المؤلف:: عادل آل حمدان الغامدي الناشر:: دار اللؤلؤة -مصر سنة النشر:: 2024 الصفحات:: 271 الغلاف:: https://cdn.salla.sa/qonPx/4RFmCzhrzjTGmAjYIcqIddO6udd66iiTdjZpz27R.jpg الصيغة:: PDF الرابط:: https://mosannefat.net/books/43038 ISBN:: الحالة:: مكتمل التسميات:: تقريب_تراث_السلف المعرفة:: العقيدة، التدريب:: ، تاريخ القراءة:: 2024-12-05 معالج:: 1 تقييم الفائدة المستقبلية::
مقدمة
-
من نعمة الله تعالى على العبدِ أن يُوفَّق لدراسة العقيدة الصحيحة التي كان عليها أئمة السُّنة والأثر في القرون الثلاثة المُفضَّلة، ومَن تَبِعهم مِن الخَلفِ الذين سلكوا سبيلهم، واقتفوا آثارهم واهتدوا بِهُداهم، كما قال مُجاهد رحمه الله: ما أدري أي النعمتين عليّ أعظم أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء؟ وقال أبو العالية رحمه الله: نعمتان لله علي لا أدري أيهما أفضل أو قال أعظم أن هداني للإسلام والأخرى أن عصمني من الرافضة والحَرّوريّة والمرجئة والقدريّة والأهواء! ص ٥
-
فمَن رام النجاة فعليه بما كان عليه النبيُّ ﷺ وأصحابه، ومَن تَبِعهم من سلف الأمة، وأعلام المِلَّةِ والدين؛ فهؤلاء أهل القُرون المفضّلة الأولى الذين أخبر النبي الله بأنهم خير القرون بعده. قال الآجري رحمه الله في الأربعين (53): “فَالْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ يَجْتَهِدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْمِلَّةِ النَّاجِيَةِ بِاتِّبَاعِهِ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، وَسُنَنِ رَسُولِهِ ﷺ، وَسُنَنِ أَصْحَابِهِ رَحْمَةُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَسُنَنِ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمينَ مِمَّنْ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ، مِثْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْأَوْزَاعِي، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِهِمْ مِنَ الشِّيُوخِ، فَمَا أَنْكَرُوهُ أَنْكَرْنَاهُ، وَمَا قَبِلُوهُ وَقَالُوا بِهِ قَبِلْنَاهُ وَقُلْنَا بِهِ، وَنَبَذْنَا مَا سِوَى ذَلِكَ” ص ٦
-
وقد أبى الله تعالى إلَّا أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة، والمنهج القويم مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم خلفا وعقائدهم سلف، وقرنًا عن قرنٍ إلى أن انتهوا إلى عن التابعين، وأخذه التابعون عن أصحاب رسول الله ﷺ، وأخذه أصحاب رسول الله ﷺ عن رسول الله ﷺ، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله ﷺ النَّاس مِن الدِّين القويم، والصراط المستقيم إلَّا طريق أصحاب الحديث والآثار. ص ٧
١- رسالة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (101 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
-
قال مُجاهد: أتيناه نُعلِّمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
-
وقال ميمون بن مهران ما كانت العلماء عند عمر إلا تلامذة.
-
وقال علي بن المديني: إذا رأيت الرَّجلَ يُحبُّ عمر بن عبد العزيز، ويَذكرُ محاسنه وينشرها؛ فاعلم أن من وراء ذلك خيرا إن شاء الله.
-
وقال أحمد بن حنبل: عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ جَاءَ إِلَى أَمْرٍ مُظْلِمٍ فَأَنَارَهُ، وَإِلَى سُنَنٍ قَدْ أُمِيتَتْ فَأَحْيَاهَا، لَمْ يَخَفْ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَا خَافَ فِي اللَّهِ أَحَدًا، فَأَحْيَا سُنَنًا قَدْ أُمِيتَتْ، وَشَرَّعَ شَرَائِعَ قَدْ دَرَسَتْ رحمة الله.
-
وقد أطلق عليه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة رحمهما الله أنه إمام.
ص ١٣
التمسك بالسنة
من عبدِ اللهِ أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة أمَّا بعدُ؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.وأُوصِيكَ بتقوى الله، والاقتصاد في أمرِه، واتباع سُنَّةِ رسولِه، وتركِ ما أحدَثَ المُحدِثون بعد مَا جَرَتْ به سُنّته، وكُفُوا مُؤنَتَه. فعليك بلزومِ السُّنَّةِ؛ فإنَّها لك بإِذنِ اللهِ - عِصمَةٌ. ثم اعلم أنَّه لم يَبْتَدِعِ النَّاسُ بِدعَةٌ إِلَّا قد مَضَى قَبلَها ما هو دَليلٌ عليها، أو عبرة فيها. فإنَّ السُّنَّةَ إِنَّما سَنَّها مَن قد عَلِمَ ما في خِلافِها مِنَ الخَطأ والزَّلَلِ، والحُمقِ، والتَّعمُّقِ. ص ١٤
فارضَ لنفسِكَ ما رَضِيَ به القومُ لأنفسهم؛ فإنَّهم على علم وقفوا وببصَرٍ نافذ كَفُّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى. فإن كان الهُدى ما أنتم عليه؛ لقد سبقتموهم إليه. ولئن قُلتُم: أمرٌ إِنَّما حدث بَعدَهُم؛ فما أحدَثَه بعدَهُم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غير سبيلهم، ورَغِبَ بنفسه عنهم، فإنَّهم لهم السابقون، فقد تكلَّموا فيه بما يَكْفِي، وَوَصَفوا منه ما يَشفِي، فمَا دُونَهم مِن مَقْصَر، وما فَوقَهُم مِن مَحْسَرٍ، ولقد قَصَّرَ قوم دونهم فَجَفَوا، وَطَمَحَ عنهم أقوامٌ فَغَلوا، وإنَّهم بينَ ذلك لعلى هُدًى مُستقيم. ص ١٥
- فالاستقامة لا تكون إلا في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ، واتباع سلف الأمة من أهل القرون الثلاثة الذين أثنى عليهم النبي ما بقوله: «خيرُ أُمَّتي القرن الذين يلوني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم…» الحديث متفق عليه. وهؤلاء الذين أثنى الله على مَن اتَّبعهم بإحسان في قوله: ﴿وَالسَّبِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾ [التوبة: 100]. ص ١٦
رأي الصحابة خير لنا من أنفسنا
قال الإمام الْأَوْزَاعِيّ رحمه الله (مَا رَأْي امريء فِي أَمْرٍ بَلَغَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ فِيهِ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ كَانُوا أَوْلَى فِيهِ بِالْحَقِّ مِنَّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بْاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُمْ فَقَالَ ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان﴾، وَقُلْتُمْ أَنْتُمْ: بَلْ نَعْرِضُهَا عَلَى رَأْيِنَا فِي الْكِتَابِ، فَمَا وَافَقَهُ مِنْهَا صَدَّقْنَاهُ، وَمَا خَالَفَهُ تَرَكْنَاهُ، وَتِلْكَ غَايَةُ كُلِّ مُحْدِثٍ فِي الْإِسْلَامِ: رَدُّ مَا خَالَفَ رَأْيَهُ مِنَ السُّنَّةِ). [«النقض» للدارمي (296) بتحقيقي]
وقال رحمه الله: «اصْبِرْ نَفْسَكَ عَلَى السُّنَّةِ، وَقِفْ حَيْثُ وَقَفَ الْقَوْمُ، وَقُلْ بِمَا قَالُوا، وَكُفَّ عَمَّا كَفُّوا عَنْهُ، وَاسْلُكْ سَبِيلَ سَلَفِكَ الصَّالِحِ، فَإِنَّهُ يَسَعُكَ مَا وَسِعَهُمْ» [الجامع في عقائد ورسائل أهل السنة (98/1)].
وقال رحمه الله: عليك بالاقتداء والتقليد [ذم الكلام (997)]. وسيأتي في اعتقاد «حرب الكرماني رحمه الله» (89) الوصية بتقليد سلف الأمة. ص ١٦
٢- اعتقاد أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (97 - 161 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
-
قال شُعبة، وابن عيينة وأبو عاصم، ويحيى بن معين، وغيرهم: سُفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
-
وقال بشر الحافي: كان الثوري عندنا إمام الناس.
-
وقال الأوزاعيُّ: لم يبقَ مَن يجتمع عليه العامة بالرضى والصّحة، إلا ما كان من رجل واحدٍ بالكوفة - يعني: سُفيان.
-
وروى المَرُّوذِي، عن أحمد بن حنبل قال: أتدري من الإمام؟ الإمام: سفيان الثوري، لا يتقدمه أحدٌ في قلبي. ص ٢١
أركان الإيمان الثلاثة
نقل الإمام سفيان رحمه الله عن جميع فُقهاء أهل السنة الذين أدركهم أن للإيمان ثلاثة أركان لا يستقيم أحدها إلَّا بالآخر، فقال: كان الفقهاء يقولون: لا يستقيم قول إلَّا بعمل، ولا يستقيمُ قول وعمل إلَّا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونيةٌ إلَّا بموافقة السُّنة. [«الإبانة الكبرى» (202)].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله في كتاب (الأم) في (باب النِّيَّةِ في الصلاة): وكان الإجماعُ من الصحابة والتابعين من بعدهم مِمَّن أدركناهم: أن الإيمان: قول وعمل ونيةٌ لا يُجزئ واحدٌ من الثلاثةِ إلَّا بالآخر. [اللالكائي (1448)]. ص ٢٣
تفضيل عثمان على علي رضي الله عنهما
في معجم ابن الأعرابي (925) عن يحيى بن سعيد، قال: سمعتُ سُفيان الثوري يقول: دخلتُ البصرة، فرأيتُ أربعة أئمة: سُليمان التيمي، وأيوب السختياني وابن عون ويونس كلُّ يقول: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فرجعتُ عن قولي فقلتُ كما قالوا: أبو بكر وعمر وعثمان، وعلي رضي الله عنهم.
قال الشيخ يعني: ابن الأعرابي: وكان قوله [يعني القديم]: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، رضي الله عنهم.
قلتُ: وأما تقدمة علي رضي الله عنه على أبي بكر وعمر: فهذا مذهب خبيث حاشا الإمام سفيان الثوري رحمه الله أن يقوله فقد قال مَن فَضَّل عَليًّا على أبي بكر وعمر؛ فقد أزرى على المهاجرين والأنصار، وأخاف ألا ينفعه ذلك عمل. [السنة» للخلال (501)]. وهذا الخلاف الذي وقع إنما هو في (التفضيل) فقط، أمَّا (الخلافة) فلا خلاف بين السلف في تقديم عثمان على علي. ص ٢٤
المسح على الخفين
ذكرَ غيرُ واحدٍ مِن أئمَّةِ السُّنة مسألة (المسح على الخُفَّين) في أبواب الاعتقاد خلافًا للخوارج والرافضة الذين أنكروها حتى صارت علامة لهم تميزوا بها. كما جاء في الأحاديث.- قال المَرْوزي رحمه الله في السُّنة (ص649): «وَقَدْ أَنْكَرَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنَ وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ خِلَافٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَزِمَهُ إِنْكَارُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ، وَذَلِكَ خُرُوجٌ مِنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ». ص ٢٤ - ٢٥
الجهر بالبسملة
ثبت عند مسلم (890) عن أنس رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي ﷺ، وأبي بكر، وعُمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون ب ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، لا يذكرون، (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة، ولا في آخرها. وسبب ذكر بعض أئمة السُّنة لهذه المسألة في أبواب الاعتقاد ما ذكره ابنُ تيمية الله في «منهاج السُّنة» (150/4) من أن المعروف في العراق أن الجهر بها كان مِن شِعارِ الرَّافضة. ولهذا لمَّا سُئِلَ الإمام أحمد رحمه الله عن الصلاة خلف من يجهر ب (بسم الله) قال: لا بأس إذا لم يكن صاحب بدعة. [مسائل حرب الكرماني (ص 169)]. ص ٢٥
مسألتين في الصلاة خلف أهل البدع
ذكر الإمام سفيان رحمه الله هاهنا مسألتين في الصلاة خلف أهل البدع:
المسألة الأولى: صلاة الجمعة، والعيدين
فهذه الصلوات تُصلى خلف الأئمة سواء كانوا مبتدعة بدعة مُفسّقة أو مُكفّرة، ولكن من صلى خلف من كانت بدعته مُكَفِّرة كالجهمية فإنه يُصلي ويُعيدُ الصلاة، هكذا نص عليه أئمة السنة. فقد قال الإمام أحمد رحمه الله: مَن قال: (القرآن مخلوق) لا يُصلَّى خلفه الجمعة ولا غيرها؛ إلَّا أنَّا لا ندعُ إتيانها، فإن صلى خلفه الجمعة رجل أعادَ الصَّلاة. [«السنة» لعبد الله بن أحمد (4)]
وسأل ابنُ وضَاحِ رحمه الله الحارث بن مسكين: هل ندع الصلاة خلف أهل البدع؟ فقال: أمَّا الجمعة خاصةً فلا، وأما غيرها من الصلاة فنعم.
قال ابن وضاح وسألت يوسف بن عدي عن تفسير حديث النبي ﷺ: خلف كُلِّ بر وفاجر». قال: الجمعة خاصة.قلت: وإن كان الإمام صاحب بدعة؟ قال: نعم، وإن كان صاحب بدعة؛ لأن الجمعة في مكان واحد ليس توجد في غيره. [«السُّنة» لابن أبي زمنين (212)]
قلت: وقد كان أئمَّة السنة يُعظمون شعائر الإسلام الظاهرة كالجمعة والعيدين والحج والجهاد ويوصون بها، ويُنكرون على من تخلف عنها، ويجعلون تركها علامة من علامات أهل البدع كالخوارج وغيرهم.
المسألة الثانية: الصلاة خلف أهل البدع في غير الجمعة والعيدين
فإذا كانت بدعتهم مُكفّرة فلا يصلِّي خلفهم البتة.
قال عبد الله أحمد في «السنة»: سألت أبي رحمه الله عن الصَّلاة خلف أهل البدع؟ قال: لا يُصلَّى خلفهم مثل: الجهمية، والمعتزلة. قلت: لأنه يرى بدعتهم كُفرية مُخرجة عن المِلَّة.
وأما من كانت بدعتهم غير مُكفّرة، فإن السلف كانوا ينهون عن الصلاة خلف كل صاحب بدعة، ويزجرون عنها من باب الهجر لهم، لا أنها لا تصح خلفهم، ولهذا لم يكونوا يأمرون بإعادة الصلاة خلف المرجئة، ولا الخوارج، ولا غيرهم ممن لم تكن بدعهم مُكفّرة، فالصلاة خلفهم صحيحة، ولكن ألا يصلِّيَ إِلَّا خلف من يعلم أنه صاحب سنة، كما قال الإمام سفيان رحمه الله هاهنا: لا تُصلِّ إِلَّا خلفَ مَن تعلم أنه من أهل السنة.
ولَمَّا سُئل الإمام أحمد رحمه الله في وقت انتشار البدع والأهواء في زمانه عمَّن يَمرُّ في طريق، فيسمع الإقامة هل يُصلي خلفهم؟ فقال: قد كنتُ أُسهَلُ في هذا، فأمَّا إذ كَثُرتِ البدع؛ فلا تُصَلِّ إِلَّا خلفَ مَن تعرف. [طبقات الحنابلة» (143/1)]
قلتُ: فإن لم يتيسر له إمامٌ يَعرفه؛ فليُصلِّ خلف المستور من أهل التوحيد الذي لا تُعرف عنه بدعة، ولا فجور. والله أعلم.
وعليه أن لا يتساهل بأداء الفرائض مع جماعة المُسلمين بأدنى شُبهة، فليس من علامة أهل السنة والجماعة ترك الفرائض خلف المستورين من أهل التوحيد ولهذا قال البربهاري رحمه الله في «شرح السُّنة» (129): «وإذا رأيت الرجل يتعاهد الفرائض في جماعة مع السلطان وغيره، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله. وإذا رأيت الرجل يتهاون بالفرائض في جماعة، وإن كان مع السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى». ص ٢٧ - ٢٨
٣- اعتقاد قتيبة بن سعيد (150 - 240 هـ) رحمه الله
الجهاد ثابت خلف الإمام البر والفاجر
-
شكك في الجهاد مع الأئمَّة طوائف مِن أهل البدع، وأرادوا ترك هذه مع الشعيرة العظيمة وإبطالها تحت لواء السلطان ونادوا بها تحت رايات جاهلية أو حزبية أو تخريبية أو دنيوية، فسُئِلَ إبراهيم النخعي رحمه الله عن ترك الجهاد مع الولاة الظلمة، فقال: إن هي إلَّا نزغة شيطان نزغ بها يُثبطكم عن جهادكم.[أصول السنة لابن أبي زمنين (220)]. ص ٣٢
-
وكان الحسن يقول: أربعٌ مِن أمرِ الإسلام إلى السُّلطان: الحكم، والفيء، والجهاد، والجمعة. قيل لهشام: وإن بروا أو فجروا؟ قال: وإن بروا أو فجروا. انظر: «السنة لحرب الكرماني (266)». ص ٣٣
تَرْكُ أئمة السنةِ الصلاة على المبتدعة وأصحاب الكبائر من أهل القبلة
- تَرْكُ أئمة السنةِ وأهل الشأن المُقتدى بهم الصلاة على المبتدعة وأصحاب الكبائر من أهل القبلة ليس من باب تحريم الصلاة عليهم، بل من باب الزجر والهجر لهم أحياء وأمواتاً وحتى يرتدع غيرهم عن متابعتهم. قال محمد بن نصر المروزي رحمه الله في «تعظيم قدر الصلاة» (637/2): «قال ﷺ فِي الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ: «أَمَّا أَنَا فَلَا أُصَلِّي عَلَيْهِ» مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْهَ النَّاسَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَقَالَ فِي الَّذِي غَلَّ مِنَ الْغَنَائِمِ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ نَفْسَهُ، وَالْغَالَّ وَمَنْ أَشْبَهَهُمَا إِذَا مَاتَ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ تَوْبَةٌ فَإِنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَمْتَنِعُ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ عُقُوبَةً لَهُ وَمَوْعِظَةً لِغَيْرِهِ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ … فَأَمْرُهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى كَافِرٍ». ص ٣٣
تفاضل الإيمان ولفظ النقصان
- يُعبِّرُ بعض أهل السُّنة عن زيادة الإيمان ونُقصانه: ب (تفاضل الإيمان). وسبب ذلك: أن لفظة (زيادة الإيمان) جاءت في نصوص الكتاب والسنة، بخلافِ لفظ (النُّقصانِ)، فلم يَرِد به نصّ عندهم فلم ينطقوا به، مع عدم إنكارهم على مَن قال بنُقصانه؛ لأنَّهُ ما مِن شيء يزيدُ إِلَّا وينقُصُ. فمنهم من يقول: الإيمان يزيد وتوقف عن قوله: (وينقُصُ). ومنهم من يقول: (الإيمان يتفاضل)، وممَّن روي عنه ذلك ابن المبارك، والنضر بن شميل وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله وهذا التعبير لا يُخالف ما أجمعوا عليه من القول بزيادة الإيمان ونُقصانه. ص ٣٣ - ٣٤
عدم تعيين القول بأن القرآن غير مخلوق قبل ظهور الجهمية
- ولم يقل رحمه الله [بعد أن قال أن القرآن كلام الله]: (مخلوقا ولا غير مخلوق)، وعلى هذا كان الأمر الأول قبل أن تظهر الجهمية القول بخلق القرآن، فلمَّا أظهروه لم يسع أهل السنة السكوت عن هذا الكفر البواح، كما قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (215): «فَكَرِهَ القَوْمُ الخَوْضَ فِيهِ؛ إِذْ لم يَكُنْ يُخَاضُ فِيهَا عَلَانِيَةً، وَقَدْ أَصَابُوا فِي تَرْكِ الخَوْضِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يُعْلَنْ. فَلَمَّا أَعْلَنُوهُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَدَعَوُا العَامَّةَ إِلَيْهِ بِالسُّيُوفِ وَالسِّيَاطِ، وَادَّعَوْا أَن كَلَامَ اللهِ مَخْلُوقٌ، أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مَنْ غَبَرَ مِنَ العُلَمَاءِ وَبَقِيَ مِنَ الفُقَهَاءِ، فَكَذَّبُوهُمْ وَكَفَّرُوهُمْ وَحَذَّرُوا النَّاسَ أَمْرَهُمْ، وَفَسَّرُوا مُرَادَهُمْ مِنْ ذَلِكَ. فَكَانَ هَذَا مِنَ الجَهْمِيَّةِ خَوْضًا فِيمَا نُهُوا عَنهُ، وَمن أَصْحَابنَا إِنْكَارًا لِلْكُفْرِ البَيِّن، وَمُنَافَحَةً عَنِ اللهِ عز وجل كَيْلَا يُسَبَّ وَتُعَطَّلَ صِفَاتُهُ، وَذَبًّا عَنْ ضُعَفَاءِ النَّاسِ كَيْلَا يَضِلُّوا بِمِحْنَتِهِمْ هَذِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفُوا ضِدَّهَا مِنَ الحُجَجِ الَّتِي تَنْقُضُ دَعْوَاهُمْ وَتُبْطِلُ حُجَجَهُمْ.». ص ٣٤
إجماع الصحابة على تكفير تارك الصلاة من غير تفريق بين تركها كسلا أو جحودًا
- انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تكفير تارك الصلاة من غير تفريق بين تركها كسلا أو جحودًا، كما صح عن أمير المؤمنين عمر قوله: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. رواه الخلال (1371) وغيره. قال ابن تيمية رحمه الله في (شرح العمدة) (83/4): “أما قول عمر له - ثم ذكره - أصرح شيء في خروجه عن المِلَّةِ.” وقال ابن القيم رحمه الله في كتاب (الصلاة) (ص 67): «فقال هذا بمحضرٍ من الصَّحابة، ولم ينكروه عليه. وقد تقدَّم مثل (٢) ذلك عن معاذ بن جبل، وعبدالرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يُعلَم عن صحابيٍّ خلافهم». قلت: وقد نقل غير واحدٍ من أهل العلم إجماع الصحابة، ومن ذلك:
-
قول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لما سُئل: مَا كَانَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ». وهو أثر صحيح. [تعظيم قدر الصلاة (947)، والخلال (1379)، واللالكائي (1527)]
-
وقول التابعي عبد الله بن شقيق رضي الله عنه: “لَمْ يَكُنْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ يَرَوْنَ شَيْئًا مِنَ الْأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلَاةِ”. رواه الترمذي (2622)، وهو أثر ثابت صحيح.
-
وقول الحسن البصري رحمه الله: “بَلَغَنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانُوا يَقُولُونَ: «بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ أَنْ يُشْرِكَ فَيَكْفُرَ أَنْ يَدَعَ الصَّلَاةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ»“.
-
وقول أيوب السختياني رحمه الله: «تَرْكُ الصَّلَاةِ كُفْرٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ».
-
وقول إسحاق بن راهويه رحمه الله: قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَأْيُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى يَذْهَبَ وَقْتُهَا كَافِرٌ. [انظر تخريجها في المدخل للجامع في كُتب في الإيمان) (134/1)].
- قال المروزي رحمه الله في (تعظيم قدر الصلاة) (925/2): “… ذَكَرْنَا الْأَخْبَارَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي إِكْفَارِ تَارِكِهَا وَإِخْرَاجِهِ إِيَّاهُ مِنَ الْمِلَّةِ وَإِبَاحَةِ قِتَالِ مَنِ امْتَنَعَ مِنْ إِقَامَتِهَا، ثُمَّ جَاءَنَا عَنِ الصَّحَابَةٍ رضي الله عنهم مِثْلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَجِئْنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ …” ص ٣٥ - ٣٦
أهل البدع كلهم خوارج يرون السيف
الذين يرون السيف على المسلمين هم الخوارج وغيرهم من أهل البدع والأهواء، فإن أصحاب البدع عموما إذا اعتقدوا عقيدة أو رأوا رأيا دعوا إليه، وقاتلوا عليه من خالفهم، ولهذا كان أيوب السختياني رحمه الله - أحد أئمة السلف المشهورين - يُسمِّي أصحاب البدع كلهم خوارج، ويقول: “إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ”. [القدر للفريابي (375)]
وكان أَبِو قِلَابَةَ رحمه الله يقول: «مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلُّوا السَّيْفَ».
وقال: «إِنَّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أهل ضَلَالَة ولا أرى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ فَجَرِّبْهُمْ فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَنْتَحِلُ رَأْيًا أَوْ قَالَ قَوْلًا فَيَتَنَاهَى دُونَ السَّيْفَ». [اللالكائي (233)، و«الإبانة الصغرى» (118)]
وبين ابن تيمية رحمه الله سبب كون أهل البدع كلهم خوارج يرون السيف، فقال في (منهاج السنة) (537/4): « فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ رَأْيًا هُوَ خَطَأٌ وَبِدْعَةٌ، وَيُقَاتِلُونَ النَّاسَ عَلَيْهِ، بَلْ يُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ، فَيَصِيرُونَ مُخْطِئِينَ فِي رَأْيِهِمْ، وَفِي قِتَالِ (٢) مَنْ خَالَفَهُمْ أَوْ تَكْفِيرِهِمْ وَلَعْنِهِمْ. وَهَذِهِ حَالُ عَامَّةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ …».
قلت: وأمثال هؤلاء يجب البراءة منهم كما قال قتيبة هنا رحمه الله، وأن لا نغتر بعلمهم ولا بعبادتهم كما قال الإمام الآجري رحمه الله في «الشريعة» (58): «فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ رَأَى اجْتِهَادَ خَارِجِيٍّ قَدْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ عَدْلًا كَانَ الْإِمَامُ أَوْ جَائِرًا، فَخَرَجَ وَجَمَعَ جَمَاعَةً وَسَلَّ سَيْفَهُ، وَاسْتَحَلَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَرَّ بِقِرَاءَتِهِ لِلْقُرْآنِ، وَلَا بِطُولِ قِيَامِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا بِدَوَامِ صِيَامِهِ، وَلَا بِحُسْنِ أَلْفَاظِهِ فِي الْعِلْمِ إِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ مَذْهَبَ الْخَوَارِجِ».
ص ٣٦ - ٣٧
الناسخ والمنسوخ عند السلف
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (66/2): «ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفعُ الحكمِ بجملته تارةً وهو اصطلاح المتأخرين، ورفعُ دلالةِ العامِّ والمطلق والظاهر وغيرِها تارةً، إما بتخصيص أو تقييد أو حملِ مطلقٍ على مقيَّد وتفسيره وتبيينه به، حتَّى إنهم لَيسمُّون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا، لتضمُّنِ ذلك رفعَ دلالة الظاهر وبيانَ المراد.»
ص ٣٧
مُرجئة الفقهاء يخرجون أعمال الجوارح من الإيمان
مُرجئة الفقهاء الذين أخرجوا جميع أعمال الجوارح من الإيمان، وقالوا هي شرائع شرعها الله تعالى وليست من الإيمان في شيء، والتارك لها بالكلية مؤمنٌ مُستكمل الإيمان.
ص ٤٠
علو الله تعالى ظاهر الدليل منكره كافر
علوّ الله تعالى على خلقه دلَّ عليه: الكتاب والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، ومن أنكر ذلك فقد خرج عن الملة، كما قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (53): «وَقَدِ اتَّفَقَتِ الكَلِمَةُ مِنَ المُسْلِمِينَ وَالكَافِرِينَ أَنَّ الله فِي السَّمَاءِ، وَحَدُّوهُ بِذَلِكَ إِلَّا المَرِيسِيَّ الضَّالَّ وَأَصْحَابَهُ، حَتَّى الصِّبْيَانُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحِنْثَ قَدْ عَرَفُوهُ بِذَلِكَ، إِذَا حَزَبَ الصَّبِيَّ شَيْءٌ يرفع يَدَيْهِ إِلَى رَبِّهِ يَدْعُوهُ فِي السَّمَاءِ دُونَ مَا سِوَاهَا، فَكُلُّ أَحَدٍ بِالله وَبِمَكَانِهِ أَعْلَمُ مِنَ الجَهْمِيَّةِ.»
وقال سعيد بن عامر الضُبعي رحمه الله: «الْجَهْمِيَّةُ أَشَرُّ قَوْلًا مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، قَدِ اجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ أَنَّ اللَّهَ عز وجل عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالُوا هُمْ: لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ شَيْءٌ». [خلق أفعال العباد» (18)].
قال ابن القيم رحمه الله في (الصواعق المرسلة) (368/1): «فهذه الآيات والأخبار الدالة على علو الربِّ تعالى على خلقه وفوقيته واستوائه على عرشه قد قيل إنها تُقارِبُ الألفَ، وقد أجمعت عليها الرسلُ من أولهم إلى آخرهم».
ولهذا اشتدَّ نكير أئمَّةُ السنة على من أنكر العلو الذي دل عليه الكتاب والسنة والفطرة والعقل، وحكموا عليه بأشد الأحكام، كما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله: «مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ، قَدِ اسْتَوَى فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ، فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ، يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ، وَأُلْقِيَ عَلَى بَعْضِ المزابل، حيث يتأذى المسلمون ولا الْمُعَاهِدُونَ بِنَتنِ رِيحِ جِيفَتِهِ، وَكَانَ مَالُهُ فَيْئًا، لَا يَرِثُهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، إِذِ الْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ، كَمَا قَالَ النَّبِيَّ ﷺ». [«الحُجَّة» لابن طاهر (26)].
ص ٤١ - ٤٢
إنكار بعض الأئمة تقسيم الصلاة إلى سُنن وواجبات وأركان
كان بعض الأئمة يُنكرون تقسيم الصلاة إلى سُنن وواجبات وأركان ويرون أنفي ذلك استهانة بهذه الشعيرة العظيمة، كما سُئل الإمام مالك رحمه الله: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا فِي الصَّلاةِ مِنْ فَرِيضَةٍ وَمَا فِيهَا مِنْ سُنَّةٍ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا كَلامُ الزَّنَادِقَةِ، أخْرِجُوهُ.». وأنكر الإمام إسحاق ابن راهويه رحمه الله كذلك تقسيم أجزاء الصلاة إلى سُنَّةٍ وواجب، فقال: “كلُّ ما في الصلاة فهو واجبٌ”، وأشار إلى أن منه ما تُعاد الصلاة بتركه، ومنه ما لا تُعاد.
قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (156/2): «وسببُ هذا - والله أعلم - أنَّ التعبير بلفظ السُّنَّة قد يُفضي إلى التَّهاونِ بفعل ذلك، وإلى الزُّهد فيه وتركه، وهذا خلافُ مقصودِ الشارع مِنَ الحثِّ عليه، والتَّرغيب فيه بالطُّرق المؤدِّيةِ إلى فعله وتحصيله، فإطلاقُ لفظ الواجب أَدْعى إلى الإتيان به، والرغبة فيه».
ص ٤٢
٤- اعتقاد أحمد محمد بن حنبل (164 - 241 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
-
قال شيخه الإمام الشافعي: أحمد إمام في السنة
-
وقال علي بن المديني: أَيَّد الله هذا الدِّينِ برجلين لا ثالث لهما؛ أبو بكر الصديق الله يوم الرِّدَّة، وأحمد بن حنبل في يوم المحنة.
-
وقال إسحاق بن راهويه لولا أحمد بن حنبل وبذل نفسه لما بذلها لذهب الإسلام.
-
وقال عبد الوهاب الورّاق: أبو عبد الله أحمد بن حنبل إمامنا، وهو مِن الرَّاسِخين في العلم، إذا وقفتُ غدًا بين يدي الله تعالى فسألني بمن اقتديت أقول بأحمد، وأيُّ شيءٍ ذهب على أبي عبد الله من أمرِ الإسلام؟ وقد بُلي عشرين سنةً في هذا الأمر.
ص ٤٥
أصول السنة
أصُول السّنة عندنَا التَّمَسُّك بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ والاقتداء بهم
وَترك الْبدع وكل بِدعَة فَهِيَ ضَلَالَة
وَترك المراء والجدال والْخُصُومَات فِي الدّين
وترك الجلوس مع أصحاب الأهواء
والسنة عندنا آثار رسول الله ﷺ
ص ٤٦ - ٤٧
فضل الصحابة
-
قال الإمام أبو حاتم الرازي رحمه الله في الجرح والتعديل (7/1): «فأما أصحاب رسول الله ﷺ فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله عزوجل لصحبة نبيه ﷺ ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة (٤ ك) وجعلهم لنا أعلاما وقدوة فحفظوا عنه ﷺ ما بلغهم عن الله عزوجل وما سن وشرع (١) وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب، ووعوه وأتقنوه، ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده - بمعاينة رسول الله (٢) ﷺ، ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله عزوجل بما من عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة، فنفى عنهم الشك (٣) والكذب والغلط والريبة والغمز (٤) وسماهم عدول الأمة [فقال عز ذكره في محكم كتابه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتكونوا شهداء على الناس - ٥) ففسر النبي ﷺ عن الله عز ذكره قوله (وَسَطا) قال: عَدْلًا. فكانوا عدول الأمة - ٦] وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة. وندب الله عزوجل إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم فقال (ومن يتبع غير سبيل المؤمنين فقال: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا نَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115]». ص ٤٦ - ٤٧
-
قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى المصرية (ص 566): «فمَن ظَنَّ أنه يأخذ الكتاب والسنة بدون أن يقتدي بالصحابة ويتبع غير سبيلهم؛ فهو من أهل البدع والضلال». ص ٤٧
المراد بالبدعة
- وقال ابن رجب له في جامع العلوم والحكم» (128/2): «والمراد بالبدعة: ما أُحْدِثَ ممَّا لا أصل له في الشريعة يدلُّ عليه، فأمَّا ما كان له أصلٌ مِنَ الشرع يدلُّ عليه، فليس ببدعةٍ شرعًا» … فقوله ﷺ: «كلُّ بدعة ضلالة» من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيءٌ، وهو أصل عظيمٌ من أصول الذين، وهو شبيهٌ بقوله: «مَنْ أحْدَثَ في أمْرنا ما لَيسَ مِنهُ فَهو رَدٌّ». ص ٤٧
السنة عندنا آثار رسول الله ﷺ
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (272): «الحَدِيثَ إِنَّمَا هُوَ دِينُ الله بَعْدَ القُرْآنِ، وَأَصْلُ كُلِّ فِقْهٍ، فَمَنْ طَعَنَ فِيهِ؛ فَإِنَّمَا يَطْعُنُ فِي دِينِ الله تَعَالَى. أَو لم تَسْمَعْ قَوْلَ رَسُولِ الله ﷺ أَنَّهُ جَعَلَ حَدِيثَهُ أَصْلَ الفَقْهِ؛ فَقَالَ: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فرُبَّ حَامل فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ». فَجَعَلَ رَسُولُ الله ﷺ أَصْلَ الفَقْهِ كُلِّهِ بَعْدَ القُرْآنِ حَدِيثَهُ». ص ٤٧
الإيمان والتسليم للحديث ولو لم يبلغ العقل معناه
ومَن لم يعرف تفسير الحديثِ ويَبلُغه عقله فقد كُفِي ذلك، وأُحكِمَ له، فعليه الإيمانُ به والتسليمُ [له]؛ مِثلُ: حديثِ الصَّادِقِ المصدوق ص ٤٨
- من الوصف اللازم لأهل السنة الذي فارقوا به أهل الأهواء والبدع: سكونهم وتسليمهم عند سَمَاع نصوص الوحي وإن لم تُدركها عُقولهم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا وَكِيعٌ، بِحَدِيثِ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ عُمَرَ ﵁ قَالَ: «إِذَا جَلَسَ الرَّبُّ عز وجل عَلَى الْكُرْسِيِّ» فَاقْشَعَرَّ رَجُلٌ سَمَّاهُ أَبِي عِنْدَ وَكِيعٍ فَغَضِبَ وَكِيعٌ وَقَالَ: أَدْرَكْنَا الْأَعْمَشَ وَسُفْيَانَ يُحَدِّثُونَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يُنْكِرُونَهَا. [رواه عبد الله بن أحمد في السنة] وقال المروذي له يومًا وهو يعرض عليه حديث: «رأيت ربي»، فقال: في هذا يُشنَّع علينا. فقال الإمام أحمد رحمه الله: أفليس العلماء تلقته بالقبول؟! ص ٤٩
افترقت الجهمية في مسألة القرآن إلى ثلاث فرق
-
بين الإمام أحمد رحمه الله أن الجهمية افترقت في مسألة القرآن إلى ثلاث فرق:
-
فرقة قالت: القرآن مخلوق.
-
وفرقة قالت كلام الله ووقفت.
-
وفرقة قالت: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة.
-
وقال: فهم عندي في المقالة. واحد [الخلال في «السنة» (١٧٦٧)] ص ٥٠
الإيمان بالميزان
والإيمان بالميزان يوم القيامة كما جاء؛ أ- يُوزنُ العَبدُ يومَ القيامة فلا يزن جناح بعوضة. ب- وتُوزَنُ أعمالُ العِبادِ كما جاء في الأثر..والإيمان به، والتصديقُ به والإعراضُ عَمَّن رَدَّ ذلك، وتَرْكُ مجادلته
- الميزان حقيقي له كفتان ولسان توضع فيهما الحسنات والسيئات، وقد أنكر طوائف من أهل البدع الميزان يوم القيامة كالمعتزلة والخوارج، وقالوا: المراد به: مُجرَّد إقامة العدل وإظهاره بين الخلائق لا أن يكون له حقيقة.
ص ٥١
الإجماع على صحة اسم الملكين منكر ونكير
-
انعقد الإجماع على صحة اسم الملكين (منكر ونكير)، خلافًا لمن أنكر ذلك. وقد حكى الإجماع على ذلك أئمة السُّنة كما في هذه العقائد المختصرة.
-
قال أحمد بن القاسم: «قلتُ يا أبا عبدالله - أحمد بن حنبل - تُقرُّ بمنكر ونكير، وما يُروى من عذاب القبر؟ فقال: نعم سُبحان الله! نُقِرُّ بذلك ونقوله. قلتُ: هذه اللفظة: (مُنكَرُ، ونَكيرُ) تقولُ هذا؟ أو تقول ملكين؟ قال: نقول: مُنكَرُ ونَكِير وهما ملكان» [طبقات الحنابلة (135/1)].
ص ٥٢
عذاب القبر ونعيمه على النفس والبدن جميعًا
- قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (4/ 282): «الْعَذَابُ وَالنَّعِيمُ عَلَى النَّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَنْعَمُ النَّفْسُ وَتُعَذَّبُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ وَتُعَذَّبُ مُتَّصِلَةً بِالْبَدَنِ وَالْبَدَنُ مُتَّصِلٌ بِهَا فَيَكُونُ النَّعِيمُ وَالْعَذَابُ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الْحَالِ مُجْتَمَعِينَ كَمَا يَكُونُ لِلرُّوحِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْبَدَنِ».
ص ٥٢
كفر تارك الصلاة
و «مَن ترك الصَّلاةَ فقد كَفَرَ»، وليس مِن الأعمالِ شَيءٍ تركه كُفْرٌ إِلَّا الصَّلاةَ، مَن تَركَها فهو كافر، وقد أحلَّ اللهُ قتله ص ٥٣
-
لم يختلف قول الإمام أحمد رحمه الله في تكفير تارك الصلاة، وأن كفره كفر أكبر مخرج عن المِلَّة.
-
قال ابن هانئ رحمه الله في مسائله (1873): «حضرت رجلًا عند أبي عبد الله وهو يسأله، فجعل الرجل يقول: يا أبا عبد الله. وأن لا نُكَفِّرَ أحدا بذنب؟ قال أبو عبد الله: اسكت من ترك الصلاة فقد كفر». (وانظر: «الجامع لأحكام أهل الملل» (535/2/ باب من ترك الصلاة فقد كفر) و (54/2 / باب الرجل يترك الصلاة حتى يخرج وقتها).
ص ٥٣
توقف الإمام أحمد في تفضيل الصحابة بعد عثمان رضي الله عنه
-
وروى الخلال (569) عن حنبل قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ عَنِ التَّفْضِيلِ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كُنَّا نُفَاضِلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ فَنَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَا نَتَعَدَّى الْأَثَرَ وَالِاتِّبَاعِ. فَالِاتِّبَاعُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمِنْ بَعْدِهِ لِأَصْحَابِهِ، فَإِذَا رَضِيَ أَصْحَابُهُ بِذَلِكَ كَانُوا هُمْ يُفَاضِلُونَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا يَعِيبُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَعَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُنَا، وَنَقْتَدِي بِهِمْ”.
-
فالإمام أحمد الله في مسألة التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم يقف على عثمان رضي الله عنه للنص الوارد فيه، ولكن لم يكن يُنكر على من رَبَّعَ بعلي به في التفضيل، وكان يقول: أبو بكر وعمر وعثمان، « وَلَا نَعِيبُ مَنْ رَبَّعَ بِعَلِيٍّ لِقَرَابَتِهِ وَصِهْرِهِ وَإِسْلَامِهِ الْقَدِيمِ وَعَدْلِهِ». ولَمَّا سُئِلَ عمَّن قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي قال: هو صاحب سُنَّة. [انظر: «السنة للخلال» (569 و 519)]
-
(تنبيه) وقوف الإمام أحمد رحمه الله على عثمان رضي الله عنه هذا خاص في (التفضيل بين الصحابة رضي الله عنهم)، وأما مسألة ترتيب الخلافة الراشدة فلم يختلف قوله في التربيع بعلي رضي الله عنه، وأنه خليفة راشد، والإنكار على مَن لم يُرَبِّع به.
ص ٥٤
السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين
- قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم (117/2): «وأمَّا السَّمع والطَّاعة لوُلاة أُمور المسلمين، ففيها سعادةُ الدُّنيا، وبها تنتظِمُ مصالحُ العباد في معايشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعةِ ربِّهم، كما قال عليٌّ رضي الله عنه: إنَّ الناسَ لا يُصلحهم إلَّا إِمامٌ بَرٌّ أو فاجر، إِن كان فاجرًا عبدَ المؤمنُ فيه ربَّه، وحمل الفاجر فيها إلى أجله. وقال الحسن في الأمراء: هم يلونَ من أمورنا خمسًا: الجمعةَ والجماعة والعيد والثُّغور والحدود، والله ما يستقيم الدِّينُ إلَّا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لَمَا يُصْلحُ الله بهم أكثرُ ممَّا يُفسدون، مع أن - والله - إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر.».
ص ٥٥
من هم أهل القبلة؟
- أهل القبلة هم أهل التوحيد والصَّلاة، فمن لم يوحد الله تعالى ولم يصل فهو الكافر كما قال النبي ﷺ: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم.
ص ٥٧
مَن انتقص أحدًا مِن أصحاب رسول الله ﷺ مبتدع
ومَن انتقص أحدًا مِن أصحاب رسول الله، أو أبغضه لحدث كان منه، أو ذكرَ مَساوِئَهِ: كان مُبتدِعا حتى يترحم عليهم جميعا، ويكون قلبه لهم سليما. ص ٥٩
٥- اعتقاد علي بن المديني (161 - 243 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
-
قال أبو حاتم الرازي كان عليٌّ عَلمًا في الناس في معرفة الحديث والعلل، وكان أحمد لا يُسمِّيه إنما يُكنّيه تبجيلا له وما سمعت أحمد سماه قط.
-
قال البخاري: ما استصغرتُ نفسي عند أحدٍ إِلَّا عند علي بن المديني..
-
قال محمد بن إسحاق السراج سمعت البخاري وقلت له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أقدم العراق وعلي بن عبد الله حي فأجالسه
ص ٦٢
حب أبو هريرة رضي الله عنه من السنة
وإذا رأيت الرجلَ يُحبُّ أبا هريرة، ويدعو له،ويترحم عليه؛ فارجُ خيره، واعلم أنه بَرِيءٌ من البدع
اشتغل كثير من أهل البدع قديمًا وحديثًا بالطعن في الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، وقد تنوعت طعوناتهم فيه، وقصدوا هذا الصحابي بالطعن لكثرة رواياته عن النبي ﷺ، فبإسقاطه يسقط كثير من السنن والأحكام التي رواها وحفظها عن النبي. ولقد كان أئمة السنة يعتنون بالدفاع عنه وعن مروياته، كما قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (262): «وَإِنَّهُ لَمِنْ أَصْدَقِ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ﷺ وَأَحْفَظِهِمْ عَنْهُ وَأَرْوَاهُمْ لِنَوَاسِخِ أَحَادِيثِهِ، وَالأَحْدَثِ فَالأَحْدَثِ مِنْ أَمْرِهِ: لِأَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ ﷺ بِنَحْوٍ من ثَلَاثِ سِنِينَ، بَعْدَمَا أَحْكَمَ الله لِرَسُولِهِ ﷺ أَكْثَرَ أَمْرِ الحُدُودِ وَالفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ.».
ص ٦٢
حب أعلام السنة وبغض أهل الأهواء
وإذا رأيتَ الرَّجُلَ يُحبُّ عمر بن عبد العزيز، ويذكُرُ مَحاسِنَه، ويَنشُرُها، فاعلم أنَّ وراء ذلك خَيرًا إن شاء الله.
وإذا رأيتَ الرَّجُلَ يَعتمدُ مِن أهل البصرة على: أيوب السختياني، وابن عون،ويُونس، والتيمي، ويُحبُّهم، ويُكثرُ ذِكرَهم، والاقتداء بهم؛ فارجُ خَيرَه.
ثُمَّ مِن بعد هؤلاء: حماد بن سلمة، ومعاذ بن مُعاذ، ووهب بنجرير، فإن هؤلاء محنة على أهل البدع.
وإذا رأيتَ الرَّجُلَ مِن أهل الكوفة يعتمدُ على: طلحة بن مُصرِّف، وابنِ أَبْجَرَ، وابنِ حَيَّان التّيمي، ومالك بن مغول، وسُفيان بن سعيد الثوري، وزائدة؛ فارجه.
ومن بعدهم عبد الله بن إدريس، ومحمد بن عُبيد، وابنُ أبي عنيَّة، والمُحاربي؛ فارجُهْ
وإذا رأيت الرجُلَ يُحِبُّ أبا حنيفة، ورأيه، والنظر فيه؛ فلا تطمئن إليه، وإلى مَن يَذهبُ مذهبه ممَّن يَعْلُو في أَمرِه، ويَتَّخِذُه إماما.
ص ٦٣
٦- اعتقاد محمد بن إسماعيل البخاري (194 - 256 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
-
قال نُعيم بن حماد محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.
-
وقال أحمد بن حنبل: لم يجئنا مِن خُراسان مثل محمد بن إسماعيل
-
وقال أبو حاتم الرازي: محمد بن إسماعيل أعلم من دخل العراق.
-
وقال ابن خزيمة: ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله ﷺ وأحفظ له من محمد بن إسماعيل.
ص ٦٧
الدين قول وفعل
الدين قول وفعل. لقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الذِينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةُ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 15]
-
قال ورَّاقُه [البخاري] محمد بن أبي حاتم: سمعتُ البخاري قبل موته بشهر يقول: كتبتُ عن ألف وثمانين رجلا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص (السير 395/12).
-
قال ابن بطة رحمه الله في الإبانة الكبرى (1196): “فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ جَمَعَتِ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ وَالنِّيَّةَ، فَإِنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَالْإِخْلَاصَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِعَزْمِ الْقَلْبِ وَالنِّيَّةِ”.
ص ٧١
القرآن كلام الله غيرُ مخلوق
وأن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق. لقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر﴾ [الأعراف: 54]
-
هذا الذي كان يعتقده الإمام البخاري الله في القرآن وهو الذي مات عليه، فقد سُئِل قبل موته بيوم عن القرآن فقيل له: “يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ تَقُولُ لَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ قُرْآنٌ وَلَا فِي صُدُورِ النَّاسِ. فَقَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيَّ بِمَا لَمْ تَسْمَعْهُ مِنِّي، إِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ: ﴿وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ﴾ [الطور: ٢] أَقُولُ: فِي الْمَصَاحِفِ قُرْآنٌ، وَفِي صُدُورِ الرِّجَالِ قُرْآنٌ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ هَذَا يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا سَبِيلُهُ سَبِيلُ الْكُفْرِ”. [رواه اللالكائي (577)].
-
تنبيه: ومن الكذب على الإمام البخاري الله نسبة القول إليه بأن اللفظ بالقرآن مخلوق فقد برأ نفسه من ذلك، فقال: “مَنْ زَعَمَ أَنِّي قُلْتُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَذَّابٌ، فَإِنَّى لَمْ أَقُلْهُ” [رواه اللالكائي (578)] وصححه غير واحد من أهل العلم. ص ٧١
-
قال الإمام أحمد رحمه الله: “فَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَلْقَ خَلْقٌ، وَالْأَمْرُ غَيْرُ الْخَلْقِ، وَهُوَ كَلَامُهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُ مِنَ الْعِلْمِ”. [الإبانة الكبرى (2313)].- وقال ابن بطة رحمه الله في الإبانة الكبرى (2472): “فَكَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ غَيْرَ الْخَلْقِ، فَصَلَ بِالْوَاوِ، فَقَالَ ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤]، فَالْأَمْرُ أَمْرُهُ وَكَلَامُهُ، وَالْخَلْقُ خَلْقٌ، وَبِالْأَمْرِ خَلَقَ الْخَلْقَ، لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل أَمَرَ بِمَا شَاءَ وَخَلَقَ بِمَا شَاءَ، فَزَعَمَ الْجَهْمِيُّ أَنَّ الْأَمْرَ خَلْقٌ، وَالْخَلْقَ خَلْقٌ، فَكَأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عز وجل ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] إِنَّمَا هُوَ الْإِلَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ، فَجَمَعَ الْجَهْمِيُّ بَيْنَ مَا فَصَلَهُ اللَّهُ. وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْجَهْمِيُّ، لَكَانَ قَوْلُ جِبْرِيلَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِخَلْقِ رَبِّكَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ﴾ [مريم: ٦٤] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾ [الطلاق: ٥]، فَيُسَمِّي اللَّهُ الْقُرْآنَ أَمْرَهُ، وَفَصَلَ بَيْنَ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ”. ص ٧٢
الخير والشَّرَّ بِقَدَرٍ
وأنَّ الخير والشَّرَّ بِقَدَرٍ لقوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: 1، 2].
ووجه الحُجَّة فيها: أن الله تعالى أمر نبيه الله بالاستعاذة مِن الشَّرِّ؛ فدلَّ على أن الشر مخلوقٌ من الله تعالى كما قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (2053): “فَإِنَّ الْقَدَرِيَّ الْمَلْعُونَ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عز وجل خَالِقَ الشَّرِّ، وَأَنَّ اللَّهَ شَاءَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنَ الشَّرِّ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ إِبْلِيسَ وَهُوَ رَأْسُ كُلِّ شَرٍّ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ”. ص ٧٢
لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب
وَلَمْ يَكُونُوا يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالذَّنْبِ لِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمِنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨].
روى اللالكائي (1771) عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «كُنَّا نَرَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَمَنْ أَكَلَ مَالَ يَتِيمِهِ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، وَمَنْ يَأْكُلِ الرِّبَا فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: ٤٨]، فَلَمْ نَدْرِ مَنْ يَدْخُلُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا فَكَفَفْنَا وَرَجَوْنَا».
ص ٧٣
مَن سَبَّ أصحاب رسول الله، فليس له في الفيء حَقٌّ
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “مَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَيْسَ لَهُ فِي الْفَيْءِ حَقٌّ؛ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الحشر: ٨] الْآيَةَ. هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ﴾ ⦗١٣٤٥⦘ هَؤُلَاءِ الْأَنْصَارُ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ فَالْفَيْءُ لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ؛ فَمَنْ سَبَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَيْسَ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْفَيْءِ”. قال ابن كثير في تفسيره (73/8): ” وَمَا أَحْسَنَ مَا اسْتَنْبَطَ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الرَّافِضِيَّ الَّذِي يَسُبُّ الصَّحَابَةَ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ الْفَيْءِ نَصِيبٌ لِعَدَمِ اتِّصَافِهِ بِمَا مَدَحَ اللَّهُ بِهِ هَؤُلَاءِ”.
ص ٧٤
تعريف البدعي
قال أبو سعد الزنجاني رحمه الله في شرح قصيدته (4): “(البدعي): من أحدث برأيه قولا أو فعلا لم يكن فيه إمام يلزم قَبولُه، و لم ترد بذلك آية قاضية و لا سنة عن الرسول - صلى الله عليه و سلم - وأصحابه ماضية. فمن تعلق بمن هذه سبيله، فقد باء بغضب من ربه، و تحمّل وزر إحداثه، و أوزار من اتبعه على ذلك”.
ص ٧٤
ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَليهِنَّ قَلبُ امري مُسلم
لقول النبي ﷺ: «ثَلاثٌ لا يَغِلُّ عَليهِنَّ قَلبُ امري مُسلم: إخلاص العمل للهِ، وطاعةُ ولاة الأمر، ولزوم جماعتِهم، فإنَّ دعوتهم تُحيط مِن وَرَائِهم». رواه أحمد (16800)، والترمذي (2658)، وهو حديث صحيح.
قال ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة» (1981):
أي: لا يحملُ الغِلَّ ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي الغِلَّ والغِشَّ، وهو فسادُ القلب وسخائمُه. فالمخلصُ لله إخلاصُه يمنعُ غِلَّ قلبه، ويخرجُه ويزيلُه جملةً؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربِّه، فلم يبقَ فيه موضعٌ للغِلِّ والغش.
…
وقولُه: «ومناصحةُ أئمَّة المسلمين» هذا أيضًا مُنافٍ للغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ النصيحةَ لا تجامِعُ الغِلَّ، إذ هي ضدُّه، فمن نصَح الأئمَّة والأمَّة فقد براء من الغِلِّ.
وقولُه: «ولزوم جماعتهم» هذا أيضًا مما يطهِّر القلبَ من الغِلِّ والغِشِّ؛ فإنَّ صاحبَه للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكرهُ لهم ما يكرهُ لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسرُّه ما يسرُّهم.
وهذا بخلاف من انحاز عنهم، واشتغل بالطَّعن عليهم، والعَيْب والذَّمِّ لهم؛ كفعل الرافضة والخوارج والمعتزلة وغيرهم؛ فإنَّ قلوبهم ممتلئةٌ غِلًا وغِشًّا…
وقولُه: «فإنَّ دعوتهم تحيطُ من ورائهم» هذا من أحسن الكلام وأوجزه وأفخمه معنى؛ شبَّه دعوةَ المسلمين بالسُّور والسِّياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوِّهم عليهم، فتلك الدعوةُ ــ التي هي دعوةُ الإسلام، وهم داخلوها ــ لمَّا كانت سُورًا وسياجًا عليهم أخبر أنَّ من لَزِمَ جماعةَ المسلمين أحاطت به تلك الدعوة ــ التي هي دعوةُ الإسلام ــ كما أحاطت بهم، فالدعوةُ تجمعُ شملَ الأمَّة، وتَلُمُّ شَعَثَها، وتحيطُ بها، فمن دخلَ في جماعتها أحاطت به وشَمِلَته.
ص ٧٥
لو كانت لي دعوة ما جعلتها إلَّا في السلطان
وفي الحلية (91/8): “قال الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ: «لَوْ أَنَّ لِيَ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً مَا صَيَّرْتُهَا إِلَّا فِي الْإِمَامِ قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ؟ قَالَ: مَتَى مَا صَيَّرْتُهَا فِي نَفْسِي لَمْ تُجْزِنِي وَمَتَى صَيَّرْتُهَا فِي الْإِمَامِ فَصَلَاحُ الْإِمَامِ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ قِيلَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَلِيٍّ فَسِّرْ لَنَا هَذَا قَالَ: أَمَّا صَلَاحُ الْبِلَادِ فَإِذَا أَمِنَ النَّاسُ ظَلَمَ الْإِمَامِ عَمَّرُوا الْخَرَابَاتِ وَنَزَلُوا الْأَرْضَ وَأَمَّا الْعِبَادُ فَيَنْظُرُ إِلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ فَيَقُولُ: قَدْ شَغَلَهُمْ طَلَبُ الْمَعِيشَةَ عَنْ طَلَبِ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ فَيَجْمَعُهُمْ فِي دَارٍ خَمْسِينَ خَمْسِينَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: لَكَ مَا يُصْلِحُكَ وَعَلِّمْ هَؤُلَاءِ أَمْرَ دِينِهِمْ وَانْظُرْ مَا أَخْرَجَ اللهُ عز وجل مِنْ فِيهِمْ مِمَّا يُزَكِّي الْأَرْضَ فَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ: فَكَانَ صَلَاحُ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ» فَقَبَّلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ جَبْهَتَهُ، وَقَالَ: يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ مَنْ يُحْسِنُ هَذَا غَيْرُكَ”.
قال البربهاري رحمه الله في شرح السنة (138): “إذا رأيتَ الرجلَ يَدعُو على السلطان فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ هَوَىً، وَإِذَا رأيتَ الرجلَ يدعو للسُّلطان بالصَّلاح فاعلم أنه صاحِبُ سُنَّةٍ إن شاء الله، لقول فضيل: لو كانت لي دعوة ما جعلتها إلَّا في السلطان”.
ص ٧٦
٧- اعتقاد إسماعيل بن يحيى المزني، تلميذ الشافعي (175 - 264 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
قال عمرو بن عثمان المكي: ما رأيت أحدًا من المُتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشدّ اجتهادًا من المُزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما رأيتُ أحدًا أشد تعظيما للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس، وكان يقول: أنا خُلق من أخلاق الشافعي.
ص ٧٩
سبب زيادة أهل السُّنة لفظة (بذاته) في مسألة علو الله تعالى
سبب زيادة أهل السُّنة لفظة (بذاته) في مسألة علو الله تعالى على خلقه، واستوائه على عرشه؛ ما قاله ابن القيم رحمه الله: “أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَمَّا قَالُوا إِنَّ الِاسْتِوَاءَ مَجَازٌ صَرَّحَ أَهْلُ السُّنَّةِ بِأَنَّهُ مُسْتَوٍ بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ” [مختصر الصواعق (902/3)].
فأرادوا بلفظة ب (ذاته): إثبات حقيقة علوّ الله تعالى على خلقه فوق سمواته لا علوّ القهر والغلبة فقط كما يدعيه نفاة العلوّ مِن المعطلة.
قال السجزي الله في «الإبانة»: ” وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ؛ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ” [العلو للذهبي (2/ 1290)].
ص ٨١
النهي عن لفظ (الجَبْرِ) في أبواب القدرِ
وأمَّا لفظ (الجَبْرِ) في أبواب القدرِ: فقد نهى عنه أئمة السُّنة لما اشتمل عليه هذا الاسم من الحق والباطل كما بينت ذلك في «السُّنة» للخلال (916).
ص ٨٢
الذنوب لا تخرج من مطلق الإيمان
ولا يَخرُجون بالذنوبِ مِن الإيمان، ولا يكفرون بركوب كبيرة ولا عصيان. أي: مُطلق الإيمان وأمَّا الإيمان المُطلق الكامل بفعل الطاعات، وترك السيئات، فإن صاحب الكبيرة يخرج منه إلى الإسلام، كما قال النبي ﷺ: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث، فليس هو بمؤمن بل مسلم.
ص ٨٣
لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون أن يُنسبوا إلى الأشعري
قَالَ الشيخ أَبُو الْحسن الكرجى الشَّافِعِيّ رحمه الله في «الْفُصُولُ فِي الْأُصُولِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْفُحُولِ»: «وَلَمْ يَزَلْ الْأَئِمَّةُ الشَّافِعِيَّةُ يَأْنَفُونَ وَيَسْتَنْكِفُونَ أَنْ يَنْسُبُوا إلَى الْأَشْعَرِيِّ، وَيَتَبَرَّءُونَ مِمَّا بَنَى الْأَشْعَرِيُّ مَذْهَبَهُ عَلَيْهِ، وَيَنْهَوْنَ أَصْحَابَهُمْ وَأَحْبَابَهُمْ عَنْ الْحَوْمِ حَوَالَيْهِ». [درء التعارض (96/2)].
وقال: “فَمَنْ قَالَ: أَنَا شَافِعِيُّ الشَّرْعِ أَشْعَرِيُّ الِاعْتِقَادِ قُلْنَا لَهُ: هَذَا مِنْ الْأَضْدَادِ لَا بَلْ مِنْ الِارْتِدَادِ إذْ لَمْ يَكُنْ الشَّافِعِيُّ أَشْعَرِيَّ الِاعْتِقَادِ”.
ص ٨٤
لا يحملن أحدا منكم حُسن ظنّه بنفسه على المخاطرة بدينه
قال ابن بطة رحمه الله في الإبانة الكبرى (502): «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ سَمِعَ مِنْكُمْ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ، فَلْيَنْأَ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ، فَمَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَتْبَعُهُ لِمَا يَرَى مِنَ الشُّبُهَاتِ» هَذَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَحْمِلَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ حُسْنُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَمَا عَهِدَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِدِينِهِ فِي مُجَالَسَةِ بَعْضِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ، فَيَقُولُ: أُدَاخِلُهُ لِأُنَاظِرَهُ، أَوْ لِأَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَذْهَبَهُ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الدَّجَّالِ، وَكَلَامُهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْجَرَبِ، وَأَحْرَقُ لِلْقُلُوبِ مِنَ اللَّهَبِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَلْعَنُونَهُمْ، وَيَسُبُّونَهُمْ، فَجَالَسُوهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَمَا زَالَتْ بِهِمُ الْمُبَاسَطَةُ وَخَفْيُ الْمَكْرِ، وَدَقِيقُ الْكُفْرِ حَتَّى صَبَوْا إِلَيْهِمْ».
ص ٨٧
لا تترك صلاة الجمعة خلف الإمام بر أو فجر
ولا نَترُكُ حُضور الجمعةِ [وصلاتُها] مع برِّ هذه الأُمَّةِ وفاجرها لازم، ما كان من البدعة بريئًا، فإن ابتدعَ ضَلالا فلا صلاة خلفه. وذلك إن أمكنه إقامة الجمعة مع غيره فإن لم يوجد في البلدة إلا جمعة واحدة تُقام خلف السلطان؛ فإنه يُصلي خلفه، ويعتد بها ما لم تكن بدعته مكفّرة، فإن كانت بدعته مُكفّرة كبدعة الجهمية والرافضة وغيرهما، صلَّى معهم، ثم أعادها أربعًا كما تقدَّم بيانه في اعتقاد الإمام سفيان الثوري.
ص ٨٨
٨- اعتقاد الرازيين أبي زرعة (200 - 264 هـ) رحمه الله وأبي حاتم (195 - 277 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليهما
-
قال أحمد ما جاوز الجسر أحفظ من أبي زرعة الرازي.
-
وقيل لأبي بكر بن أبي شيبة: مَن أحفظ مَن رأيتَ؟ قال: ما رأيتُ أحدًا أحفظ من أبي زرعة الرازي.
-
قال ابن راهويه كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل.
-
قال أبو حاتم الرازي: أبو زرعة إمام.
ص ٩٣
-
قال أبو زرعة: ما رأيتُ أحرص على طلب الحديث منه [أي أبي حاتم].
-
قال يونس بن عبد الأعلى: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خُراسان. ودعا لهما، وقال بقاؤهما صلاح للمسلمين.
-
وقال هبة الله اللالكائي: كان أبو حاتم إماما حافظا متثبتا.
-
قال الخطيب: كان أبو حاتم أحد الأئمة الحُفَّاظ الأثبات.
ص ٩٤
تقسيمُ الدِّينِ إلى أُصول وفروع
تقسيمُ الدِّينِ إلى أُصول وفروع تقسيم صحيح، واتفق أهل العلم عليه كما هو مُقرر في عقائدهم المُختصرة والمُطوّلة. وقد دلَّ على ذلك الكتاب والسنة ولا أعلم أحدا من أهل السنة أنكر هذا التقسيم.
ص ٩٥
القرآنُ كلامُ اللهِ غير مخلوق بجميع جهاته
والقرآنُ كلامُ اللهِ غير مخلوق بجميع جهاته وسيأتي في اعتقاد ابن بطة رحمه الله (12) معنى بجميع جهاته.
قال ابن بطة رحمه الله: “القرآن كلام الله، ووحيه وتنزيله، فيه معاني توحيده، ومعرفته، وآلاؤه، وصفاته، وأسماؤه، وهو علمٌ مِن عِلمه غيرُ مخلوق، وكيف قُرئ، وكيف كُتِبَ، وحيث تُلي، وفي أي موضع كان، في السماءِ وُجِدَ أو في الأرضِ حُفِظَ في اللوح المحفوظ، وفي المصاحف، وفي ألواح الصِّبيانِ، مَرسومًا أو في حَجَرٍ منقوشا، وعلى كل الحالات، وفي كلِّ الجهاتِ فهو كلام الله غير مخلوق”.
ص ١٩٩
سبب زيادة لفظة بائن من خلقه في إثبات علو الله تعالى
زاد أهل السنة والجماعة في إثبات علو الله تعالى على خلقه قولهم: (بائن من خلقه)، من باب البيان والإيضاح، ودفعًا للبس والإيهام الذي أحدثته مُعطلة العلو، إذ قالوا: إن الله لا يَتميّزُ عن الخلق، بل هو معهم بذاته في كل مكان. فردَّ عليهم أهل السنة قائلين: بل هو عال على عرشه، بائنُ مِن خلقه.
ص ٩٦
الإجماع على علو الله تعالى
-
قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة» (2678): “وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَمِيعِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل عَلَى عَرْشِهِ، فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، لَا يَأْبَى ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرْهُ إِلَّا مَنِ انْتَحَلَ مَذَاهِبَ الْحُلُولِيَّةِ، وَهُمْ قَوْمٌ زَاغَتْ قُلُوبُهُمْ، وَاسْتَهْوَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَمَرَقُوا مِنَ الدِّينِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ ذَاتَهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ”.
-
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية (37/5): “كان الأئمة كابن المبارك والإمام أحمد وإسحاق ابن إبراهيم وغيرهم يقولون إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ويقولون بحدٍّ لأن نفي المباينة لخلقه يستلزم حلولَهُ فيهم واتحادَهُ بهم”.
ص ٩٧
الأشاعرة ينفون رؤية الله تعالى حقيقة
روى البخاري (7435) عن جرير رضي الله عنه، قال النبي ﷺ: «إنكم سترون ربكم عيانا». «فَتَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ فِي هَذَا السِّيَاقِ بِمَا يُخَالِفُ حَقِيقَتَهَا وَظَاهِرَهَا فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ وَهُوَ رَدٌّ وَتَكْذِيبٌ يَسْتَتِرُ صَاحِبُهُ بِالتَّأْوِيلِ». [مختصر الصواعق (30/1)].
قال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين رحمه الله في مجموع الرسائل والمسائل النجدية (177/2): “الأشعرية يوافقون أهل السنة في رؤية المؤمنين ربهم في الجنَّة! ثم يقولون: إن معنى الرُّؤية: إنّما هو زيادة علم يخلقه الله عز وجل في قلب الناظرِ ببصره، لا رُؤية بالبصر حقيقية عيانًا، فهم بذلك نافون للرؤية التي دلّ عليها القرآن، وتواترت بها الأحاديث عن النبي”.
ص ٩٧
أوَّل مَن قال بفناء الجنة والنار هو الجهم بن صفوان
أوَّل مَن قال بفناء الجنة والنار هو الجهم بن صفوان، فأصبح مذهبا للجهمية، كما قال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى» (2458): “وَزَعَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَفْنَى وَتَبِيدُ وَيَزُولُ نَعِيمُهَا، وَأَنَّ النَّارَ تَزُولُ وَيَنْقَطِعُ عَذَابُهَا رَدًّا لِمَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَكْثُرُ عَلَى الْإِحْصَاءِ مِنْ دَوَامِ الدَّارَيْنِ وَبَقَاءِ أَهْلِهَا فِيهِمَا، مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد: ٣٥]“.
قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح (723/2): “وهذا القول ممَّا أنكره عليه وعلى أتباعه أئمة الإسلام وكفّروهم به، وصاحوا بهم من أقطار الأرض”.
ص ٩٨
تواتر إجماع السلف على النهي عن الخروج على الولاة وأئمة الجور
تواتر إجماع السلف الصالح على النهي عن الخروج على الولاة وأئمة الجور، كما حكى إجماعهم أئمَّة السُّنة في عقائدهم، فلا تكاد تقف على عقيدة من عقائدهم إلا وفيها النهي عن الخروج، وتبديع أصحابه.
ص ٩٩
معنى الجماعة
قال الترمذي رحمه الله في السُّنن (466/4): “وَتَفْسِيرُ الْجَمَاعَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ وَالْحَدِيثِ.”
وقال البربهاري رحمه الله في شرح السُّنة (3): “والأساس الذي تبنى عليه الجماعة، وهم أصحاب محمد ﷺ ورحمهم الله أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار”.
وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: “لَوْ سَأَلْتَ الْجُهَّالَ مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالُوا: جَمَاعَةُ النَّاسِ وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَالِمٌ مُتَمَسِّكٌ بِأَثَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَطَرِيقِهِ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَتَبِعَهُ فَهُوَ الْجَمَاعَةُ، وَمَنْ خَالَفَهُ فِيهِ تَرَكَ الْجَمَاعَةُ”. [الحلية» (239/9)]
ص ١٠٠
دليل ابتداع الرجل اتباعه الشذوذ عن الحق
قال الدارمي رحمه الله في «النقض» (466/4): ” إِنَّ الَّذِي يُرِيدُ الشُّذُوذَ عَنِ الْحَقِّ، يَتَّبِعُ الشَّاذَّ مِنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، وَيَتَعَلَّقُ بِزَلَّاتِهِمْ، وَالَّذِي يَؤُمُّ الْحَقَّ فِي نَفْسِهِ يَتَّبِعُ الْمَشْهُورَ مِنْ قَوْلِ جَمَاعَتِهِمْ، وَيَنْقَلِبُ مَعَ جُمْهُورِهِمْ، فَهُمَا آيَتَانِ بَيِّنَتَانِ يُسْتَدَلُّ بِهِمَا عَلَى اتِّبَاعِ الرَّجُلِ، وَعَلَى ابْتِدَاعِهِ”.
ص ١٠٠
الزكاة التي تؤدّى إلى ولاة الأمر
أجمع أهل السُّنة على أن الزكاة التي تؤدّى إلى ولاة الأمر هي زكاة سائمة الأنعام، والخارج من الأرض من الحبوب والثمار، وأما سائر الزكوات كالذهب والفضة وغيرهما فالمُزَكِّي فيها بالخيار، إن شاء أعطاهم إيَّاها، وإن شاء أخرجها بنفسه.
ص ١٠١
الاستثناء في الإيمان
ومَن قال: (إني مؤمن بالله)؛ فهو مُصِيبٌ لأنه يحكي ما يعتقده في قلبه من غير أما من قال: (مؤمن عند الله أو حقًّا) فهو تَخرُّصٌ وشهادة بما لا يعلم هل تقبّل الله منه أعماله أو لا.
ص ١٠٢
مُرجِئةُ الفقهاء مُبتدعةٌ ضُلَّالٌ
والمُرجِئةُ: مُبتدعةٌ ضُلَّالٌ وهم مُرجئة الفقهاء الذين أخرجوا العمل من الإيمان، وهذا إجماع على تضليلهم وتبديعهم خلافا لمن قال: إنهم مُرجئة أهل السُّنة، وأن الخلاف معهم خلاف لفظي صوري فقط، وهذا القول منقوض بما حكاه الإمامان من الإجماع، وسيأتي في اعتقاد حرب الكرماني رحمه الله (92) زيادة إيضاح.
وأمَّا مُرجئة الجهمية الذين يقولون: الإيمان المعرفة من غير قول ولا عمل، فهؤلاء أجمعَ أهلُ السُّنة على كفرهم.
ص ١٠٢
تقسيم القدرية إلى مبتدعة وكفار
القدرية نوعان:
-
قدرية مبتدعة: وهم نفاة خلق أفعال العباد مع إيمانهم بعلم الله تعالى بكل شيء.
-
وقدرية غُلاة كُفَّار: وهم الذي ينفون علم الله تعالى.
ص ١٠٢
الجهميَّةَ كفَّارُ
وأنَّ الجهميَّةَ كفَّارُ وهم الذين ينفون علوّ الله تعالى على خلقه ويقولون: إن القرآن مخلوق وإن الله تعالى لا يتكلم بحرف وصوت، ولا يُرى بالأبصار، وليس له يد ولا وجه حقيقة، ويُعطلون جميع الصفات وهؤلاء أجمع أهل السنة على كُفرهم وخُروجهم من الاثنتين والسبعين فرقة.
ص ١٠٢
الخوارج مُرَّاقٌ
والخوارج مُرَّاقٌ قال ابن تيمية رحمه الله في النبوات (571/1): “ومروقهم منه: خروجهم؛ باستحلالهم دماء المسلمين، وأموالهم؛ فإنّه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»٦. وهم بسطوا في المسلمين أيديهم وألسنتهم؛ فخرجوا منه.”
ص ١٠٣
كفر القائلين بخلق القرآن
ومَن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر [بالله العظيم]، كُفْرًا ينقل عن المِلَّةِ. ومَن شَكٍّ في كُفْرِهِ مِمَّن يَفهم، فهو كافِرٌ. نقل غيرُ واحدٍ مِن أئمة أهل السنة ما نقله الإمامان هنا من الإجماع على أن كفر القائلين بخلق القرآن كفر أكبر ناقل عن المِلَّة، ومن حكى عنهم غير ذلك فهو مخطئ أو مُبطل يتقوَّلُ عليهم ما لم يقولوه.
ص ١٠٣
تجهيم الواقفة واللفظية
ومَن شَكٍّ في كلام الله فوقف فيه شاكا، يقول: (لا أدري مخلوق، أو غير مخلوق)، فهو جهمي. ومَن وقف في القُرآنِ جاهِلا؛ عُلم، وبُدعَ، ولم يُكفّر. ومَن قال: (لفظي بالقرآن مخلوق)؛ أو (القرآنُ بلفظي مخلوق)؛ فهو جَهمي. وهذا تقسيم مُهم في مسألة الوقف في القرآن إذ الواقفون فيه على أنواع كثيرة.
-
فمنهم: مَن يقفون تلبيسًا وتدليسًا حتى لا يفتضحوا، فهم يُضمرون القولبخلق القرآن، ويستترون بالوقف، وهذا النوع شرّ من الجهمية كما قاله الأئمة.
-
ومنهم: مَن يقف شاكًا لا يدري مخلوق أو غير مخلوق، وهؤلاء الذين سمَّاهم الأئمة: (الشَّاكَة أو الشكاك).
-
ومنهم: مَن يقفُ جاهلا كالعامة وغيرهم.
وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن الواقفة فقال: “من كَانَ مِنْهُم يُخَاصم وَيعرف بالْكلَام فَهُوَ جهمي، وَمن لم يكن يعرف بالْكلَام يجانب حَتَّى يرجع، وَمن لم يكن لَهُ علم يسْأَل يتَعَلَّم”. [«السُّنة» لعبد الله بن أحمد (209)].
وقال أحمد بن منيع (244 هـ) رحمه الله: «من زعم أَنه مَخْلُوق فَهُوَ جهمي، وَمن وقف فِيهِ فَإِن كَانَ مِمَّن لَا يعقل مثل البقالين وَالنِّسَاء وَالصبيان سكت عَنهُ وَعلم، وَإِن كَانَ مِمَّن يفهم فَأَجره فِي وَادي الْجَهْمِية، وَمن قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوق فَهُوَ جهمي». [الحُجَّة في بيان المحجة» (424/1)].
ص ١٠٤
المبتدعة ورثة كفار قريش في لمز المؤمنين بأشنع الألقاب
قال الصابوني رحمه الله في عقيدة أصحاب الحديث (ص 306) مُعلِّقًا على هذا الكلام: “رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقَّبوا بها أهل السنة - ولا يلحقهم شيء منها فضلًا من الله ومنةً - سلكوا معهم مسلك المشركين الملعونين مع رسول الله ﷺ فإنهم اقتسموا القول فيه، فسمّاه بعضهم ساحرًا، وبعضهم كاهنًا، وبعضهم شاعرًا، وبعضهم مجنونًا، وبعضهم مفتونًا، فكان ﷺ من تلك المعائب بعيدًا بريئًا، ولم يكن إلا رسولًا نبيًا، وأنزل الله عز وجل: ﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا﴾ [الإسراء: ٤٨]، [الفرقان: ٩]. وكذلك المبتدعة - خذلهم الله - اقتسموا القول في حملة أخباره، ونقلة آثاره، ورواة أحاديثه المقتدين به المهتدين بسنته المعروفين بأصحاب الحديث، فسمّاهم بعضهم حشوية، وبعضهم مشبهة، وبعضهم مجبرة، وبعضهم نابتة وناصبة، وأصحاب الحديث عصامة من هذه المعائب بريئة نقية زكية تقية، وليسوا إلا أهل السنة المضية، والسيرة المرضية … قد وفقهم الله تعالى لاتباع كتابه ووحيه … والاقتداء برسوله في أخباره”.
وقال ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة (9503): “وهكذا شأن كل مبتدعٍ وملحدٍ، وهذا ميراث مِن تسمية كفار قريشٍ لرسول الله ﷺ وأصحابه الصَّبَأة، وصار هذا ميراثًا منهم لكل مبطلٍ وملحدٍ ومبتدعٍ، يُلقِّب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفرة”.
ص ١٠٥ - ١٠٦
هْجُرَ أهل الأهواء
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (2256): “يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ تَمَسَّكَ بِمَا رَسَمْنَاهُ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَهُوَ كِتَابُ الشَّرِيعَةِ أَنْ يَهْجُرَ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَكُلَّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمِيعَ الرَّوَافِضِ، وَجَمِيعَ النَّوَاصِبِ، وَكُلَّ مَنْ نَسَبَهُ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةَ ضَلَالَةٍ، وَصَحَّ عَنْهُ ذَلِكَ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَلَّمَ وَلَا يُسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَلَا يُجَالَسَ وَلَا يُصَلَّى خَلْفَهُ، وَلَا يُزَوَّجَ وَلَا يُتَزَوَّجَ إِلَيْهِ مَنْ عَرَفَهُ، وَلَا يُشَارِكَهُ وَلَا يُعَامِلَهُ وَلَا يُنَاظِرَهُ وَلَا يُجَادِلَهُ، بَلْ يُذِلَّهُ بِالْهَوَانِ لَهُ، وَإِذَا لَقِيتَهُ فِي طَرِيقٍ أَخَذْتَ فِي غَيْرِهَا إِنْ أَمْكَنَكَ”.
ص ١٠٦
لا ضمان في تحريق الكتب المُضلة وإتلافها
قال ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية (2/ 710):
وَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ فِي تَحْرِيقِ الْكُتُبِ الْمُضِلَّةِ وَإِتْلَافِهَا.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: قُلْت لِأَحْمَدَ: اسْتَعَرْت كِتَابًا فِيهِ أَشْيَاءُ رَدِيئَةٌ، تَرَى أَنْ أَخْرِقَهُ أَوْ أَحْرِقَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَدْ «رَأَى النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِ عُمَرَ كِتَابًا اكْتَتَبَهُ مِنْ التَّوْرَاةِ، وَأَعْجَبَهُ مُوَافَقَتُهُ لِلْقُرْآنِ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ النَّبِيِّ ﷺ حَتَّى ذَهَبَ بِهِ عُمَرُ إلَى التَّنُّورِ فَأَلْقَاهُ فِيهِ».
فَكَيْفَ لَوْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ مَا صُنِّفَ بَعْدَهُ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي يُعَارِضُ بَعْضُهَا مَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ؟ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ كَتَبَ عَنْهُ شَيْئًا غَيْرَ الْقُرْآنِ أَنْ يَمْحُوَهُ» ثُمَّ «أَذِنَ فِي كِتَابَةِ سُنَّتِهِ» وَلَمْ يَأْذَنْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكُلُّ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ: غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهَا، بَلْ مَأْذُونٌ فِي مَحْقِهَا وَإِتْلَافِهَا، وَمَا عَلَى الْأُمَّةِ أَضَرُّ مِنْهَا، وَقَدْ حَرَقَ الصَّحَابَةُ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمُخَالِفَةِ لِمُصْحَفِ عُثْمَانَ، لَمَّا خَافُوا عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الِاخْتِلَافِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْا هَذِهِ الْكُتُبَ الَّتِي أَوْقَعَتْ الْخِلَافَ وَالتَّفَرُّقَ بَيْنَ الْأُمَّةِ.
وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ [أحمد]: أَهْلَكَهُمْ وَضْعُ الْكُتُبِ، تَرَكُوا آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْكَلَامِ.
…
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبِدْعَةِ يَجِبُ إتْلَافُهَا وَإِعْدَامُهَا، وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ إتْلَافِ آلَاتِ اللَّهْوِ وَالْمَعَازِفِ، وَإِتْلَافِ آنِيَةِ الْخَمْرِ، فَإِنَّ ضَرَرَهَا أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ هَذِهِ، وَلَا ضَمَانَ فِيهَا”
ص ١٠٧
العلم هو الكتاب والسنة والآثار
قال ابن أبي حاتم رحمه الله: “الْعِلْمُ عِنْدَنَا مَا كَانَ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كِتَابٍ نَاطِقٍ نَاسِخٍ غَيْرِ مَنْسُوخٍ، وَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِمَّا لَا مُعَارِضَ لَهُ، وَمَا جَاءَ عَنْ الْأَلِبَّاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا اخْتَلَفُوا لَمْ يُخْرِجْ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ، فَإِذَا خَفِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يُفْهَمْ فَعَنْ التَّابِعِينَ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ التَّابِعِينَ فَعَنْ أَئِمَّةِ الْهُدَى مِنْ أَتْبَاعِهِمْ، مِثْلِ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَسُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، ثُمَّ مَا لَمْ يُوجَدْ عَنْ أَمْثَالِهِمْ فَعَنْ مِثْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ وَابْنِ عُيَيْنَةَ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُحَمَّدِ بْنِ إدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ وَالْحُمَيْدِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنِ سَلَّامٍ”. [الفقيه والمتفقه (432/1)].
وهكذا قال الإمام أحمد رحمه الله: “إنما على الناس اتِّباعُ الآثارِ عن رسول الله ﷺ، ومعرفةُ صحيحها من سقيمها، ثم بعد ذلك قولُ أصحاب رسول الله ﷺ إذا لم يكنْ قولُ بعضِهم لبعض مخالفًا (٤)، فإن اختلفَ نُظِرَ في الكتاب، فأيُّ قولهم كان أشبَهَ بالكتابِ أُخِذَ به، وبقولِ رسول الله ﷺ أُخِذَ به، فإذا لم يأتِ عن النبيِّ ﷺ ولا عن أحد من أصحاب النبيِّ ﷺ نُظِرَ في قول التَّابعينَ، فأيّ قولهم كان أشبهَ بالكتاب والسنة، أُخِذَ به وتُرِكَ ما أحدثَ الناسُ بعدَهم”. [بدائع الفوائد (1428/5)].
وَقَالَ الْمَرْوَذيُّ رحمه الله: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَصِفُ كَيْفَ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ قَالَ: نَنْظُرُ مَا كَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ أَصْحَابِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَنْ التَّابِعِينَ [الآداب الشرعية (53/2)]
ص ١٠٨ - ١٠٩
الأئمة على ضربين: أئمة حقٌّ ممدوحون وأئمة ضلال مذمومون
قال السجزي رحمه الله في رسالته في الحرف والصوت (ص 129): “فلما علم أن الأئمة على ضربين: أئمة حق ممدوحون، وأئمة ضلال (مذمومون) احتجنا إلى أن نبين أحوال الضربين ليتبع المحق ويهجر المبطل. فأئمة الحق: هم المتبعون لكتاب ربهم سبحانه، المقتفون سنة نبيهم ﷺ، المتمسكون بآثار سلفهم الذين أُمروا بالاقتداء بهم …” إلخ.
وقال بعد أن عدَّ كثيرًا مِن أسماء أئمة السنة: “وكانوا أئمة في العلم، مشاهير بالاتباع، والأخذ عن أمثالهم، وكان في وقتهم علماء لهم تقدم في علوم، واتباع على مذهبهم لكنهم وقعوا في شيء من البدع إما القدر، وإما التشيّع أو الإرجاء عرفوا بذلك فانحطت منزلتهم عند أهل الحق…“.
وقال: “وأما أئمة الضلالة فالمشركون، والمدعون الربوبية، والمنافقون ثم كل من أحدث في الإِسلام حدثا، وأسس بخلاف الحديث طريقا، ورد أمر المعتقدات إلى العقليات، ولم يعرف شيوخه باتباع الآثار، ولم يأخذ السنة عن أهلها (أو أخذ) ٣ (عنهم) ٤ ثم خالفهم. وهم فرق، والأصول أربعة: القدرية، والمرجئة، والرافضة، والخوارج ثم تشعبت المذاهب من هذه الأربعة، والكل ضلال …“.
وقال: “فمن رام النجاة من هؤلاء، والسلامة من الأهواء فليكن ميزانه الكتاب، والأثر في كل ما يسمع ويرى فإن كان عالما بهما عرضه عليهما، وإن كان مُقَصْرًا عرضه على من عُلِمَ تقَدُّمه في علمهما، واتباعه للسلف. ولا يقبل من أحد قولًا إلا وطالبه على صحته بآية محكمة، أو سنة ثابتة، أو قول صحابي من طريق صحيح. وليُكثِرِ النظر في كُتُب السُّنن لمن تقدَّم مثل: أبي داود السجستاني، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل السيرجاني، وخشيش بن أصرم النسائي، وعروة بن مروان الرقي، وعثمان بن سعيد الدارمي السجستاني. وليحذر تصانيف من تغير حالهم فإن فيها العقارب وربما تعذر الترياق”.
ص ١٠٩ - ١١٠
الكرابيسي أول من أحدث القول باللفظ
حسين الكرابيسي المُتكلّم (248 هـ)، أول من أحدث القول باللفظ.
قيل للإمام أحمد رحمه الله: وقعت فتنة الكرابيسي في قوله: (لفظي بالقرآن مخلوق) ففتن الناس فقال: «إِيَّاكَ إِيَّاكَ إِيَّاكَ إِيَّاكَ، وَهَذَا الْكَرَابِيسِيَّ، لَا تُكَلِّمْهُ، وَلَا تُكَلِّمْ مَنْ يُكَلِّمُهُ»
وقيل له: إن الكرابيسي يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال أحمد: “هَذَا كَلَامُ سُوءٍ رَدِيءٌ وَهُوَ كَلَامُ الْجَهْمِيَّةِ»، قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْكَرَابِيسِيَّ يَقُولُ هَذَا، فَقَالَ: «كَذَبَ - هَتَكَهُ اللَّهُ - الْخَبِيثُ»“.
وقيل له: ” إِنَّ الْكَرَابِيسِيَّ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَقُلْ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الْكَافِرُ». وَقَالَ: «مَاتَ بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ وَخَلَفَهُ حُسَيْنٌ الْكَرَابِيسِيُّ»” [اللالكائي (2239)، و (2254)، و (2256/ب)]
قال أبو طالب رحمه الله: “أخبروني عن الكرابيسي أنه ذكر قول اللَّه ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] قال -يعني، الكرابيسي: لو أكمل لنا ديننا ما كان هذا الاختلاف. فقال - يعني أحمد - : هذا الكفر صراحًا”. [طبقات الحنابلة (85/1)].
ص ١١٠
اقتران لفظ الإمامة بأحمد بن حنبل أكثر من غيره
قال ابن تيمية رحمه الله في بيان تلبيس الجهمية (120/6) وهو يتكلم عن الإمام أحمد: “ولكن كان أعلم أهل زمانه بما أنزل الله على رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعون وكان أتبع الناس لذلك وابتلى بالمخالفين من أهل الأهواء ومناظرتهم بالخطاب والكتاب والرد عليهم فأظهر من علوم السلف ما هو متبع فيه كسائر الأئمة قبله وما من قول يقوله إلا وقد قاله بلفظه أو بمعناه ما شاء الله من الأئمة قبله وفي زمانه وعليه من الدلائل ما شاء الله فلهذا اتخذته الأمة إمامًا لأن الله تعالى يقول وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (٢٤) [السجدة ٢٤] وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ممن آتاه الله من الصبر واليقين بآيات الله ما استحق به الإمامة حتى اشتهر ذلك عند الخاصة والعامة فصار لفظ الإمامة مقرونًا باسمه أكثر وأشهر مما يقترن باسم غيره”.
ص ١١١ - ١١٢
٩- اعتقاد حرب بن إسماعيل الكرماني (ت 280 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
قال الخلال: كان رجلا جليلا حثنّي المَرُّوذي على الخروج إليه. 6- وقال الذهبي في «العلو» (1179/2): كان حرب من أوعية العلم، حمل عن: أحمد وإسحاق، وكان عالم كرمان في عصره، يُذكر معالأثرم، والمروذي ارتحل إليه الخلال وأكثر عنه
يخرج الرجل من السنة بوقوع المخالفة منه في مسألة واحدة من مسائل أصول الاعتقاد
حدثنا أبو محمد حرب بن إسماعيل، قال: هَذَا مَذْهَبُ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفِينَ بِهَا، المُقتدى بهم فيها، [من لدن أصحاب النبي ﷺ إلى يومنا هذا]. وَأدْركت من أدْركْت من عُلَمَاء أهل الْعرَاق والحجاز وَالشَّام وَغَيرهم عَلَيْهَا. فَمن خَالف شَيْئا من هَذِه الْمذَاهب أَو طعن فِيهَا أَو عَابَ قَائِلهَا فَهُوَ مُبْتَدع خَارج عَن الْجَمَاعَة زائل عَن مَنْهَج السّنة وسبيل الْحق. في هذا رد على من يزعم أن الرجلَ لا يَخرجُ مِن السُّنة ويكون مُبتدعا حتى تكون البدعة غالبة عليه! فأئمَّة السُّنة يحكمون على الرجل بالبدعة وخروجه من السُّنة بوقوع المخالفة منه في مسألة واحدة من مسائل أصول الاعتقاد؛ كنفي العلو، أو القول بخلق القرآن أو نفي القدر، أو إخراج العمل من الإيمان ولو وافق أهل السنة في عامَّة مُعتقداتهم، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: “وَمن السّنة اللَّازِمَة الَّتِي من ترك مِنْهَا خصْلَة لم يقبلهَا ويؤمن بهَا لم يكن من أَهلهَا”.
وقال ابن البناء رحمه الله: “لا يختلفون في شيء من هذه الأصولِ، ومَن فارقهم في شيء منها: نابذُوه، وباغَضُوه، وبَدَّعوه، وهَجَروه”. [«المختار» (66)].
وقال الصَّابوني رحمه الله في «عقيدة أصحاب الحديث» (176): “ولا يشتغلوا بهذه المُحدثات من البدع التي اشتهرت فيما بين المسلمين وظهرت وانتشرت، ولو جرت واحدة منها على لسانٍ واحدٍ في عصر أولئك الأئمة لهجروه، وبَدَّعوه، ولكذَّبوه، وأصابوه بكل سوء ومكروه”.
وكذا لم يكونوا يَحكُمون على الرجل بالسنة حتى يوافقها في جميع أصولها، كما قال البربهاري رحمه الله في شرح السنة (169): “ولا يحل لرجل أن يقول: فلان صاحب سنة حتى يعلم منه أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة، لا يقال له: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها.”
ص ١١٦ - ١١٧
عبارات السلف في بيان أركان الإيمان
٢ - الإيمان قول، وعمل، ونيَّةٌ، وتَمسُّكُ بالسُّنَّةِ. ٣- والإيمان يزيد وينقص. ٤ - ويُستثنى في الإيمان، غير أن لا يكون الاستثناء شكا، إنَّما هي سُنَّةٌ ماضية عن العلماء.
تنوعت عبارات السلف في بيان أركان الإيمان ومضمونها واحد، وهو الرد على المرجئة الذين أخرجوا العمل من الإيمان، أو جعلوه شَرط كمال فيه.
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (7/ 170): “أقوال السلف وأئمة السنة في [تفسير الإيمان]، فتارة يقولون: هو قول وعمل. وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية. وتارة يقولون قول وعمل ونية واتباع السنة. وتارة يقولون: قول باللسان، واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وكل هذا صحيح … والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، ومن أراد الاعتقاد رأي أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب، ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأما العمل فقد لا يفهم منه النية فزاد ذلك، ومن زاد اتباع السنة فلأن ذلك كله لا يكون محبوبًا لله إلا باتباع السنة، وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعًا من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولًا فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل، والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مرادهم، كما سئل سَهْل بن عبد الله التَّسْتُرِي عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة؛ لأن الإيمان إذا كان قولًا بلا عمل فهو كُفْر، وإذا كان قولًا وعملًا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولًا وعملًا ونية بلا سنة فهو بدعة.
ص ١١٧ - ١١٨
الجواب عن سؤال أمؤمن أنتَ؟
وإذا سُئِلَ الرَّجلُ: أمؤمن أنتَ؟ فإنه يقول:
أ- أنا مؤمن إن شاء الله.
ب- أو مؤمنٌ أرجو.
ج- أو يقول: آمنتُ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله. كَرِهَ أئمة السُّنة سؤال الرجل لغيره: (أمؤمن أنت؟)، وبوب على ذلك الآجري رحمه الله في «الشريعة»: (28 / باب فيمن كَرِهَ مِن العلماء لمن يسأل غيره، فيقول له: أنت مؤمن؟ هذا عندهم مبتدع رجلُ سُوءٍ).
ص ١١٨
الإيمان يزيد وينقص
٦ - ومَن زَعَمَ أَنَّ الإيمانَ قول بلا عمل؛ فهو مُرجئ. ٧ - ومَن زعم أَنَّ الإيمانَ هو القول، والأعمال شرائع؛ فهو مرجئ. وإن زَعَمَ أنَّ الإيمانَ لا يَزيدُ ولا ينقصُ؛ فهو مُرجئ
وإن قال: إنَّ الإيمانَ يَزيدُ ولا يَنقُصُ؛ فقد قال بقول المرجئة.
ومَن لم يرَ الاستثناء في الإيمانِ؛ فهو مُرجئ.
ومَن زعم أنَّ إيمانَهُ كإيمانِ جبريل أو الملائكة؛ فهو،مُرجئ، وأخبتُ مِن المُرجئ؛ فهو كاذِبٌ.
ومَن زعَمَ أَنَّ النَّاسَ لا يتفاضلون في الإيمان؛ فقد كذب.
ومَن زَعمَ أن المعرفة تنفعُ في القلب، وإنْ لم يتكلم بها؛ فهو جهمي.
ومَن زعم أنَّه مُؤمنٌ عند الله مُستكمل الإيمانِ؛ فهذا مِن أشنع قولِ المُرجئة وأقبحه
ص ١١٨ - ١١٩
“وأعظم أصول مسائل الإيمان، مسألة إخراج العمل من الإيمان، وأن الرجل يعني قد يدخل الإيمان ولو لم يعمل شيئًا، فهذا أعظم أصولهم. والأشياء التي بعدها كلها مبنية على: هل العمل من الإيمان أو ليس من الإيمان؟ فالاستثناء والمسائل الأخرى انبنت على إدخال العمل في الإيمان”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
الإيمان بالقدر
١٥ - والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحُلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسَيتُه، وأوَّلُه وَآخِرُه مِن الله تبارك وتعالى قضاء قَضَاهُ على عِبادِهِ، وقَدَرُ قَدَّرَهُ عليهم، لا يَعْدُو أحد منهم مشيئة الله، ولا يُجاوِزُ قضاءه؛ بل هُم كُلُّهم صائِرُونَ إلى ما خلقهم له، وواقعون فيما قدر عليهم لا محالة، وهو عَدْلٌ منه عَزَّ رَبُّنا وجلَّ. والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل مال الحرام، والشَّرك بالله، والذُّنوب والمعاصي كُلُّها بقضاء وقدر من الله، من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حُجَّةٌ، بل الله الحُجَّةُ البالغةُ على خلقِهِ، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣]. ١٦ - وعلمُ الله ماض في خلقه بمشيئة منه؛ قد عَلِمَ مِن إبليس ومن غيره ممن عصاهُ - مِن لَدُنْ أن عُصِيَ رَبُّنا تبارك وتعالى إلى أن تقوم الساعة - المعصية، وخَلَقَهم لها. وعَلِمَ الطَّاعَةَ مِن أهل طاعته، وخلقهم لها. فكُلُّ يَعملُ لِما خُلِقَ له، وصائر إلى ما قُضي عليه، وعُلِمَ منه، لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته، واللهُ الفَعالُ لِمَا يُرِيدُ. ۱۷ - فمَن زَعَمَ أَنَّ الله تبارك وتعالى شاء لعباده الذين عصوهُ الخير والطاعة، وأنَّ العِبادَ شاءوا لأنفسهم الشَّرَّ والمعصية، فعملوا على مشيئتهم؛ فقد زعم أن مشيئة العِبادِ أغلب من مشيئة الله تبارك وتعالى ذكره، فأي افتراء على الله أكثر من هذا؟! ۱۸ - ومَن زعم أَنَّ أَحَدًا مِن الخلقِ صائر إلى غيرِ مَا خُلِقَ له؛ فقد أنفى قدرة الله عن خلقه؛ وهذا إفك على الله، وكذب عليه. ١٩ - ومن زعم أن الزنا ليس بقَدَرٍ، قيل له: أرأيت هذه المرأة التي حملت من الزنا، وجاءت بولد، هل شاء الله لَهُ أن يُخلَقَ هذا الولد؟ وهل مَضَى هذا في سابق عِلمِهِ؟ فإن قال: لا. فقد زعم أن مع الله خَالِقًا؛ وهذا قول يُضارع الشرك، بل هو الشرك.
“هذا شرك في الربوبية أم الألوهية أم الأسماء والصفات؟ هذا الشرك في الربوبية؛ لأنه زعم أن هناك خالقًا يخلق غير الله عز وجل. هذا من الشرك في الربوبية. ولهذا يقولون: أول أبواب الشرك هو التكذيب بالقدر. وأول أبواب الزندقة كذلك التكذيب بالقدر. فإذا دخلوا في التكذيب بالقدر، دخلوا في أبواب الشرك وفتحوا على الناس أبواب الشرك”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
٢٠ - ومَن زعم أن السرقة، وشُرب الخمر، وأكل المال الحرام ليس بقضاء وقدر من الله؛ فقد زعم أنَّ هذا الإنسانَ قادرٌ على أن يأكل رِزْقَ غيره. وهذا القول يُضارع قول المجوسية والنصرانية. بل أكل رِزْقَه، وقَضَى الله له أن يأكله من الوجه الذي أكله. ٢١ - ومَن زعم أن قَتْلَ النَّفس ليس بقدرٍ من الله؛ فقد زعم أنَّ المقتول مات بغير أجله، فأَيُّ كُفر بالله أوضح من هذا؟! بل ذلك كُلُّه بقضاءِ من الله وقدر، وكلُّ ذلك بمشيئته في خلقه، وتدبيره فيهم، وما جرى في سابق عِلمه لهم، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يُريدُ. ٢٢ - ومن أقرَّ بالعلم؛ لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الصغَرِ والقَمَاءَةِ، واللهُ الضَّارُّ النَّافِعُ المُضِلُّ الهادي، فتبارك الله أحسن الخالقين.
“ولهذا يقول السلف: جادلوهم بماذا؟ جادلوهم بالعلم. إذا رأيت الرجل يجادل في القدر، فجادلوه بالعلم. يعلم أو لا يعلم؟ فإن أقر بالعلم فقد خُصِم. وإن نفى العلم فقد كفر وخرج من الدين”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
القدرية مجوس هذه الأمة
رُوي في كثير من الآثار تسمية القدرية: (مجوس هذه الأمة)؛ وذلك لأن المجوس يُثبتون،خالقين خالقًا للخير، وخالقا للشر، وكذلك القدرية أثبتوا أن الله خلقهم، وأنهم هم خلقوا أفعالهم.
ص ١٢١
حكم الشهادة لمعين بجنة أو نار
٢٣ - ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النَّارِ لذنبٍ عَمِلَه، ولكبيرة أتى بها، إلا أن يكون في ذلك حديث، فيُروى الحديث كما جاء على ما رُوي، ويُصدِّقُ به ويقبل، ويعلم أنه كما جاء، ولا يَنصِبُ الشهادة. ٢٤ - ولا يشهد على أحد أنَّه في الجنَّةِ لصلاح عمله، أو لخير أتى به، إلا أن يكون في ذلك حديث، فيُروى الحديث كما جاء على ما روي، يُصدِّقُ به، ويقبلُ، ويَعْلَمُ أنه كما جاء، ولا ينصبُ الشَّهادة.
“ولا يَنصِبُ الشهادة، يعني ولا يقطع بها لأحد. إلا من قطع النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم، أو من أهل النار الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم في النار. وأما غيرهم ولو كثر صلاحه، فلا يجوز أن يقال إن فلانًا من أهل الجنة ولو كان من كان في الصلاح والخير؛ لأن مرجع الأمور هي إلى القلوب، والقلوب لا يعلمها أحد. ليس المرجع والمرد إلى الأعمال الظاهرة، إنما القلوب، والقلوب لا يعلمها إلا الله عز وجل. ولهذا لا نشهد لأحد، حتى لو جعل أو أكثر صلاته وصيامه ومات ساجدًا ومات، هذه كلها يُرجى له ولا يُشهد له؛ لأن القلب لا يُعلم حاله إلا الله عز وجل”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
طاعة الإمام في المعروف فقط
٢٥ - والخلافة في قريش ما بَقِيَ مِن الناس اثنان. ليس لأحدٍ من الناس أن يُنازِعَهُم فيها، ولا يَخرُجَ عليهم، ولا يُقرَّ لغيرهم بها إلى قيام الساعة. ٢٦ - والجهاد ماض قائم مع الأئِمَّةِ، بَرُّوا أَو فَجَرُوا، ولا يُبْطِلُه جَورُ جائر، ولا عدل عادل. ۲۷ - والجمعة، والعيدان، والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بَرَرَةً عدولًا، ولا أتقياء. ۲۸ - ودفع الخراج، والصدقات، والأعشار، والفَيْء، والغنيمة إلى الأمراء، عدلوا فيها أم جاروا. ۲۹ - والانقياد لمن ولاهُ اللهُ أَمَرَكَ، لَا تَنزِعُ يَدَكَ مِن طاعة، ولا تَخْرُجْ عليه بسيفك حتَّى يَجْعَلَ اللهُ لكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. ٣٠- وأنْ لا تَخْرُجَ على السُّلطان، وتسمع وتُطيع، ولا تَنكُتْ بيعةً؛ فمن فعل ذلك فهو مُبتدع مُخَارِقٌ مُفارِقٌ للجماعة. ٣١ - وإن أمرك السُّلطان بأمر هو لله معصيةٌ؛ فليس لك أن تُطيعهُ البتة، وليس لك أن تَخرُجَ عليه، ولا تَمَنَعْهُ حَقَّهُ.
قال سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ: قال لي أمير المؤمنين عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: «لَا أَدْرِي لَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ بَعْدِي فَأَطِعِ الْإِمَامَ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ [أي: مقطوع الأنف والأذن والشفة]، وَإِنْ ظَلَمَكَ فَاصْبِرْ، وَإِنْ حَرَمَكَ فَاصْبِرْ، وَإِنْ دَعَاكَ إِلَى أَمْرٍ يَنْقُصُكَ فِي دُنْيَاكَ فَقُلْ: سَمْعًا وَطَاعَةً، دَمِي دُونَ دِينِي»
قال الإمام الآجري رحمه الله في «الشريعة» مُعلِّقًا عليه: “يَحْتَمِلُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ نَقُولَ: مَنْ أُمِّرَ عَلَيْكَ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ عَجَمِيٍّ فَأَطِعْهُ فِيمَا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ حَرَمَكَ حَقًّا لَكَ، أَوْ ضَرَبَكَ ظُلْمًا لَكَ، أَوِ انْتَهَكَ عِرْضَكَ، أَوْ أَخَذَ مَالَكَ، فَلَا يَحْمِلُكَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ تَخْرُجَ عَلَيْهِ بِسَيْفِكَ حَتَّى تُقَاتِلَهُ، وَلَا تَخْرُجْ مَعَ خَارِجِيٍّ يُقَاتِلُهُ، وَلَا تُحَرِّضْ غَيْرَكَ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَلَكِنِ اصْبِرْ عَلَيْهِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَدْعُوَكَ إِلَى مَنْقَصَةٍ فِي دِينِكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَأْمُرَكَ بِقَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ، أَوْ بِقَطْعِ عُضْوِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ، أَوْ بِضَرْبِ مَنْ لَا يَحِلُّ ضَرْبُهُ، أَوْ بِأَخْذِ مَالِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ، أَوْ بِظُلْمِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لَكَ ظُلْمُهُ، فَلَا يَسَعُكَ أَنْ تُطِيعَهُ، فَإِنْ قَالَ لَكَ: لَئِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَإِلَّا قَتَلْتُكَ أَوْ ضَرَبْتُكَ، فَقُلْ: دَمِي دُونَ دِينِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ عز وجل» وَلِقَوْلِهِ ﷺ «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»“.
ص ١٢٤
فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها
٣٢- والإمساك في الفتنة سُنَّةٌ ماضِيةٌ، وَاجِبٌ لزُومُها. فإن ابتليت: فقدم نفسك ومالك دون دينك. ولا تُعن على الفتنة بيد ولا لسان؛ ولكن اكفف يدك، ولسانك، وهواك، والله المُفتن.
عقد الآجري رحمه الله في «الشريعة» (10 / بَابُ فَضْلِ الْقُعُودِ فِي الْفِتْنَةِ عَنِ الْخَوْضِ فِيهَا وَتَخَوُّفِ الْعُقَلَاءِ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنْ تَهْوَى مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلُزُومِ الْبُيُوتِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى) وقال: “فَإِنَّ الْفِتَنَ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ مَضَى مِنْهَا فِتَنٌ عَظِيمَةٌ، نَجَا مِنْهَا أَقْوَامٌ، وَهَلَكَ فِيهَا أَقْوَامٌ بِاتِّبَاعِهِمُ الْهَوَى، وَإِيَثَارِهِمْ لِلدُّنْيَا، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا فَتْحَ لَهُ بَابَ الدُّعَاءِ، وَالْتَجَأَ إِلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ، وَخَافَ عَلَى دِينِهِ، وَحَفِظَ لِسَانَهُ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ، وَلَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْوَاضِحَةَ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ، وَلَمْ يَتَلَوَّنْ فِي دِينِهِ، وَعَبَدَ رَبَّهُ تَعَالَى، فَتَرَكَ الْخَوْضَ فِي الْفِتْنَةِ، فَإِنَّ الْفِتْنَةَ يَفْتَضِحُ عِنْدَهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ مُحَذِّرٌ أُمَّتَهُ الْفِتَنَ؟ قَالَ: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَافِرًا»”
ص ١٢٥
سبب نفي الإيمان عن شارب الخمر
٣٣- والكفُّ عن أهل القبلة؛ ولا تُكفِّر أحداً منهم بذنب، ولا تُخرجه من الإسلام بعمل؛ إلا أن يكون في ذلك حديث، فيُروى الحديث كما جاء، وكما رُوي، وتُصدِّقُ به، وتقبله، وتعلَّم أنه كما رُوي، نحو: تَركِ الصَّلاةِ، وشُرب الخمر، وما أشبه ذلك، أو يَبتَدِعُ بِدعةً يُنسَبُ صَاحِبُها إلى الكفر والخروج من الإسلام، واتَّبع الأثر في ذلك، ولا تُجاوزه.
جاءت أحاديث وآثار كثيرة في نفي الإيمان عن شارب الخمر، وتشبيهه بعابد اللات والعزى، وأن مَن شربها فمات ماتَ مُشركًا كافرًا. وقد خرَّجتها في كتاب «الإيمان» للإمام أحمد رحمه الله.
وكثير من أهل العلم يُرجع مسألةَ شارب الخمر إلى مسألة تارك الصلاة؛ لأن من شرب الخمر فإنه سيترك الصَّلاة ومَن ترك الصَّلاة فقد كفر.
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «لَأَنْ أَزْنِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَشْرَبَ الْخَمْرَ، إِنِّي إِذَا شَرِبْتُ الْخَمْرَ تَرَكْتُ الصَّلَاةَ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَلَا دِينَ لَهُ». [الإيمان لأحمد (233)].
وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مُمْسِيًا أَصْبَحَ مُشْرِكًا وَمَنْ شَرِبَهُ مُصْبِحًا أَمْسَى مُشْرِكًا فَقِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ”. [«مجموع الفتاوى» (303/7)].
وقال مسروق رحمه لله: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَقَدْ كَفَرَ وَكُفْرُهُ أَنْ لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ». [سنن النسائي» (5665)].
وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَخْنَسُ: «مَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ الْإِيمَانِ». [مجموع الفتاوى (303/7)].
قلت: فَشُرب الخمر يلزمُ منه ترك الصلاة وهو الكفر، ولهذا جمع حرب رحمه الله بينهما هاهنا ،لا أنه يرى ترك الصلاة كبيرة وليس بكفر كشرب الخمر.
ص ١٢٥ - ١٢٦
المُراد بالحدِّ لله تعالى
المُراد بالحدِّ لله تعالى: علوّ الله تعالى على عرشه، وبينونته من خلقه.
قال أبو القاسم التيمي الأصبهاني رحمه الله: «حَدَّ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعُ بَيْنُونَتِه عَنْ غَيْرِهِ، فكل موجود له حد ينتهي إليه، ويُميزه عن غيره في صفته وقدره».
وسبب تصريح أئمَّة السُّنة (بالحد) لله تعالى: أن الجهمية ينفون علوّ الله تعالى على خلقه ويقولون إن الله تعالى لا يُباين خلقه، وليس بينه وبينهم حَدٌ، ولا يتميز عنهم، فردّوا عليهم بأنَّ الرَّبَّ سبحانه على عرشه، مُباين لخلقِهِ، مُنفَصِلٌ عنهم بحد، وذكروا لفظ: (البينونة والحد) من باب زيادة البيان والإيضاح.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (52): “فَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ لَيْسَ للهِ حَدٌّ فَقَدْ رَدَّ القُرْآنَ، وَادَّعَى أَنَّهُ لَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الله حَدَّ مَكَانَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)﴾ [طه: ٥]، ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ [الملك: ١٦]، ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل:٥٠]، و﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ [آل عمران:٥٥] ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ [فاطر: ١٠]، فَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ وَدَلَائِلُ على الحَدِّ.”
انظر: كتاب إثبات الحد لله للدشتي رحمه الله.
ص ١٣١
“وكلما لبس الجهمية في عقائد المسلمين، احتاج أهل السنة إلى بيان وتفصيل. فذكروا الحد، وذكروا البينونة، وذكروا الحركة، وذكروا أشياء كثيرة وألفاظًا كثيرة اضطروا لبيانها والإفصاح عنها والتلفظ بها. فإذا سكتوا، رجع أهل السنة إلى ما جاءت به الأخبار، ولا احتاجوا إلى هذه الألفاظ”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
إثبات الحركة لله تعالى
إثبات الحركة لله تعالى من لوازم المجيء والنزول، وقد أثبتها طوائف من أهل السنة والحديث، ولم يرد نفيها وإنكارها إلا عن الجهمية المُعطلة.- قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (فقرة / 47): “وَأَمَّا دَعْوَاكَ: أَنَّ تَفْسِيرَ «القَيُّومِ» الَّذِي لَا يَزُولُ مِنْ مَكَانِهِ وَلَا يَتَحَرَّكُ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ هَذَا التَّفْسِيرُ إِلَّا بِأَثَرٍ صَحِيحٍ، مَأْثُورٍ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ، أَوْ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَوِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ الحَيَّ القَيُّومَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَتَحَرَّكُ إِذَا شَاءَ، ويَهْبِطُ ويَرْتَفِعُ إِذا شَاءَ، ويَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَيَقُومُ وَيَجْلِسُ إِذَا شَاءَ؛ لِأَنَّ أَمَارَةُ مَا بَيْنَ الحَيِّ وَالمَيِّتِ التَّحَرُّكَ. كُلُّ حَيٍّ مُتَحَرِّكٌ لَا مَحَالَةَ، وَكُلُّ مَيِّتٍ غَيْرُ مُتَحَرِّكٍ لَا مَحَالَةَ”.
وقال ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض (7/2) بعد أن ذكر كلام الدارمي وحرب رحمهما الله: “صرح هؤلاء بلفظ الحركة، وأن ذلك هو مذهب أئمة السنة والحديث من المتقدمين والمتأخرين، وذكر حرب الكرماني أنه قول من لقيه من أئمة السنة كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد ين منصور. وقال عثمان بن سعيد وغيره: إن الحركة من لوازم الحياة، فكل حي متحرك، وجعلوا نفي هذا من أقوال الجهمية نفاة الصفات، الذين اتفق السلف والأئمة على تضليلهم وتبديعهم.”.
ص ١٣١ - ١٣٢
القرآن كلام الله غير مخلوق والرد على الجهمية والواقفة واللفظية
٦٦ - والقرآن كلام الله تكلم به، ليس بمخلوق، فمن زعم أن القرآن مخلوق: فهو جهمي كافر.
٦٧ - ومن زعم: أن القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل: (ليس بمخلوق)؛ فهو أكفر من الأوَّلِ، وأخبث قولًا.
“لماذا أكفر؟ لأنه زاد على الكفر ماذا؟ التلبيس والتشكيك. فسكت وهو يضمر القول بخلق القرآن. وهناك من سكت من أهل السنة، فمسألة الوقف في القرآن، اختلفت أحكامهم لما اختلف الواقفون في القرآن؛ فمنهم من يقف شكًا، ومنهم من يقف تلبيسًا، ومنهم من يقف لا يعرف المسألة، فهذا مبحث دقيق في أحكام أهل السنة في من وقف في القرآن من باب الشك ومن باب ما يزعمون من باب الورع في السكوت عما لم يتكلم به الصحابه، ومن باب التلبيس تجمع فيه نصوص أهل السنة وتُقسم أقوال أهل الواقفة”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
الرؤيا الصادقة من الله
قال ابن عبد البر في التمهيد (1/ 285): ” وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّهَا مِنَ النُّبُوَّةِ وَأَنَّ التَّصْدِيقَ بِهَا حَقٌّ وَفِيهَا مِنْ بَدِيعِ حِكْمَةِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ مَا يَزِيدُ المؤمن فِي إِيمَانِهِ وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّينِ وَالْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْأَثَرِ خِلَافًا فِيمَا وَصَفْتُ لَكَ وَلَا يُنْكِرُ الرُّؤْيَا إِلَّا أَهْلُ الْإِلْحَادِ وَشِرْذِمَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ”.
ص ١٣٤
“هذه أيضا من المسائل التي انفرد بها حرب رحمه الله عليه، ولعله ظهر في زمانه من أنكر الرؤيا فاضطر رحمه الله عليه لذكر هذه المسائل. ما أعرف أحد ذكرها من أهل السنة في عقيدته إلا حرب الكرماني رحمه الله عليه. والرؤيا من الله عز وجل، أصل المسالة موجود في السنة لكن التفصيل هذا لعله ظهر في زمانه من أنكر الرؤيا ومن طعن فيها فاضطر رحمه الله عليه إلى ايراد هذا النص”.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
إباحة المكاسب والتجارات والصناعات
قال أبو عبد الله محمد بن خفيف (371 هـ): “وَمِمَّا نَعْتَقِدُهُ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ الْمَكَاسِبَ وَالتِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْغِشَّ وَالظُّلْمَ وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِ تِلْكَ الْمَكَاسِبِ فَهُوَ ضَالٌّ مُضِلٌّ مُبْتَدِعٌ؛ إذْ لَيْسَ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ وَالْغِشُّ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالصِّنَاعَاتِ فِي شَيْءٍ إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْفَسَادَ؛ لَا الْكَسْبَ وَالتِّجَارَاتِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ جَائِزٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ مِمَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِأَكْلِ الْحَلَالِ ثُمَّ يُعْدِمُهُمْ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ؛ لِأَنَّ مَا طَالَبَهُمْ بِهِ مَوْجُودٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ وَالْمُعْتَقَدُ أَنَّ الْأَرْضَ تَخْلُو مِنْ الْحَلَالِ وَالنَّاسَ يَتَقَلَّبُونَ فِي الْحَرَامِ؛ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ إلَّا أَنَّهُ يَقِلُّ فِي مَوْضِعٍ وَيَكْثُرُ فِي مَوْضِعٍ؛ لَا أَنَّهُ مَفْقُودٌ مِنْ الْأَرْضِ.” [«الحموية»]
ص ١٣٧
فضل العمل والاحتراف
قال الإمام أحمد رحمه الله: “مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَدَعَ الْعَمَلَ، وَيَقْعُدَ يَنْتَظِرُ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، أَنَا أَخْتَارُ الْعَمَلَ، وَالْعَمَلُ أَحَبُّ إِلَيَّ. ⦗١٦١⦘ إِذَا جَلَسَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَحْتَرِفْ، دَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَأْخُذَ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِذَا أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ أَشْغَلَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ. وَالِاكْتِسَابُ تَرْكُ الطَّمَعِ، قَالَ ﷺ: «لِأَنْ يَحْمِلَ الرَّجُلُ حَبْلًا فَيَحْتَطِبَ ثُمَّ يَبِيعَهُ فِي السُّوقِ، وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْعَمَلَ خَيْرٌ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذَكَرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ [الجمعة: ٩]، فَقَوْلُهُ هَذَا إِذَنْ مِنَ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَأَنَا أَخْتَارُ لِلرَّجُلِ الِاضْطِرَابَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَهُوَ عِنْدِي أَفْضَلُ. قُلْتُ: إِنَّ هَاهُنَا قَوْمًا يَقُولُونَ: نَحْنُ مُتَوَكِّلُونَ، وَلَا نَرَى الْعَمَلَ إِلَّا بِغَيْرِ الظَّلَمَةِ وَالْقُضَاةِ، وَذَلِكَ أَنِّي لَا أَعْرِفُ إِلَّا ظَالِمًا، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: مَا أَحْسَنَ الِاتِّكَالَ عَلَى اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْعُدَ وَلَا يَعْمَلَ شَيْئًا حَتَّى يُطْعِمَهُ هَذَا وَهَذَا، وَنَحْنُ نَخْتَارُ الْعَمَلَ، وَنَطْلُبُ الرِّزْقَ، وَنَسْتَغْنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنِ النَّاسِ بِالْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ”.
انظر: كتاب الحث على التجارة (115) للخلال، والجامع لأخلاق الراوي (142/1) (ذكر ما يجب على طالب الحديث من الاحتراف للعيال) للخطيب البغدادي.
ص ١٣٧ - ١٣٨
مصادر الدين ومن هم علماءه بحق
٨٧ - والدِّينُ إنما هو: كتابُ اللهِ، وآثارٌ، وسُنَنٌ، ورواياتٌ صحاحٌ عن الثقاتِ بالأخبارِ الصحيحةِ القويةِ المعروفةِ المشهورة. يرويها الثقةُ الأولُ المعروفُ، عن الثاني الثقةِ المعروف. يُصدِّقُ بعضُهم بعضًا، حتَّى ينتهي ذلك إلى النبي، أو أصحاب النبي، أو التابعين، أو تابع التابعين، أو من بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم، المتمسكين بالسُّنَّةِ، والمتعلقين بالأثر، الذين لا يُعرفون ببدعة، ولا يُطعنُ عليهم بكذب، ولا يُرمون بخلاف. وليسوا أصحاب قياس، ولا رأي؛ لأن القياس في الدِّينِ باطل، والرأي كذلك، وأبطل منه.
هذه فائدة عظيمة جداً في معرفة ما هو الدين ومعرفة من هم علماء الدين. إذا سألت: ما هو الدين؟ الكتاب وآثار وسنن وروايات. ومن هم علماء الدين الذين يقال لهم عالم ويقال لهم إمام يُتَّبع؟ الأئمة المعروفين، المقتدى بهم، المتمسكين بالسنن، المتعلقين بالأثر، لا يعرفون ببدعة، ولا يُطعن عليهم بكذب ولا يُرمَون بخلاف. فهؤلاء، فهذا الدين وهؤلاء أئمة الدين.
هذا ضابط مهم جداً ينبغي للإنسان أن يحفظ هذا وينظر هل هذا الذي يقال له إمام وعالم هل ينطبق فيه هذا الشيء أو لا ينطبق فيه هذا الشيء؟ هذا حرب رحمه الله ينقل إجماع العلماء على هذا على ضابط هذا الدين وعلى ضابط العالم الذي يسمى عالم. وقال الله سبحانه وتعالى: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}. فكيف يكون أئمة يهدون بأمرنا وهم لا يعرفون ربهم عز وجل وينكرون صفاته وينكرون علوه أو يقول بالخروج على الأئمة أو ينفي العمل من الإيمان ومع ذلك يصبح إماماً للمسلمين؟ الله المستعان.
تعليق الشيخ في مجلس السنة الواضحة.
القياس يكون عند الضرورات
(القياس): حمل فرع على أصل في بعض أحكامه، لمعنى يجمع بينهما. والقياس إنما هو عند الضرورات كما قال الإمام الشافعي رحمه الله. “الأَصْلُ قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ، فَقِيَاسٌ عَلَيْهِمَا. وَإِذَا اتَّصَلَ الْحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَصَحَّ الإِسْنَادُ بِهِ، فَهُوَ سُنَّةٌ.”
وقال: “لَا يَقِيسُ إِلَّا مَنْ جَمَعَ آلَاتِ الْقِيَاسِ وَهَى الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَرْضِهِ وَأَدَبِهِ وَنَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ وَعَامِّهِ وَخَاصِّهِ وإِرْشَادِهِ وَنَدْبِهِ”. [«آداب الشافعي (ص) (177)، وجامع بيان العلم» (76/2)].
فالقياس منه ما هو صحيح وهو الموافق للنصوص، ومنه ما هو فاسد، وهو القياس الذي يُعارض النصّ. [مجموع الفتاوى» (299/6)].
قال الإمام الشعبي رحمه الله: «إِيَّاكُمْ وَالْمُقَايَسَةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَئِنْ أَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ لَتُحِلُّنَّ الْحَرَامَ وَلَتُحَرِّمُنَّ الْحَلَالَ، وَلَكِنْ مَا بَلَغَكُمْ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَاعْلَمُوا بِهِ» [ «الفقيه والمتفقه» (494)]
وقال الإمام أحمد الله: ” إذا كان الخبر عن رسول اللَّه ﷺ صحيحًا ونقله الثقات، فهو سنة، ويجب العمل به على من عقله وبلغه، ولا يلتفت إلى غيره من رأي ولا قياس.” [الجامع لعلوم الإمام أحمد» (91/5)].
ص ١٣٨ - ١٣٩
من زعم إبطال التقليد فهو فاسق
ومَن زعَمَ أنّه لا يرى التقليد، ولا يُقلِّدُ دِينَهُ أحدا؛ فهو قولُ فاسِقٍ مُبتدع، عدو لله ولرسوله الله، ولدينه، ولكتابه، ولسُنَّةِ نَبِيِّهِ عليه [الصَّلاة و] السَّلام.إنَّما يُريدُ بذلك إبطال الأثر، وتعطيل العلم، وإطفاء السُّنَّةِ،والتَّفرُّدَ بالرَّأيِ، والكلام، والبدعة، والخلافِ.فعلى قائل هذا القولِ لعنة الله والملائكة، والنَّاس أجمعين.
ص ١٣٩ المُراد بالتقليدِ عند المُتقدِّمين من أئمة السُّنة: هو اتباع السنن وآثار الصحابة والالي ومن اقتفى آثارهم فهذا هو التقليد المحمود، وأما التقليد، المذموم عند المُتأخرين: فهو تقليد من لا يُحتج بقوله بغير حُجَّةٍ، ولا دليل، ولا أثر.
قال الأوزاعي رحمه الله: “عليك بالاقتداء والتقليد” [«ذم الكلام» (997)].
وقال البربهاري رحمه الله في شرح السنة» (144): “فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر، وأصحاب الأثر، والتقليد؛ فإن الدين إنما هو بالتقليد [يعني للنبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم]، ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح، ولا تجاوز الأثر، وأهل الأثر”.
وقال الدارمي رحمه الله في «النقض» (291): “غَيْرَ أنَّا نَقُولُ: إِنَّ عَلَى العَالِمِ بِاخْتِلَافِ العُلَمَاءِ، أَنْ يَجْتَهِدَ وَيَفْحَصَ عَنْ أَصْلِ المَسْأَلَةِ، حَتَّى يَعْقِلَهَا بِجَهْدِهِ مَا أَطَاقَ، فَإِذَا أَعْيَاهُ أَنْ يَعْقِلَهَا مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَرَأْيُ مَنْ قَبْلَهَ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ رَأْيِ نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «أَلَا لَا يُقَلِّدَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنْ كُنْتُم لَابُدَّ فَاعِلِينَ، فَالأَمْوَاتَ، فَإِنَّ الحَيَّ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الفِتْنَةُ»“.
ص ١٤٠ - ١٤١
تواتر ذم السلف لأبي حنيفة إمام أهل الرأي
أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام أهل الرأي، توفي سنة (150 هـ). أنكر عليه أئمة السنة الكبار كأيوب، والحمادين وأبي عوانة، والأوزاعي والفزاري وابن المُبارك، والثوري، ووكيع وابن عيينة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري وغيرهم من أئمة الإسلام ممَّن يطول ذكرهم هاهنا.
ومما أنكروا عليه: الإرجاء، والأخذ بالرأي وترك السنن، والخروج، وأمور تقف عليها في كتاب السُّنة لعبد الله بن أحمد (ما حفظتُ عن أبي رحمه الله وغيره من المشايخ رحمهم في أبي حنيفة).
قال ابن تيمية رحمه الله في الرد على السبكي (837/2): “وأكثر أهل الحديث طعنوا في أبي حنيفة ﵁ وأصحابه طعنًا مشهورًا امتلأت به الكتب، وبلغ الأمر بهم إلى أنهم لم يرووا عنهم في كتب الحديث شيئًا، فلا ذِكْرَ لهم في الصحيحين والسنن”.
وقال المُعلمي رحمه الله في «التنكيل» (391/1): “وكلام أئمة السنة في ذلك العصر في قول أبي حنيفة متواتر حق التواتر”.
ص ١٤٠
ضوابط معرفة الأئمة الذين يُقتدى بهم
فهذه الأقاويل التي وصفتُ: مذاهِبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعة والأثر، وأصحابِ الرّوايات وحملة العلم، الذين أدركناهم، وأخذنا عنهم الحديث، وتَعلَّمنا منهم السُّنَنَ؛ وكانوا أئمةٌ معروفين، ثقاتًا أهل صدق وأمانة، يُقتدى بهم، ويُؤخذُ عنهم. ولم يكونوا أصحاب بدع، ولا خلاف، ولا تخليط. هذه ضوابط معرفة الأئمة الذين يُقتدى بهم، ويُؤخذ عنهم العلم، وليس ضابط معرفة العلماء: كثرة الكتب، والتأليف، وجمع الروايات والأسانيد والإجازات كما يظنُّه بعضهم كما قال البربهاري رحمه الله في «شرح السُّنة» (98): “واعلم – رحمك الله - أن العلم ليس بكثرة الرواية [والكتب]، إنما العالم من اتبع العلم والسنن، وإن كان قليل العلم [والكتب] ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة، وإن كان كثير العلم [والكتب]”
وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: “لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ لِمَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَاسْتَعْمَلَهُ وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ.”.
وقال قوام السنة رحمه الله: قال أهل السُّنة “لَيْسَ الْعلم بِكَثْرَة الرِّوَايَة، وَإِنَّمَا هُوَ الإتباع، والاستعمال. يَقْتَدِي بالصحابة، وَالتَّابِعِينَ وَإِن كَانَ قَلِيل الْعلم، وَمن خَالف الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ ضال، وَإِن كَانَ كثير الْعلم.”.
وقال إبراهيم الحربي رحمه الله فِي قَوْلِهِ: «لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا أَتَاهُمُ الْعِلْمُ مِنْ قِبَلِ كُبَرَائِهِمْ» مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّغِيرَ إِذَا أَخَذَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ إِنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَرَكَ السُّنَنَ فَهُوَ صَغِيرٌ “.
انظر اللالكائي (109)، والحُجَّة في بيان المحجة (504/2)، وسير السلف الصالحين (3/ 1325) كلاهما لقوام السنة.
ص ١٤١ - ١٤٢
الخلاف بين أهل السنة والأثر وبين مُرجئة الفقهاء حقيقي وليس لفظي
(المُرجِئةُ): وهم الذين يزعمون: أنَّ الإيمان قولبلا عمل. وأنَّ الإيمان هو القولُ، والأعمال شرائع. وأنَّ الإيمانَ مُجرَّدٌ، وأنَّ النَّاسَ لا يتفاضلون في الإيمان.
وأنَّ إيمانَهُم وإيمان الملائكة والأنبياء واحِدٌ. وأنَّ الإيمان لا يزيد ولا ينقُصُ. وأنَّ الإيمان ليس فيه استثناء. وأَنَّ مَنْ آمَنَ بلسانه، ولم يعمل فهو مؤمن حقا. وأنَّهم مُؤمنون عندَ اللهِ بلا استثناء. هذا كله قولُ المُرجئة وهو أخبتُ الأقاويل وأضلَّهُ، وأبعده مِن الهُدى فكيف يكون النزاع والخلاف بين أهل السنة والأثر وبين مُرجئة الفقهاء المخالفات كلها لفظيا صوريًّا؟!
ولَمَّا كان الخلاف بينهما حقيقيًّا عقديًا اشتدّ إنكار أئمة السنة عليهم، وهجروهم، وحذروا منهم، وصنفوا الكتب في الرد عليهم، وكشف أباطيلهم، حتى حكى ابن تيمية رحمه الله إجماع السلف على تبديعهم وهجرهم، فقال في مجموع الفتاوى (621/7): “وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْإِرْجَاءِ الَّتِي أَعْظَمَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ الْكَلَامَ فِي أَهْلِهَا وَقَالُوا فِيهَا مِنْ الْمَقَالَاتِ الْغَلِيظَةِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ”.
وقال أيضًا (507/7): “ثُمَّ إنَّ السَّلَفَ وَالْأئِمَّةَ اشْتَدَّ إنْكَارُهُم عَلَى هَؤُلَاءِ وَتَبْدِيعُهُم وَتَغْلِيظُ الْقَوْلِ فِيهِمْ”.
وقد نقل الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة رحمهما الله في اعتقادهما الإجماع على أن المُرجئة مبتدعة ضلال.
وقد تعقب الشيخ ابن باز الله في تعليقه على «شرح الطحاوية» من ادعى أن الخلاف بين المرجئة وأهل السنة لفظي، وبيَّن بطلانه، فقال: (وإخراج العمل من الإيمان هو قول المرجئة وليس الخلاف بينهم وبين أهل السنة فيه لفظيًا بل هو لفظي ومعنوي ويترتب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبر كلام أهل السنة وكلام المرجئة).
ص ١٤٢ - ١٤٣
قبح مقالة الجهمية
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (754): “وَإِنِّي لَأَسْتَوْحِشُ أَنْ أَذْكُرَ قَبِيحَ أَفْعَالِهِمْ تَنْزِيهًا مِنِّي لِجَلَالِ اللَّهِ عز وجل وَعَظَمَتِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ رحمه الله: “إِنَّا لَنَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ”.
وقال ابن بطة رحمه الله في «الإبانة الكبرى (2456): “وَصَدَقَ عَبْدُ اللَّهِ فَإِنَّ الَّذِي تُجَادِلُ عَلَيْهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الضُّلَّالُ، وَتَتَفَوَّهُ بِهِ مِنْ قَبِيحِ الْمَقَالِ فِي اللَّهِ عز وجل تَتَحَوَّبُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ عَنِ التَّفَوِّهِ بِهِ”.
قال الإمام البخاري رحمه الله في خلق أفعال العباد (34): «نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت أضل في كفره منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم». وفيه أيضًا (18) قال سعيد بن عامر الضبعي: “الْجَهْمِيَّةُ شَرٌّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ اجْتَمَعَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَأَهْلُ الْأَدْيَانِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ، وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ.”.
ص ١٤٤ - ١٤٥
الرَّافِضة أسوأ أثرًا في الإسلام من أهل الكفر
والرَّافِضة أسوأ أثرًا في الإسلام من أهل الكفر من أهل الحرب
قال الدارمي رحمه الله في الرد على الجهمية (277): “حدَّثَنا الزَّهْرانِي أَبُو الرَّبِيع قال: كَانَ مِنْ هَؤلاءِ الجهمية رَجَلٌ وَكَانَ الذي يَظْهَرُ مِنْ رَأْيِهِ التَّرَفُّضُ، وانتِحَالُ حُبِّ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، فَقَال رَجَلٌ ممن يخَالِطُهُ ويَعْرِفُ مَذْهَبَهُ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُم لا تَرْجِعُون إلى دِينِ الإسلامِ ولا تَعْتَقِدُونَهُ، فما الذي سَنَّنَكُم عَلَى التَّرَفُّضِ وانْتِحَالِ حُبِّ عَلِيٍّ؟
قَال: إذًا أَصْدُقُكَ، إِنَّا إِنْ أَظْهَرْنَا رَأْيَنَا الذي نعتقده؛ رُمِينَا بِالكُفْرِ والزندقة، وقد وجدنا أقوامًا ينتحلونَ حُبَّ عَلِيٍّ ويُظهِرونَه، ثم يَقَعُونَ بمن شَاءُوا، ويعتقدون ما شَاءوا، ويقولون ما شاءوا، فَنُسِبُوا بذلك إِلَى التَّرَفضِ والتَّشَيُّعِ، فلم نَر لمذهبنا أمرًا أَلْطَفَ مِنَ انتحَالِ حُبِّ هَذا الرَّجُل، ثم نقولُ ما شِئْنا، ونعتقدُ ما شئنا، ونَقَعُ بمن شِئْنا، فَلأَنْ يُقَالُ لنَا رَافِضَة أو شِيعَة أَحَبُ إِلينَا مِنْ أَن يُقال زَنَادِقة كُفَّار، ومَا عَلِيٌّ عندنا أَحْسَنَ حالًا مِن غَيرِهِ، ممن نَقَعُ بهم. قال أبو سعيد رحمه الله: وصَدَقَ هَذَا الرجُلُ فيما عَبَّر عَنْ نَفسهِ، ولم يُرَاوِغ، وقد استبان ذلك من بعض كُبَرائِهِم وبُصَرائِهم أنهم يستَتِرونَ بالتَّشيُّع يجعلونه تَشْبِيثًا لكلامهم وخَبْطِهِم، وسُلَّمًا وذَرِيعَةً لاصطيادِ الضُّعفاءِ وأَهْلِ الغَفْلَةِ، ثم يَبْذُرُونَ بَيْن ظَهْرَانَي خُطَبِهِم بَذْرَ كُفْرِهِم وزندقَتِهم؛ لِيكونَ أَنجعُ في قُلوبِ الجُهَّالِ، وَأَبْلغُ فيهم، ولَئِنْ كَانَ أَهلُ الجهل في شَكٍّ مِنْ أَمرِهِم، إنَّ أهلَ العِلْمِ مِنْهُم لَعَلى يَقِين، ولا حَوْلَ ولا قَوَّةَ إلا بِاللهِ.”
ص ١٤٥ - ١٤٦
ليس كل الخوارج كفارًا
وهؤلاء الخوارج الذين أدركهم المُصنِّف رحمه الله وحكم عليهم بهذه الأحكام المُغلَّظة، والتي ظاهرها تكفيرهم، وإخراجهم عن الملة؛ ليس لمُجرَّد كونهم خوارج مُرَّاقًا، بل لما اجتمعت فيهم هذه العقائد والمذاهب الفاسدة من الجهمية والقدرية، والرَّفض، وإنكارهم ما تواترت به الأحاديث من العقائد الصحيحة.
وأما الخوارج الذين خرجوا زمن الصحابة رضي الله عنهم وقاتلوهم فلم يكونوا كذلك، ولهذا لم يُعاملهم علي الله ومن معه من الصحابة واللي معاملة الكُفَّار. وكذلك من كان على مذهبهم في الخروج فإن أئمة السنة لم يُصرحوا بكُفرهم، ولا بخروجهم عن الملة.
وقد سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن الخوارج أكفار هم؟ فقال: هُمْ مَارِقَةٌ، قِيلَ: أَكُفَّارٌ هُمْ؟ قَالَ: «هُمْ مَارِقَةٌ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ» وقال في جواب آخر: «اعْفُنِي مِنْ هَذَا، وَقُلْ كَمَا جَاءَ فِيهِمُ الْحَدِيثُ». انظر: [«السنة» للخلال (11) في توقف أبي عبد الله في المارقة)].
ص ١٤٩
جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأفضل العرب قريش، وأفضل قريش بني هاشم
قال ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط (379/1): “فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة: اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، عبرانيهم وسريانيهم روميهم وفرسيهم وغيرهم. وأن قريشا أفضل العرب، وأن بني هاشم: أفضل قريش، وأن رسول الله ﷺ أفضل بني هاشم. فهو: أفضل الخلق نفسا، وأفضلهم نسبا. وليس فضل العرب، ثم قريش، ثم بني هاشم، لمجرد كون النبي ﷺ منهم، وإن كان هذا من الفضل، بل هم في أنفسهم أفضل، وبذلك يثبت لرسول الله ﷺ: أنه أفضل نفسا ونسبا”.
ص ١٥٠
بدعة الولاية والبراءة
والولاية بدعة، والبراءة بدعة.وهُم الذين يقولون: نَتولَّى فُلاناً، ونَتبرَّأُ مِن فُلانٍ. وهذا القولُ بدعة فاحذَرُوهُ قال الإمام أحمد رحمه الله: «الْبَرَاءَةُ أَنْ تَتَبَرَّأَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَالْوَلَايَةُ أَنْ تَتَوَلَّى بَعْضًا وَتَتْرُكَ بَعْضًا، وَالشَّهَادَةُ أَنْ تَشْهَدَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ فِي النَّارِ».
ص ١٥١
الجهمية هم المشبهة على الحقيقة
وقال الدارمي له في النقض على المريسي الجهمي» (89): “وَكَيْفَ اسْتَجَزْتَ أَنْ تُسَمِّيَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَأَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِصِفَاتِ اللَّهِ الْمُقَدَّسَةِ: مُشَبِّهَةً، إِذْ وَصَفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَوْجُودَةٌ فِي صِفَاتِ بني آدم تَكْيِيفٍ، وَأَنْتَ قَدْ شَبَّهْتَ إِلَهَكَ فِي يَدَيْهِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِأَعْمَى وَأَقْطَعَ، وَتَوَهَّمْتَ فِي مَعْبُودِكَ مَا تَوَهَّمْتَ فِي الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعِ فَمَعْبُودُكَ مجدع٤ مَنْقُوص، أَعْمَى لَا بَصَرَ لَهُ، وَأَبْكَمُ لَا كَلَامَ لَهُ، وَأَصَمُّ لَا سَمْعَ لَهُ، وَأَجْذَمُ لَا يَدَانِ لَهُ، وَمُقْعَدٌ لَا حِرَاكَ بِهِ، وَلَيْسَ هَذَا بِصِفَةِ إِلَهِ الْمُصَلِّينَ؟ فَأَنْتَ أَوْحَشُ مَذْهَبًا فِي تَشْبِيهِكَ إِلَهَكَ بِهَؤُلَاءِ الْعِمْيَانِ وَالْمَقْطُوعِينَ، أَمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّيْتَهُمْ مُشَبِّهَةً أَنْ وَصَفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ بِلَا تَشْبِيهٍ؟ فلولا أَنَّهَا كَلِمَةٌ هِيَ مِحْنَةُ الْجَهْمِيَّةِ الَّتِي بِهَا يَنْبِزُونَ الْمُؤْمِنِينَ مَا سَمَّيْنَا مُشَبِّهًا غَيْرَكَ لِسَمَاجَةِ مَا شَبَّهْتَ وَمَثَّلْتَ.”.
ص ١٥٢
١٠- اعتقاد ابن أبي داود عبد الله بن سليمان بن الأشعث (316 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
وكان يقال: أئمة ثلاثة في زمان واحد ابن أبي داود ببغداد، وابن خزيمة بنيسابور، وابن أبي حاتم بالري.
وقال صالح بن أحمد الهمذاني الحافظ كان ابن أبي داود إمام: العراق، ونصب له السلطان المنبر، وكان في وقته ببغداد مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الآلة والإتقان ما بلغ.
ص ١٥٧
الاعتصام بحبل الله هو التمسك بالجماعة
قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103]، قال ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة (134/5): «وَقَدْ فَسَّرَ حَبْلَهُ بِكِتَابِهِ، وَبِدِينِهِ، وَبِالْإِسْلَامِ، وَبِالْإِخْلَاصِ، وَبِأَمْرِهِ، وَبِعَهْدِهِ، وَبِطَاعَتِهِ، وَبِالْجَمَاعَةِ. وَهَذِهِ كُلُّهَا مَنْقُولَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَكُلُّهَا صَحِيحَةٌ; فَإِنَّ الْقُرْآنَ يَأْمُرُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ هُوَ عَهْدُهُ وَأَمْرُهُ وَطَاعَتُهُ، وَالِاعْتِصَامُ بِهِ جَمِيعًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ، وَدِينُ الْإِسْلَامِ حَقِيقَتُهُ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ».
قال الزهري رحمه الله: “الاعتصام بالسُّنةِ نَجاة”.
ص ١٥٨
منكر رؤية الله في الآخرة كافر
قال الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، وَبَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، فَغَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ: ” مَنْ قَالَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ كَفَرَ، عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ، مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ، أَلَيْسَ اللَّهُ عز وجل قَالَ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى. [«الشريعة» (672)]
وروى ابن أبي داود عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “الناس ينظرون إلى الله يوم القيامة بأعينهم. قال أبو بكر بن أبي داود من لم يؤمن بهذا فهو كافر”. [الصفات لابن المُحبّ (850)].
ص ١٥٩
أهل السنة يؤمنون بصفة النزول حقيقة كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته
أحاديث نزول ربنا إلى السماء الدنيا رواها البخاري ومسلم. وأهل السنة يؤمنون بهذا النزول حقيقة كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يؤولون نزوله بنزول أمره أو رحمته كتأويل الجهمية والأشعرية المُعطلة.- قال ابن بطة الله في «الإبانة الكبرى» (2766): “فَإِذَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَى الْجَهْمِيِّ وَعَلِمَ صِحَّةَ هَذِهَ الْأَحَادِيثِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى جَحْدِهَا، قَالَ: الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» يَنْزِلُ أَمْرُهُ، قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «يَنْزِلُ اللَّهُ عز وجل»، «وَيَنْزِلُ رَبُّنَا» وَلَوْ أَرَادَ أَمْرَهُ لَقَالَ: يَنْزِلُ أَمْرُ رَبِّنَا. فَيَقُولُ: إِنْ قُلْنَا: يَنْزِلُ، فَقَدْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَزُولُ وَاللَّهُ لَا يَزُولُ وَلَوْ كَانَ يَنْزِلُ لَزَالَ؛ لَأَنَّ كُلَّ نَازِلٍ زَائِلٌ، ⦗٢٤٠⦘ فَقُلْنَا: أَوَ لَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ تَنْفُونَ التَّشْبِيهَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ فَقَدْ صِرْتُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ إِلَى أَقْبَحِ التَّشْبِيهِ، وَأَشَدِّ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّكُمْ إِنْ جَحَدْتُمُ الْآثَارَ، وَكَذَبْتُمْ بِالْحَدِيثِ، رَدَدْتُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَوْلَهُ، وَكَذَّبْتُمْ خَبَرَهُ، وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يَنْزِلُ إِلَّا بِزَوَالٍ، فَقَدْ شَبَّهْتُمُوهُ بِخَلْقِهِ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ إِلَّا بِزَوَالِهِ عَلَى وَصْفِ الْمَخْلُوقِ الَّذِي إِذَا كَانَ بِمَكَانٍ خَلَا مِنْهُ مَكَانٌ لَكِنَّا نُصَدِّقُ نَبِيَّنَا ﷺ وَنَقْبَلُ مَا جَاءَ بِهِ فَإِنَّا بِذَلِكَ أُمِرْنَا وَإِلَيْهِ نُدِبْنَا، فَنَقُولُ كَمَا قَالَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا عز وجل» وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ يَزُولُ بَلْ يَنْزِلُ كَيْفَ شَاءَ، لَا نَصِفُ نُزُولَهُ، وَلَا نُحِدُّهُ وَلَا نَقُولُ: إِنَّ نُزُولَهُ زَوَالُهُ”.
ص ١٥٩
علامة من أراد الله به خيرًا سلوك طريق السنة والأثر
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (25): “عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَسُنَنُ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ، وَسَنُبَيِّنُ مَا يَرْضَوْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى”.
ص ١٦١
التحذير من مذاهب الخوارج
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (72): “قَدْ ذَكَرْتُ مِنَ التَّحْذِيرِ مِنْ مَذَاهِبِ الْخَوَارِجِ مَا فِيهِ بَلَاغٌ لِمَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، عَنْ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ، وَلَمْ يَرَ رَأْيَهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى جَوْرِ الْأَئِمَّةِ، وَحَيْفِ الْأُمَرَاءِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَلَيْهِمْ بِسَيْفِهِ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى كَشْفَ الظُّلْمِ عَنْهُ، وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَدَعَا لِلْوُلَاةِ بِالصَّلَاحِ، وَحَجَّ مَعَهُمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ كُلَّ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى مَعَهُمُ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنْ أَمَرُوهُ بِطَاعَةٍ فَأَمْكَنَهُ أَطَاعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ أَمَرُوهُ بِمَعْصِيَةٍ لَمْ يُطِعْهُمْ، وَإِذَا دَارَتِ الْفِتَنُ بَيْنَهُمْ لَزِمَ بَيْتِهِ وَكَفَّ لِسَانَهُ وَيَدَهُ، وَلَمْ يَهْوَ مَا هُمْ فِيهِ، وَلَمْ يُعِنْ عَلَى فِتْنَةٍ، فَمَنْ كَانَ هَذَا وَصْفَهُ كَانَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ”.
ص ١٦٢
المرجئة أخطر من الخوارج
قال إبراهيم النخعي رحمه الله: «الْخَوَارِجُ أَعْذَرُ عِنْدِي مِنَ الْمُرْجِئَةِ». [السنة لعبد الله بن أحمد (684)].
قلت: ذلك لأن الخوارج يُعظمون العمل والفرائض، ويُشدّدون في ارتكاب المحرمات، بخلاف المُرجئة الذين يتركون العمل ويجعلون مرتكب المُحرَّمات مؤمنا مستكمل الإيمان ولهذا قال إبراهيم رحمه الله: «تَرَكَتِ الْمُرْجِئَةُ الدِّينَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبٍ سَابِرِيٍّ». [«الإيمان لأحمد (199)].و(السَّابري) من الثياب الرقيق الذي لا بِسُه بين العاري والمُكتسي.
وقد أصدرت اللجنة الدائمة للإفتاء فتاوى كثيرة في التحذير من فرقة المرجئة والذين يرون الأعمال شرط كمال فيه، ويرون نجاة من ترك جميع الأعمال، وبينت اللجنة ما في قولهم من المفاسد الكثيرة، ومن ذلك قولهم (21436): “ولزم على ذلك الضلال لوازم باطلة، منها حصر الكفر بكفر التكذيب والاستحلال القلبي، ولا شك أن هذا قول باطل وضلال مبين مخالف للكتاب والسنة وما عليه أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، وأن هذا يفتح بابا لأهل الشر والفساد للانحلال من الدين وعدم التقيد بالأوامر والنواهي والخوف والخشية من الله سبحانه، ويعطل جانب الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسوي بين الصالح والطالح والمطيع والعاصي والمستقيم على دين الله، والفاسق المتحلل من أوامر الدين ونواهيه، ما دام أن أعمالهم هذه لا تخل بالإيمان كما يقولون، ولذلك اهتم أئمة الإسلام قديما وحديثا ببيان بطلان هذا المذهب والرد على أصحابه، وجعلوا لهذه المسألة بابا خاصا في كتب العقائد، بل ألفوا فيها مؤلفات مستقلة كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره”.
ص ١٦٢ - ١٦٣
المراد بأهل الحديث
المراد بأهل الحديث ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (95/4): “وَنَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا … إلخ”. وأهل الحديث هم الذين قال فيهم النبي ﷺ وهو على منبره: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» [رواه مسلم (1037)].
قال محمد بن علي الطائي في الأربعين (ص 175): “نقل عن الجم الغفير والعدد الكثير من علماء الأمة، وأعيان الأئمة، مثل عبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، ويزيد بن هارون، وإبراهيم بن الحسن ديزيل الهمذاني أن المراد بالطائفة المذكورة في الحديث: هم أصحاب الحديث وأهل الآثار الذين نهجوا الدين القويم وسلكوا الصراط المستقيم، فتمسكوا بالسبيل الأقوم، والمنهاج الأرشد فشَيَّدوا أعلامها ونشروا أحكامها ولم يخافوا في الله لومة لائم، وجعلوا المعقول تبعًا للمنقول في الشرائع والأحكام، والحلال والحرام”.
ولا يطعن في أهل الحديث إلَّا أهل البدع والأهواء، كما قال أحمد سنان القطان رحمه الله: «لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مُبْتَدِعٌ إِلَّا وَهُوَ يُبْغِضُ أَهْلَ الْحَدِيثِ، وَإِذَا ابْتَدَعَ الرَّجُلُ نُزِعَ حَلَاوَةُ الْحَدِيثِ مِنْ قَلْبِهِ». [«ذم الكلام» (237)]
وقيل للإمام أحمد الله يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، ذَكَرُوا لِابْنِ أَبِي فَتِيلَةَ بِمَكَّةَ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ، فَقَالَ: أَصْحَابُ الْحَدِيثِ قَوْمُ سُوءٍ، فَقَامَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ، فَقَالَ: «زِنْدِيقٌ، زِنْدِيقٌ، زِنْدِيقٌ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ». [شرف أصحاب الحديث» (ص 74)]
ص ١٦٣ - ١٦٤
١١- اعتقاد ابن أبي زيد القيرواني المالكي (310 - 386 هـ) رحمه الله
ثناء العلماء عليه
شيخ المالكية بالمغرب، جمع مذهب مالك، وشرح أقواله، وكان واسع العلم كثير الحفظ، يُسمَّى: مالكًا الصغير.
ذكره ابن القيم في اجتماع الجيوش (ص 214)، وقال: قول الإمام مالك الصغير. ثم نقل هذه العقيدة وقال بعدها: (فرضي الله عنه، ما كان أصلبه في السُّنَّة، وأقومه بها).
وقال أبو الحسن القابسي: إمام موثوق به في درايته، وروايته.
ص ١٦٧
خير القلوبِ أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه
واعلم أن خير القلوبِ أوعاها للخير، وأرجى القلوب للخير ما لم يَسبقِ الشَّرُّ إليه قال ابْنِ شَوْذَبٍ: «مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الشَّابِّ وَالْأَعْجَمِيِّ إِذَا نَسَكَا أَنْ يُوَفَّقَا لِصَاحِبِ سُنَّةٍ يَحْمِلُهُمَا عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْأَعْجَمِيَّ يَأْخُذُ فِيهِ مَا يَسْبِقُ إِلَيْهِ».
وقال عَمْرَو بْنَ قَيْسٍ الْمُلَائِيَّ، يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتَ الشَّابَّ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَارْجُهُ، وَإِذَا رَأَيْتَهُ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَايْئَسْ مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نُشُوئِهِ». وقال: “إِنَّ الشَّابَّ لَيَنْشَأُ، فَإِنْ آثَرَ أَنْ يُجَالِسَ أَهْلَ الْعِلْمِ كَادَ أَنْ يَسْلَمَ، وَإِنْ مَالَ إِلَى غَيْرِهِمْ كَادَ أَنْ يَعْطَبَ”. [الإبانة الكبرى (47-48)].
ص ١٦٩
عقيدة أئمة المالكية المتقدمين الإجماع على إثبات العلو
وقال ابن أبي زيد رحمه الله في «مختصر المدونة»: “وَأَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عَرْشِهِ بِذَاتِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَمَاوَاتِهِ دُونَ أَرْضِهِ “. [اجتماع الجيوش (ص 224)]
وقال رحمه الله في «جامعه» (10) مقررًا حقيقة هذا العلو وأنه بذاته: (وأنه فوق سمواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل مكان بعلمه).
وهذه العقيدة هي عقيدة الإمام مالك رحمه الله كما نقل ذلك عنه وعن أئمة السنة السجزي رحمه الله في «الإبانة»، فقال: «وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ والْفُضَيْل وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ: مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِذَاتِهِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَأَنَّهُ يُرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْأَبْصَارِ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ يَغْضَبُ وَيَرْضَى وَيَتَكَلَّمُ بِمَا شَاءَ. فَمَنْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ وَهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ» [مجموع الفتاوى (222/3)]
وقال أبو عُمر الطلمنكي المعافري الأندلسي المالكي رحمه الله في كتابه في «الأصول»: (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته). [اجتماع الجيوش (ص 203)].
قلت: فهذه عقيدة أئمة المالكية المتقدمين، فكيف تغيّرت وتبدلت بعقيدة الجهمية المعطلة نفاة علو الله تعالى وصفاته؟!
ص ١٧١
استواء الله تعالى على العرش حقيقة وهو ما تقره فطرة العامة
سَمِعَ الإمام الْقَعْنَبِيِّ رحمه الله رَجُلًا مِنَ الْجَهْمِيَّةِ يَقُولُ: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] اسْتَوْلَى. فَقَالَ الْقَعْنَبِيُّ: «مَنْ لَا يُوقِنُ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى كَمَا تَقَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيٌّ». [اجتماع الجيوش (ص 135)]. وروى عبد الله بن أحمد في السنة (56) نحوه عن يزيد بن هارون رحمه الله.
قال ابن تيمية رحمه الله: “وَالَّذِي تَقَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ هُوَ مَا فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْخَلِيقَةَ مِنْ تَوَجُّهِهَا إِلَى رَبِّهَا تَعَالَى عِنْدَ النَّوَازِلِ وَالشَّدَائِدِ وَالدُّعَاءِ وَالرَّغَبَاتِ إِلَيْهِ تَعَالَى: نَحْوُ الْعُلُوِّ، لَا يُلْتَفَتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً مِنْ غَيْرِ مَوْقِفٍ وَقَفَهُمْ عَلَيْهِ (وَ) لَكِنْ «﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: ٣٠]»، وَمَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَهُوَ يُولَدُ عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى يُجَهِّمَهُ وَيَنْقُلَهُ إِلَى التَّعْطِيلِ مَنْ يُقَيَّضُ لَهُ.”. [«اجتماع الجيوش»] ص ١٧٢
كلام الله تعالى حقيقة بحرف وصوت
وقال ابن أبي زيد أيضًا فيما قرّر من الاعتقاد في كتاب «الجامع»: (وأن الله كلَّمَ موسى بذاته وأسمعه كلامه لا كلاما قام في غيره).
وهو يريد بذلك إثبات حقيقة كلام الله تعالى وأنه بحرف وصوت، وأنه كلم موسى على الحقيقة لا المجاز، وأن موسى عليه السلام سَمِعَ كلامه من غير واسطة، خلافا للمعطلة من الجهمية والأشعرية الذين يُنكرون الحرف والصوت في كلام الله تعالى وينكرون سماع موسى عليه السلام لصوت الرب تعالى وهو يكلمه.
قال البربهاري رحمه الله في «شرح السُّنة» (73): “والإيمان بأن الله عز وجل هو الذي كلم موسى بن عمران يوم الطور وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمن قال غير هذا فقد كفر بالله العظيم”.
وقال الآجري رحمه الله في الشريعة (61): “فَإِنَّهُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَقَدْ كَفَرَ، يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. قال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾، فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ، فَكَلَّمَ بِهِ مُوسَى قِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْكَلَامَ مَخْلُوقٌ، تَعَالَى اللَّهُ عز وجل عَنْ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ مَخْلُوقًا يَدَّعِي الرُّبُوبَيَّةَ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْقَوْلِ وَأَسْمَجِهِ وَقِيلَ لَهُ: يَا مُلْحِدُ، هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا مُسْلِمًا، هَكَذَا كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَرَجَعَ عَنْ مُذْهَبِهِ السُّوءِ وَإِلَّا قَتَلَهُ الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ هُجِرَ وَلَمْ يُكَلَّمْ، وَلَمْ يُسَلَّمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَمْ يُزَوِّجْهُ الْمُسْلِمُ كَرِيمَتَهُ”.
ص ١٧٣
لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ
قال أَشْهَبَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، صَاحِبِ مَالِكٍ: قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يَرَى الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «لَوْ لَمْ يَرَ الْمُؤْمِنُونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يُعَيِّرِ اللَّهُ الْكُفَّارَ بِالْحِجَابِ، فَقَالَ: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]» قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَعْقِلِيُّ، وَحَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى الْأَنْصَارِيُّ بِمِثْلِهِ وَزَادَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى قَالَ مَالِكٌ: السَّيْفَ السَّيْفَ. [اللالكائي (761)]
وقال الإمام الشَّافِعِيُّ: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥] دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَهُ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِ وُجُوهِهِمْ. [الإبانة» (2618)].
وقال الإمام أحمد رحمه الله في رده على الزنادقة والجهمية (34): “وإنا لنرجو أن يكون الجهم وشيعته ممن لا ينظرون إلى ربهم، ويحجبون عن اللَّه، لأن اللَّه قال للكفار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)﴾ [المطففين: ١٥] فإذا كان الكافر يحجب عن اللَّه، والمؤمن يحجب عن اللَّه، فما فضل المؤمن على الكافر؟“.
ص ١٧٦
لا يكُمُلُ قولُ الإيمانِ إِلَّا بِالعَمَلِ
ولا يكُمُلُ قولُ الإيمانِ إِلَّا بِالعَمَلِ المراد بالكمال هاهنا: الكمال الواجب الذي لا يصح الإيمان إلا به كما أجمع على ذلك أئمة السنة، ونقل إجماعهم غير واحد كما في عقائدهم المختصرة والمُطوَّلة، خِلافًا للمُرجئة الذين يُصححون إيمان العبد من غير عمل. وقد قال ابن أبي زيد رحمه الله في «جامعه»: “ولا قول إلَّا بعمل، ولا قول وعمل إلَّا بنيّةٍ…. فكما لا يُقبل ولا يَصحُ العمل إلَّا بنيَّة، فكذلك لا يُقبل ولا يصح القول إلَّا بالعمل، فهما متلازمان لا يَنفَكُ أحدهما عن الآخر، فتنبه ولا تكن مِن المُرجئة الذين تلاعبت بهم الشياطين”.
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (30): “اعْمَلُوا رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ أَنَّ الَّذِيَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ، وَهُوَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ، وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ الْمَعْرِفَةُ بِالْقَلْبِ وَالتَّصْدِيقٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْإِيمَانُ بِاللِّسَانِ نُطْقًا، وَلَا تُجْزِيءُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ، وَنُطْقٌ بِاللِّسَانِ، حَتَّى يَكُونَ عَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ، فَإِذَا كَمُلَتْ فِيهِ هَذِهِ الثَّلَاثُ الْخِصَالِ: كَانَ مُؤْمِنًا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ، وَقَوْلُ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ”.
ص ١٧٧
ولاة الأمر هم العلماء والأمراء
اختلفوا في تفسير قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، فمنهم من قال: إنهم الأمراء ومنهم من قال: إنهم العلماء.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية (45): “والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية. والصحيح: أنها متناولة للصنفين جميعًا؛ فإن العلماء والأمراء هم ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله. فالعلماء وُلَاتُه حفظًا، وبيانًا، وبلاغًا، وذبًّا عنه، وردًّا على من ألحَدَ فيه وزاغَ عنه، وقد وكَّلهم الله بذلك، فقال تعالى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (٨٩)﴾. فيا لها من وكالةٍ أوجبتْ طاعتَهم والانتهاءَ إلى أمرهم، وكون الناس تبعًا لهم. والأمراءُ وُلَاتُه قيامًا، ورعايةً، وجهادًا، وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خَرَج عنه. وهذان الصنفان هم الناس، وسائر النوع الإنساني تبعٌ لهم ورَعيةٌ.”.
ص ١٧٩
ترك المراء والجدال في الدين
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ: قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَكُونُ عَالِمًا بِالسُّنَّةِ أَيُجَادِلُ عَنْهَا؟ قَالَ: «لَا وَلَكِنْ يُخْبِرُ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ قُبِلَتْ مِنْهُ وَإِلَّا سَكَتَ». [جامع بيان العلم» (1784)]
ص ١٧٩
على كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعا لما جاء به الرسول ﷺ
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (62/13): “فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ إلَّا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَلَا يَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ بَلْ يَنْظُرُ مَا قَالَ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُهُ تَبَعًا لِأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُعَارِضُ النُّصُوصَ بِمَعْقُولِهِ وَلَا يُؤَسِّسُ دِينًا غَيْرَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَالْكَلَامِ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا قَالَهُ اللَّهُ وَالرَّسُولُ فَمِنْهُ يَتَعَلَّمُ وَبِهِ يَتَكَلَّمُ وَفِيهِ يَنْظُرُ وَيَتَفَكَّرُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ فَهَذَا أَصْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ لَا يَجْعَلُونَ اعْتِمَادَهُمْ فِي الْبَاطِنِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ عَلَى مَا تَلَقَّوْهُ عَنْ الرَّسُولِ؛ بَلْ عَلَى مَا رَأَوْهُ أَوْ ذَاقُوهُ ثُمَّ إنْ وَجَدُوا السُّنَّةَ تُوَافِقُهُ وَإِلَّا لَمْ يُبَالُوا بِذَلِكَ فَإِذَا وَجَدُوهَا تُخَالِفُهُ أَعْرَضُوا عَنْهَا تَفْوِيضًا أَوْ حَرَّفُوهَا تَأْوِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْفُرْقَانُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ وَأَهْلِ النِّفَاقِ وَالْبِدْعَةِ”.
ص ١٨٠
أهل السنة والجماعة يُمرُّون نصوص الصفات على ظاهرها
يؤول ويُحرِّف المُعطّلة كل ما ورد من النصوص في إثبات اليد واليدين لله تعالى بالنعمة أو القوَّة فِرارًا مِن التشبيه والتجسيم المزعوم عندهم !
وأما أهل السنة والجماعة فيُمرُّون نصوص الصفات على ظاهرها التي خاطبنا الله تعالى بها فيثبتون لله عز وجل يدين حقيقيتين تليقان بجلاله وعظمته من غير تأويل ولا تشبيه كما قال أبو عبد الله الزبيري الشافعي (318 هـ) رحمه الله في شرح الإيمان والإسلام (ص 99): “ولِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى، قال: يعني: آدم، ولو كان كما تقول الجهمية: إنها يدُ النّعمة، لكانت يدا واحدة، ولا تكون في كلام العرب يدين إلَّا اليدان من ذاته”.
ص ١٨١
النظر إلى الله عز وجل يوم القيامة حقيقي
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يَقُولُ: «النَّاظِرُونَ يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ». [اللالكائي (816)].
وقال أشهب: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ قَوْلِهِ عز وجل ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٢] ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] أَتَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عز وجل؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ تَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ، قَالَ: بَلْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرًا. [اللالكائي (816)]
ص ١٨٢
بعض أهل المدينة توقف في تفضيل عثمان وعلي رضي الله عنهما
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (426/4): “وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَوَقَّفَ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَهِيَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مَالِكٍ؛ لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى عَنْهُ تَقْدِيمُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ الْأَئِمَّة”.
وقد قال أيوب السختياني، وأحمد بن حنبل، والدارقطني: “مَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ”.
وقال عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ: «مَنْ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أَمْسِكْ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنَّكَ إِمَامٌ أَقْتَدِي بِكَ فِي دِينِي، قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ» [الخلال (567)] ونحوه في ترتيب المدارك (45/2) عن أشهب، عن الإمام مالك.
قال ابن تيمية رحمه الله في «الواسطية»: “وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ؛ مِنْ أَنَّ: خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانِ، وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيِّ رضي الله عنهم؛ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ. وَكَمَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؛ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ، وَسَكَتُوا، أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيِّ. وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيًّا. وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا. لَكِنِ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى: تَقْدِيمِ عُثْمَانَ، ثُمَّ عَلِيٍّ. وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّة. لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا: مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ”.
ص ١٨٥
أَمْرُ الصَّحابة رضي الله عنهم على وجهين
قال ابن بطة في الإبانة الكبرى (1379): “وَكَذَلِكَ أَمْرُ الصَّحَابَةِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَأَمْرُهُمْ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فُرِضَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ. وَالْآخَرُ: وَاجِبٌ عَلَيْنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَنْهُ: فَأَمَّا الْوَاجِبُ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فَهُوَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ وَصْفِهِمْ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَظِيمِ أَقْدَارِهِمْ، وَعُلُوِّ شَرَفِهِمْ، وَمَحَلِّ رُتَبِهِمْ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ مِنَ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ، وَعِلْمُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَنَاقِبِهِمْ، وَعِلْمُ مَا يَجِبُ عَلَيْنَا حُبُّهُمْ لِأَجْلِهِ مِنْ فَضْلِهِمْ وَعِلْمِهِمْ، وَنَشْرُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، لِتَنْحَاشَ الْقُلُوبُ إِلَى طَاعَتِهِمْ، وَتَتَأَلَّفُ عَلَى مَحَبَّتِهِمْ، فَهَذَا كُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَمِنْ كَمَالِ دِينِنَا طَلَبُهُ. وَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَيْنَا تَرْكُهُ، وَفُرِضَ عَلَيْنَا الْإِمْسَاكُ عَنْهُ، وَحَرَامٌ عَلَيْنَا الْفَحْصُ وَالتَّنْقِيرُ عَنْهُ هُوَ النَّظَرُ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، وَالْخُلُقُ الَّذِي كَانَ جَرَى مِنْهُمْ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُشْتَبَهٌ، وَنُرْجِئُ الشُّبُهَةَ إِلَى اللَّهِ، وَلَا نَمِيلُ مَعَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا نَظْلِمُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَلَا نُخْرِجُ أَحَدًا مِنْهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ”.
ص ١٨٦
وجوب التقليد للسلف الصالح
وما تركوه تركناه ويسعنا أن نُمسِكَ عمَّا أمسكوا عنه، ونَتَّبعهم فيما بينوا، ونقتدي بهم فيما استنبطوه ورأوه في الحوادث، ولا نَخرجُ عن جماعتِهم فيما اختلفوا فيه، أو في تأويله. وهذا هو التقليد للسلف الصالح الذي كان يوصي به الأئمة كما تقدم التنبيه عليه في اعتقاد حرب الكرماني (89).
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «النقض» (252): “فَما تَدَاوَلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَنُظَرَاؤُهُمْ٧ عَلَى الْقَبُولِ قَبِلْنَا، وَمَا رَدُّوهُ رَدَدْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ تَرَكْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ”.
وقال البربهاري رحمه الله في شرح السنة (144): “ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح، ولا تجاوز الأثر، وأهل الأثر”.
ص ١٨٨
١٢- اعتقاد عُبيد الله بن محمد ابن بطة العكبري (304 - 387 هـ) رحمه الله
الثناء عليه
قال العتيقي: كان شَيخًا صَالحًا مُستجاب الدعوة.
قال الذهبي: ابن بطة، الإمام القدوة العابد الفقيه المُحدث، شيخ العراق. وقال: كان ابن بطة من كبار الأئمة ذا زهد، وفقه، وسُنَّة، واتباع.
ص ١٩١
ما يخرج به المرء من الإسلام
ويخرجُ الرَّجلُ مِن الإيمانِ إلى الإسلام، ولا يُخرجه من الإسلامِ إِلَّا: الشِّرك بالله، أو بِرَد فريضَةٍ مِن فرائض الله جاحِدا بها، فإن تركها تهاونًا أو كسلا؛ كان في مشيئة الله: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. هذا القول مِن أهل السُّنة في سائر الأعمال إلا الصَّلاة، كما تقدم بيان ذلك في اعتقاد الإمام قتيبة بن سعيد (15)، واعتقاد الإمام أحمد» (23)، و«اعتقاد الإمام حرب» (33).
ص ١٩٩
من تفاسير المعيشة الضنك عذاب القبر
وقال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: 124]، قال أصحاب التفسير: عذاب القبر. روي هذا القول عن جمع مِن السَّلف، انظر: «الرد على المبتدعة» (206).
ص ٢٠٣
الحوض مما يؤمن به الخاصة والعامة
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (٩٦٧): “وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ زِيَادٍ، وَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ الْحَوْضَ، فَلَمَّا رَأَوْنِي طَلَعْتُ عَلَيْهِمْ، قَالُوا: قَدْ جَاءَكُمْ أَنَسٌ فَقَالُوا: يَا أَنَسُ مَا تَقُولُ فِي الْحَوْضِ؟ فَقُلْتُ: «وَاللَّهِ مَا شَعَرْتُ أَنِّي أَعِيشُ حَتَّى أَرَى أَمْثَالَكُمْ تَشُكُّونَ فِي الْحَوْضِ، لَقَدْ تَرَكْتُ عَجَائِزَ بِالْمَدِينَةِ، مَا تُصَلِّي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ صَلَاةً إِلَّا سَأَلَتْ رَبَّهَا عز وجل أَنْ يُورِدَهَا حَوْضَ مُحَمَّدٍ ﷺ» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه يَتَعَجَّبُ مِمَّنْ يَشُكُّ فِي الْحَوْضِ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَوْضَ مِمَّا يُؤْمِنُ بِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ حَتَّى إِنَّ الْعَجَائِزَ يَسْأَلْنَ اللَّهَ عز وجل أَنْ يَسْقِيَهُنَّ مِنْ حَوْضِهِ ﷺ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِمَّنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْحَوْضِ، وَيُكَذِّبُ بِهِ”.
ص ٢٠٦
كفر من رد شيئًا مما جاء به جبريل عليه السلام إلى الرسل
وكذلك وجوب الإيمان والتصديق بجميع ما جاءت به الرسل، من عند الله وبجميع ما قال الله عز وجل، فهو حق لازم.
فلو أن رجلا آمن بجميع ما جاءت به الرُّسُلُ [مِن عِندِ اللهِ، وبجميع ما جاءَ به جبريل ﷺ من الله] إلا شيئًا واحدا؛ كان برد ذلك الشيء كافرًا عند جميع العلماء. ص ٢٠٧ - ٢٠٨
كفر منكر الجن والشياطين
فمَن أنكر أمر الجن، وكونَ إبليسَ والشَّياطين والمَردَةِ، وإغواءهم بني آدم فهو كافِرُ بالله جاحِدٌ بآياتِه، مُكذِّبُ بكتابه. ص ٢٠٨
ليس في الصفات قياس ولا تضرب لها الأمثال
ثم الإيمان والقبول والتصديقُ بكلِّ ما روته العلماء، ونقله النّقاتُ أَهلُ الآثارِ عن رسولِ الله ﷺ، وتلقيها بالقبول.—لا تُردُّ بالمعاريض، ولا يقالُ: لِمَ؟ وكيف؟ ولا تُحملُ على المعقُولِ ولا تُضْرَبُ لها المقاييس، ولا يُعملُ لها التفاسيرُ إِلَّا ما فسَّرَه رسولُ الله ﷺ، أو رجل مِن عُلماء الأمَّةِ ممَّن قوله شِفاءٌ وحُجَّةٌ. مِثلُ: أحاديثِ الصِّفاتِ، والرُّؤية. قال البربهاري رحمه الله في شرح السُّنة (95): “واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية أنهم [فكروا] في الرب، فأدخلوا لم وكيف، وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم فجاءوا بالكفر عيانا لا يخفي أنه كفر، وأكفروا الخلق واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل.”.
قوله: (ولا يُعملُ لها التفاسيرُ) أي: تفاسير الجهمية وغيرهم مِن المُعطلة ممَّا يسمونه تأويلا، وهو في الحقيقة تحريف وتكذيب بها.
ص ٢٠٨ - ٢٠٩
الإنكار على من زعم أن النبي ﷺ كان على دين قومه
سُئِل الإمام أحمد رحمه الله عمَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ؟ فقَالَ: هَذَا قَوْلُ سُوءٍ يَنْبَغِي لِصَاحِبِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يُحْذَرَ كَلَامُهُ وَلَا يُجَالَسَ. فقُيلْ له: إِنَّ جَارَنَا النَّاقِدَ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. قَالَ: قَاتَلَهُ اللَّهُ وَأَيُّ شَيْءٍ أَبْقَى إِذَا زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى عليه السلام: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦]، ثُمَّ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَاذَا يُحَدِّثُ النَّاسُ مِنَ الْكَلَامِ؟ هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْكَلَامِ مَنْ أَحَبَّ الْكَلَامَ لَمْ يُفْلِحْ، سُبْحَانَ اللَّهِ لِهَذَا الْقَوْلِ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِرُؤْيَا أُمِّهِ النُّورَ عِنْدَ وِلَادَتِهِ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ قَالَ: وَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَمَا وَلَدَتْ رَأَتْ ذَلِكَ! . وَقِيلَ وَقَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ كَانَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا مِنَ الْأَوْثَانِ، أوليس كان لا يأكل ما ذُبح على النُّصب؟ [السُّنة الخلال (212)]
ص ٢١٨
الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ﷺ
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (2189): “فَإِنْ عَارَضَنَا جَاهِلٌ مَفْتُونٌ قَدْ خُطِئِ بِهِ عَنْ طَرِيقِ الرَّشَادِ فَقَالَ: لِمَ قَاتَلَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ وَلِمَ قَتَلَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ؟ . قِيلَ لَهُ: مَا بِنَا وَبِكَ إِلَى ذِكْرِ هَذَا حَاجَةٌ تَنْفَعُنَا وَلَا اضْطُرِرْنَا إِلَى عِلْمِهَا. فَإِنْ قَالَ: وَلِمَ؟ قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهَا فِتَنٌ شَاهَدَهَا الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فَكَانُوا فِيهَا عَلَى حَسَبِ مَا أَرَاهُمُ الْعِلْمُ بِهَا وَكَانُوا أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِهَا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكَانُوا أَهْدَى سَبِيلًا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، عَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَشَاهَدُوا الرَّسُولَ ﷺ وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَشَهِدَ لَهُمُ اللَّهُ عز وجل بِالرِّضْوَانِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، وَشَهِدَ لَهُمُ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُمْ خَيْرُ قَرْنٍ. فَكَانُوا بِاللَّهِ عز وجل أَعْرَفَ وَبِرَسُولِهِ ﷺ وَبِالْقُرْآنِ وَبِالسُّنَّةِ وَمِنْهُمْ يُؤْخَذُ الْعِلْمُ وَفِي قَوْلِهِمْ نَعِيشُ، وَبِأَحْكَامِهِمْ نَحْكُمُ وَبِأَدَبِهِمْ نَتَأَدَّبُ وَلَهُمْ نَتَّبِعُ وَبِهَذَا أُمِرْنَا. فَإِنْ قَالَ: وَإِيشِ الَّذِي يَضُرُّنَا مِنْ مَعْرِفَتِنَا لِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَالْبَحْثِ عَنْهُ؟ . قِيلَ لَهُ: مَا لَا شَكَّ فِيهِ وَذَلِكَ أَنَّ عُقُولَ الْقَوْمِ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ عُقُولِنَا، وَعُقُولُنَا أَنْقَصُ بِكَثِيرٍ وَلَا نَأْمَنُ أَنْ نَبْحَثَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَنَزِلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَنَتَخَلَّفَ عَمَّا أُمِرْنَا فِيهِمْ. فَإِنْ قَالَ: وَبِمَ أُمِرْنَا فِيهِمْ؟ . قِيلَ: أُمِرْنَا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَالْمَحَبَّةِ لَهُمْ وَالِاتِّبَاعِ لَهُمْ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَقَوْلُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا بِنَا حَاجَةٌ إِلَى ذِكْرِ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ، قَدْ صَحِبُوا الرَّسُولَ ﷺ وَصَاهَرَهُمْ وَصَاهَرُوهُ، فَبِالصُّحْبَةِ يَغْفِرُ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُمْ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ عز وجل فِي كِتَابِهِ أَنْ لَا يُخْزِيَ مِنْهُمْ وَاحِدًا وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ وَصْفَهُمُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَوَصَفَهُمْ بِأَجْمَلِ الْوَصْفِ وَنَعَتَهُمْ بِأَحْسَنِ النَّعْتِ، وَأَخْبَرَنَا مَوْلَانَا الْكَرِيمُ أَنَّهُ قَدْ تَابَ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا تَابَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعَذِّبْ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا مُرَادِي مِنْ ذَلِكَ لِأَنْ أَكُونَ عَالِمًا بِمَا جَرَى بَيْنَهُمْ فَأَكُونَ لَمْ يَذْهَبْ عَلَيَّ مَا كَانُوا فِيهِ لِأَنِّي أَحَبُّ ذَلِكَ وَلَا أَجْهَلُهُ. قِيلَ لَهُ: أَنْتَ طَالِبُ فِتْنَةٍ لِأَنَّكَ تَبْحَثُ عَمَّا يَضُرُّكَ وَلَا يَنْفَعُكَ وَلَوِ اشْتَغَلْتَ بِإِصْلَاحِ مَا لِلَّهِ عز وجل عَلَيْكَ فِيمَا تَعَبَّدَكَ بِهِ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ كَانَ أَوْلَى بِكَ. وَقِيلَ: وَلَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا مَعَ قُبْحِ مَا قَدْ ظَهْرَ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ الضَّالَّةِ. وَقِيلَ لَهُ: اشْتِغَالُكَ بِمَطْعَمِكَ وَمَلْبَسِكَ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ أَوْلَى بِكَ، وَتَكَسُّبُكَ لِدِرْهَمِكَ مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ وَفِيمَا تُنْفِقُهُ؟ أَوْلَى بِكَ. وَقِيلَ: لَا يَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ بِتَنْقِيرِكَ وَبَحْثِكَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الْقَوْمِ إِلَى أَنْ يَمِيلَ قَلْبُكَ فَتَهْوَى مَا لَا يَصْلُحُ لَكَ أَنْ تَهْوَاهُ وَيَلْعَبَ بِكَ الشَّيْطَانُ فَتَسُبَّ وَتُبْغِضَ مَنْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِمَحَبَّتِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهُ وَبِاتِّبَاعِهِ فَتَزِلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَتَسْلُكَ طَرِيقَ الْبَاطِلِ…. فَهَذَا رَجُلٌ طَالِبُ فِتْنَةٍ، وَفِي الْفِتْنَةِ وَقَعَ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْجَمِيعِ وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْجَمِيعِ رضي الله عنهم وَنَفَعَنَا بِحُبِّهِمْ”.
ص ٢٢٥ - ٢٢٦
مَن سَبَّ عائشة رضي الله عنها يقتل عند الإمام مالك
سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يَقُولُ: «مَنْ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ جُلِدَ، وَمَنْ سَبَّ عَائِشَةَ قُتِلَ. فَقِيلَ لَهُ: وَلِمَ يُقْتَلُ فِي عَائِشَةَ رضي الله عنها؟. فَقَالَ: لأَنَّ اللَّهَ عز وجل، يَقُولُ فِي عَائِشَةَ: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ١٧]، قَالَ: فَمَنْ رَمَاهَا فَقَدْ خَالَفَ الْقُرْآنَ، وَمَنْ خَالَفَ الْقُرْآنَ قُتِلَ»
ص ٢٢٧
معاوية رضي الله عنه ستر أصحاب رسول الله ﷺ
أعلن كثير من أهل البدع من الرافضة أو من تشبه الطعن في معاوية بن أبي سفيان ما، ونصبوا له العداء، واتخذوه بابا يلجون منه للطعن في باقي الصحابة، كما قال الربيع بن نافع رحمه الله: “معاوية بْن أَبِي سفيان ستر أصحاب رسول الله ﷺ فإذا كشف الرجل الستر اجترئ على ما وراءه”. [تاريخ بغداد (577/1)].
سئل أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ النَّسَائي عَنْ معاوية بْن أَبي سفيان صاحب رَسُول اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: إنما الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد دخول الدار، قال: فمن أراد معاوية فإنما أراد الصحابة. [تهذيب الكمال (339/1)].
وقال إسحاق بن هانئ رحمه الله في مسائله (296): سُئل أحمد بن حنبل عن الذي يشتم معاوية رضي الله عنه، أيُصَلَّى خلفه؟ قال: لا يُصَلَّى خلفه، ولا كرامة. وَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، لِي خَالٌ ذَكَرَ أَنَّهُ يَنْتَقِصُ مُعَاوِيَةَ، وَرُبَّمَا أَكَلْتُ مَعَهُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُبَادِرًا: «لَا تَأْكُلْ مَعَهُ». [ «السنة» للخلال (678)]. وقال: “إِنَّهُ لَمْ يَجْتَرِ عَلَيْهِ إِلَّا وَلَهُ خَبِيئَةُ سُوءٍ، مَا انْتَقَصَ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا وَلَهُ دَاخِلَةُ سُوءٍ”. [البداية والنهاية» (450/11)].
ص ٢٢٧ - ٢٢٨
النهي عن مناظرة المبتدعة
قال البربهاري رحمه الله في شرح السُّنة (159): “وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام، والجدال والمراء، والقياس، والمناظرة في الدين، فإن [استماعك] منهم - وإن لم تقبل منهم - يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولا [فتهلك]، وما كانت زندقة قط، ولا بدعة، ولا هوى، ولا ضلالة، إلا من الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، [وهي] أبواب البدعة، والشكوك والزندقة.”.
وقال اللالكائي رحمه الله في السنة (9): “فَمَا جُنِيَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ جِنَايَةٌ أَعْظَمُ مِنْ مُنَاظَرَةِ الْمُبْتَدِعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَهْرٌ وَلَا ذُلٌّ أَعْظَمَ مِمَّا تَرَكَهُمُ السَّلَفُ عَلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ يَمُوتُونَ مِنَ الْغَيْظِ كَمَدًا وَدَرَدًا، وَلَا يَجِدُونَ إِلَى إِظْهَارِ بِدْعَتِهِمْ سَبِيلًا، حَتَّى جَاءَ الْمَغْرُورُونَ فَفَتَحُوا لَهُمْ إِلَيْهَا طَرِيقًا، وَصَارُوا لَهُمْ إِلَى هَلَاكِ الْإِسْلَامِ دَلِيلًا، حَتَّى كَثُرَتْ بَيْنَهُمُ الْمُشَاجَرَةُ، وَظَهَرَتْ دَعْوَتُهُمْ بِالْمُنَاظَرَةِ، وَطَرَقَتْ أَسْمَاعَ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَرَفَهَا مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ”.
ص ٢٢٩
قتال السلطان فساد الدين والدنيا
قال البربهاري رحمه الله في شرح السُّنة (30): “وليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدين والدنيا.”.
وقال حنبل رحمه: اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي وِلَايَةِ الْوَاثِقِ، وشاوروه في ترك الرّضا بإمرته وسُلطانه. فقَالَ لَهُمْ: «عَلَيْكُمْ بِالنَّكِرَةِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلَا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلَا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمُ، انْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ أَمْرِكُمْ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ» وذكر الحديث عن النبي ﷺ: إن ضربك فاصبر»، أمر بالصبر. [طبقات الحنابلة» (387/1)]
قال الآجري رحمه الله في الشريعة (1343): “وَقَدْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم خَلْقٌ كَثِيرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَلَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَصَّرَ فِيمَا يَجِبُ لِلَّهِ عز وجل عَلَيْهِ وَأَسْرَفَ، وَقَدْ وَرَدَ الْجَمِيعُ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَهُوَ أَحْكُمُ الْحَاكِمِينَ، وَقَدْ أَمَرَنَا نَحْنُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُمْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَبِالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ، وَبِالْجِهَادِ مَعَهُمْ، وَبِالْحَجِّ مَعَهُمْ، مَعَ الْبَرِّ مِنْهُمْ وَالْفَاجِرِ، وَالْعَدْلِ مِنْهُمْ وَالْجَائِرِ، وَلَا نَخْرُجُ عَلَيْهِمْ، وَالصَّبْرِ حَتَّى يُفَرِّجَ اللَّهُ عز وجل، قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ مَا تَقُولُ فِي أُمَرَائِنَا هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: «مَا عَسَى أَنْ أَقُولَ فِيهِمْ، هُمْ لِحَجِّنَا، وَهُمْ لِغَزْوِنَا، وَهُمْ لِقَسْمِ فَيْئِنَا، وَهُمْ لِإِقَامَةِ حُدُودِنَا، وَاللَّهِ إِنَّ طَاعَتَهُمْ لَغَيْظٌ، وَإِنَّ فُرْقَتَهُمْ لَكُفْرٌ، وَمَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِمْ أَكْثَرُ مِمَّا يُفْسِدُ» وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إِنَّ خَارِجِيًّا خَرَجَ بِالْحَرِيبَةِ، فَقَالَ: «الْمِسْكِينُ رَأَى مُنْكَرًا فَأَنْكَرَهُ، فَوَقَعَ فِيمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ»“.
ص ٢٣٠
هجران أهل البدع
ولا تُشاور أحدًا مِن أهل البدع في دينك، ولا تُرافقه في سفرِكَ، وإن أمكنك أن لا تُقارِبه في جوارك. تقدم في اعتقاد حرب أن الرجل يخرج من السنة بالمخالفة الواحدة.
قال البغوي رحمه الله في شرح السنة (224/1): “فَعَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إِذَا رَأَى رَجُلا يَتَعَاطَى شَيْئًا مِنَ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مُعْتَقِدًا، أَوْ يَتَهَاوَنُ بِشَيْءٍ مِنَ السُّنَنِ أَنْ يَهْجُرَهُ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَيَتْرُكَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَلا يُسَلِّمْ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَلا يُجِيبَهُ إِذَا ابْتَدَأَ إِلَى أَنْ يَتْرُكَ بِدْعَتَهُ، وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ. وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ الثَّلاثِ فِيمَا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حُقُوقِ الصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ دُونَ مَا كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الدِّينِ، فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ دَائِمَةٌ إِلَى أَنْ يَتُوبُوا”.
ص ٢٣٢
التحذير من أهل البدع بأسمائهم
ولهذه المقالات والمذاهب رُؤساءُ مِن أَئِمَّةِ الضَّلَالِ، ومُتقدِّمون في الكفرِ وسُوءِ المقالِ، يقولون على الله ما لا يعلمون، ويعيبون أهل الحقِّ فيما يأتون، ويتّهمون الثّقاتِ في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل. قد عقدُوا ألوِيَةَ البدعِ، وأقاموا سُوق الفتنة، وفتحوا باب البلية. يفترون على الله البهتان ويتقوَّلون في كتابه بالكذِبِ والعُدوان. إخوان الشياطين، وأعداء المؤمنين، وكهف الباغين، ومَلجأ الحاسدين هم شعوبٌ وقبائل، وصُنُوفٌ وطوائف. أنا أذكرُ طرفًا مِن أسمائهم، وشيئًا مِن صِفاتِهم؛ لأن لهم كُتبًا قد انتشرت ومقالات قد ظَهَرت لا يعرفُها الغِرُّ مِن الناسِ، ولا النَّشءُ مِن الأحداثِ، تَخفى معانيها على أكثر من يقرؤها؛ فلعلَّ الحدث يقعُ إليه الكتابُ لرجُلٍ مِن أهلِ هذه المقالات؛ قد ابتدأ الكتاب بحمدِ الله والثناء عليه والإطناب في الصَّلاةِ على النبي، ثم أتبع بذلك بدقيقِ كُفْرِهِ، وخفي اختراعه وشره، فيظُنُّ الحدث - الذي لا علم له -، والأعجمي، والعُمْرُ مِن الناسِ: أن الواضع لذلك الكتاب عالمٌ من العلماء، أو فقيه من الفقهاء، ولعله يعتقدُ في هذه الأُمَّةِ ما يراه فيها عَبدَةُ الأَوثانِ، ومَن بَارزَ الله، ووالى الشَّيطان. وصدق الله، ومَن نظر في كثير من التفاسير وشروح الأحاديث المنتشرة في هذه الأزمان المُتأخرة وجد ذلك جليًّا في ثنايا كتبهم وشروحاتهم! فقد سلكوا فيها مسالك أهل البدع من الجهمية،والأشعرية والقدرية والمرجئة، والصُّوفية، والرافضة. فكُن على حذر منها!!
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله: “واعلم - أرشدك الله - أن الذي جرينا عليه أنه إذا وصل إلينا شيءٌ من المصنفات في (التفسير)، أو (شرح الحديث)،اختبرناه واعتبرنا مُعتقده في العلوّ، والصِّفاتِ، والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير من المُتأخرين أو أكثرهم مذهب الأشاعرة الذي حاصله: نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا الباب بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي، وأضرابه من أهل البدع والضَّلالِ ومَن نظر في شُروح البخاري ومسلم ونحوهما وجد ذلك فيها، وأمَّا ما صُنّف في الأصول والعقائدِ فالأمرُ فيه ظاهر لذوي الألباب”. [هداية الطريق (ص 169)].
وإذا أردت الوقوف على كثير من تلك المخالفات العقدية المنتشرة في كثير من كتب فانظر كتاب الاحتجاج بالآثار السلفية على إثبات الصفات الإلهية والرد على المفوضة والمشبهة والجهمية.
وقد تقدم في التعليق على اعتقاد الرازيين (48) نقل كلام ابن القيم في الرخصة في إتلاف أو حرق كتب أهل البدع لما فيها من فساد الدِّين والدنيا.
قال السجزي رحمه الله في رسالته إلى أهلِ زَبيد في الرَّدِّ على من أنكر الحرف والصوت (ص 231): “(باب الحذر من الرُّكون إلى كُلِّ أحدٍ، والأخذ مِن كلِّ كتاب؛ لأن التلبيس قد كَثُرَ، والكذب على المذاهب قد انتشر) اعلموا رَحِمنا وإياكم الله،سُبحانه أن هذا الفصلَ مِن أَوْلَى هذه الفُصول بالضَّبط لعموم البلاء، وما يدخل على الناس بإهماله، وذلك أن أحوال أهل الزَّمانِ قد اضطربت، والمُعتمد فيهم قد عَزَّ، ومَن يَبيعُ دِينَه بعرض يسير، أو تَحبُّبًا إلى مَن يراه قد كَثُرَ، والكذِبَ على المذاهب قد انتشَرَ. فالواجب على كل مسلم يُحبُ الخلاص ألا يركن إلى كل أحد، ولا يعتمدعلى كلِّ كتاب ولا يُسلّم عنانه إلى من أظهر له الموافقة”.
ص ٢٣٨ - ٢٣٩
Generated at: 2024-12-05-22-11-07