في كتابي (محاسن الإسلام) شيئا يخص هذا الموضوع، قلت فيه: «لا يوجد تراث لأمة من الأمم المتدينة فيه تعظيم للإله الخالق سبحانه وتنزيه له عن النقائص وعمّا لا ينبغي أن يكون عليه، كما يوجد في القرآن الكريم وفيما صح عن النبي محمد ﷺ من الأحاديث.

٢١ - ٢٢


أولا: سعادة العبودية لله:
إن أول شيء يُبدأ به في محاسن العقيدة الإسلامية أنها تجعل صاحبها يعيش سعادة العبودية لله تعالى، فإن أجمل شيء في هذا الوجود هو تذوق لذة التعبد الخالق كل شيء، وهذه اللذة لا تشبهها لذة أخرى أبدًا، لا لذة المال ولا لذة الملك ولا لذة الشهوات عموما، ولذلك قال من قال من عُبّاد المسلمين: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف) يقصد ما هم فيه من لذة التعرف على الله والتعبد له، كما قال ابن القيم: (فإنه لا نعيم له ولا لذة، ولا ابتهاج، ولا كمال، إلا بمعرفة الله ومحبته، والطمأنينة بذكره، والفرح والابتهاج بقربه، والشوق إلى لقائه، فهذه جنته العاجلة، كما أنه لا نعيم له في الآخرة، ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة، فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إن لم يدخل الأولى. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال بعض العارفين: إنه ليمر بالقلب أوقات، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب. وقال بعض المحبين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها ، قالوا: وما أطيب ما فيها ؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عما سواه أو نحو هذا من الكلام، وكل من له قلب حي يشهد هذا ويعرفه ذوقا).

٢٥ - ٢٦


رابعا : ضبط الأخلاق:

إن الإنسان الذي يؤمن إيمانا جازمًا بأن الله سيحاسبه على أقواله وأفعاله، وسيجازيه على نيته وقصده، فإنه سيضبط تصرفاته، ويحسب أعماله، ويعرف أين يضع خطواته، بينما يقل الوازع عند غير المؤمن فلا يحسب تصرفاته كثيرًا.

فإذا كان كثير من اللصوص والمجرمين يمارسون جرائمهم حتى مع وجود القوانين في الدول القوية لأنهم قادرون على تجاوز القوانين بحيل كثيرة؛ فإن المؤمن الصادق يخاف الله أكثر من القانون، ويمتنع عن الظلم خشية من خالقه، ويُحسن إلى الناس رغبة في التقرب إلى ربه سبحانه وتعالى.


قال الإمام ابن رجب رحمه الله عن هذا الحديث: (هو حديث عظيم جدا يشتمل على شرح الدين كله ولهذا قال النبي ﷺ في آخره: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ (٢). وهو حديث يبين أسس الإسلام وقواعده العظام بطريقة جميلة، وأسلوب حسن، وحدث مشوّق، وهذا يدل على عناية الإسلام بأسلوب الخطاب، وطرائق التعليم، فقد كان بالإمكان أن تُعرَض المعلومات التي في الحديث بأسلوب خطابي عادي، ولكنه حصل بهذا المشهد وتلك القصة والحدث، ليُرْسَخ في الأذهان، ويثبت في العقول، ويستقر في القلوب.

٣٤


الإيمان قول وعمل واعتقاد:

هذا الحديث يبيّن أركان الإيمان ومعالم الإسلام وصفة الإحسان، وقد تقرر في عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، ولكن قد أشكل على بعض الناس أن الإيمان المذكور في الحديث إنما ربط بالاعتقاد وليس بالعمل، وذلك بقول النبي ﷺ: «أن تؤمن بالله وملائكته..»، بينما رُبِط الإسلام بالعمل، وذلك بقوله: «تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة..» فهل تدخل الأعمال في الإيمان؟ أم أن الإيمان مجرد اعتقاد؟

وللإجابة عن هذا الاستشكال فلا بد أولاً من النظر إلى مجموع الأدلة القرآنية والنبوية وليس إلى دليل واحد، وهذه من أهم المنهجيات لفهم الشريعة الإسلامية، فإذا نظرنا في أدلة الباب سيتبين لنا أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنه ليس اعتقادًا فقط.


فالأدلة صريحة على أن العمل من الإيمان، فما توجيه الحديث الذي فيه قصة جبريل؟

الجواب: أنه إذا ذكر الإسلام والإيمان في موضع واحد، فإن الإسلام يُفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان يفسر بالاعتقاد، وذلك كما في حديث جبريل. وإذا ذُكر أحدهما منفردًا فإنه يشمل الاعتقاد والعمل، فإذا اجتمعا في موضع واحد افترقا من جهة المعنى، وإذا افترقا في الموضع اجتمعا من جهة المعنى، وهذا معنى قول العلماء عن الإسلام والإيمان: (إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا).

علاقة الكتاب بحديث جبريل:
هذا؛ وإن حديث جبريل مليء بالفوائد والعبر، ولا يسع المقام في هذا الكتاب للتعليق عليها كلها، ولا على شرح دوائر الدين الثلاثة بالتفصيل، وإنما سأركز على الدائرة الثانية، وهي دائرة الإيمان مع التعرض لشيء مما له علاقة بالدوائر الأخرى. ومن أراد الاستزادة من فوائد الحديث فليرجع إلى كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب / شرح الحديث الثاني. وللمتخصصين يمكنهم مراجعة كتاب شرح حديث جبريل «الإيمان الأوسط» لابن تيمية رحمه الله تعالى.

٣٦ - ٣٧


أولا وجود: الله سبحانه وتعالى وكماله وربوبيته:

إن المعرفة بوجود خالق للإنسان لا تتطلب استدلالا طويلا، ولا فلسفة معقدة، ولا طرائق مشتبكة، بل إن «إثبات وجود الله الله أمر فطري عقلي قريب لا يجهد العقل في الوصول إليه؛ إذ إنّه قائم على مبدأ يجده الإنسان مركوزا في عقله بحيث لا يمكنه التخلي عنه البتة، وهو مبدأ الاستدلال بالأثر على المؤثر)، بل إن عامة الملحدين الذين يتنكرون لوجود الخالق سبحانه يطبقون هذا المبدأ في سائر أمور حياتهم وإن أنكروه في باب الألوهية.


تدل الفطرة البشرية على وجود الخالق و من ثلاث جهات:

  • الجهة الأولى: أن هناك معارف أولية ضرورية حاصلة لكل البشر، لم يتعلموها في مدرسة ولم يتلقوها في جامعة، وإنما ولدت معهم، وغُرزت في عقولهم؛ كمعرفة أن الحادث لا بد له من محدث، وأن الجزء أصغر من الكل وهذه المعارف يُستدل بها على وجود الله سبحانه من طريقين:
    • الطريق الأولى من جهة النظر والاستدلال، وذلك بأن: يُنظر في الكون والإنسان والمخلوقات، فيُعلم بأنها حادثة، ثم نستدل بالمعرفة الفطرية القائلة بأن لكل حادث محدث على أن للكون والمخلوقات مُحدِثا خالقًا وهو الله سبحانه وتعالى.
    • الطريق الثانية: أن مُجرّد وجود هذه الغرائز المعرفية الفطرية يدلُّ على أن هناك من أودعها في نفس الإنسان؛ لأنها لم تحصل عن اكتساب ولا عن تعلم وهذا دليل على وجود الخالق الله.
  • الجهة الثانية من دلالة الفطرة: ضرورة الافتقار والتعبد، أو الاعتراف النفسي الضروري بالحاجة إلى الخالق سبحانه؛ إذْ إن في فطرة الإنسان افتقار ذاتي إلى قوة غيبية كاملة غنية يرجو منها الإنسان النفع ويستدفع بها الضر ويتذلل لها، وخاصة عند الشدائد؛ ولذلك تجد أنّ الأمم كلّها من قديم الزمان وفي مختلف البلدان لها أماكن للعبادة حتى عبدوا الشمس والكواكب والنار والأحجار ملتمسين بذلك جلب النفع ودفع الضر، وما ذلك إلا لافتقار الإنسان بطبيعته إلى الإله الذي يملأ تطلعات روحه وحاجاته؛ غير أنّ البيئة التي ينشأ فيها الإنسان قد تساهم في تشويش الغاية الصحيحة، فبدل أن يتوجه للإله الحق، يتوجه إلى آلهة باطلة يُعلم بالعقل قبل الشرع بطلانها، ولذلك فإنَّ الرسل حين بعثوا إلى أقوامهم لم يكن محور رسالتهم إثبات وجود الخالق؛ لأن الأمم كانت تقر بذلك في الجملة، وإن كان بعض الناس قد يحتاج إلى تذكير بهذه الحقيقة الفطرية، وإنما كان محور رسالتهم الدعوة إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، والتخلص من عبادة كل ما سواه، ولذلك نجد أسلوب خطاب الرسل عند الحديث عن هذه الحقيقة الفطرية تذكيريا لا تأسيسيا، كأنه يُحيي الفطرة في النفوس، أو يوقظها لا أنه يغرسها أو يبنيها، فتأمل. مثلًا. قول الله تعالى: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٍّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [ ابراهيم: ۱۰]؟! فهذا أسلوب مَن يُذكر لا من يؤسس معنى كان مجهول. وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى أن بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته فيحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة (١).
  • الجهة الثالثة: الغرائز والأخلاق، وذلك أننا نرى في الإنسان والحيوان غرائز فطرية غير مكتسبة من المجتمع ولا من البيئة، وإنما هي مما أودع فيه بغير كسب منه، فأنت تشاهد بعض الحيوانات عند ولادتها تتجه مباشرة إلى الضرع باحثة عن اللبن، من غير أن تكون الأم التي توجهها إليه، وأنت ترى الرضيع إذا ألقمته أمه ثديها عرف كيف يمصه ويستخرج اللبن منه، وكذلك غريزة ميل الجنسين أحدهما إلى الآخر وغريزة النكاح، وحب الولد وغير ذلك من الغرائز الكثيرة جدا. ومن الغرائز التي أودعت في الإنسان: القيم الأخلاقية الفاضلة كاستحسان الصدق والعدل واستبشاع الظلم والقتل وتعذيب الأطفال، ونحو ذلك. إن وجود الخير في نفس الإنسان لا يمكن أن يفهم في دائرة العبثية والعشوائية، وإنما يتم فهمه باتساق وانتظام تحت مظلة الإيمان بوجود الخالق المُدبّر الله ، الذي خلق النفوس وألهمها فجورها وتقواها).

وخلاصة الكلام في الإيمان بوجود الله وكماله أننا نستدل على ذلك بالعقل والفطرة، فالعقل يدلنا على ضرورة وجود خالق له صفات الكمال من خلال التفصيل السابق، والفطرة تدلنا على وجود الخالق أيضا من الجهات التي سبق بيانها كذلك؛ فاللهم ارزقنا تعظيمك وخشيتك وحسن العمل بالعلم يا رب العالمين آمين.

٤٥ - ٤٨


تعيين الأسماء الحسنى:

لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم عد الأسماء التسعة والتسعين، وإنما اجتهد العلماء في استخراجها، وأما ما ورد في بعض روايات الحديث عند الترمذي من عد الأسماء ونسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فليس بصحيح ، قال ابن تيمية انة: تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسماء الله تعالى ليست محصورة في هذا العدد كما ذكر العلماء، وإنما هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حين يأتي يوم القيامة مستشفعًا إلى ربه فإنه يحمد الله بمحامد لم يُفتح فيها على أحد، من قبله قال الإمام النووي رحمه الله تعالى (واتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر الأسمائه ، فليس معناه: أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «أسألك بكل اسم سميت به نفسك أو استأثرت به في علم الغيب عندك».

٥١


الاختلاف بين المذاهب في تأويل الأسماء والصفات:

وهي أن الكلام في ها هنا ملاحظة في غاية الأهمية، ألا الأسماء والصفات قد أخذ منحى جدليا عند كثير من الطوائف في التاريخ الإسلامي بتأثر من ثقافات وعلوم أخرى خارجة عن الصفاء الإسلامي بعد أن تمت ترجمة الفلسفة والثقافة اليونانية على وقت المأمون الخليفة العباسي ، فصار أول ما يقفز في الذهن إذا ذكر باب الأسماء الحسنى هو الخلافات العقدية الجدلية الواقعة في هذا الباب بين الطوائف الإسلامية، وهذا بلاشك خلاف المقصد الشرعي الذي لأجله ذكر الله أسماءه وصفاته في كتابه العزيز. ونحن إذا رجعنا إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نرى أنهم لم يتعاملوا مع الأسماء والصفات بغير مبدأ التعظيم والتسليم، ولم يضعوا قوانين معارضة للنصوص، سواء سمیت قوانين عقلية أو غير ذلك. وإنما تعاملوا مع هذه النصوص كما يتعاملون مع سائر نصوص القرآن الكريم الواردة في الأحكام والتشريعات والأخبار، فلم يكونوا يتكلفون في معانيها أشياء غير ما يدل عليه كلام العرب، ولم يقولوا إن نصوص الصفات الإلهية المتشابه الذي لا يُفهم ولم يقولوا إننا نحتاج أن نأتي بمعان خفية لنفسر بها ظاهر الآيات، وذلك أنهم يعلمون أن القرآن بيان للناس، وأنه جاء ليعرفهم بخالقهم، وليس ليضع الألغاز والأحجيات في العقيدة ليأتي المتأخرون فيحاولون حلها.

٥٢


ثالثًا: الألوهية:

تقدم معنا أن الحديث عن الله سبحانه وتعالى يتضمن ثلاثة عناوين:
۱- وجود الله وكماله وربوبيته.
٢- أسماء الله وصفاته.
٣- ألوهيته سبحانه وبحمده.

والمقصود بالألوهية هنا أي إفراد الله تعالى بالتعبد، بألا يُعبد إلا هو، ولا يُسجد إلا له ولا يستغاث إلا به، ولا يُتوكّل إلا عليه، فإذا كان توحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بالمُلك والخلق والتدبير ؛ فإن توحيد الألوهية هو إفراد الله تعالى بالعبادة، وهو متمحور حول كلمة (لا إله إلا الله) وهي أعظم كلمة في هذا الوجود، ومعناها أنه لا يوجد أحد يستحق العبادة إلا الله وحده. والقرآن الكريم يُعزز معنى توحيد الألوهية في النفس عبر التأكيد على توحيد الربوبية أي أننا إذا اعترفنا أن الله هو الخالق وحده لا شريك له فهذا يستلزم إلى أنه لا أن يُعبد إلا هو، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون} ونرى في الآية تلازما ينبغي بين الربوبية والعبودية.

٥٤ - ٥٥


ضرورة فهم معنى التعبد في الإسلام

إن العبادة في الإسلام ليست مجرد ركوع وسجود وإمساك عن الطعام بل العبادة في حقيقتها محبة وذل وانقياد لله تعالى، العبادة في حقيقتها: تسليم للخالق، واستعداد لقبول واتباع كلما يأمر به، ومن جملة ذلك الصلاة والزكاة والصيام والحج. ولا شك أن هذه العبادات العملية عظيمة ومهمة، بل هذه الأمور المذكورة هي أركان الإسلام ولكنها لا تقبل ولا تنفع إذا لم يصاحبها إخلاص قلبي لله تعالى فأصل العبادة الذي تنشأ عنه الأعمال الظاهرة هو الاعتراف القلبي والانقياد الباطني والتسليم لله تعالى.


من ثمرات التوحيد التعلق بالله وحده وعدم التعلق بالخرافات: إذا آمن الإنسان بأن الله هو الخالق المالك المدبر، المتصف بكل صفات العزة والكمال والعظمة، ثم آمن به إلها واحدا لا يستحق العبادة إلا هو فإن هذا يدفعه إلى عدم التعلق بالبشر، سواء أكانوا أحياء أم أمواتا فالله هو القادر على إغاثة الملهوف وإجابة سؤل السائلين فالتوجه بالدعاء لغير الله الله إنما هو ضعف في الاعتراف بقدرة الله ورحمته وقربه من عباده، والذين يُدعون من دونه إنما هم عباد أمثالنا لا يملكون النفع ولا الضر، وبذلك نعلم حجم الظلم الذي يقع فيه من تنزل بهم الكربات والشدائد ثم يتوجهون للأموات في قضائها بدلًا من أن يتوجهوا لله في رفعها - منادين بأسمائهم! مستغيثين بهم قائلين يا حسين يا علي يا عبد القادر ! الخ.

وهل الله تعالى لا يسمع الإنسان؟ وهل جعل الله لأحد من عباده صلاحية سماع كل ما في الكون والقدرة على إجابة كل السائلين؟! سبحان الله وتعالى عما يصف الواصفون.

ويُستثنى من ذلك ما لو استغاث الإنسان أو استعان بإنسان حي قادر يسمع الصوت ويكون مستطيعا لفعل شيء، وذلك ضمن دائرة الأسباب المعروفة كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَغَاثهُ الَّذِي مِن شِيعَيْهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوّو﴾ [القصص: ١٥] استغاثه: طلب أن يغيثه. لماذا؟ لأنه موجود في نفس المكان، وهو قادر على إغاثته فلا مانع حينئذ من طلب السبب منه.

٥٩ - ٦٠


ومن علامات ضعف العقيدة والإيمان في القلب: التعلق في جلب النفع ودفع الضر بأشياء لم يجعلها الله تعالى أسبابًا لذلك، مثل تعليق مجسمات عليها صورة عين في البيوت والمحلات التجارية لدفع العين، أو تعليق التمائم (مثل القلادة) على الرقبة للحماية والوقاية، وهذا من الشرك إلا إذا كانت من القرآن ففيها خلاف والأفضل اجتنابها. وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر الجهني الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة، وأمسك عن واحد فقالوا يا رسول الله، بايعت تسعة، وتركت هذا؟ قال: إن عليه تميمة. فأدخل يده، فقطعها، فبايعه وقال: من علق تميمة فقد أشرك».

ومن علامات ضعف العقيدة والإيمان في القلب الحلف بغير الله تعالى فإن هذا منافٍ لتمام التعظيم لله تعالى، فعن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألاً من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (۱). فهذا كلام واضح صريح من النبي صلى الله عليه وسلم في أنه لا يجوز للمسلم أن يحلف إلا بالله تعالى وحده. فلا يجوز الحلف بالشرف أو العرض أو الحياة أو السيف أو العلم أو الأمانة أو النبي والصالحين.

٦٠ - ٦١


كيفية الإيمان بالكتب

الإيمان بالكتب يكون عبر مقامين اثنين:

  • الأول: التصديق المجمل.
  • الثاني: التصديق المفصل.

فأما التصديق المجمل فهو الإيمان بأن الله أنزل كتبا على رسله وأنبيائه، كما قال تعالى: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا معهم الكتب وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
وأما المفصل، فهو: التصديق بتفاصيل ما أخبر الله به عنها في القرآن من أسمائها وما يتعلق بها من حفظ أو تحريف ونحو ذلك، فالله أخبرنا أنه أنزل التوراة على موسى والزبور على داود والإنجيل على عيسى وأخبرنا عن صحف نبي الله إبراهيم فيجب علينا الإيمان بكل ذلك.

٧٠


إعجاز القرآن:

إن من أعلى جوانب عظمة القرآن إعجازه؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن وكذبه قومه، أتاهم بآية قاهرة، ومعجزة بينة من عند الله الله، وهي متعلقة بهذا القرآن، وذلك أنه تحداهم بأن يأتوا بمثل هذا القرآن بل بسورة منه! وحتى تتصور عظمة هذا التحدي فاستحضر المعطيات التالية:

  • نوع الخصوم عرب ،أقحاح بضاعتهم البيان، وميدانهم اللغة والفصاحة.
  • عددهم: لا يُحصى لأن التحدي كان عاما لهم ولأنصارهم بل وحتى للجن الذين معهم.
  • صيغة التحدي قوية واضحة مستفزة للطرف الآخر، فلو كان قادرًا فلا يمكنه ألا يجيب.
  • الإغراء: لو استطعتم الإتيان بسورة مثل القرآن ينتهي الإسلام وتنتصرون أنتم.
  • المحفزات: لا تحتاجون إلى قتال ولا إلى سفك دماء ولا إجراء معارك وحروب، فقط تكلموا بألسنتكم وانتوا بمثل هذا القرآن.
  • ومما يزيد التحدي استفزازا لهم: إخبارهم بأنهم لن يستطيعوا البتة- أن يكسبوا هذا التحدي، وأن من الخير لهم أن يتقوا النار عوضا عن ذلك.
  • النتيجة عجز العرب وانتصار القرآن، وشموخ الإسلام.
    قال الله تعالى ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ للكافرين}

٧٢ - ٧٣


ولعل من المناسب أن أختم الحديث عن إعجاز القرآن الكريم بما ختم به الإمام الخطابي كتابه (بيان إعجاز القرآن) متحدثا عن أثر القرآن على النفوس وعظمته في التغوّل لأعماق الروح، قائلًا: (قلتُ في إعجاز القرآن وجهًا آخر، ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم؛ وذلك: أخُذُه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن، منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب اللذة من والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى، ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها.. فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا… بعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقوه على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليهم آيات من حم السجدة، فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش، قالوا أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به).

٧٥ - ٧٦


كما سبق في الإيمان بالكتب من أن الإسلام يجعلك في حالة تصالح مع كُتب الله، فإنه يجعلك كذلك تجاه الأنبياء والمرسلين، فنحن نؤمن بكل الرسل الذين قص الله علينا خبرهم في القرآن، فما أخبرنا به مفصلا آمنا به مفصلا، وما أخبرنا به مجملا آمنا به مجملا. فالإيمان المفصل يتعلق بأسمائهم وصفاتهم وكتبهم وأخبارهم كل ذلك يجب الإيمان به كما أخبر الله ورسوله والإيمان المجمل مفاده أن هناك رسلا أرسلهم الله وإن كنا لا نعلم عنهم شيئا، ولكننا نصدق بوجودهم، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم من لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: ۷۸] وقال سبحانه: ﴿وَإِن مِنْ أُمَّةٍ إلا خلا فيها نذير وفي هذه الآية الرد على من يزعم أن وجود الأنبياء انحصر فيما يُعرف بمنطقة الشرق الأوسط، فهي خبر صادق بوجود الأنبياء في كل الأمم.


أصناف المكذبين بالرسل والنبوات:

المكذبون بالرسل أصناف:

  • فمنهم الملحدون، الذين لا يعترفون بوجود الله أصلا. وهؤلاء لا يكون النقاش معهم في تفاصيل النبوة بل في إثبات وجود الله الله، لأنهم ينكرونها من ناحية الإمكان، فإذا أثبتنا أن الله موجود لم يعد هناك وجه للقول بأن النبوة مستحيلة، لأن الذي خلق الكون غير عاجز - سبحان عن إرسال رسول! والذي خلق الكون وجعل له قوانين غير عاجز -جل شأنه تأیید عن أنبيائه بمعجزات تخالف بعض ما اعتاده الناس من قوانين كونية.
  • ومنهم الربوبيون الذين يؤمنون بوجود الخالق وينكرون كل الأديان. فهؤلاء يكون النقاش معهم من مبدأ أهمية النبوة وضرورتها وتوافقها مع الحكمة الإلهية، ثم بإثبات نبوة النبي. - ومنهم أصحاب الأديان الذين يؤمنون بأنبياء ويكفرون بآخرين كاليهود والنصارى. فهؤلاء يكون النقاش معهم بإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا فرق بين الرسل من جهة أصول رسالاتهم، وأن رسالة النبي الله ومصدقة لرسالات الأنبياء وليست مكذبة لها.

٧٨ - ٧٩


كلام في غاية النفاسة، وقد ذكره قبله الإمام ابن تيمية وذلك في شرحه للعقيدة الأصبهانية، وسأذكر الكلام بنصه مع اختصار يسير، قال رحمه الله تعالى: «ومعلوم أن مدعي الرسالة إما أن يكون من أفضل الخلق وأكملهم، وإما أن يكون من أنقص الخلق وأرذلهم، فكيف يشتبه أفضل الخلق وأكملهم بأنقص الخلقِ وأرذلهم؟!

وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز. وما من أحد ادعى النبوة من الصادقين إلا وقد ظهر عليه من العلم والصدق والبر وأنواع الخيرات ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور ولا بد أن يفعل أمورًا ؛ والكذاب يظهر في نفس ما يأمر به، وما يخبر عنه، وما يفعله ما يَبِينُ به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه ويفعله = ما يظهر به صدقه من وجوه كثيرة.

والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في المدعين للصناعات والمقالات كالفلاحة والنساجة والكتابة، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك، فما أحد من يدعي العلم بصناعة أو مقالة إلا والتفريق في ذلك بين الصادق والكاذب له وجوه كثيرة، وكذلك من أظهر قصدا وعملا كمن يظهر الديانة والأمانة والنصيحة والمحبة وأمثال ذلك من الأخلاق فإنه لا بد أن يتبين صدقه وكذبه من وجوه متعددة.

والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم، وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟ ولا يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب من وجوه كثيرة؟ لا سيما والعالم لا يخلو من آثار نبي من لدن آدم إلى زماننا، وقد علم جنس ما جاءت به الأنبياء والمرسلون وما كانوا يدعون إليه ويأمرون به، ولم تزل آثار المرسلين في الأرض ولم يزل عند الناس من آثار الرسل ما يعرفون به جنس ما جاءت به الرسل ويفرقون به بين الرسل وغير الرسل.

فلو قدر أن رجلا جاء في زمان إمكان بعث الرسل وأمر بالشرك وعبادة الأوثان وإباحة الفواحش والظلم والكذب، ولم يأمر بعبادة الله ولا بالإيمان باليوم الآخر هل كان مثل هذا يحتاج أن يطالب بمعجزة أو يشك في كذبه أنه نبي؟» إلى آخر كلامه رحمه لله.

٨٠ - ٨٢


لحظة الموت والانتقال إلى الدار الآخرة

يبدأ اليوم الآخر بالنسبة للإنسان عند لحظة موته؛ حيث ينتقل من عالم الدنيا إلى عالم آخر، عالم محجوبة حقائقه عن حواسنا، وإن كنا نعلمها بالخبر الصادق عن النبي ﷺ.

ولئن كان يوم القيامة يُسمى في القرآن الكريم (الساعة) وذلك في آيات كثيرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل لحظة موت الإنسان ساعة بالنسبة إليه، كما في صحيح البخاري عن عائشة قالت: كان رجال من الأعراب جفاة يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه: متى الساعة؟ فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول: إن يعش هذا، لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم قال هشام: يعني موتهم”.

قال الإمام ابن كثير وكملته معلقا على الحديث: (وذلك أن من مات فقد دخل في حكم القيامة، فعالم البرزخ قريب من عالم يوم القيامة، وفيه من الدنيا أيضًا، ولكن هو أشبه بالآخرة، ثم إذا تناهت المدة المضروبة للدنيا ، أمر الله بقيام الساعة، فيُجْمَعُ الأولون والآخرون لميقات يوم معلوم).

٨٩ - ٩٠


وعند تلك اللحظة الرهيبة العظيمة تاتي البشرى للمؤمن برضوان الله وجنته، فيقال له: لا تخف مما أمامك، ولا تحزن على ما وراءك. وهي اللحظة التي يكون فيها أهله حوله يبكون ويتألمون لفراقه وهم لا يعلمون أنه فرح سعيد مبتهج مطمئن، مشتاق للقاء الله سبحانه وتعالى، فعن عبادة بن الصامت له عن النبي ﷺ قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله کره الله لقاءه». قالت عائشة، أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت! قال: «ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بسر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه كره لقاء الله، وكره الله لقاءه» (۲). فهذا من أعظم المبشرات وقد أخبر الله تعالى عن ذلك في سورة فصلت بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تنَزِّلُ عَلَيْهِمُ المليكة الا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَابْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كنتم تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: ٣٠]


اللهم ارحمنا رب وأحسن ختامنا يا حليم يا كريم.

ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا … والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفك أن تكون إذا بكوا … في يوم موتك ضاحگا مسرورا

وهذه بداية رحلة الروح، في عالم البرزخ..


وعند ذلك، وفي تلك البقعة الضيقة المظلمة تحت التراب، يتمنى الإنسان أن يجد بصيص أمل لأي شيء، يتمنى أن يرى أي أثر لعمل صالح، يتمنى أن يكون قد بقي له شيء يدر عليه الحسنات، فإن كان من أصحاب الصدقات الجارية كحفر الآبار، أو بناء المساجد، أو إنشاء المدارس التي تربي الناس على الصلاح والأخلاق، أو كان ممن ترك علما نافعا كالكتب أو الدروس المسجلة أو الدعاة الذين علمهم ورباهم. أو ترك ولدا صالحًا يدعو له = فيا لسعده وهنائه، وهذا هو الذي خطط لمستقبله جيدًا.


ومن هنا ندرك جانبًا من جوانب أهمية: (الولد الصالح) في ذكره لفتة مهمة في الرد على الداعين إلى ترك الزواج ونبذه، حيث لا يرون في الزواج سوى مسؤوليات وأعباء، ويدعون في الوقت ذاته إلى إقامة العلاقات خارج إطار الزواج، لأنها تحقق اللذة بدون مسؤوليات. وهذه نظرة تختلف مع المبدأ الإسلامي في الزواج تماما، الذي ينظر إلى الأسرة على أنها لبنة أساسية في المجتمع وأن صلاحها فيه صلاح للمجتمع، وتختلف مع نظرته للأبناء على أنهم مشروع عظيم يستمر إلى ما بعد موت الإنسان. نسأل الله تعالى أن يرزقنا من هذه الأعمال الثلاثة أوفر الحظ والنصيب.. آمين.

٩٣ - ٩٤


الآمنون من الفزع الأكبر:

في ذلك المقام الذي يجتمع فيه الخوف والفزع والحر وطول المقام والعطش، تفيء ثلة من الناس إلى ظلَّ يُظلهم الله به، ظليل، بعيد عن هذه الشدة والهول فعن أبي هريرة له عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (۱). وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنظر معسرًا أظله الله في وقد ذكر الله في كتابه العزيز أن من عباده من سيُجنّب الفزع في ذلك اليوم، كما قال سبحانه: مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ منها وهُم من فرع يومَدٍ وَامِنُونَ الله وقال ولا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وقال أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرُ أَم مَن يَأْتِي عَامِنَا يَوْمَ الْقِيَمَة ، فاللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
ظله”.


الصراط:

بعد ساحة الحشر، وفي طريق التوجه إلى الجنة، وبعد أن يُلقى بأهل النار الذين هم أهلها في النار ، يجتاز البقية من فوق الصراط الذي سيكون آخر تصفية وغربلة وهو جسر مضروب على جهنم، يمر الناس فوقه كُلِّ بحسب عمله وإيمانه، حتى يسقط بعضهم ممن لم يسعفه عمله للإجازة والعبور. فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال: يُضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل، وكلام الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم شوك السعدان؟» قالوا: نعم. قال: «فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو». وعن أبي هريرة وحذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولكم كالبرق:قال:قلت بأبي أنت وأمي، أي شيء كمر البرق؟ قال: ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين؟ ثم كمر الريح، ثم كمر الطير وشد الرجال، تجري بهم أعمالهم ونبيكم قائم على الصراط، يقول رب سلم سلم، حتى تعجز أعمال العباد حتى يجيء الرجل، فلا يستطيع السير إلا زحفا. قال: وفي حافتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النار، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفا»

١٠٧ - ١٠٨


وهذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي ، بل هي المؤمنين، وأما الخاصة به وهي المقام المحمود الذي وعده من فهي للأمم كلها في الفصل والقضاء والحساب بعد طول الموقف والهول كما
الله مر معنا. وهنا يأتي شيء من أثر الصحبة الصالحة في الدنيا، فإن أناسًا من المؤمنين سيشفعون لمعارفهم وأصدقائهم من أهل التوحيد -بإذن الله تعالى كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي تعالى عنه حين ذكر نجاة من نجا من المؤمنين على الصراط، قال: «وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا، كانوا يصلون معنا ويصومون ،معنا ويعملون معنا. فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان الله فأخرجوه. ويحرم صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا قال أبو سعيد فإن لم تصدقوني فاقرؤوا: اطر إن الله لا يظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةٌ يُضَعِفْهَا - فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار: بقيت شفاعتي. فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواما قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، قد رأيتموها إلى جانب الصخرة إلى جانب الشجرة فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظل كان أبيض، فيخرجون كأنهم اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. فيقال لهم: لكم ما رأيتم، ومثله معه»

١١١ - ١١٢


ماذا يعني الإيمان بالقدر ؟ ومتى نكون مؤمنين بالقدر ؟ أول شيء يجب علينا تجاه الإيمان بالقدر أن نؤمن بأنه لا يحدث شيء في هذه الدنيا إلا وقد قدره الله تعالى وكتبه قبل خلق السماوات والأرض، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، قال: وعرشه على الماء»(۱)
ثم بعد ذلك هناك مقامان تجاه ما يؤلمنا من الأقدار، أحدهما واجب، فمن لم يحققه فإن ذلك دليل على ضعف إيمانه بالقضاء والقدر ويكون مستحقا للعقوبة، والثاني اختلف العلماء في وجوبه وإن لم يختلفوا في أنه مقام عظیم محبوب عند الله تعالى.

  • فالأول الصبر وفيه معنى المنع والحبس، أي أن تمنع وتحبس نفسك عن الجزع والتسخط، وعن شق الجيوب والألبسة، وعن لطم الخدود ونفش الشعور وحلق الرؤوس، ونحو ذلك. فيكتم الصابر ،ألمه ولا يقول إلا ما يرضي ربه.
  • والثاني الرضا. وهو مبني على تفويض الأمر لله، والتسليم له بأن ما يقدره فهو خير، فتجد الراضي منشرح الصدر، مطمئنا مسلما، وهو صابر في نفس الوقت، أي أن مقام الرضا
    يمر بالصبر ويزيد عليه فكل راضِ صابر وليس العكس.

وفي كلا الحالتين لا يكون دمع العين وحزن القلب معارضا لهما، فهما من الرحمة التي جعلها الله في قلوب عباده.

١٢٠ - ١٢١


ما ثمرات الإيمان بالقدر؟

١- الصبر على المصائب والكوارث:

لأنه يؤمن أن المصيبة مقدّرة، وانه لا يستطيع مغالبة القدر، وأن الله حكيم فيما يقضي، ففيم السخط؟! ولأنه يؤمن بأنه إن صبر فإن له أجرًا عظيما، فيحتمل الألم لأجل الأجر.
وأما من لا يؤمن بقضاء ولا قدر ولا أجر ولا ثواب ولا عقاب فسيجد صعوبة كبيرة في الصبر.

٢ - السكينة والطمأنينة والرضا:
وهذه الطمأنينة هي التي يبحث عنها أكثر أهل الأرض، ولكنها لا تتحقق إلا للمؤمن المؤمن الذي يعلم أن ما أصابه فهو خير له، فهو لا يكتفي بكف نفسه عن الجزع، وإنما كذلك يرضى
ويسلّم، فينزل الله عليه السكينة والطمأنينة.

وتأمل معي هذا الحديث العظيم الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيح عن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له».

٣- الأجر والثواب:
المؤمن يفهم ويوقن بأن نعيم الجنة سيُنسيه كل بؤس وشقاء مر به، كما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما قط، ولا رأيت شدة قط». مر بي بؤس كما أن المؤمن يعلم أنه إذا ظلم فلم يستطع أن يأخذ حقه في الدنيا فإنه سيأخذه في الآخرة، وهذا كله يبعث على الطمأنينة واليقين والسكون.

٤- إحسان التصرف واتخاذ القرار وعدم الطيش وقت المصيبة:
إذا تحققت الآثار السابقة من اليقين والرضا والطمأنينة فإن المسلم ولو حزن، أو تألم لمصيبة فإنه لا يفقد صوابه، ولا يطيش أو يرتكب حماقات بسبب المصيبة، فكثير من الناس إذا خسروا شيئا دنيويا مهما ولم يكن لديهم إيمان واحتساب، فإنهم يرتكبون ما لا تحمد عاقبته إما من الضرب أو التكسير أو الإتلاف أو حتى القتل أو الانتحار. والمؤمن مُسلّم مطمئن

١٢١ - ١٢٣


هل يصح لأحد أن يحتج على ذنوبه بالإيمان والقدر؟
لا يصح لأحد أن يبرر انحرافه ومعصيته بالقدر، لأن الإنسان له إرادة حقيقية يستطيع الاختيار بها كما قال الله تعالى: {من كان يريد حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرثهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ}

وهي الإرادة التي لأجلها خلق الله الجنة والنار، وأرسل الرسل بالحجج والبينات ؛ وإلا فإذا لم تكن عند الإنسان إرادة فما الفائدة من إرسال الرسل وإقامة الحجة؟

ونحن جميعا نشعر بقدرتنا على الاختيار في أمور حياتنا، ولا نرضى ولا نقبل باحتجاج أحد علينا بالقدر، فلو أن أحدًا سرق منا شيئا ثم قال: آسف هذا قضاء وقدر! لما قبلنا، ولأمسكنا به وعاقبناه أو قدناه إلى الشرطة.

وأما حديث أبي هريرة الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتج آدم وموسیٰ؛ فقال موسى يا آدم، أنت أبونا خيبتنا، من الجنة. فقال له آدم أنت موسى، اصطفاك الله
وأخرجتنا بكلامه، وخط لك بيده، أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ فقال النبي: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى» (1). أي غلب آدم موسى في حجته، فهذا احتجاج بالقدر على المصيبة وليس على المعصية والمصيبة هنا هي: الخروج من الجنة، وهي ليست من إرادة آدم وإنما بقدر الله، وأما أكله من الشجرة فهو بإرادته فلذلك قال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا}.

١٢٤ - ١٢٥


ما الأمور المعينة على الصبر والرضا بالقدر؟

١- تذكر العاقبة، وما أعده الله ل للصابرين، كما قال: وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ ١٥٥ الَّذِينَ إِذَا أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وإنا إليه راجِعُونَ ١٥٦ أَوْلَئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ مِن زَيْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئك هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فالصابرون يرحمهم الله ويصلي عليهم -أي يذكرهم بالثناء في الملأ الأعلى.
٢- تذكر محبة الله للصابرين وأن المصيبة قد تكون هي السبب الموجب لمحبة الله للعبد إذا أتبعها بالصبر والإيمان، قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}.
٣- اليقين بأن الله الا الله عليم حكيم، فإذا قضى شيئًا فهو خير من جهة تقديره الله {واللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
٤- الفهم التام بأن الجزع لا يفيد وأن السخط وبال على الإنسان يضيق الصدر ويكدّر الخاطر، ويزيد الذنوب، ولا يرد شيئا، فمن يسخط على قضاء الله فإنه لن يغير في الابتلاء شيئا،
بل يضر نفسه.

١٢٥ - ١٢٦


وتأمل معي هذا الكلام المهم من الإمام ابن تيمية لتدرك أهمية معرفة حدود الشر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

«من لم يعرف إلا الخير فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما أنكره الذي عرفه.. ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند مَن عَلِمَهُ، ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا كان الصحابة ومن أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم، لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر، لما علموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح، وقبح حال الكفر والمعاصي ولهذا يقال: والضد يُظهر حسنه الضد). انتهى كلامه رحمه الله، ولا شك أنه لا يقصد الحث على الوقوع في الشر بغرض التعرف عليه، وإنما غاية ما يريد قوله ابن تيمية في هذا النص هو ضرورة معرفة الشر وحدوده ليتميز الحق وحدوده وليكون صاحب الحق على بصيرة، وليكون له من بغض الكفر والشر بقدر معرفته بقبحهما.


أخرج البخاري في صحيحه عن ابن أبي مليكة قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي الله ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه ما أحد منهم يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل (١) وقال الإمام ابن القيم الله (تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين، لعلمهم بدقه وجله وتفاصيله وجمله، ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين، قال عمر بن الخطاب لحذيفة ما يا حذيفة، نشدتك بالله، هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم؟ قال: لا ، ولا أزكي بعدك أحدا،.. وذكر عن الحسن البصري ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن، ولقد ذكر عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق؟ قال: أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع.
تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا، وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل، وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل
وميكائيل).

١٣١ - ١٣٢


فلا بد من معرفة حدود هذه الأسماء والأوصاف، وإدراك تفاصيلها وأنواعها، لنحذر منها ونجتنبها. وقد وجدت كلاما سهلا ميسرًا للإمام ابن القيم في أقسام الكفر والشرك والنفاق وذلك في كتابه الجميل مدارج السالكين فسأعتمده أصلًا وأنقله باختصار، ثم أزيد بعض التوضيحات والنقولات كذلك.
قال رحمه الله تعالى: «الكفر نوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر. فالكفر الأكبر هو الموجب للخلود في النار، والأصغر موجب لاستحقاق الوعيد دون ،الخلود كما في قوله قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة» وقوله: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» وأما الكفر الأكبر، فخمسة أنواع: كفر تكذيب، وكفر استكبار وإباء مع التصديق وكفر ،إعراض، وكفر شك، وكفر نفاق».

١٣١ - ١٣٢