المؤلف:: الآجري
الناشر:: دار اللؤلؤة
سنة النشر:: 2020
الصفحات:: 97
الغلاف::
الصيغة:: PDF
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/31182673
ISBN::
الحالة:: مكتمل
التسميات::
المعرفة:: طلب العلم,
التدريب:: ,
تاريخ القراءة:: 2025-01-17
معالج:: 1
تقييم الفائدة المستقبلية::
الْمُقَدِّمَةُ
الْعِلْمُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، عَاقِلٍ، بَالِغٍ، غَنِيٌّ كَانَ أَوْ فَقِيرٍ، شَرِيفٍ وَغَيْرِ شَرِيفٍ، حُرٍّ أَوْ مَمْلُوكٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، صَحِيحٍ أَوْ زَمِنٍ:
• عِلْمُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِهِ.
• وَعِلْمُ مَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
• وَعِلْمُ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ مَا تَعَبَّدَهُمْ بِهِ حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَالِصًا لَا لِغَيْرِهِ.
• وَعِلْمُ مَعْرِفَةِ عَدُوِّهِ الشَّيْطَانَ لِيَتَّخِذُوهُ عَدُوًّا.
• وَعِلْمُ مَعْرِفَةِ أَنْفُسِهِمُ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ.
ص ٣٢٥
وَفِي «آدَابِ النُّفُوسِ» لِلْمُصَنِّفِ (١٩): عِلْمُ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ، وَقُبْحِ مَا تَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ مِمَّا تَهْوَاهُ وَتَلَذُّهُ، مُضْمِرَةً لِذَلِكَ، وَقَائِلَةً وَفَاعِلَةً، فَوَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أَنْ تَزْجُرُوهَا عَنْهُ حَتَّى لَا تُبَلِّغُوهَا ذَلِكَ. اهـ.
وَلَقَدْ بَيَّنَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا مَعْرِفَةَ هَذَا الْعِلْمِ فَانْظُرْهُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٢٥
أَفْضَلُ الْعِلْمِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ رَسَائِلِهِ» (٤١/١): فَأَفْضَلُ الْعِلْمِ: الْعِلْمُ بِاللَّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ الَّتِي تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا مَعْرِفَةَ اللَّهِ، وَخَشْيَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَهَيْبَتَهُ، وَإِجْلَالَهُ، وَعَظَمَتَهُ، وَالتَّبَتُّلَ إِلَيْهِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا عَنْهُ، وَالِاشْتِغَالَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ.
وَيَتْبَعُ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ وَشَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا يُحِبُّهُ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَمَا يَكْرَهُهُ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
وَمَنْ جَمَعَ هَذِهِ الْعُلُومَ فَهُوَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ، الْعُلَمَاءِ بِأَمْرِ اللَّهِ.
وَهُمْ أَكْمَلُ مِمَّنْ قَصَرَ عِلْمُهُ عَلَى الْعِلْمِ بِاللَّهِ دُونَ الْعِلْمِ بِأَمْرِهِ وَبِالْعَكْسِ، وَشَاهِدُ هَذَا النَّظَرِ فِي حَالِ الْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَحَالِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَمَعْرُوفٍ وَبِشْرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَارِفِينَ.
فَمَنْ قَايَسَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ عَرَفَ فَضْلَ الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ فَقَطْ. اهـ.
وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَعَلُّمُهُ، وَمَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٢٦
١- بَابُ مَنْ فَقَّهَهُ اللَّهُ فِي الدِّينِ
من يُرِدِ الله به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدين
٣ - وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْعُودٍ الْمَصِّيصِيُّ، نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
ص ٣٢٧
رواه البخاري ومسلم
مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ التَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللَّهِ
٥ - أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، نَا عَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُرْمَلَةَ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ: التَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
ص ٣٢٨
وَفِي «الطَّبَقَاتِ الْكُبْرَى» لِابْنِ سَعْدٍ (١٣٥/٥) قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: قَالَ بَرْدٌ مَوْلَى ابْنِ الْمُسَيِّبِ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ!
قَالَ سَعِيدٌ: وَمَا يَصْنَعُونَ؟
قَالَ: يُصَلِّي أَحَدُهُمُ الظُّهْرَ، ثُمَّ لَا يَزَالُ صَافًّا رِجْلَيْهِ يُصَلِّي حَتَّى الْعَصْرَ.
فَقَالَ سَعِيدٌ: وَيْحَكَ يَا بَرْدُ! أَمَا وَاللَّهِ مَا هِيَ بِالْعِبَادَةِ، تَدْرِي مَا الْعِبَادَةُ؟ إِنَّمَا الْعِبَادَةُ التَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ، وَالْكَفُّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ.
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (١٦٢/٢) عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَائِدَةَ: أَنَّ فِتْيَةً مِنْ بَنِي لَيْثٍ كَانُوا عُبَّادًا، وَكَانُوا يَرُوحُونَ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَلَا يَزَالُونَ يُصَلُّونَ حَتَّى يُصَلَّى الْعَصْرُ، فَقَالَ صَالِحٌ لِسَعِيدٍ [بْنِ الْمُسَيِّبِ]: هَذِهِ هِيَ الْعِبَادَةُ لَوْ نَقْوَى عَلَى مَا يَقْوَى عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَانُ. فَقَالَ سَعِيدٌ: مَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ؛ وَلَكِنَّ الْعِبَادَةَ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالتَّفَكُّرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ الْكَوْسَجُ فِي «مَسَائِلِهِ» (٣٣٠٩) قُلْتُ لِأَحْمَدَ: مَنْ قَالَ: تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَعْضَ لَيْلَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِحْيَائِهَا [أَيُّ عِلْمٍ أَرَادَ]؟ قَالَ: الْعِلْمُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ. قُلْتُ: فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ إِسْحَاقُ: كَمَا قَالَ. انْتَهَى.
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١١٠) عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا عُبِدَ اللَّهُ بِمِثْلِ الْفِقْهِ.
وَفِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» (١٠٣/١) عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: تَعْلِيمُ الْفِقْهِ صَلَاةٌ، وَدِرَاسَةُ الْقُرْآنِ صَلَاةٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ «أَخْلَاقِ الْعُلَمَاءِ» (١٣) نَقْلُ كَلَامِ السَّلَفِ فِي بَيَانِ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الذِّكْرِ وَالْعِبَادَاتِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّافِلَةِ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٢٩
صفة من فَقَّهَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ في دينه
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ صِفَةُ مَنْ فَقَّهَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي دِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ خَيْرًا؟
قِيلَ:
• هُوَ الْمُسْلِمُ الَّذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَعَبَّدَهُ بِعِبَادَاتٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَمَرَهُ بِهَا، لَا كَمَا يُرِيدُ هُوَ، وَلَكِنْ كَمَا أَوْجَبَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ، فَطَلَبَ الْعِلْمَ لِيَفْقَهَ مَا تَعَبَّدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
• وَعِلْمٌ لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ، وَلَا يَعْذُرُهُ بِهِ [الْعُلَمَاءُ الْعُقَلَاءُ فِي تَرْكِهِ]، [وَذَلِكَ مِثْلُ]: الطَّهَارَةِ، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِيهَا.
وَمِثْلُ: [الصَّلَوَاتِ] الْخَمْسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهَا.
وَمِثْلُ: الزَّكَاةِ، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِيهَا؟
وَمِثْلُ: الصِّيَامِ، وَمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِيهِ؟
وَمِثْلُ: الْحَجِّ، مَتَى يَجِبُ عَلَيْهِ؟ [وَإِذَا وَجَبَ] مَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ فِيهِ؟
وَعِلْمُ الْجِهَادِ، مَتَى يَجِبُ؟ وَإِذَا وَجَبَ مَا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ؟
وَعِلْمُ الْمَكَاسِبِ، وَمَا يَحِلُّ مِنْهَا وَمَا يَحْرُمُ؟ لِيَأْخُذَ الْحَلَالَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ، وَيَتْرُكَ الْحَرَامَ بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ.
وَعِلْمُ النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ الْوَاجِبَاتِ.
وَعِلْمُ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ.
وَعِلْمُ صِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَالنَّهْيِ عَنْ قَطْعِهَا.
وَعِلْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وعَلِمَ النِّكَاحَ إِذَا أَرَادَهُ، حَتَّى يَجْرِيَ نِكَاحُهُ بِفِقْهِ.
وَعَلِمَ مُعَاشَرَةَ الزَّوْجَةِ، وَمَا أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، وَمَا وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ، حَتَّى يَجْرِيَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِفِقْهِ وَعِلْمٍ قَدْ تَقَدَّمَ.
ثُمَّ عَلِمَ صُحْبَةَ الْأَصْحَابِ، وَمُحَادَثَةَ الْإِخْوَانِ، وَمُجَاوَرَةَ الْجِيرَانِ.
ثُمَّ عَلِمَ حِفْظَ الْجَوَارِحِ عَنْ كُلِّ [مَا حَرَّمَهُ] اللهُ الْكَرِيمُ.
ثُمَّ عَلِمَ اللِّبَاسِ، مِمَّا هُوَ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ، وَمَحْظُورٌ عَلَى النِّسَاءِ.
وَمَا هُوَ مُبَاحٌ لِلنِّسَاءِ، وَمَحْظُورٌ عَلَى الرِّجَالِ.
وَمِثْلُهُ الطِّيبُ، وَالْحُلِيُّ.
ثُمَّ عَلِمَ الْمَأْكُولَ، وَالْمَشْرُوبَ؛ إِذْ فِي الْمَأْكُولِ مُبَاحٌ وَغَيْرُ مُبَاحٍ، وَفِي الْمَشْرُوبِ مُبَاحٌ، وَغَيْرُ مُبَاحٍ.
ثُمَّ عَلِمَ كَيْفَ الشُّكْرُ لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ مَا أَوْلَى مِنْ نِعَمِهِ.
ثُمَّ طَلَبَ الْفِقْهَ، يَعْلَمُ كَيْفَ التَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَذْنَبَهُ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟
وَكَيْفَ التَّوْبَةُ مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ؟
ص ٣٢٩ - ٣٣٠
فَمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا ذَكَرْتُ؛ لِيَعْبُدَ اللهَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، وَمِمَّا لَمْ أَذْكُرْهُ مِمَّا يَطُولُ بِهِ الْكِتَابُ، فَعَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ بِفِقْهِ وَعِلْمٍ، فَهُوَ مِمَّنْ أَرَادَ اللهُ الْكَرِيمُ بِهِ خَيْرًا؛ إِذْ لَمْ يَتْرُكْهُ فِي الْجَهْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ عَبَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بِفِقْهِ وَعِلْمٍ فَإِنَّهُ يُرْضِي اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُغِيظُ الشَّيْطَانَ، وَيَنْفَعُ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَنْفَعُ [أَهْلَهُ] وَإِخْوَانَهُ.
ص ٣٣٠
ثُمَّ اعْلَمْ ـ رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ، هُوَ فَرْضٌ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يَشْغَلَهُ شَيْءٌ عَنْ طَلَبِ الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ سَعْيِهِ لِأَمْرِ دُنْيَاهُ وَأَمْرِ آخِرَتِهِ؛ وَإِلَّا فَسَدَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أُمُورِهِ، وَكَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ بِجَهْلِ عِبَادَتِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
ص ٣٣٣
مَا عَمِلَ عَامِلٌ قَطُّ عَلَى جَهْلٍ إِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ
١٢ - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ زِيَادٍ الْأَعْرَابِيُّ، نَا أَبُو جَعْفَرٍ الْحَضْرَمِيُّ، نَا هِشَامُ ابْنُ يُونُسَ، نَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ خُنَيْسٍ، عَنْ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا تَرَكُوا الْعِلْمَ وَمُجَالَسَةَ الْعُلَمَاءِ، وَاتَّخَذُوا مَحَارِيبَ فَصَلَّوْا وَصَامُوا حَتَّى يَبِسَ جِلْدُ أَحَدِهِمْ عَلَى عَظْمِهِ، ثُمَّ خَالَفُوا السُّنَّةَ فَهَلَكُوا! أَلَا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا عَمِلَ عَامِلٌ قَطُّ عَلَى جَهْلٍ إِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ.
ص ٣٣٣ - ٣٣٤
وَفِي «الزُّهْدِ» لِأَحْمَدَ (١٦٦٧) عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ: طَلَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ وَنَظَرْنَا فَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا عَمِلَ عَمَلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ إِلَّا كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا (١٧٣٧) عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ.
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٩٠٥) قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّالِكِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا تُضِرُّوا بِالْعِبَادَةِ، وَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا تَضُرُّوا بِالْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (٢٢٦/١): إِنَّ الْعِلْمَ إِمَامُ الْعَمَلِ، وَقَائِدٌ لَهُ، وَالْعَمَلُ تَابِعٌ لَهُ، وَمُؤْتَمٌّ بِهِ، فَكُلُّ عَمَلٍ لَا يَكُونُ خَلْفَ الْعِلْمِ مُقْتَدِيًا بِهِ فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ لِصَاحِبِهِ، بَلْ مَضَرَّةٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ. وَالْأَعْمَالُ إِنَّمَا تَتَفَاوَتُ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ بِحَسَبِ مُوَافَقَتِهَا لِلْعِلْمِ وَمُخَالَفَتِهَا لَهُ، فَالْعَمَلُ الْمُوَافِقُ لِلْعِلْمِ هُوَ الْمَقْبُولُ، وَالْمُخَالِفُ لَهُ هُوَ الْمَرْدُودُ، فَالْعِلْمُ هُوَ الْمِيزَانُ وَهُوَ الْمِحَكُّ. اهـ
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١١٦) عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَجَاءَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ أَوِ الْعَصْرِ وَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَنْظُرُ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَجَمَعْتُ كُتُبِي وَقُمْتُ لِأَرْكَعَ، فَقَالَ لِي مَالِكٌ: مَا هَذَا؟! قُلْتُ: أَقُومُ لِلصَّلَاةِ. قَالَ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ! فَمَا الَّذِي قُمْتَ إِلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ إِذَا صَحَّتِ النِّيَّةُ فِيهِ.
٢ - بَابُ فَرْضِ طَلَبِ الْعِلْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
١٦ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ نَا جَعْفَرُ بْنُ مُسَافِرٍ، نَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَزْمٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: هَذَا أَصَحُّ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
ص ٣٣٦
عَقَدَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٢٣/١) بَابًا نَحْوَهُ، فَقَالَ: (بَابُ قَوْلِهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»). وَالْخَطِيبُ فِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» (١٨٦/١) (وُجُوبُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِطُرُقٍ كَثِيرَةٍ؛ كَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَمَعَ كَثْرَةِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنَّ كِبَارَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ يُضَعِّفُونَهُ.
فَفِي «مُنْتَخَبِ الْعِلَلِ» لِلْخَلَّالِ (٦٢) قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْءٌ.
وَفِي «مَسَائِلِ الْكَوْسَجِ» (٣٣١١) قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ: لَمْ يَصِحَّ الْخَبَرُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ قَائِمٌ، يَلْزَمُهُ عِلْمُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وُضُوئِهِ، وَصَلَاتِهِ، وَزَكَاتِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَغَيْرُهُ، إِنَّمَا يَعْنِي: الْوَاجِبَ، أَنَّهَا إِذَا وَقَعَتْ فَلَا طَاعَةَ لِلْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ يَبْتَغِي عِلْمًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ بِإِذْنِ الْأَبَوَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَضِيلَةٌ مَا لَمْ تَحُلَّ بِهِ الْبَلِيَّةُ، وَالنَّوَافِلُ لَا تُبْتَغَى إِلَّا بِإِذْنِ الْآبَاءِ.
وَقَدْ قَوَّاهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ طُرُقِهِ، كَمَا قَالَ الْمِزِّيُّ: إِنَّ طُرُقَهُ تَبْلُغُ رُتْبَةَ الْحَسَنِ.
وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: قَدْ صَحَّحَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بَعْضَ طُرُقِهِ، كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي «تَخْرِيجِ الْإِحْيَاءِ».
الْحَاشِيَةُ ص ٣٣٥ - ٣٣٦
الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ جَهْلُهُ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَإِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ طَلَبُهُ؟!
قِيلَ لَهُ: الْعِلْمُ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ:
• فَمِنْهُ عِلْمٌ لَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ جَهْلُهُ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، صَحِيحًا أَوْ زَمِنًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، إِذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي كُلِّ زَمَانٍ، مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَصْحُوبُهُ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَعِنْدَ كُلِّ حَالٍ:
• وَذَلِكَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ، بِصِحَّةِ تَوْحِيدِهِ، وَإِخْلَاصِهِ فِيهِ
• وَمَعْرِفَةُ عَدُوِّهِ إِبْلِيسَ.
• وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ.
• وَمَعْرِفَةُ طَهَارَتِهِ، وَصَلَاتِهِ؛ كَيْفَ يُؤَدِّي خَمْسَ صَلَوَاتٍ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؟
• وَكَمَالُ الطَّهَارَةِ، وَالغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ.
هَذَا مَا لَا يَسَعُ كُلَّ مُسْلِمٍ جَهْلُهُ، بَلْ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا عِلْمُهُ، وَالْعَمَلُ بِهِ.
• وَعِلْمُ مَعْرِفَةِ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ إِذْ:
٢٠ - قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». لَيْسَ يَسَعُ الْمُسْلِمَ أَنْ يَجْهَلَ ذَلِكَ، وَفَرْضٌ عَلَيْهِ عِلْمُهُ حَتَّى يَكُونَ مَصْحُوبَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
…
وَهَكَذَا إِذَا أَرَادَ الْجِهَادَ طَلَبَ عِلْمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْجِهَادِ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِجَهْلٍ، فَصَارَ فَرْضًا.
وَهَكَذَا إِذَا اتَّجَرَ بِالْأَمْوَالِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ الْحَلَالَ مِنَ الْمَكَاسِبِ،
وَلَا مَا الْمُحَرَّمَاتُ مِنْهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ فَرْضًا طَلَبُ عِلْمِ ذَلِكَ.
٢١ ـ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَتَّجِرْ فِي سُوقِنَا إِلَّا مَنْ فَقِهَ، وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا.
وَصَدَقَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِمَا يَحِلُّ مِنَ الْبَيْعِ، وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُ، وَلَا الصَّحِيحُ مِنْهُ، وَلَا الْفَاسِدُ، أَكَلَ الرِّبَا، وَأَكَلَ الْبَاطِلَ.
• وَهَكَذَا إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ فِي أَمْرٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، أَوْ مُبَاحٍ لَهُ أَخْذُهُ، لَمْ يَسَعْهُ الدُّخُولُ فِيهِ حَتَّى يَطْلُبَ عِلْمَ ذَلِكَ. فَصَارَ فَرْضًا عَلَيْهِ طَلَبُ الْعِلْمِ بِهَذَا النَّعْتِ، وَبِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَمَا يُشْبِهُهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهَا إِلَّا بِعِلْمٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ طَلَبُ الْعِلْمِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ.
ص ٣٣٧ - ٣٣٩
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ» (٣٢) عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَهُوَ فَرِيضَةٌ عَلَى النَّاسِ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ؛ وَلَكِنْ يَطْلُبُ مِنْهُ الْمَرْءُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي دِينِهِ.
وَفِيهِ أَيْضًا (٣٤) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْحَضْرَمِيِّ، قَالَ: سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ - وَأَنَا أَسْمَعُ - عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ طَلَبَ الْعِلْمِ؛ وَلَكِنْ فَرِيضَةٌ فَلَا.
وَفِيهِ (٣٣) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؟ قَالَ: لَيْسَ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُونَهُ؛ وَلَكِنْ فَرِيضَةٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَهُ.
وَفِيهِ (٣٨) عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَا الَّذِي لَا يَسَعُ الْمُؤْمِنَ مِنْ تَعْلِيمِ الْعِلْمِ إِلَّا أَنْ يَطْلُبَهُ؟ وَمَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ؟ قَالَ: لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِعِلْمٍ، وَلَا يَسَعُهُ حَتَّى يَسْأَلَ.
وَفِي «طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ» (٢٧٥/١) قَالَ الشَّالَنْجِيُّ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي صَلَاتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَسُورَتَانِ.
قَالَ الْأَبْهَرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى «جَامِعِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ» (٨٤) مُعَلِّقًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ السَّابِقِ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ لِلْخَاصِّ، إِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْكِفَايَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْمَوْتَى وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، وَدَفْنِهِمْ، وَبِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ، أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَيْسَ هُوَ عَلَى عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِذَا قَامَ بَعْضُهُمْ بِهِ سَقَطَ عَلَى الْبَاقِينَ فَرْضُهُ، فَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ.
فَأَمَّا طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ، فَهَذَا عِلْمٌ يَلْزَمُ الْعَامَّةَ كُلَّهُمْ بِعِلْمِهِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ فِعْلُهُ، أَوْ مَا يَنْزِلُ بِهِمْ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ فَرْضِ الْأَبْدَانِ.. فَهَذَا هُوَ عِلْمُ الْأَعْيَانِ الَّذِي يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، وَهُوَ عِلْمُ الْعَامَّةِ. اهـ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٥٦/١): قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيِّنٌ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَلْخِيصِ ذَلِكَ، وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَسَعُ الْإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ… ثُمَّ أَطَالَ فِي ذِكْرِهَا.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» (٢٢٢/١): قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّمَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهَذَا الْقَوْلِ عِلْمَ التَّوْحِيدِ، وَمَا يَكُونُ الْعَاقِلُ مُؤْمِنًا بِهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، إِذْ كَانَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعُمُومِ دُونَ الْخُصُوصِ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ إِذَا لَمْ يَقُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ كُلِّ صُقْعٍ وَنَاحِيَةٍ مَنْ فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.
وَأُسْنِدَ عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ مُوسَى قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَجَرَى ذِكْرُ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ فَرِيضَةٌ، إِذَا طَلَبَ بَعْضُهُمْ أَجْزَأَ عَنْ بَعْضٍ، مِثْلَ: الْجَنَازَةِ إِذَا قَامَ بِهَا بَعْضُهُمْ أَجْزَأَ عَنْ بَعْضٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
قُلْتُ (الْخَطِيبُ): وَالَّذِي أَرَادَ ابْنُ عُيَيْنَةَ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفُرُوعِ الدِّينِ، فَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي هِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَوْحِيدُهُ وَصِفَاتُهُ وَصِدْقُ رُسُلِهِ فَمِمَّا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ مَعْرِفَتُهُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنُوبَ فِيهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ بَعْضٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»: أَنَّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فَرْضًا أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ مِنْ عِلْمِ حَالِهِ.
وَقَالَ: فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ طَلَبُ مَا يَلْزَمُهُ مَعْرِفَتُهُ، مِمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ لِنَفْسِهِ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ وَعَبْدٍ، تُلْزِمُهُ الطَّهَارَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ فَرْضًا، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَعَرُّفُ عِلْمِ ذَلِكَ، وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، أَنْ يَعْرِفَ مَا يَحِلُّ لَهُ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْفُرُوجِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ.
فَجَمِيعُ هَذَا لَا يَسَعُ أَحَدًا جَهْلُهُ، وَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَأْخُذُوا فِي تَعَلُّمِ ذَلِكَ، حَتَّى يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وَهُمْ مُسْلِمُونَ، أَوْ حِينَ يُسْلِمُونَ بَعْدَ بُلُوغِ الْحُلُمِ، وَيُجْبِرُ الْإِمَامُ أَزْوَاجَ النِّسَاءِ وَسَادَاتِ الْإِمَاءِ عَلَى تَعْلِيمِهِنَّ مَا ذَكَرْنَا، وَفَرْضٌ عَلَى الْإِمَامِ أَيْضًا أَنْ يَأْخُذَ النَّاسَ بِذَلِكَ، وَيُرَتِّبَ أَقْوَامًا لِتَعْلِيمِ الْجُهَّالِ، وَيَفْرِضَ لَهُمُ الرِّزْقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَيَجِبُ عَلَى الْعُلَمَاءِ تَعْلِيمُ الْجَاهِلِ، لِيَتَمَيَّزَ لَهُ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ رَسَائِلِهِ» (٢٢/١): وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَنْهَى عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنِ احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ. وَلِهَذَا رُوِيَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مَعْرِفَةُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ، كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ لَهُ مَالٌ مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مِنْ زَكَاةٍ وَنَفَقَةٍ، وَحَجٍّ وَجِهَادٍ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الْبُيُوعِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلَّا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ….
وَسُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: مَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ؟ قَالَ: أَنْ لَا يَقْدِمَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِعِلْمٍ يَسْأَلُ وَيَتَعَلَّمُ، فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ عَلَى النَّاسِ مِنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، ثُمَّ فَسَّرَهُ، وَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَاجِبٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَمْ يُخْرِجُ؟ وَمَتَى يُخْرِجُ؟ وَأَيْنَ يَضَعُ؟ وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا….
وَسُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الرَّجُلِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ؟ فَقَالَ: مَا يُقِيمُ بِهِ الصَّلَوَاتِ وَأَمْرَ دِينِهِ مِنَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ. وَذَكَرَ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَيْضًا: الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي صَلَاتِهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عِلْمٌ شَرِيفٌ، وَمِنْهُ مَا تَعَلُّمُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ» (٤٤١/١) وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي سَنَدِهِ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَقَدْ ضُعِّفَ، فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَاهِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْإِيمَانِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ.
ثُمَّ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ عِبَادَهُ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا، فَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
وَهَلْ تَمَكَّنَ عِبَادَةُ اللَّهِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ عَلَى الْعِبَادِ كُلِّهِمْ إِلَّا بِالْعِلْمِ؟! وَهَلْ يُنَالُ الْعِلْمُ إِلَّا بِطَلَبِهِ؟!
ثُمَّ إِنَّ الْعِلْمَ بِالْمَفْرُوضِ تَعَلُّمُهُ ضَرْبَانِ:
١ - ضَرْبٌ مِنْهُ فَرْضُ عَيْنٍ لَا يَسَعُ مُسْلِمًا جَهْلُهُ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: عِلْمُ أُصُولِ الْإِيمَانِ الْخَمْسَةِ: الْإِيمَانُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَذِهِ الْخَمْسَةِ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ الْإِيمَانِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُؤْمِنِ… وَلَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. قَالَ: «صَدَقْتَ». فَالْإِيمَانُ بِهَذِهِ الْأُصُولِ فَرْعُ مَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: عِلْمُ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَاللَّازِمُ مِنْهَا عِلْمُ مَا يَخُصُّ الْعَبْدَ مِنْ فِعْلِهَا، كَعِلْمِ الْوُضُوءِ، وَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالزَّكَاةِ، وَتَوَابِعِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَمُبْطِلَاتِهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: عِلْمُ الْمُحَرَّمَاتِ الْخَمْسَةِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الرُّسُلُ وَالشَّرَائِعُ وَالْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف:33] فَهَذِهِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ، عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ، لَا تُبَاحُ قَطُّ…
النَّوْعُ الرَّابِعُ: عِلْمُ أَحْكَامِ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ خُصُوصًا وَعُمُومًا، وَالْوَاجِبُ فِي هَذَا النَّوْعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، فَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَعَ رَعِيَّتِهِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الرَّجُلِ مَعَ أَهْلِهِ وَجِيرَتِهِ، وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ مِنْ تَعَلُّمِ أَحْكَامِ الْبَيَاعَاتِ كَالْوَاجِبِ عَلَى مَنْ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.
وَتَفْصِيلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَا يَنْضَبِطُ بِحَدٍّ؛ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَسْبَابِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ. وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ: اعْتِقَادٍ، وَفِعْلٍ، وَتَرْكٍ.
-
فَالْوَاجِبُ فِي الِاعْتِقَادِ: مُطَابَقَتُهُ لِلْحَقِّ فِي نَفْسِهِ.
-
وَالْوَاجِبُ فِي الْعَمَلِ: مَعْرِفَتُهُ وَمُوَافَقَةُ حَرَكَاتِ الْعَبْدِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلشَّرْعِ أَمْرًا وَإِبَاحَةً.
-
وَالْوَاجِبُ فِي التَّرْكِ: مَعْرِفَةُ مُوَافَقَةِ الْكَفِّ وَالسُّكُونِ لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ إِبْقَاءُ هَذَا الْفِعْلِ عَلَى عَدَمِهِ الْمُسْتَصْحَبِ فَلَا يَتَحَرَّكُ فِي طَلَبِهِ أَوْ كَفِّ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِهِ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ.
وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِلْمُ حَرَكَاتِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ.
وَأَمَّا فَرْضُ الْكِفَايَةِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهِ ضَابِطًا صَحِيحًا، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُدْخِلُ فِي ذَلِكَ مَا يَظُنُّهُ فَرْضًا، فَيُدْخِلُ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ: عِلْمَ الطِّبِّ، وَعِلْمَ الْحِسَابِ، وَعِلْمَ الْهَنْدَسَةِ، وَالْمِسَاحَةِ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: عِلْمَ أُصُولِ الصِّنَاعَةِ كَالْفَلَاحَةِ، وَالْحِيَاكَةِ، وَالْحِدَادَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَنَحْوِهَا. وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: عِلْمَ الْمَنْطِقِ، وَرُبَّمَا جَعَلَهُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَبَنَاهُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِيمَانِ الْمُقَلِّدِ.
وَكُلُّ هَذَا هَوَسٌ وَخَبَطٌ، فَلَا فَرْضَ إِلَّا مَا فَرَضَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَكُونَ طَبِيبًا، حَجَّامًا، حَاسِبًا، مُهَنْدِسًا، أَوْ حَائِكًا، أَوْ فَلَّاحًا، أَوْ نَجَّارًا، أَوْ خَيَّاطًا؟! فَإِنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ كَفَرْضِ الْعَيْنِ فِي تَعَلُّقِهِ بِعُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ فِي سُقُوطِهِ بِفِعْلِ الْبَعْضِ.
ثُمَّ عَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يَكُونُ اللَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ جُمْلَةَ هَذِهِ الصَّنَائِعِ وَالْعُلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَرْضًا عَلَى مُعَيَّنٍ، وَالْآخَرُ عَلَى مُعَيَّنٍ آخَرَ، بَلْ عُمُومُ فَرْضِيَّتِهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْعُمُومِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ حَاسِبًا حَائِكًا خَيَّاطًا نَجَّارًا فَلَّاحًا طَبِيبًا مُهَنْدِسًا.
فَإِنْ قَالَ: (الْمَجْمُوعُ فَرْضٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ) لَمْ يَكُنْ قَوْلُكَ: (إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ) صَحِيحًا؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ يَجِبُ عَلَى الْعُمُومِ.
وَأَمَّا الْمَنْطِقُ، فَلَوْ كَانَ عِلْمًا صَحِيحًا كَانَ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ كَالْمِسَاحَةِ وَالْهَنْدَسَةِ وَنَحْوِهَا، فَكَيْفَ وَبَاطِلُهُ أَضْعَافُ حَقِّهِ، وَفَسَادُهُ، وَتَنَاقُضُ أُصُولِهِ، وَاخْتِلَافُ مَبَانِيهِ تُوجِبُ مُرَاعَاتُهَا لِلذِّهْنِ أَنْ يَزِيغَ فِي فِكْرِهِ؟! وَلَا يُؤْمِنُ بِهَذَا إِلَّا مَنْ قَدْ عَرَفَهُ وَعَرَفَ فَسَادَهُ وَتَنَاقُضَهُ وَمُنَاقَضَةَ كَثِيرٍ مِنْهُ لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ.
وَمَا دَخَلَ الْمَنْطِقُ عَلَى عِلْمٍ إِلَّا أَفْسَدَهُ وَغَيَّرَ أَوْضَاعَهُ، وَشَوَّشَ قَوَاعِدَهُ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ التَّصْرِيفِ وَالنَّحْوِ وَاللُّغَةِ، وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ وَنَحْوِهَا تَعَلُّمُهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِتَوَقُّفِ فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهَا.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: تَعَلُّمُ أُصُولِ الْفِقْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الدَّلِيلُ وَمَرْتَبَتُهُ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِدْلَالِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الصَّوَابِ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَيْسَ وُجُوبُهَا عَامًّا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ وُجُوبَ الْوَسَائِلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَعَلَى بَعْضِ الْأَشْخَاصِ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ الَّذِي يَعُمُّ وُجُوبُهُ كُلَّ أَحَدٍ؛ وَهُوَ عِلْمُ الْإِيمَانِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ، وَأَمَّا مَا عَدَاهُ فَإِنْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَيَكُونُ الْوَاجِبُ مِنْهُ الْقَدْرَ الْمُوَصِّلَ إِلَيْهِ دُونَ الْمَسَائِلِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لَا يَفْتَقِرُ مَعْرِفَةُ الْخِطَابِ وَفَهْمُهُ عَلَيْهَا.
فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ بِأَنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ إِذِ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَمِنْ مَسَائِلِهِ وَبُحُوثِهِ لَا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ الْقَدْرُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الْخِطَابِ عَلَيْهِ مِنْهُ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ، دُونَ الْمَسَائِلِ الْمُقَدَّرَةِ وَالْأَبْحَاثِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ تَعَلُّمَهَا وَاجِبٌ؟!
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالْمَطْلُوبُ الْوَاجِبُ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ إِذَا تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا وُجُوبَ الْوَسَائِلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَذْهَانِ فَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٣٩ - ٣٤٥
الْمُسْلِمُ لَا يَنْفَكُّ أَبَدًا مِنْ طَلَبِهِ الْعِلْمَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَمَنْ تَدَبَّرَ مَا رَسَمْتُهُ لَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هَاهُنَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ أَبَدًا مِنْ طَلَبِهِ الْعِلْمَ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْجَهْلُ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضِ عِبَادَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي أَهْلِهِ، وَفِي وَلَدِهِ، وَفِي جَمِيعِ سَعْيِهِ فَرْضًا لَازِمًا، يَسْعَى إِلَى الْعُلَمَاءِ بِإِتْعَابِ نَفْسِهِ، وَإِنْفَاقِ مَالِهِ، وَتَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ، وَلَوْ إِلَى الصِّينِ، إِذَا كَانَ لَا يُوجَدُ الْعِلْمُ إِلَّا بِالصِّينِ.
ص ٣٤٥
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ الرَّسَائِلِ» (١/ ١٠): حَلَفَ رَجُلٌ يَمِينًا، فَأَشْكَلَتْ عَلَى الْفُقَهَاءِ، فَدَلَّ عَلَى بَلَدٍ، فَاسْتَبْعَدَهُ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ذَلِكَ الْبَلَدَ قَرِيبٌ عَلَى مَنْ أَهَمَّهُ دِينُهُ.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَنْ أَهَمَّهُ أَمْرُ دِينِهِ كَمَا أَهَمَّهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ إِذَا حَدَثَتْ لَهُ حَادِثَةٌ فِي دِينِهِ لَا يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ عَنْهَا إِلَّا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ السَّفَرِ إِلَيْهِ لِيَسْتَبْرِئَ لِدِينِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ عَرَضَ لَهُ هُنَاكَ كَسْبٌ دُنْيَوِيٌّ لَبَادَرَ السَّفَرَ إِلَيْهِ. اهـ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٤٦
الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
وَقَدْ رَحَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ [مِمَّا قَدْ] أُشْكِلَ عَلَيْهِمْ.
٢٣ - رَحَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِصْرَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَسَأَلَهُ عَنْهُ فِي يَوْمٍ دَخَلَ، فَخَبَّرَهُ بِهِ، فَرَكِبَ أَبُو أَيُّوبَ رَاحِلَتَهُ مِنْ وَقْتِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَدْ رَحَلَ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ إِلَى الشَّامِ مِنَ الْعِرَاقِ، وَمِنَ الْحِجَازِ، وَسَأَلُوا عَنِ الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ وَالْأَكْثَرِ.
ص ٣٤٦ - ٣٤٧
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ رَسَائِلِهِ» (٨/١): وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقُوَّةِ رَغْبَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَالْخَيْرِ يَرْتَحِلُ أَحَدُهُمْ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ لِطَلَبِ حَدِيثٍ وَاحِدٍ يَبْلُغُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَقَدْ رَحَلَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مِصْرَ لِلِقَاءِ رَجُلٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَهُ عَنْهُ حَدِيثٌ يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَكَذَلِكَ فَعَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ كَثْرَةِ مَا سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الْحَدِيثِ وَرَوَى.
وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَرْحَلُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ لِطَلَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ لَا يَجِدُ [إِلَّا] عِنْدَهُ. وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى وَارْتِحَالِهِ مَعَ فَتَاهُ، فَلَوِ اسْتَغْنَى أَحَدٌ عَنِ الرِّحْلَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَاسْتَغْنَى عَنْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ كَانَ اللَّهُ قَدْ كَلَّمَهُ وَأَعْطَاهُ التَّوْرَاةَ الَّتِي كُتِبَ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْخَضِرِ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا يَخْتَصُّ بِهِ، سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لِقَائِهِ، ثُمَّ سَارَ هُوَ وَفَتَاهُ إِلَيْهِ…
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ نَزَلَتْ، وَلَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَوْ أَعْيَتْنِي آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا يَفْتَحُهَا عَلَيَّ إِلَّا رَجُلٌ بِبَرْكِ الْغِمَادِ لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ. وَبَرْكُ الْغِمَادِ: أَقْصَى الْيَمَنِ.
وَخَرَجَ مَسْرُوقٌ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ لِرَجُلٍ يَسْأَلُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ فِيهَا عِلْمًا، فَأُخْبِرَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَرَجَعَ إِلَى الْكُوفَةِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ فِي طَلَبِهَا.
وَرَحَلَ رَجُلٌ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الشَّامِ إِلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَسْتَفْتِيهِ فِي يَمِينٍ حَلَفَهَا.
وَرَحَلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ يَسْأَلُهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ.
وَرَحَلَ الْحَسَنُ إِلَى الْكُوفَةِ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ يَسْأَلُهُ عَنْ قِصَّتِهِ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى.
وَاسْتِقْصَاءُ هَذَا الْبَابِ يَطُولُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٤٧ - ٣٤٨
الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ وَعُلُوِّ الْإِسْنَادِ
فَائِدَةٌ: قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (٢/٣٣٣): (بَابُ الرِّحْلَةِ فِي الْحَدِيثِ إِلَى الْبِلَادِ النَّائِيَةِ لِلِقَاءِ الْحُفَّاظِ بِهَا، وَتَحْصِيلِ الْأَسَانِيدِ الْعَالِيَةِ).
قَالَ: الْمَقْصُودُ فِي الرِّحْلَةِ فِي الْحَدِيثِ أَمْرَانِ:
-
أَحَدُهُمَا: تَحْصِيلُ عُلُوِّ الْإِسْنَادِ، وَقِدَمِ السَّمَاعِ.
-
وَالثَّانِي: لِقَاءُ الْحُفَّاظِ وَالْمُذَاكَرَةُ لَهُمْ، وَالِاسْتِفَادَةُ عَنْهُمْ.
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرَانِ مَوْجُودَيْنِ فِي بَلَدِ الطَّالِبِ، وَمَعْدُومَيْنِ فِي غَيْرِهِ؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي الرِّحْلَةِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فِي الْبَلَدِ أَوْلَى.
وَأَسْنَدَ فِيهِ (١٧٣٩) قَالَ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ: يَا ابْنَ وَهْبٍ، اتَّقِ اللَّهَ، وَاقْتَصِرْ عَلَى عِلْمِكَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَصِرْ أَحَدٌ عَلَى عِلْمِهِ إِلَّا نَفَعَ وَانْتَفَعَ، فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِمَا طَلَبْتَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَقَدْ أَصَبْتَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ أُمَمًا، وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا تَعَلَّمْتَ طَلَبَ الدُّنْيَا فَلَيْسَ فِي يَدَيْكَ شَيْءٌ. اهـ
الْحَاشِيَةُ ص ٣٤٧
مَسْأَلَةٌ: هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ أَبَوَيْهِ فِي الرِّحْلَةِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ؟
عَقَدَ الْخَطِيبُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُهِمَّةِ بَابًا فِي كِتَابِهِ «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (٣٤٢/٣)، فَقَالَ: (اسْتِئْذَانُ الْأَبَوَيْنِ فِي الرِّحْلَةِ).
وَأَسْنَدَ فِيهِ (١٦٩٢) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ دَاوُدَ، يَقُولُ: لَيْسَ لِأَبَوَيِ الرَّجُلِ الَّذِي يَرْحَلُ فِي الْحَدِيثِ طَاعَةٌ.
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ١٢٢]، فَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ الرِّحْلَةَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.
قَالَ الْخَطِيبُ: وَالطَّلَبُ الْمَفْرُوضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِنَّمَا هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَسَعُ جَهْلُهُ فَتَجُوزُ الرِّحْلَةُ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِ الطَّالِبِ مَنْ يُعَرِّفُهُ وَاجِبَاتِ الْأَحْكَامِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ قَدْ عَرَفَ عِلْمَ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ فَتُكْرَهُ لَهُ الرِّحْلَةُ إِلَّا بِإِذْنِ أَبَوَيْهِ.
وَفِيهِ (١٦٩٣) عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَصْرَمَ الْمُزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَسْأَلُهُ رَجُلٌ ـ يَعْنِي: أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ - فَقَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَوْ أَرْجِعُ إِلَى أُمِّي؟ وَكَانَ السَّائِلُ غَرِيبًا عَنْ بَلَدِهِ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْعِلْمُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَنْ تَطْلُبَهُ؛ فَلَا بَأْسَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ (الْخَطِيبُ): وَإِذَا مَنَعَ الطَّالِبَ أَبَوَاهُ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ الْمُفْتَرَضِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ مُدَارَاتُهُمَا وَالرِّفْقُ بِهِمَا حَتَّى تَطِيبَ لَهُ أَنْفُسُهُمَا وَيَسْهُلَ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا.
وَفِيهِ (١٦٩٤) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْهَيْثَمِ الْبَزَّازِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّ أُمِّي تَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ، تُرِيدُ مِنِّي أَنْ أَشْتَغِلَ فِي التِّجَارَةِ. فَقَالَ لِي: دَارِهَا، وَأَرْضِهَا، وَلَا تَدَعِ الطَّلَبَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٤٨ - ٣٤٩
مَا الْعِلْمُ الَّذِي يُعْذَرُ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِهِ؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٢٤ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا الْعِلْمُ الَّذِي يُعْذَرُ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِهِ؟
قِيلَ لَهُ: هَذَا كَلَامٌ فِيهِ جَفَاءٌ؛ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ: جَوَابُكَ، أَنْ يُقَالَ لَكَ: الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ عِلْمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْكَ، فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْكَ طَلَبُ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ، وَسَهُلَ عَلَيْكَ الطَّلَبُ لِعِلْمٍ غَيْرِهِ مِثْلَ:
عِلْمِ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقِصَصِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَخْبَارِ الْخُلَفَاءِ، وَمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
وَأَشْبَاهِ لِهَذَا.
قِيلَ لَهُ: يَا غَافِلُ لَوْ جَهِلْتَ هَذَا لَمَا ضَرَّكَ جَهْلُهُ.
وَإِذَا جَهِلْتَ مَا يَجِبُ عَلَيْكَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ لَمْ تُعْذَرْ بِجَهْلِكَ، وَكُنْتَ عَاصِيًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِجَهْلِكَ مَا يَجِبُ عَلَيْكَ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ:
إِذَا أَنْتَ أَلْزَمْتَ نَفْسَكَ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمِ الْوَاجِبِ اللَّازِمِ لَكَ فِي حِينِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَحِينَ الصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، وَفِي حِينِ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ؛ لَمْ نَأْمَنْ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ تَرِدَ عَلَيْكَ أُمُورٌ لَمْ يَتَقَدَّمِ الْعِلْمُ بِهَا، يَلْزَمُكَ طَلَبُ الْعِلْمِ لَهَا مَعَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ، وَلَوْ كُنْتَ طَلَبْتَ عِلْمَهَا قَبْلَ أَنْ تُبْتَلَى بِهَا، كَانَ أَفْضَلَ لَكَ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْكَ.
…
هَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ يُعْذَرُ الْإِنْسَانُ بِجَهْلِهِ قَبْلَ وُرُودِهِ، فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلِهِ، إِذَا كَانَ إِنَّمَا شَغَلَهُ عَنْ طَلَبِ عِلْمِ هَذَا حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ اشْتِغَالُهُ بِطَلَبِ عِلْمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ.
فَلَيْسَ يَنْفَكُّ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ أَبَدًا مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا.
ص ٣٤٩ - ٣٥١
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (556/1) وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي بَيَانِ الْوَاجِبِ مِنَ الْعِلْمِ.. وَأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَرِيضَةٌ وَيَلْزَمُهُ مِنْ عِلْمِهَا عِلْمُ مَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِهِ مِنْ طَهَارَتِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا، وَأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ، وَيَلْزَمُهُ عِلْمُ مَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَعْرِفَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَتَى تَجِبُ؟ وَفِي كَمْ تَجِبُ؟ وَلَزِمَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ فَرْضٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، إِلَى أَشْيَاءَ يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ جُمَلِهَا وَلَا يُعْذَرُ بِجَهْلِهَا.
فِي طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ (١/ ٣٧٥) قَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ الْجَصَّاصُ: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: إِلَى مَتَى يَكْتُبُ الرَّجُلُ؟ قَالَ: حَتَّى يَمُوتَ.
وَفِيهِ (١/ ٣٩٠) قَالَ حَرْبٌ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: النَّاسُ يَحْتَاجُونَ إِلَى الْعِلْمِ مِثْلَ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، وَالْخُبْزُ وَالْمَاءُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ.
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ» (٥٨٦) قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: إِلَى مَتَى تَطْلُبُ الْعِلْمَ؟ قَالَ: حَتَّى الْمَمَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ لَهُ مَرَّةً أُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَعَلَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي تَنْفَعُنِي لَمْ أَكْتُبْهَا بَعْدُ.
وَفِيهِ (٥٨٨) قَالَ ابْنُ مُنَاذِرٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَمْرِو بْنَ الْعَلَاءِ حَتَّى مَتَى يَحْسُنُ بِالْمَرْءِ أَنْ يَتَعَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا دَامَ تَحْسُنُ بِهِ الْحَيَاةُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥١
مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللَّهِ يُدْرِكُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
ثُمَّ اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّهُ مَنْ كَانَ مُرَادُهُ طَلَبَ الْعِلْمِ الَّذِي لَا يَسَعُهُ جَهْلُهُ، وَحَسُنَتْ فِيهِ نِيَّتُهُ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ يُوَفِّقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِطَلَبِ عِلْمِ مَا ذَكَرْنَاهُ، قَبْلَ وُرُودِهِ عَلَيْهِ، خَوْفًا أَنْ يُبْتَلَى بِهِ.
٢٥ ـ وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ؛ وَفَّقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَالْعَاقِلُ لَا يَسْتَحْسِنُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا بِعِلْمٍ يَزِيدُهُ شَرَفًا بِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ؛ وَلَكِنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْوَاجِبِ كَيْفَ يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا أَلْزَمَهُ، فَتَزَايَدَ فِي طَلَبِ كُلِّ عِلْمٍ يَنْفَعُ لَا يَشْبَعُ.
ص ٣٥١ - ٣٥٢
فِي «الْعِلْمِ» لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ (١١٢) عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَ: مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنَ الْعِلْمِ يَبْتَغِي بِهِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؛ آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَا يَكْفِيهِ.
وَفِي «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» (٢٦٠) عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: مَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِنْ هَذَا الْعِلْمِ فَأَرَادَ بِهِ مَا عِنْدَ اللَّهِ يُدْرِكُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا، فَذَاكَ وَاللَّهِ حَظُّهُ مِنْهُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥٢
٣- بَابُ فَضْلِ طَلَبِ الْعِلْمِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
٢٦ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْجَرْجَرَائِيُّ، نَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ص ٣٥٣
رَوَاهُ مُسْلِمٌ
٢٨ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ، نَا زُهَيْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَرْوَزِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ عَسَّالٍ الْمُرَادِيَّ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟
فَقُلْتُ: جِئْتُ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ.
فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لِيَطْلُبَ الْعِلْمَ إِلَّا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِمَا يَصْنَعُ».
ص ٣٥٣
حَدِيثٌ صَحِيحٌ
حُسْنُ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَذَا الْفَضْلُ كُلُّهُ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ؟
قِيلَ لَهُ: [هَذَا] الْفَضْلُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ حَسُنَتْ نِيَّتُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ.
فَإِنْ قَالَ: وَمَا حُسْنُ النِّيَّةِ فِيهِ؟
قِيلَ: مَنْ خَرَجَ لِيَتَعَلَّمَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَنْفِي بِهِ عَنْهُ الْجَهْلَ بِمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ عِبَادَتِهِ، حَتَّى يَعْبُدَ اللَّهَ الْكَرِيمَ بِعِلْمٍ، فَطَلَبَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَنْفَعُهُ بِهِ فِي دِينِهِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، وَكُلَّمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِمَّا قَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ، يُرِيدُ السَّلَامَةَ مِنْهُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِيهِ عِلْمٌ سَعَى إِلَى الْعُلَمَاءِ فِيهِ لِيَتَعَلَّمَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ سَلَامَةَ دِينِهِ، فَأَيُّ طَرِيقٍ سَلَكَ هَذَا الطَّالِبُ قَصِيرٌ أَوْ طَوِيلٌ، كَانَ دَاخِلًا فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَضْلِ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأُعِينَ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ص ٣٥٥
فِي «السِّيَرِ» (٦٦/٨) قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: مَا تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ إِلَّا لِنَفْسِي، وَمَا تَعَلَّمْتُ لِيَحْتَاجَ النَّاسُ إِلَيَّ، وَكَذَلِكَ كَانَ النَّاسُ.
وَفِي «الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ» (٣٧/٢): قَالَ مُهَنَّا: قُلْتُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: حَدِّثْنَا مَا أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ؟ قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ. قُلْتُ: لِمَنْ؟ قَالَ: لِمَنْ صَحَّتْ نِيَّتُهُ. قُلْتُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يُصَحِّحُ النِّيَّةَ؟ قَالَ: يَنْوِي يَتَوَاضَعُ فِيهِ، وَيَنْفِي عَنْهُ الْجَهْلَ.
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (٣٦٦/٦) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَا مِنْ عَمَلٍ أَفْضَلُ مِنْ طَلَبِ الْحَدِيثِ إِذَا صَحَّتِ النِّيَّةُ فِيهِ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: قُلْتُ لِلْفِرْيَابِيِّ: وَأَيُّ شَيْءٍ النِّيَّةُ؟ قَالَ: تُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ.
وَفِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (١٥) قَالَ إِسْرَائِيلُ بْنُ يُونُسَ: مَنْ طَلَبَ هَذَا الْعِلْمَ لِلَّهِ تَعَالَى شَرُفَ، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لِلَّهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥٥ - ٣٥٦
مَنْ كَانَ طَلَبُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَقَلُّ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِلْمِ يَنْفَعُهُ
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ كَانَ طَلَبُهُ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَأَقَلُّ الْقَلِيلِ مِنَ الْعِلْمِ يَنْفَعُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ص ٣٥٦
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (١٨٨/١) فِي تَرْجَمَةِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ، مِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ السَّعْدِيِّ، عَنْ عَمِّهِ، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ لِحُذَيْفَةَ: يَا أَخَا بَنِي عَبْسٍ، إِنَّ الْعِلْمَ كَثِيرٌ، وَالْعُمُرَ قَصِيرٌ، فَخُذْ مِنَ الْعِلْمِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ دِينِكَ، وَدَعْ مَا سِوَاهُ، فَلَا تُعَانِهِ.
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١٠٨٠) وَرُوِّينَا عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْعِلْمَ لَا يَنْفَدُ، فَابْتَغِ مِنْهُ مَا يَنْفَعُكَ.
وَفِيهِ (١٠٨١) وَيُقَالُ: مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ قَلِيلُ عِلْمِهِ ضَرَّهُ كَثِيرُهُ.
وَفِي «الْعِلْمِ» لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ (٦٠) قَالَ: وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ تَأْخُذُهُ وَلَا تَنْقُصُهُ شَيْئًا، فَعَلَيْكَ مِنَ الْعِلْمِ بِمَا يَنْفَعُكَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥٧
طَرِيقُ الْعِلْمِ مُسَهَّلٌ
٣٦ - حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ، نَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى، نَا ضَمْرَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ فِي قَوْلِهِ ﷺ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر]، قَالَ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ يُعَانُ عَلَيْهِ.
ص ٣٥٨
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ رَسَائِلِهِ» (١/١٢): قَوْلُهُ: «سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ». فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أُمُورًا: مِنْهَا: أَنْ يُسَهِّلَ اللَّهُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الْعِلْمَ الَّذِي طَلَبَهُ وَسَلَكَ طَرِيقَهُ وَيُيَسِّرَهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ طَرِيقٌ مُوَصِّلٌ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾. قَالَ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيْهِ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥٨
رُبَّ عِلْمٍ يُتْعِبُ الْبَدَنَ وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْعِقَابُ
٣٧ - وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
أَوْلَى الْعِلْمِ بِكَ: مَا لَا يَصْلُحُ الْعَمَلُ إِلَّا بِهِ.
وَأَوْجَبُ الْعِلْمِ عَلَيْكَ: الْعَمَلُ بِهِ.
وَأَنْفَعُ الْعِلْمِ لَكَ: مَا دَلَّكَ عَلَى صَلَاحِ قَلْبِكَ وَفَسَادِهِ.
وَأَحْمَدُ الْعِلْمِ عَاقِبَةً: مَا تَعَجَّلْتَ نَفْعَهُ فِي الْعَاجِلَةِ.
فَلَا تَشْتَغِلَنَّ بِعِلْمٍ لَا يَضُرُّكَ جَهْلُهُ.
وَلَا تَغْفَلْ عَنْ عِلْمٍ يَزِيدُ فِي جَهْلِكَ بِتَرْكِهِ؛ فَلَرُبَّ عِلْمٍ يُرِيحُ الْبَدَنَ، وَيَغْزُرُ مِنْهُ الثَّوَابُ، وَرُبَّ عِلْمٍ يُتْعِبُ الْبَدَنَ، وَيَكْثُرُ مِنْهُ الْعِقَابُ.
ص ٣٥٨
وَذَلِكَ مِثْلُ مَا يُسَمَّى بِعِلْمِ الْكَلَامِ الَّذِي «هُوَ مَزِيجٌ مِنَ الْقَوَانِينِ الْمَنْطِقِيَّةِ، وَالْأُصُولِ الْفَلْسَفِيَّةِ، الَّتِي أُلْبِسَتْ لِبَاسَ الْإِسْلَامِ، وَقُدِّمَتْ فِي صُورَةٍ ظَاهِرُهَا الدِّفَاعُ عَنِ الدِّينِ، وَبَاطِنُهَا زَرْعُ الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِلْحَادِ فِي الْقُلُوبِ».
وَلَقَدْ عَلِمَ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ وَأَئِمَّةُ السُّنَّةِ خَطَرَ وَفَسَادَ هَذَا الْعِلْمِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلَا يُفْلِحُ صَاحِبُهُ أَبَدًا وَإِنْ أَرَادَ بِهِ نَصْرَ السُّنَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْصَرُ بِهَذَا الْعِلْمِ، إِنَّمَا تُنْصَرُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، وَلَا يُسَمَّى الرَّجُلُ عَالِمًا إِلَّا بِذَلِكَ، وَلَوْ تَعَلَّمَ الرَّجُلُ عِلْمَ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقَ حَتَّى وَصَلَ فِيهِ إِلَى غَايَتِهِ لَمْ يُعَدَّ عَالِمًا عِنْدَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ.
فَفِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (٦٩٣) قَالَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: قِيلَ لِهِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ حِينَ أُدْخِلَ عَلَى الْمَأْمُونِ: كَلِّمْ بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ. فَقَالَ: أَصْلَحَ اللَّهُ الْخَلِيفَةَ، لَا أُحْسِنُ كَلَامَهُ، وَالْعَالِمُ بِكَلَامِهِ عِنْدَنَا جَاهِلٌ.
وَقَالَ قَوَّامُ السُّنَّةِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي «الْحُجَّةِ فِي بَيَانِ الْمَحَجَّةِ» (٣٠٦/١): بَيَانُ الْأُمُورِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الرَّجُلُ إِمَامًا فِي الدِّينِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ لَيْسُوا مِنَ الْعُلَمَاءِ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٩٤٢/٢): أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْصَارِ؛ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وَزَيْغٍ، وَلَا يُعَدُّونَ عِنْدَ الْجَمِيعِ فِي طَبَقَاتِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ. اهـ.
وَأَمَّا نَهْيُهُمْ عَنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ الْكَلَامِ وَتَعْلِيمِهِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُجْمَعَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ، وَمِنْ ذَلِكَ:
مَا فِي «ذَمِّ الْكَلَامِ» (١١٢٨)، وَ«اعْتِقَادِ الشَّافِعِيِّ» لِلْهَكَّارِيِّ (١٩): قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَقِيلِ بْنِ الْأَزْهَرِ الْفَقِيهُ اللَّهُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْمُزَنِيِّ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ هَذَا، بَلْ أَنْهَى عَنْهُ كَمَا نَهَى عَنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الْكَلَامِ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ مَالِكٌ: مُحَالٌ أَنْ يُظَنَّ بِالنَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ عَلَّمَ أُمَّتَهُ الِاسْتِنْجَاءَ وَلَمْ يُعَلِّمْهُمُ التَّوْحِيدَ، فَالتَّوْحِيدُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) فَإِذَا قَالُوهَا؛ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»، فَمَا عُصِمَ بِهِ الدَّمُ وَالْمَالُ فَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ.
وَفِي «مُخْتَصَرِ الْحُجَّةِ عَلَى تَارِكِ الْمَحَجَّةِ» (٢١٢) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ اللَّهُ: دَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنِ الْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ؟ فَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ؟! لَعَنَ اللَّهُ عَمْرًا؛ فَإِنَّهُ ابْتَدَعَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ مِنَ الْكَلَامِ، وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ عِلْمًا لَتَكَلَّمَ فِيهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ﷺ كَمَا تَكَلَّمُوا فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ؛ وَلَكِنَّهُ بَاطِلٌ يَدُلُّ عَلَى بَاطِلٍ.
وَفِيهِ (٢٢٣) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنِ الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: دَعِ الْبَاطِلَ، أَيْنَ أَنْتَ عَنِ الْحَقِّ؟ اتَّبِعِ السُّنَّةَ وَدَعِ الْبِدْعَةَ.
وَفِيهِ (٢٢٤) سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاهِلِيُّ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: اجْتَنِبْ عِلْمًا إِذَا بَلَغْتَ فِيهِ الْمُنْتَهَى نَسَبُوكَ إِلَى الزَّنْدَقَةِ، وَعَلَيْكَ بِالِاقْتِدَاءِ وَالتَّقْلِيدِ.
وَفِيهِ (٢١١) قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى بِكُتُبِهِ مِنَ الْعِلْمِ لِآخَرَ، وَكَانَ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ، لَا تَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ.
وَفِي «ذَمِّ الْكَلَامِ (٧٠٨) قَالَ الشَّافِعِيُّ: حُكْمِي فِي أَهْلِ الْكَلَامِ حُكْمُ عُمَرَ مِنْهُ فِي صَبِيغٍ: أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرِيدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الْإِبِلِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُنَادَى عَلَيْهِمْ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَأَقْبَلَ عَلَى عِلْمِ الْكَلَامِ.
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ (١٧٩٦) قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا، وَلَا تَكَادُ تَرَى أَحَدًا نَظَرَ فِي الْكَلَامِ إِلَّا وَفِي قَلْبِهِ دَغَلٌ.
وَفِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى (٦٧٦)، وَمُخْتَصَرِ الْحُجَّةِ (٢٢٧) قَالَ أَحْمَدُ: كُلُّ مَنْ أَحَبَّ الْكَلَامَ لَمْ يَكُنْ آخِرُ أَمْرِهِ إِلَّا إِلَى الْبِدْعَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَدْعُو إِلَى خَيْرٍ، فَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ، وَلَا الْخَوْضَ، وَلَا الْجِدَالَ، عَلَيْكُمْ بِالسُّنَنِ، وَالْفِقْهِ الَّذِي تَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَدَعُوا الْجِدَالَ، وَكَلَامَ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْمِرَاءِ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ وَمَا يَعْرِفُونَ هَذَا، وَيُجَانِبُونَ أَهْلَ الْكَلَامِ، وَمَنْ أَحَبَّ الْكَلَامَ لَمْ يُفْلِحْ عَاقِبَتُهُ، الْكَلَامُ لَا يُوصِلُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَفِي «مُخْتَصَرِ الْحُجَّةِ (٥٩٨) قَالَ الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنِ الْكَرَابِيسِيِّ، وَمَا أَظْهَرَ؟ فَكَلَحَ وَجْهُهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا جَاءَ بَلَاؤُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الَّتِي وَضَعُوهَا وَتَرَكُوا أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَصْحَابِهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ.
وَفِي «ذَمِّ الْكَلَامِ (١٠٦٧) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ الْخُرَيْبِيُّ: لَيْسَ الدِّينُ بِالْكَلَامِ؛ إِنَّمَا الدِّينُ بِالْآثَارِ.
وَفِي «السُّنَّةِ لِلَّالْكَائِيِّ (٣٢٢) قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سَمِعْتُ أَبِي، وَأَبَا زُرْعَةَ: يَأْمُرَانِ بِهِجْرَانِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْبِدَعِ، وَيُغَلِّظَانِ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ تَغْلِيظٍ، وَيُنْكِرَانِ وَضْعَ الْكُتُبِ بِرَأْيٍ فِي غَيْرِ آثَارٍ، وَيَنْهَيَانِ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ فِي كُتُبِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَيَقُولَانِ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ كَلَامٍ أَبَدًا.
وَفِي «مُخْتَصَرِ الْحُجَّةِ»(٢٣٤) قَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْقَاضِي لِأَبِي عُمَرَ الضَّرِيرِ: الرَّجُلُ يَتَعَلَّمُ شَيْئًا مِنَ الْكَلَامِ يُرَدُّ بِهِ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ؟! فَقَالَ: الْكَلَامُ كُلُّهُ جَهْلٌ، لَا تَتَعَلَّمِ الْجَهْلَ؛ فَإِنَّكَ كُلَّمَا كُنْتَ بِالْجَهْلِ أَعْلَمَ، كُنْتَ بِالْعِلْمِ أَجْهَلَ.
وَفِيهِ (٢٤١) قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْكَلَامُ فِي الدِّينِ لِأَهْلِ السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، وَأَدْنَى الْبِدْعَةِ أَنْ يَقِفَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَعُقُوبَةُ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ عَاجِلَةً: أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَرِقُّ الْإِيمَانُ. وَالثَّانِي: لَا يَرَى لِأَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعًا. وَالثَّالِثُ: يَشْهَدُ بِالْكُفْرِ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ يَقِينًا أَنَّهُ أَتْقَى اللَّهَ مِنْهُ، وَأَوْرَعُ، وَأَخْيَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الدَّرْءِ» (٢/ ٣٠٦): فَلْيَتَدَبَّرِ الْمُؤْمِنُ الْعَالِمُ كَيْفَ فَرَّقَ هَذَا الْكَلَامُ الْمُحْدَثُ الْمُبْتَدَعُ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَأَلْقَى بَيْنَهَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ. اهـ.
قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ اللَّطِيفِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الرَّسَائِلِ وَالْمَسَائِلِ النَّجْدِيَّةِ»(٣/ ٣٤٥): لَمَّا خَاضَ النَّاسُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعُرِّبَتْ كُتُبُ الْيُونَانِ، وَقُدَمَاءِ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ هُمْ أَجْهَلُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَضَلُّهُمْ فِي النَّظَرِيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ، فَضْلًا عَنِ السَّمْعِيَّاتِ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّاتُ، حَدَثَ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنَ الْخَوْضِ وَالْجِدَالِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ وَنُعُوتِ الْجَلَالَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الْكُتُبُ، وَأَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ مَا أَوْجَبَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ تَعْطِيلَ وُجُودِ ذَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، كَمَا جَرَى لِلِاتِّحَادِيَّةِ وَالْحُلُولِيَّةِ، فَمِنْ بَابِ الْكَلَامِ وَالْمَنْطِقِ دَخَلُوا فِي الْكُفْرِ الشَّنِيعِ، وَالْإِفْكِ الْفَظِيعِ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٥٨ - ٣٦١
صِفَةُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ
٣٨ - ثُمَّ اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ مِنْ طُلَّابِ الْعِلْمِ أُنَاسًا لَهُمْ عُقُولٌ مُؤَيَّدَةٌ، وَآدَابٌ جَمِيلَةٌ، وَفُهُومٌ حَسَنَةٌ، يُحِبُّونَ أَنْ يُحْيُوا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَسُنَنَ أَصْحَابِهِ، وَيُمِيتُونَ الْبِدَعَ، وَيُحِبُّونَ جَمْعَ الْعِلْمِ وَكَثْرَتَهُ؛ لِيَحْفَظُوا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَرِيعَتَهُمْ، كَرَاهِيَةَ أَنْ يَضِيعَ الْعِلْمُ، فَإِذَا بَلَغَهُمْ أَنَّ شَيْخًا مِنَ الشُّيُوخِ فِي بَلَدٍ شَاسِعٍ مَعَهُ عِلْمٌ، وَحِفْظٌ لِلسُّنَنِ، وَمَعْرِفَةٌ بِهَا رَحَلُوا إِلَيْهِ؛ رَغْبَةً مِنْهُمْ لِلسَّمَاعِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّيْخِ؛ إِذَا كَانَ ثِقَةً، مَأْمُونًا، صَادِقًا، عَارِفًا بِمَا يُحَدِّثُ.
فَمِثْلُ هَذَا يَرْغَبُ فِيهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ؛ لِيَأْخُذُوا عَنْ مِثْلِهِ الْعِلْمَ، بِنِيَّةٍ جَمِيلَةٍ، وَعَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ بِالْعِلْمِ، وَبِمَنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ، وَبِمَنْ لَا يُؤْخَذُ عَنْهُ، فَرَحَلُوا إِلَيْهِ.
فَهَذِهِ صِفَةٌ مَنْ تَضَعُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَهُوَ مِمَّنْ هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ، وَمِمَّنْ تَسْتَغْفِرُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ، وَمِمَّنْ قَدْ سَلَكَ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمِمَّنْ يَنْفَعُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ جَمِيعَ [خَلْقِهِ].
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
[اعْلَمْ] - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ جِدًّا، وَلَنْ يَضُرَّهُمْ ذَلِكَ، وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ كَثِيرٌ، هَذَا جَوَابٌ لِمَنْ طَلَبَ هَذَا الْفَضْلَ كُلَّهُ لِكُلِّ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ.
ص ٣٦١ - ٣٦٢
-
قَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَقِيدَتِهِ (٩٠) فِي صِفَةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُؤْخَذُ عَنْهُمُ الْعِلْمُ وَيُقْتَدَى بِهِمْ: كَانُوا أَئِمَّةً مَعْرُوفِينَ، ثِقَاتٍ، أَهْلَ صِدْقٍ وَأَمَانَةٍ، يُقْتَدَى بِهِمْ، وَيُؤْخَذُ عَنْهُمْ. وَلَمْ يَكُونُوا أَصْحَابَ بِدَعٍ، وَلَا خِلَافٍ، وَلَا تَخْلِيطٍ.اهـ.
-
وَقَالَ الْبَرْبَهَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «شَرْحِ السُّنَّةِ» (٩٨): وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْكُتُبِ؛ وَلَكِنَّ الْعَالِمَ: مَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ وَالسُّنَنَ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ وَالْكُتُبِ، وَمَنْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَهُوَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرَ الرِّوَايَةِ وَالْكُتُبِ. اهـ.
-
وَقَالَ الدَّشْتِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «النَّهْيِ عَنِ الرَّقْصِ وَالسَّمَاعِ» (١/ ٢٧٥): الْعِلْمُ هُوَ مَا قَالَ اللَّهُ، وَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَمَا جَاءَ عَنْهُمَا، وَمَعْرِفَةُ سِيرَةِ الصَّحَابَةِ وَأَقَاوِيلِهِمْ، وَمَعْرِفَةُ فَتَاوِيهِمْ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ هُمْ رُؤَسَاءُ الْجُهَّالِ عِلْمٌ وَلَا مَعْرِفَةٌ، بَلْ ذَلِكَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ وَغُرُورٌ مِنْهُمْ وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ لَهُمْ مِنْ سُوءِ أَعْمَالِهِمْ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٦١ - ٣٦٢
طَلَبُ الْعِلْمِ قَدْ يَكُونُ فِتْنَةً
فَأَمَّا مَنْ كَانَ مِمَّنْ طَلَبَهُ الْعِلْمَ الْمُكَاثَرَةَ، وَالْمُفَاخَرَةَ، وَالرِّيَاءَ، وَالسُّمْعَةَ، وَالْجَدَلَ…
وَأَشْبَاهَهَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمَا وَرَدَ مِنْهَا، لَيْسَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ فِيهَا شَيْءٌ، كَيْفَ يَلْحَقُهُ ثَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِنْ فَضْلِ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ؟!
اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ! مَا أَشَدَّ فِتْنَةَ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَا أَعَزَّ مَنْ طَلَبَهُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ، وَمَا مِنْهُمَا أَحَدٌ إِلَّا وَأَخْلَاقُهُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ عَلَى فَسَادِ طَلَبِهِ، أَيَخْفَى عَلَى أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ صِحَّةُ ذَا مِنْ فَسَادِ ذَا، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ.
ص ٣٦٢ - ٣٦٣
٤ - بَابُ فَضْلِ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ
٤٢ - حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ صَاعِدٍ، نَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، نَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ الْمَكِّيِّ، قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، جَالِسِ الْعُلَمَاءَ [٩٤/ب]، وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحْيِي الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ، كَمَا يُحْيِي [الْأَرْضَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ].
ص ٣٦٤
مَا بَيْنَ [] مِنْ «الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ» لِابْنِ الْمُبَارَكِ (١٣٨٧).
-
وَفِي «أَخْبَارِ الْقُضَاةِ» (١١٣/٣) قَالَ زَكَرِيَّا بْنُ زِيَادٍ النَّحْوِيُّ: كَانَ أَشْيَاخُنَا يَقُولُونَ: جَالِسِ الْعُلَمَاءَ، فَإِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَ حَمَدُوكَ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ عَلَّمُوكَ، وَإِنْ جَهِلْتَ لَمْ يُعَنِّفُوكَ، وَلَا تُجَالِسِ الْجُهَّالَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَ لَمْ يَحْمَدُوكَ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ لَمْ يُعَلِّمُوكَ، وَإِنْ جَهِلْتَ عَنَّفُوكَ، وَإِنْ شَهِدُوا لَكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ.
-
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ (٢٣٩) عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، قَالَ: بِنَفْسِي الْعُلَمَاءُ هُمْ ضَالَّتِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ، وَهُمْ بُغْيَتِي إِذَا لَمْ أَجِدْهُمْ، وَجَدْتُ صَلَاحَ قَلْبِي فِي مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِيهِ (٢٦٤) عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَ: الدُّنْيَا كُلُّهَا ظُلْمَةٌ إِلَّا مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» (٤٠) عَنْ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيِّ، قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ: هِيَ مَجَالِسُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، كَيْفَ تَشْتَرِي وَتَبِيعُ وَتُصَلِّي وَتَصُومُ، وَتَنْكِحُ وَتُطَلِّقُ، وَتَحُجُّ، وَأَشْبَاهُ هَذَا.
وَانْظُرْ: «جَامِعَ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٤٣٨/١) (بَابُ ذِكْرِ مَا رُوِيَ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ مِنْ وَصِيَّةِ ابْنِهِ وَحَضِّهِ إِيَّاهُ عَلَى مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْعِلْمِ). الْحَاشِيَةُ ص ٣٦٤ - ٣٦٥
الْعُلَمَاءُ قِسْمَانِ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ» (١٣/١): الْعُلَمَاءُ مِنْ أُمَّتِهِ مُنْحَصِرِينَ فِي قِسْمَيْنِ:
-
أَحَدُهُمَا: حُفَّاظُ الْحَدِيثِ وَجَهَابِذَتُهُ، وَنُقَّادُهُ، الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّةُ الْأَنَامِ، وَزَوَامِلُ الْإِسْلَامِ، الَّذِينَ حَفِظُوا عَلَى الْأُمَّةِ مَعَاقِدَ الدِّينِ وَمَعَاقِلَهُ، وَحَمَوْا مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّكْدِيرِ مَوَارِدَهُ وَمَنَاهِلَهُ…
-
الْقِسْمُ الثَّانِي: فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ دَارَتِ الْفُتْيَا عَلَى أَقْوَالِهِمْ بَيْنَ الْأَنَامِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، وَعُنُوا بِضَبْطِ قَوَاعِدِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ؛ فَهُمْ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، بِهِمْ يَهْتَدِي الْحَيْرَانُ فِي الظَّلْمَاءِ. وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِمْ أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَطَاعَتُهُمْ أَفْرَضُ عَلَيْهِمْ مِنْ طَاعَةِ الْأُمَّهَاتِ وَالْآبَاءِ بِنَصِّ الْكِتَابِ…
الْحَاشِيَةُ ص ٣٦٨
جَوَازُ حُضُورِ مَجَالِسِ الْقُصَّاصِ، وَالِاسْتِمَاعِ لَهُمْ
٤٥ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، نَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ، وَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ.
وَحَلْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ جُلُوسًا فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى يَتَحَدَّثُونَ بِالْفِقْهِ، وَيَتَذَاكَرُونَ.
قَالَ: فَرَكَعْتُ بَيْنَ الْمُذَكِّرِ وَالْحَلْقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ السُّبْحَةِ، قُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُ الْأَسْوَدَ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ عَسَى أَنْ تُصِيبَهُمْ إِجَابَةٌ وَرَحْمَةٌ، فَتُصِيبُنِي مَعَهُمْ.
ثُمَّ قُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُ الْحَلْقَةَ فَتَفَقَّهْتُ مَعَهُمْ لَعَلِّي أَسْمَعُ مَعَهُمْ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا فَأَعْمَلُ بِهَا، فَلَمْ أَزَلْ أُخَيِّرُ نَفْسِي فِي ذَلِكَ، وَأُشَاوِرُهَا حَتَّى جَاوَزْتُهُمْ، فَلَمْ أَقْعُدْ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ [١/٩٥] فَانْصَرَفْتُ، فَأَتَانِي آتٍ فِي الْمَنَامِ، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي رَكَعْتَ بَيْنَ الْمُذَكِّرِ وَالْحَلْقَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْفِقْهُ؟
فَقُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَ الْحَلْقَةَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْفِقْهُ لَوَجَدْتَ جِبْرِيلَ مَعَهُمْ جَالِسًا.
ص ٣٦٦ - ٣٦٨
دَلَّ هَذَا الْأَثَرُ عَلَى جَوَازِ حُضُورِ مَجَالِسِ الْقُصَّاصِ، وَالِاسْتِمَاعِ لَهُمْ، حَيْثُ إِنَّ الْقَاصَّ فِيهِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، وَالْمُتَحَيِّرَ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْمَجْلِسَيْنِ هُوَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ السُّنَّةِ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي جَوَازِ حُضُورِ مَجَالِسِ الْقُصَّاصِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ:
-
مَا فِي «أَخْبَارِ الْمَكِّيِّينَ» (١٦٢) عَنِ الْأَزْرَقِ بْنِ قَيْسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَعَدَ إِلَى عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ يَقُصُّ، فَجَاءَ النَّاسُ يَسْتَفْتُونَ ابْنَ عُمَرَ، فَكَانَ يَقُولُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَاصِّنَا.
-
وَفِي «الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ» (٨٢/٢) (فِي وَعْظِ الْقُصَّاصِ وَنَفْعِهِمْ وَضَرَرِهِمْ وَكَذِبِهِمْ): قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ [أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] يَقُولُ: يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ.
-
قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَتَرَى الذَّهَابَ إِلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: أَيْ لَعَمْرِي؛ إِذَا كَانَ صَدُوقًا؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمِيزَانَ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ. قُلْتُ لَهُ: كُنْتَ تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ أَوْ تَأْتِيهِمْ؟ قَالَ: لَا.
-
قَالَ: وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْوَسْوَسَةَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْقُصَّاصِ، مَا أَنْفَعَ مَجَالِسَهُمْ.
-
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ.
-
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ زَكَرِيَّا التَّمَّارِ: وَسُئِلَ عَنِ الْقُصَّاصِ وَالْمُعَبِّرِ؟ فَقَالَ: يُخْرَجُ الْمُعَبِّرُ، وَلَا يُخْرَجُ الْقُصَّاصُ.
-
وَقَالَ لَنَا: يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ فِي هَذَا الزَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يُذَكِّرُ الشَّفَاعَةَ، وَالصِّرَاطَ…
-
وَسُئِلَ عَنْ مُجَالَسَةِ الْقُصَّاصِ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ الْقَاصُّ صَدُوقًا فَلَا أَرَى بِمُجَالَسَتِهِ بَأْسًا.
-
وَقَالَ مُهَنَّا: إِنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَأَلُوهُ عَنِ الْقَصَصِ فَرَخَّصَ فِيهِ. فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْمَسْجِدِ يَقُولُ: مَا أَخْرَجَنِي إِلَّا الْقُصَّاصُ، وَلَوْلَاهُمْ مَا خَرَجْتُ. فَقَالَ لِي: يُعْجِبُنِي الْقُصَّاصُ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ عَذَابَ الْقَبْرِ، وَيُخَوِّفُونَ النَّاسَ. فَقُلْتُ لَهُ حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ، قَالَ: جَاءَنَا سُفْيَانُ هَهُنَا، فَقُلْنَا: نَسْتَقْبِلُ الْقُصَّاصَ بِوُجُوهِنَا؟ فَقَالَ: وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ فَقَالَ أَحْمَدُ: نَعَمْ، هَذَا مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ…
-
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَصَّ الْقَاصُّ لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِجْلَالًا لِذِكْرِ اللَّهِ….
-
وَسُئِلَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ فَيَأْمُرُونَ رَجُلًا فَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ يَوْمًا بَعْدَ الْأَيَّامِ فَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ.
-
وَقَالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لِعَمِّي [أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] فِي الْقُصَّاصِ؟ قَالَ: الْقُصَّاصُ الَّذِي يَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَالتَّخْوِيفَ، وَلَهُمْ نِيَّةٌ وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا مِنْ وَضْعِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحَادِيثِ فَلَا أَرَاهُ.
-
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَوْ قُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُسْمِعُهُمُ الْجَاهِلُ وَالَّذِي لَا يَعْلَمُ فَلَعَلَّهُ يَنْتَفِعُ بِكَلِمَةٍ، أَوْ يَرْجِعُ عَنْ أَمْرٍ.
-
كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَكْرَهُ أَنْ يُمْنَعُوا أَوْ قَالَ: رُبَّمَا جَاءُوا بِالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ.
-
وَرَوَى حَنْبَلٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ مَاهَانَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ مَرَّ عَلِيٌّ ﷺ عَلَى قَاصٍّ فَقَامَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْمُحْكَمَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الزَّجْرَ مِنَ الْأَمْرِ؟ قَالَ: لَا. فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَرَفَعَهَا، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا يَقُولُ: اعْرِفُونِي، اعْرِفُونِي.
-
وَبِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: انْتَهَى عَلِيٌّ ﷺ إِلَى رَجُلٍ وَهُوَ يَقُصُّ، فَقَالَ: عَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا مَعْنَاهُ.
-
وَعَنْ عَابِدِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِقَاصٍّ هَلْ تَعْرِفُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ فَعَلَامَ تَقُصُّ عَلَى النَّاسِ وَتَغُرُّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُ حَلَالَ اللَّهِ مِنْ حَرَامِهِ.
-
وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» (٦٣٣٧) عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدِّثِ النَّاسَ كُلَّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَمَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَكْثَرْتَ فَثَلَاثَ مِرَارٍ، وَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ، فَتَقُصُّ عَلَيْهِمْ، فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ فَتُمِلَّهُمْ، وَلَكِنْ أَنْصِتْ، فَإِذَا أَمَرُوكَ فَحَدِّثْهُمْ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ، فَانْظُرِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ فَاجْتَنِبْهُ، فَإِنِّي عَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابَهُ لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ. - يَعْنِي: لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا ذَلِكَ الِاجْتِنَابَ -. اهـ.
-
وَفِي «مُسْنَدِ أَحْمَدَ» (٢٥٨٢٠) عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ مَا لِابْنِ أَبِي السَّائِبِ - قَاصِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ -: ثَلَاثًا لَتُتَابِعَنِّي عَلَيْهِنَّ أَوْ لَأُنَاجِزَنَّكَ. فَقَالَ: مَا هُنَّ؟ بَلْ أَنَا أُتَابِعُكِ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: اجْتَنِبِ السَّجْعَ مِنَ الدُّعَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ ﷺ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَقُصَّ عَلَى النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّةً، فَإِنْ أَبَيْتَ فَثِنْتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَثَلَاثًا، فَلَا تُمِلَّ النَّاسَ هَذَا الْكِتَابَ، وَلَا أُلْفِيَنَّكَ تَأْتِي الْقَوْمَ وَهُمْ فِي حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِهِمْ فَتَقْطَعُ عَلَيْهِمْ حَدِيثَهُمْ؛ وَلَكِنِ اتْرُكْهُمْ فَإِذَا حَدُّوكَ عَلَيْهِ، وَأَمَرُوكَ بِهِ فَحَدِّثْهُمْ.
قُلْتُ: فَمِمَّا سَبَقَ مِنَ الْآثَارِ يَتَبَيَّنُ جَوَازُ حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَاصِّ إِذَا كَانَ صَاحِبَ عِلْمٍ وَسُنَّةٍ وَصِدْقٍ وَأَمَانَةٍ.
وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ فِي الْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ نَجِدُ أَنَّ هُنَاكَ أَسْبَابًا كَثِيرَةً جَعَلَتْ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ يَنْهَوْنَ عَنْ حُضُورِ مَجَالِسِ الْقُصَّاصِ وَالِاسْتِمَاعِ لَهُمْ، وَمِنْ ذَلِكَ:
-
خَوْفُهُمْ مِنِ انْشِغَالِ الْعَامَّةِ بِهَذِهِ الْمَجَالِسِ عَنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ، وَعَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَخَاصَّةً إِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَغْلَبَ مَنِ اشْتَغَلَ بِالْقَصَصِ وَالْوَعْظِ لَيْسُوا أَصْحَابَ عِلْمٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلِهَذَا كَثُرَتْ فِيهِمْ وَفِي مَجَالِسِهِمُ الْبِدَعُ.
-
فَفِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (١٥٠٠) قَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَا أَمَاتَ الْعِلْمَ إِلَّا الْقُصَّاصُ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيَجْلِسُ إِلَى الْقَاصِّ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ، وَإِنَّهُ لَيَجْلِسُ إِلَى الرَّجُلِ الْعَالِمِ السَّاعَةَ فَمَا يَقُومُ حَتَّى يُفِيدَ مِنْهُ شَيْئًا.
-
وَقَالَ النَّقَّاشُ: حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ شُعْبَةَ فَدَنَا مِنْهُ شَابٌّ رَقَبَانِيٌّ، فَسَأَلَهُ عَنْ حَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ شُعْبَةُ: أَقَاصٌّ أَنْتَ؟ قَالَ: وَكَانَ شُعْبَةُ سَيِّئَ الْفِرَاسَةِ، فَلَا أَدْرِي كَيْفَ أَصَابَ يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: فَقَالَ الشَّابُّ: نَعَمْ. قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّا لَا نُحَدِّثُ الْقُصَّاصَ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ يَا أَبَا بِسْطَامَ؟ قَالَ: يَأْخُذُونَ الْحَدِيثَ مِنَّا شِبْرًا، فَيَجْعَلُونَهُ ذِرَاعًا.
-
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (١٢٤/٥) عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: لَأَنْ أَرَى فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ نَارًا تَتَّقِدُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهَا رَجُلًا يَقُصُّ لَيْسَ بِفَقِيهٍ.
-
وَفِي «الْمُذَكِّرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالذِّكْرِ» لِابْنِ أَبِي عَاصِمٍ (١٤) عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يَقُصُّ، فَقَالَ: عَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ فَقَالَ: لَا. قَالَ: هَلَكْتَ وَأَهْلَكْتَ. قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى امْتِحَانِ الْقَاصِّ. اهـ.
-
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي «تَلْبِيسِ إِبْلِيسَ» (ص ١١١): كَانَ الْوُعَّاظُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ عُلَمَاءَ فُقَهَاءَ وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاصِّ، ثُمَّ خَسَّتْ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ فَتَعَرَّضَ لَهَا الْجُهَّالُ؛ فَبَعُدَ عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَهُمُ الْمُمَيِّزُونَ مِنَ النَّاسِ، وَتَعَلَّقَ بِهِمُ الْعَوَامُّ وَالنِّسَاءُ، فَلَمْ يَتَشَاغَلُوا بِالْعِلْمِ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْقَصَصِ، وَمَا يُعْجِبُ الْجَهَلَةَ، وَتَنَوَّعَتِ الْبِدَعُ فِي هَذَا الْفَنِّ. اهـ.
-
وَقَالَ فِي «الْقُصَّاصِ وَالْمُذَكِّرِينَ» (ص ٦٦): وَإِنَّمَا كَرِهَ بَعْضُ السَّلَفِ الْقَصَصَ لِأَحَدِ سِتَّةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ، فَكَانُوا إِذَا رَأَوْا مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْكَرُوهُ حَتَّى إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَرَادَا جَمْعَ الْقُرْآنِ قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَتَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟!
-
-
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَصَصَ الْأَخْبَارَ الْمُتَقَدِّمِينَ تَنْدُرُ صِحَّتُهُ، خُصُوصًا مَا يُنْقَلُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِي شَرْعِنَا غُنْيَةٌ. وَقَدْ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِكَلِمَاتٍ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ: «أَمِطْهَا عَنْكَ يَا عُمَرُ!»…
-
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّشَاغُلَ بِذَلِكَ يَشْغَلُ عَنِ الْمُهِمِّ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
-
وَالرَّابِعُ: أَنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْقَصَصِ وَفِي السُّنَّةِ مِنَ الْعِظَةِ مَا يَكْفِي عَنْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا تَتَيَقَّنُ صِحَّتُهُ.
-
وَالْخَامِسُ: أَنَّ أَقْوَامًا مِمَّنْ يُدْخِلُ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ قَصُّوا، فَأَدْخَلُوا فِي قَصَصِهِمْ مَا يُفْسِدُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ.
-
وَالسَّادِسُ: أَنَّ عُمُومَ الْقُصَّاصِ لَا يَتَحَرَّوْنَ الصَّوَابَ، وَلَا يَحْتَرِزُونَ مِنَ الْخَطَأِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ.
فَلِهَذَا كَرِهَ الْقَصَصَ مَنْ كَرِهَهُ، فَأَمَّا إِذَا وَعَظَ الْعَالِمُ، وَقَصَّ مَنْ يَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنَ الْفَاسِدِ؛ فَلَا كَرَاهَةَ.
مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الْإِمَامِ وَالسُّلْطَانِ لِلْقَصِّ؟
رَوَى أَحْمَدُ (٦٦٦١) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَا يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ مُرَاءٍ». وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (٢٣٩٩٤)، وَأَبُو دَاوُدَ (٣٦٦٥) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَا يَقُصُّ إِلَّا أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ مُخْتَالٌ.
وَفِي «الْقُصَّاصِ وَالْمُذَكِّرِينَ» (٣٣) عَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ ذِي الْكَلَاعِ، قَالَ: كَانَ كَعْبٌ يَقُصُّ فِي إِمَارَةِ مُعَاوِيَةَ لَهُ. فَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ لِذِي الْكَلَاعِ: يَا أَبَا شُرَحْبِيلَ أَرَأَيْتَ ابْنَ عَمِّكَ أَبِأَمْرِ الْأَمِيرِ يَقُصُّ؟ فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «الْقُصَّاصُ ثَلَاثَةٌ: أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ مُخْتَالٌ». فَمَكَثَ كَعْبٌ سَنَةً لَا يَقُصُّ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقُصَّ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: وَكَانَ الْأُمَرَاءُ يَلُونَ الْخُطَبَ، فَيَعِظُونَ النَّاسَ، وَيُذَكِّرُونَهُمْ فِيهَا. فَالْمَأْمُورُ: مَنْ يُقِيمُهُ الْإِمَامُ خَطِيبًا، فَيَعِظُ النَّاسَ وَيَقُصُّ عَلَيْهِمْ. وَالْمُخْتَالُ: الَّذِي نَصَبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَهُوَ يَقُصُّ عَلَى النَّاسِ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَهُوَ يُرَائِي بِذَلِكَ وَيَخْتَالُ.
وَفِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (٢٨٤) عَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ، أُخْبِرَ بِقَاصٍّ يَقُصُّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِبَنِي مَخْزُومٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: أَأَمَرْتُكَ بِهَذَا الْقَصَصِ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُصَّ بِغَيْرِ إِذْنِي؟! قَالَ: نَنْشُرُ عِلْمًا عَلَّمَنَا اللَّهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ قَبْلَ مَرَّتِي هَذِهِ لَقَطَعْتُ مِنْكَ طَابِقًا [يَعْنِي: عُضْوًا]،
قَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُذَكِّرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالذِّكْرِ» (ص٩٧): فَإِذَا قَصَّ الْقَاصُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَمِيرِ؛ وَجَبَ عَلَى الْأَمِيرِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ؛ إِذِ الْقَاصُّ بِغَيْرِ إِذْنِ الْأَمِيرِ: مُتَكَلِّفٌ أَوْ مُخْتَالٌ، أَوْ مُرَاءٍ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مَذْمُومَةٌ كُلُّهَا، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْمَنْعُ مِنْهَا.
وَفِي قَوْلِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ الَّذِي أُخْبِرَ بِهِ: أَبِإِذْنٍ تَقُصُّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ لَقَطَعْتُ مِنْكَ طَابِقًا. مُوَافِقٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ: إِنِّي أَكْرَهُ الْعُقُوبَةَ قَبْلَ التَّقَدُّمَةِ، فَإِنْ عَادُوا بَعْدَ التَّقَدُّمَةِ وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْعُقُوبَةُ.
وَفِي قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْقَاصِّ: أَعَلِمْتَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ؟ دَلِيلٌ عَلَى امْتِحَانِ الْقُصَّاصِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ فِي الْقَصَصِ.
وَفِي «الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ» (ص ١١١): قِيلَ لِابْنِ سِيرِينَ: لَوْ قَصَصْتَ عَلَى إِخْوَانِكَ؟!!! فَقَالَ: قَدْ قِيلَ: لَا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَمِيرٌ، أَوْ مَأْمُورٌ، أَوْ أَحْمَقُ، وَلَسْتُ بِأَمِيرٍ، وَلَا مَأْمُورٍ، وَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٦٨ - ٣٧٤
مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ مَجْلِسُهُ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ مَعَ أَهْلِ الْفِقْهِ
٤٦ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الصَّنْدَلِيُّ - أَيْضًا، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ، نَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، نَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ: مَجْلِسُهُ، وَمَدْخَلُهُ، وَمَخْرَجُهُ مَعَ أَهْلِ الْفِقْهِ.
ص ٣٧٥
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» (١/ ٢١١) بِإِسْنَادٍ أَصْلَحَ مِنْ هَذَا. وَفِيهِ: (أَهْلِ الْعِلْمِ)، بَدَلًا مِنْ: (أَهْلِ الْفِقْهِ).
الْحَاشِيَةُ ص ٣٧٥
إِلَى أَيِّ الْعُلَمَاءِ تَجْلِسُ؟
٤٨ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا نَحْنُ دَخَلْنَا مَسْجِدَ الْجَامِعِ، فَإِنَّا نُشَاهِدُ فِيهِ خَلْقًا كَثِيرًا قَدِ اجْتَمَعُوا، وَكُلُّهُمْ يُشَارُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ، فَإِلَى أَيِّ النَّاسِ تَأْمُرُنَا أَنْ نَجْلِسَ إِلَيْهِ مِنْهُمْ؟
قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ لَكَ فَهْمٌ وَمَعْرِفَةٌ وَحَزْمٌ، فَانْظُرْ كُلَّ مَنْ عَلِمْتَ أَنَّهُ يُعَلِّمُ الْمُسْلِمِينَ عِلْمًا يَجِبُ عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَيُفَقِّهُهُمْ بِهِ، وَيَحُثُّهُمْ فِيهِ عَلَى: الطَّهَارَةِ، وَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ، وَعِلْمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مِنَ الْمَكَاسِبِ، وَأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ، وَعِلْمِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِلْمِ سِيَاسَةِ الرَّجُلِ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، وَعِلْمِ حِفْظِ الْجَوَارِحِ، وَعِلْمِ الْأَدَبِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَاللِّبَاسِ، وَعِلْمِ أَدَبِ الْمُؤَاخَاةِ، وَعِلْمِ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نِعَمِهِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَالْزَمْهُ، وَالْهَ عَمَّا سِوَاهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي أُمِرْتَ بِتَعْلِيمِهِ، فَاتَّبِعْ مِنْ مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَجْرِي فِي مَجْلِسِهِ مِثْلُ هَذَا، مِمَّا إِذَا كَانَ فِيهِ عَلِمْتَ أَنَّكَ قَدِ اسْتَفَدْتَ عِلْمًا أَنْتَ إِلَيْهِ فَقِيرٌ.
فَاعْلَمْ أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِبَالٍ إِذَا وُفِّقَ لَكَ [مَحَبَّةُ] مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ…
ص ٣٧٥ - ٣٧٦
عَلَى الْعَاقِلِ الْحَازِمِ أَلَا يُجَالِسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَتُهُ
٤٩ - أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَبَانَ الْكُوفِيُّ، نَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْبَرِيدِ، عَنْ مُبَارَكِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ جُلَسَائِنَا خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ ذَكَّرَكُمْ بِاللَّهِ رُؤْيَتُهُ، وَزَادَ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ، وَذَكَّرَكُمْ بِالْآخِرَةِ عَمَلُهُ»
…
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
هَذَا يَحْتَمِلُ فِي مُجَالَسَتِهِ الْعُلَمَاءَ أَنْ يَكُونَ يَطْلُبُ مِنَ الْمَجَالِسِ مِنْ هَذِهِ صِفَتُهُ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تُجَالِسَ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ إِلَّا مَنْ تَسْتَفِيدُ مِنْهُ خَيْرًا فِي دِينِكَ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ، بَلْ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَحْذَرَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ فِيمَا قُلْتُهُ أَخْبَارٌ تَدُلُّ عَلَى الْعَاقِلِ الْحَازِمِ أَنْ لَا يُجَالِسَ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ تَعُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَتُهُ، مِمَّنْ يُرَغِّبُهُ فِي الْعِلْمِ، وَالْأَدَبِ، وَالْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ الْأَخْلَاقِ الدَّنِيَّةِ.
ص ٣٧٦ - ٣٧٧
-
فِي «تَهْذِيبِ الْكَمَالِ» (٦ / ١٠٩) قَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى الْحَسَنَ [الْبَصْرِيَّ] لَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَلَا يَرَى عَمَلَهُ، فَيَنْتَفِعُ بِهِ.
-
وَفِي «السِّيَرِ» (٦/ ١٢٠) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ: كُنْتُ إِذَا وَجَدْتُ مِنْ قَلْبِي قَسْوَةً، غَدَوْتُ فَنَظَرْتُ إِلَى وَجْهِ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ، كَانَ كَأَنَّهُ ثَكْلَى.
-
وَفِيهِ (٣٦٠/٥) قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: إِنَّ رُؤْيَةَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ لَتَنْفَعُنِي فِي دِينِي.
-
وَفِي كِتَابِ «الْمُسْتَغِيثِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُهِمَّاتِ» (١٣٤) قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كُنْتُ إِذَا وَجَدْتُ مِنْ قَلْبِي قَسْوَةً؛ آتِي مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظْرَةً؛ فَأَتَّعِظُ بِهَا أَيَّامًا.
-
وَفِي «الطَّبَقَاتِ» لِابْنِ سَعْدٍ (٢١٦/٥) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ يَخْرُجُ عَلَى رَاحِلَتِهِ إِلَى مَكَّةَ وَيَرْجِعُ لَا يَقْرَعُهَا، وَكَانَ يُجَالِسُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: تَدَعُ قُرَيْشًا وَتُجَالِسُ عَبْدَ بَنِي عَدِيٍّ؟! فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنَّمَا يَجْلِسُ الرَّجُلُ حَيْثُ يَنْتَفِعُ.
-
وَفِي «تَهْذِيبِ الْكَمَالِ» (٣٨٦/٢٠) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَرْدَكَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَيَشُقُّ النَّاسَ حَتَّى يَجْلِسَ مَعَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي حَلْقَتِهِ، فَقَالَ لَهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! أَنْتَ سَيِّدُ النَّاسِ تَأْتِي تَتَخَطَّى حَتَّى تَجْلِسَ مَعَ هَذَا الْعَبْدِ؟! فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: الْعِلْمُ يُبْتَغَى وَيُؤْتَى وَيُطْلَبُ مِنْ حَيْثُ كَانَ.
-
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٢١١٩) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُبَارَكِ يَقُولُ: كَانَ يُعْجِبُنِي مُجَالَسَةُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَكُنْتُ إِذَا شِئْتُ رَأَيْتُهُ مُصَلِّيًا، وَإِذَا شِئْتُ رَأَيْتُهُ فِي الزُّهْدِ، وَإِذَا شِئْتُ رَأَيْتُهُ فِي الْغَامِضِ مِنَ الْفِقْهِ، وَرُبَّ مَجْلِسٍ شَهِدْتُهُ مَا صَلَّى فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ. قَالَ عَبْدَانُ: كَأَنَّهُ عَرَضَ بِمَجْلِسِ أَبِي حَنِيفَةَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٧٧ - ٣٧٨
مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوءِ
٥٢ - حَدَّثَنَا أَبُو خُبَيْبٍ الْعَبَّاسُ بْنُ أَحْمَدَ الْبَرْتِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْخَيَّاطُ، نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، نَا بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْهُ، يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ الْعَطَّارِ، [إِنْ لَمْ يُحْذَكَ مِنْ عِطْرِهِ عَلِقَ بِكَ] مِنْ رِيحِهِ. وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ، مِثْلُ: الْكِيرِ، إِنْ لَمْ يُحْرِقْكَ، نَالَكَ مِنْ رِيحِهِ».
ص ٣٧٩
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (٥٥٣٤)، وَمُسْلِمٌ (٢٦٢٨)، وَلَفْظُهُمَا: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ: إِمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٧٩
إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَالَسَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ خَيْرٌ فَالْعُزْلَةُ أَسْلَمُ
٥٣ - وَرُوِيَ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ حَرْبٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجْلِسْ إِلَّا مَعَ أَحَدِ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ جَلَسْتَ مَعَهُ يُعَلِّمُكَ خَيْرًا؛ فَتَقْبَلُ مِنْهُ. أَوْ رَجُلٍ: تُعَلِّمُهُ خَيْرًا؛ فَيَقْبَلُ مِنْكَ. وَالثَّالِثُ: اهْرَبْ مِنْهُ.
٥٤ - حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ، نَا سُفْيَانُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ شَابُورَ، سَمِعَ شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ يَقُولُ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِمًا يَنْفَعُكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلًا يُعَلِّمُوكَ، وَلَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِرَحْمَةٍ فَيُصِيبُكَ مَعَهُمْ.
وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْمًا لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا تَجْلِسْ مَعَهُمْ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكُنْ عَالِمًا لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ، وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلًا يَزِيدُوكَ عِيًّا، وَلَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِمْ بِسَخَطِهِ فَيُصِيبُكَ مَعَهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُجَالِسَ إِلَّا مَنْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْكَ مِمَّنْ إِذَا فَارَقْتَهُ أَرَاكَ فَهْمًا وَعِلْمًا وَأَدَبًا، وَإِلَّا فَانْبِذْ عَنْكَ مُجَالَسَتَهُ، وَاحْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ.
ص ٣٧٩ - ٣٨٠
-
فِي «الْعِلْمِ لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ (٤٥) عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُجَالَسَةِ النَّاسِ وَمُخَالَطَتِهِمْ خَيْرٌ؛ فَالْعُزْلَةُ أَسْلَمُ.
-
قَالَ الْكَوْسَجُ فِي «مَسَائِلِهِ» (٣٣٥٢): قُلْتُ لِإِسْحَاقَ: قَوْلُهُ: (خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ، مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: يَقُولُ: تَفَرَّغُوا لِلْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعُزْلَةَ هِيَ سَبَبُ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ مِنْهُ: نِعْمَ صَوْمَعَةُ الْمُسْلِمِ بَيْتُهُ؛ يَكُفُّ فِيهَا سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ.
-
وَفِي «الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (١١٢) قَالَ سُفْيَانُ، قَالَ: كَانَ طَاوُسٌ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: هِبْتُ حَيْفَ الْأَمِيرِ، وَفَسَادَ النَّاسِ.
-
وَفِي «الْعُزْلَةِ» (٣٧٧) عَنْ وُهَيْبِ بْنِ الْوَرْدِ، قَالَ: قُلْتُ لِوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْتَزِلَ النَّاسَ. فَقَالَ لِي: لَا بُدَّ لَكَ مِنَ النَّاسِ، وَلِلنَّاسِ مِنْكَ؛ لَكَ إِلَيْهِمْ حَوَائِجُ، وَلَهُمْ إِلَيْكَ حَوَائِجُ؛ وَلَكِنْ كُنْ فِيهِمْ أَصَمَّ سَمِيعًا، أَعْمَى بَصِيرًا، سَكُوتًا نَطُوقًا.
-
وَفِي «الزُّهْدِ» لِلْبَيْهَقِيِّ (١٢٩) قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: مَنْ خَالَطَ النَّاسَ لَا يَنْجُو مِنْ إِحْدَى اثْنَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَخُوضَ مَعَهُمْ إِذَا خَاضُوا فِي الْبَاطِلِ، أَوْ يَسْكُتَ إِنْ رَأَى مُنْكَرًا، أَوْ يَسْمَعَ مِنْ جَلِيسِهِ شَيْئًا فَيَأْثَمَ فِيهِ.
-
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (١٦٤/٨)، وَ«الطُّيُورِيَّاتِ» (٢٩) عَنْ شَقِيقِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْبَلْخِيِّ قَالَ: قُلْنَا لِابْنِ الْمُبَارَكِ: إِذَا صَلَّيْتَ مَعَنَا لِمَ لَا تَجْلِسُ مَعَنَا؟ قَالَ: أَذْهَبُ فَأَجْلِسُ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. قَالَ: قُلْنَا: فَأَيْنَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ؟! قَالَ: أَذْهَبُ أَنْظُرُ فِي عِلْمِي فَأُدْرِكُ آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، مَا أَصْنَعُ مَعَكُمْ؟! أَنْتُمْ تَجْلِسُونَ تَغْتَابُونَ النَّاسَ، فَإِذَا كَانَ سَنَةَ مِائَتَيْنِ فَالْبُعْدُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ، فَرَّ مِنَ النَّاسِ كَفِرَارِكَ مِنَ الْأَسَدِ، وَتَمَسَّكْ بِدِينِكَ يَسْلَمْ لَكَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ.
وَلِلْمُصَنِّفِ كِتَابُ «التَّفَرُّدِ وَالْعُزْلَةِ» ذَكَرْتُهُ فِي ذَيْلِ هَذَا «الْجَامِعِ» وَذَكَرْتُ بَعْضَ النُّصُوصِ مِنْهُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٧٩ - ٣٨٠
٥. بَابٌ ذِكْرُ تَوَاضُعِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٥٥ - وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَالِمُ وَالْمُتَعَلِّمُ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُمَا أَنْ يَتَمَسَّكَا بِهِ لِانْتِفَاعٍ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ: هُوَ التَّوَاضُعُ.
فَمِنْ صِفَةِ تَوَاضُعِ الْمُتَعَلِّمِ لِلْعِلْمِ:
• أَنْ لَا يَأْنَفَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَمِمَّنْ هُوَ دُونَهُ فِي مَنْزِلَةِ الدُّنْيَا، وَأَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ قَبُولاً حَسَنًا.
• وَيَشْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَا عَلَّمَهُ.
• ثُمَّ لِيَشْكُرْ مَنْ عَلَّمَهُ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ.
• وَمِنَ التَّوَاضُعِ: أَنْ تَكُونَ إِذَا سَمِعْتَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فَلَا تَدَّعِي أَنَّكَ قَدْ كُنْتَ تَعْلَمُهُ، فَيَزْهَدَ فِيكَ مَنْ يُعَلِّمُكَ؛ وَلَكِنْ تَوَاضَعْ لَهُ، وَأَخْبِرْهُ أَنَّكَ لَمْ تَعْلَمْهُ حَتَّى عَلَّمَتْنِي أَنْتَ السَّاعَةَ.
ص ٣٨١
-
فِي «الْعِلْمِ» لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ (١٥٨) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: الْعِلْمُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، كُلَّمَا أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا حَوَاهُ وَابْتَغَى ضَالَّةً أُخْرَى. وَانْظُرْ: «أَخْلَاقُ الْعُلَمَاءِ» (٤٥) فِي أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ يَأْخُذُ الْعِلْمَ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ، أَوْ مِثْلُهُ، أَوْ مِمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ.
-
فِي «التَّوَاضُعِ» لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (٨٨) عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْعَثِ، قَالَ: سَأَلْتُ الْفُضَيْلَ عَنِ التَّوَاضُعِ؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ: أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ، وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِيٍّ قَبِلْتَهُ مِنْهُ، وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ مِنْهُ.
-
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (١٢١/٩) قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَ رَجُلٌ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحْسَبُهُ تَابِعِيًّا أَوْ صَحَابِيًّا-: عِظْنِي، وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى. فَقَالَ لَهُ: اقْبَلِ الْحَقَّ مِمَّنْ جَاءَكَ بِهِ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا بَغِيضًا، وَارْدُدِ الْبَاطِلَ عَلَى مَنْ جَاءَكَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَبِيبًا قَرِيبًا.
-
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (٣٠٢/٢): وَإِذَا رَوَى الْمُحَدِّثُ خَبَرًا قَدْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُدَاخِلَهُ فِي رِوَايَتِهِ؛ لِيُرِيَهُ أَنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى سُوءِ الْأَدَبِ.
-
وَأَسْنَدَ فِيهِ (٣٥٤) عَنْ مُعَاذِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فَتَحَدَّثَ رَجُلٌ بِحَدِيثٍ، فَاعْتَرَضَ لَهُ آخَرُ فِي حَدِيثِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْأَخْلَاقُ؟! مَا هَذِهِ الْأَحْلَامُ؟ إِنِّي لَأَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنَ الرَّجُلِ وَأَنَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَأُرِيهِمْ مِنْ نَفْسِي أَنِّي لَا أُحْسِنُ مِنْهُ شَيْئًا.
-
وَفِيهِ (٣٥٥) عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنَّ الشَّابَّ لَيَتَحَدَّثُ بِحَدِيثٍ فَأَسْتَمِعُ لَهُ كَأَنِّي لَمْ أَسْمَعْ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ.
-
وَفِيهِ (٣٥٦) قَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: إِذَا رَأَيْتَ مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ حَدِيثًا قَدْ سَمِعْتَهُ، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا قَدْ عَلِمْتَهُ، فَلَا تُشَارِكْهُ فِيهِ، حِرْصًا عَلَى أَنْ تَعْلَمَ مَنْ حَضَرَكَ أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خِفَّةٌ وَسُوءُ أَدَبٍ.
-
وَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ قَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِلَى أَدَبٍ حَسَنٍ أَحْوَجُ مِنْهُ إِلَى خَمْسِينَ حَدِيثًا.
-
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قَالَ: كُنَّا إِذَا رَأَيْنَا الشَّابَّ يَتَكَلَّمُ مَعَ الْمَشَايِخِ فِي الْمَسْجِدِ أَيِسْنَا مِنْ كُلِّ خَيْرٍ عِنْدَهُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٨١ - ٣٨٢
مِنَ التَّوَاضُعِ سُؤَالُكَ عَمَّا يَعْنِيكَ مِمَّا أَنْتَ بِهِ جَاهِلٌ
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ التَّوَاضُعِ [٩٦/ب]: سُؤَالَكَ عَمَّا يَعْنِيكَ مِمَّا أَنْتَ بِهِ جَاهِلٌ، [وَقَدْ] يَلْعَبُ بِكَ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ: سُؤَالُكَ عَنْ مِثْلِ هَذَا يَضَعُ مِنْكَ، وَيُقَالُ: مِثْلُكَ لَمْ يَصِلْ عِلْمُهُ إِلَى السَّاعَةِ! فَيُرِيكَ أَنَّهُ لَكَ نَاصِحٌ، وَإِنَّمَا هُوَ غَاشٌّ لَكَ فَلَا تُطِعْهُ فَتَهْلِكَ، وَاسْأَلِ الْعُلَمَاءَ عَمَّا أَنْتَ بِهِ جَاهِلٌ فَيَزِيدُكَ اللَّهُ الْكَرِيمُ بِهِ رِفْعَةً عِنْدَهُ، وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَاعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنِ التَّوَاضُعِ فِي الْمَسْأَلَةِ لِلْعُلَمَاءِ عَمَّا قَدْ جَهِلُوهُ مِمَّا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ خَصْلَتَانِ:
• الْحَيَاءُ.
• وَالْكِبْرُ. هُمَا الَّتِي قَدْ مَنَعَتْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَمَا هَذَا لَهُمْ بِمَحْمُودٍ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَهُمْ مَا ذَكَرْنَا عَنِ السُّؤَالِ لِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ رَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْإِقَامَةِ عَلَى الْجَهْلِ.
فَلَمَّا حُرِمُوا التَّوَاضُعَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ؛ أُحْرِمُوا التَّوْفِيقَ.
٥٦ - وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَتَعَلَّمُ مُسْتَحْيٍ، وَلَا مُسْتَكْبِرٌ.
ص ٣٨٢ - ٣٨٣
عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ رَحَالَهُ فِي «صَحِيحِهِ»: (بَابُ الْحَيَاءِ).
وَالْحَيَاءُ مِنْهُ مَا هُوَ مَحْمُودٌ هُوَ قَوْلُهُ ﷺ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ»، وَهُوَ الشَّرْعِيُّ الَّذِي يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْإِجْلَالِ وَالِاحْتِرَامِ لِلْأَكَابِرِ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ سَبَبًا لِتَرْكِ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ هُوَ بِحَيَاءٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَعْفٌ وَمَهَانَةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ: (لَا يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ مُسْتَحْيٍ)، وَهُوَ بِإِسْكَانِ الْحَاءِ، وَ(لَا) فِي كَلَامِهِ نَافِيَةٌ لَا نَاهِيَةٌ، وَلِهَذَا كَانَتْ مِيمُ يَتَعَلَّمُ مَضْمُومَةً. وَكَأَنَّهُ أَرَادَ تَحْرِيضَ الْمُتَعَلِّمِينَ عَلَى تَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّكَبُّرِ لِمَا يُؤَثِّرُ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ النَّقْصِ فِي التَّعْلِيمِ، قَوْلُ مُجَاهِدٍ هَذَا وَصَلَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْهُ، وَهُوَ إِسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْمُصَنِّفِ. انْتَهَى مِنَ «الْفَتْحِ» (٢٢٩/١).
-
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ (٥٤٦) عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: مَا شَيْءٌ، إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُ مِنْهُ إِلَّا أَشْيَاءَ كُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَ عَنْهَا، فَكَبِرْتُ وَفِي جَهَالَتِهَا.
-
وَفِيهِ (٥٥٠) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: مَنِ اسْتَتَرَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ بِالْحَيَاءِ لَبِسَ لِلْجَهْلِ سِرْبَالَهُ، فَاقْطَعُوا سَرَابِيلَ الْجَهْلِ عَنْكُمْ بِدَفْعِ الْحَيَاءِ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ مَنْ رَقَّ وَجْهُهُ رَقَّ عِلْمُهُ.
إِذَا تَوَاضَعْتَ لِلْعُلَمَاءِ أَحَبُّوكَ وَأَفَادُوكَ
٥٧ - وَكَذَا رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.. وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا تَوَاضَعْتَ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَبُّوكَ وَأَفَادُوكَ.
وَإِذَا تَعَاظَمْتَ عَلَيْهِمْ وَتَكَبَّرْتَ، وَأَرَيْتَهُمْ أَنَّكَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُمْ: مَقَتُوكَ، وَكَرِهُوا أَنْ يُفِيدُوكَ.
ص ٣٨٤
-
فِي «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» (٣١٠) عَنْ يُونُسَ، قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: إِيَّاكَ وَالْخُصُومَةَ وَالْجِدَالَ فِي الدِّينِ، وَلَا تُجَادِلَنَّ عَالِمًا، وَلَا جَاهِلًا؛ أَمَّا الْعَالِمُ فَإِنَّهُ يَخْزُنُ عَنْكَ عِلْمَهُ، وَلَا يُبَالِي مَا صَنَعْتَ. وَأَمَّا الْجَاهِلُ؛ فَإِنَّهُ يُخْشِنُ بِصَدْرِكَ، وَلَا يُطِيعُكَ.
-
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٦٢٥) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمْ أَسْتَخْرِجِ الَّذِي اسْتَخْرَجْتُ مِنْ عَطَاءٍ إِلَّا بِرِفْقِي بِهِ.
-
وَفِيهِ (٦٣٣) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: لَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُحَدِّثُنِي بِالْحَدِيثِ لَوْ يَأْذَنُ لِي أَنْ أَقُومَ أُقَبِّلَ رَأْسَهُ لَفَعَلْتُ.
-
وَفِيهِ (٤٢٥) عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَحَدَّثَ بِحَدِيثٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَنْ حَدَّثَكَ هَذَا - أَوْ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ -. فَغَضِبَ وَمَنَعَنَا حَدِيثَهُ حَتَّى قَامَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٨٤
نُصْحٌ لِمَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٥٨ - أَمَّا خِطَابِي لِمَنْ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْعِلْمَ، فَيَنْبَغِي لَهُ:
• أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
•وَيَتَوَاضَعَ لِمَوْلَاهُ الْكَرِيمِ.
• وَيَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ خَصَّهُ بِخَاصَّةِ خَيْرٍ أَوْ عَلَّمَهُ عِلْمًا حَرَمَهُ غَيْرُهُ.
• وَجَعَلَهُ وَرَثَةً مِنْ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ جَاهِلًا بِمَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ قَدِ احْتَاجُوا إِلَى عِلْمِهِ:
• فَحُكْمُهُ أَنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْعِلْمَ، وَيَرْفُقَ بِهِ، وَلَا يَحْتَقِرَ مَنْ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، وَيُعَلِّمُهُ: إِنِّي مِثْلُكَ كُنْتُ جَاهِلًا حَتَّى عَلَّمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيُقَرِّبَ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ مَا يَخَافُ بَعْدَهُ.
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ أَحَبَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَبَّبَهُ إِلَى عِبَادِهِ، وَرَفَعَ قَدْرَهُ، وَنَوَّهَ بِاسْمِهِ، وَكَانَ بِحُسْنِ تَوَاضُعِهِ؛ رَفِيعٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ.
ص ٣٨٤ - ٣٨٥
الحلم والتواضع زينة العلم
٦٠ - وَأَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصُّوفِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّارٍ، نَا عَنْبَسَةُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْبَجَلِيِّ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْحِلْمَ، وَتَوَاضَعُوا
لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ، وَلْيَتَوَاضَعْ لَكُمْ مَنْ تُعَلِّمُونَ، وَلَا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ، فَلَا يَقُومُ عِلْمُكُمْ بِجَهْلِكُمْ.
…
٦٢ - حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّنْدَلِيُّ، نَا الْفَضْلُ بْنُ زِيَادٍ، نَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ. سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ يُحِبُّ الْعَالِمَ الْمُتَوَاضِعَ، وَيَبْغَضُ الْعَالِمَ الْجَبَّارَ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَرَّثَهُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ الْحِكْمَةَ.
ص ٣٨٦
٦- بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبْضِ الْعِلْمِ
إِدْبَارُ الدِّينِ ذَهَابُ الْفُقَهَاءِ
عَقَدَ الْخَطِيبُ فِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ» (١٨١/١) (ذِكْرُ مَا رُوِيَ مِنْ إِدْبَارِ الدِّينِ ذَهَابُ الْفُقَهَاءِ). وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١/ ٥٨٥) (بَابُ مَا رُوِيَ فِي قَبْضِ الْعِلْمِ وَذَهَابِ الْعُلَمَاءِ).
-
وَذَكَرَ فِيهِ (١٠٢٠) حَدِيثَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: «هَذَا أَوَانُ يُرْفَعُ الْعِلْمُ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: أَيُرْفَعُ الْعِلْمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ، وَقَدْ عَلَّمْنَاهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ»، وَذَكَرَ لَهُ ضَلَالَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَعِنْدَهُمْ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَلَقِيَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ بِالْمُصَلَّى، فَحَدَّثَهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، ثُمَّ قَالَ شَدَّادٌ: هَلْ تَدْرِي مَا رَفْعُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: ذَهَابُ أَوْعِيَتِهِ، هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْعِلْمِ أَوَّلُ يُرْفَعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي. قَالَ: الْخُشُوعُ حَتَّى لَا يُرَى خَاشِعٌ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ (٢٣٩٩٠)، وَهُوَ صَحِيحٌ.
-
وَفِيهِ (٢٤١٠) قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَوَجَدَهُ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ وَارْتَاعَ لِبُكَائِهِ، فَقَالَ لَهُ: أَمُصِيبَةٌ دَخَلَتْ عَلَيْكَ؟! فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ، وَظَهَرَ فِي الْإِسْلَامِ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ رَبِيعَةُ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَاهُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنَ السَّرَّاقِ.
-
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ (٥٩٧هـ) فِي «تَعْظِيمِ الْفُتْيَا» (٤٦): هَذَا قَوْلُ رَبِيعَةَ وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ، فَكَيْفَ لَوْ عَايَنَ زَمَانَنَا هَذَا؟ وَإِنَّمَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْفَتْوَى مِنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ لِقِلَّةِ دِينِهِ. اهـ.
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» (۱۱/۱۷): إِنَّمَا بَكَى رَبِيعَةُ مِنْ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُصِيبَةٌ فِي الدِّينِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنَ الْمُصِيبَةِ فِي الْمَالِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ؛ وَلَكِنَّهُ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسْتَفْتَى إِلَّا مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَمُلَتْ لَهُمْ آلَاتُ الِاجْتِهَادِ، بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْكِتَابِ، وَالَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ مِنْهُ مَا تَعَلَّقَ بِذِكْرِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، فَيَعْرِفُ مُفَصَّلَهُ وَمُجْمَلَهُ، وَمُحْكَمَهُ وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، دُونَ مَا فِيهِ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَمْثَالِ، وَالْمَوَاعِظِ وَالْأَخْبَارِ، وَيَحْفَظُ السُّنَنَ الْمَرْوِيَّةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ الْأَحْكَامِ وَنَاسِخِهَا وَمَنْسُوخِهَا، وَيَعْرِفُ مَعَانِيَ الْخِطَابِ وَمَوَارِدَ الْكَلَامِ وَمَصَادِرَهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالْخَاصِّ وَالْمُفَصَّلِ، وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَالْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ، وَيَعْرِفُ مِنَ اللِّسَانِ مَا يُفْهَمُ بِهِ مَعَانِي الْكَلَامِ، وَيَعْرِفُ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَيَعْرِفُ وَجْهَ النُّطْقِ وَالاجْتِهَادَ وَالْقِيَاسَ، وَوَضْعَ الْأَدِلَّةِ فِي مَوَاضِعِهَا وَالتَّرْجِيحَ وَالتَّعْلِيلَ. اهـ.
-
وَفِي «الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ (۱۳۳) عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: تَدْرُونَ مَا مَثَلُ الْعِلْمِ، مَثَلُ دَارِ الْكُفْرِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَرَكَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ الْجِهَادَ جَاءَ أَهْلُ الْكُفْرِ فَأَخَذُوا الْإِسْلَامَ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الْعِلْمَ صَارَ النَّاسُ جُهَّالًا.
-
وَفِي «مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ» (٢٤٦) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ لَهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: «خُذُوا الْعِلْمَ قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ». قَالُوا: وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَفِينَا كِتَابُ اللَّهِ؟ قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: «ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ، أَوَلَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمْ شَيْئًا؟ إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ، إِنَّ ذَهَابَ الْعِلْمِ أَنْ يَذْهَبَ حَمَلَتُهُ».
-
وَفِيهِ (٣٣٧) عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، قَالَ: قَالَ: أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ قَبْضَ الْعِلْمِ قَبْضُ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ وَالْمُتَعَلِّمَ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ. وَإِسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ.
-
وَفِيهِ (٣٣١) عَنْ كَعْبٍ قَالَ: الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مُتَعَلِّمُ خَيْرٍ أَوْ مُعَلِّمُهُ.
-
وَفِيهِ (٣٣٢) عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ هَمَجٌ لَا خَيْرَ فِيهِ.
الْحَاشِيَةُ ٣٨٨ - ٣٩٠
-
يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ
٦٦ - وَحَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، نَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ، وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، قَالُوا: نَا ابْنُ جَابِرٍ - وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ -، نَا الزُّهْرِيُّ، سَمِعْتُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ». قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ، الْقَتْلُ».
ص ٣٩٠
رَوَاهُ بِنَحْوِهِ الْبُخَارِيُّ ٦٠٣٧ وَمُسْلِمٌ ١٥٧
قَبْضُ الْعِلْمِ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ
٧٠ - ثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، نَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ قَبْضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
ص ٣٩١
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (١٠٠)، وَمُسْلِمٌ (٢٦٧٣).
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي «الْعُزْلَةِ» (٣٢٠): قَدْ أَعْلَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ آفَةَ الْعِلْمِ ذَهَابُ أَهْلِهِ، وَانْتِحَالَ الْجُهَّالِ، وَتَرَؤُّسَهُمْ عَلَى النَّاسِ بِاسْمِهِ، وَحَذَّرَ النَّاسَ أَنْ يَقْتَدُوا بِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ مُضِلُّونَ، وَأَنْذَرَ بِهِ ﷺ فِي حَدِيثٍ آخَرَ.
ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ أَنَسٍ لَهُ قَالَ: لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي سَمِعَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ». قَالَ: يُرِيدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ظُهُورَ الْجُهَّالِ الْمُنْتَحِلِينَ لِلْعِلْمِ الْمُتَرَئِّسِينَ عَلَى النَّاسِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَيَرْسَخُوا فِي عِلْمِهِ. اهـ.
-
وَفِي «مُسْنَدِ» الدَّارِمِيِّ (٢٤٧) عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟ قَالَ: إِذَا هَلَكَ عُلَمَاؤُهُمْ.
-
وَفِيهِ أَيْضًا (٢٤٨) عَنْ سَلْمَانَ لَهُ قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ أَوْ يُعَلِّمَ الْآخَرَ، فَإِذَا هَلَكَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يُعَلِّمَ، أَوْ يَتَعَلَّمَ الْآخَرُ؛ هَلَكَ النَّاسُ.
-
وَفِيهِ (٢٦٣) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا ذَهَابُ الْعِلْمِ؟ قُلْنَا: لَا. قَالَ: ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِيهِ (٢٥٠) عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَهُ: أَتَدْرِي كَيْفَ يَنْقُصُ الْعِلْمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: كَمَا يَنْقُصُ الثَّوْبُ، وَكَمَا يَقْسُو الدِّرْهَمُ. قَالَ: لَا، وَإِنَّ ذَلِكَ لَمِنْهُ، قَبْضُ الْعِلْمِ: قَبْضُ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِيهِ (٢٥١) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَهُ قَالَ: مَا لِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ، وَجُهَّالَكُمْ لَا يَتَعَلَّمُونَ، تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، فَإِنَّ رَفْعَ الْعِلْمِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِيهِ (٣٣٣) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
-
وَفِي «التَّارِيخِ الْكَبِيرِ» (٣٨١/٣) عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ: لَمَّا مَاتَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، جَلَسْنَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ظِلٍّ. فَقَالَ: هَذَا ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ، دُفِنَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ.
-
وَفِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (١٧١) عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ، وَذَهَابُ ذَلِكَ كُلِّهِ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ.
-
وَفِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١٠٢٣) عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: ذَهَبَ الْعِلْمُ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا غُبَرَاتٌ فِي أَوْعِيَةِ سُوءٍ.
-
وَفِي «الْبِدَعِ وَالنَّهْيِ عَنْهَا لِابْنِ وَضَّاحٍ (٢٤٤) عَنْ خَلَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْحِ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمِّنُ الرَّجُلُ رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا، ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نِقْضًا، يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُنَّةٍ قَدْ عُمِلَ بِهَا، فَلَا يَجِدُ مَنْ يُفْتِيهِ إِلَّا بِالظَّنِّ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٩٢ - ٣٩٣
الْعِلْمُ كَالْمِصْبَاحِ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي الظُّلْمَةِ
٧٤ - … فَكَانَ الْعِلْمُ كَالْمِصْبَاحِ الَّذِي يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي الظُّلْمَةِ، مَتَى مَا كَانَ السِّرَاجُ مَعَهُ أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَوَفَّى مَكَارِهَ مَا يَخْشَى مِنْ أَذَى الطَّرِيقِ، فَمَتَى مَا طَفَأَ السِّرَاجُ تَحَيَّرَ فِي الظُّلْمَةِ، وَتَأَذَّى بِكَثِيرٍ مِنَ الْمَكَارِهِ.
ص ٣٩٤
-
فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (٤٨٧) عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِبَنِيهِ: يَا بَنِيَّ؛ إِنَّ أَزْهَدَ النَّاسِ فِي عَالِمٍ أَهْلُهُ، فَهَلُمُّوا إِلَيَّ فَتَعَلَّمُوا مِنِّي؛ فَإِنَّكُمْ تُوشِكُونَ أَنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ، إِنِّي كُنْتُ صَغِيرًا لَا يُنْظَرُ إِلَيَّ، فَلَمَّا أَدْرَكْتُ مِنَ السِّنِّ مَا أَدْرَكْتُ جَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونِي، وَمَا شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَى امْرِئٍ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ فَيَجْهَلَهُ.
-
وَفِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (٤٥) عَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى يَعْلَمَ الْآخِرُ، فَإِذَا هَلَكَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ.
-
فِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (٤٤) عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ سُرُجُ الْأَزْمِنَةِ، فَكُلُّ عَالِمٍ مِصْبَاحُ زَمَانِهِ؛ فَبِهِ يَسْتَضِيءُ أَهْلُ عَصْرِهِ. قَالَ: وَكَانَ يُقَالُ: الْعُلَمَاءُ تَنْسَخُ مَكَايِدَ الشَّيْطَانِ.
-
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَحْيَا بِهِ الْحَقُّ وَالسُّنَنُ، وَيَمُوتُ بِهِ الْبَاطِلُ وَالْبِدَعُ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَهْلُ زَمَانِهِ، وَتَقْوَى بِهِ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ إِخْوَانِهِ.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٩٤ - ٣٩٥
الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَيْئًا
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٧٧ ـ مَنِ اعْتَبَرَ هَذِهِ الْأَمْثَالَ لَمْ يُؤْثِرْ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ شَيْئًا إِلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَصَبَرَ عَلَى مَا يَلْحَقُهُ فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مُشْفِقٌ عَلَى دِينِهِ، يَخَافُ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِنْ كَانَ ذَا بَصِيرَةٍ وَعَقْلٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٧٨ - رَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ دِينُهُ حَيْثُ مَا زَالَ زَالَ مَعَهُ، لَا يُخَلِّفُهُ فِي الرِّحَالِ، وَلَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ الرِّجَالَ.
ص ٣٩٥ - ٣٩٦
الْعِلْمُ مَنْجَاةٌ مِنَ الْفِتَنِ
ثُمَّ اعْلَمْ - رَحِمَكَ اللَّهُ - أَنَّا وَإِيَّاكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرِ الْفِتَنِ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ، إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْإِنْسَانِ عِلْمٌ بِالْخَلَاصِ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَرِدُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَقَدْ هَلَكَ.
وَهَكَذَا أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا.
٧٩ - حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ السُّكَّرِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى، نَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ [بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي السَّائِبِ، عَنْ [عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ]، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ.
ص ٣٩٦
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ (٣٩٥٤)، وَالدَّارِمِيُّ فِي «الْمُسْنَدِ» (٣٥٠). وَيَشْهَدُ لَهُ: مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٧٥٠٨) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوَهُ، دُونَ قَوْلِهِ: «إِلَّا مَنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ بِالْعِلْمِ».
٨٠ ـ حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَيُّوبَ السَّقَطِيُّ… عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ أَقْوَامٌ دِينَهُمْ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (٢١٩٧)، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي «الْإِيمَانِ» (٦٤). وَرَوَى نَحْوَهُ مُسْلِمٌ (١١٨) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ عِنْدَ حُلُولِ الْفِتَنِ هَلَكَ
٨١ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَمَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ؛ وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا فَاتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
قِيلَ لَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
كُلَّمَا فَسَدَ الزَّمَانُ - وَفَسَادُهُ فَسَادُ أَهْلِهِ - رَغِبُوا أَهْلُهُ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ، فَقَلَّ الْعِلْمُ فِيهِمْ، فَقَبَضَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ زَمَانٍ عُلَمَاءَهُ الَّذِينَ قَدْ حَفِظُوا الْعِلْمَ، وَرَعَوْا حَقَّهُ، وَقَامُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِشَرْطٍ كَبِيرٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَنَفَعَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْعِلْمِ، وَنَفَعَ بِهِمْ خَلْقًا كَثِيرًا، فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَقِيَ الْعِلْمُ فِي الْكُتُبِ عِنْدَ قَوْمٍ لَا يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلَا يَحْفَظُونَهُ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ، إِلَّا أَنَّهُ يُشَارُ إِلَيْهِمْ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُمْ إِلَى الْجَهْلِ أَقْرَبُ، فَيُسْئَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَعْلَمُهُ؛ فَيَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ: (لَا أَعْلَمُهُ)؛ فَتَسْقُطَ رُتْبَتُهُ عِنْدَ النَّاسِ، فَيُفْتِي بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيُحِلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ؛ فَضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ، وَيَهْلِكُ مَنْ يَتَّبِعُهُ عَلَى ذَلِكَ.
…
وَرُبَّمَا فَعَلَ بَعْضُ مَنْ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ طَرَفًا مِنَ الْعِلْمِ أَمْرًا مِنَ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ حَقٌّ فَلَا يُوَافِقُ هَذَا الَّذِي لَهُ رُتْبَةٌ فَيُنْكِرُ الْحَقَّ، وَيَعِيبُ عَلَى فَاعِلِهِ.
كُلُّ ذَلِكَ لِمَا قَدِ اسْتَحْكَمَ فِيهِ مِنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ. وَهَذَا كَثِيرٌ فِي النَّاسِ يَعْرِفُهُ مَنْ مَيَّزَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، مَا أَعْظَمَ زَمَانًا نَحْنُ فِيهِ!
فَهَذَا مَعْنَى قَبْضِ الْعِلْمِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص ٣٩٧ - ٣٩٩
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْسِيُّ فِي «الرِّعَايَةِ لِتَجْوِيدِ الْقُرَّاءِ وَتَحْقِيقِ لَفْظِ التِّلَاوَةِ» (ص ٨٦): يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الْقُرْآنِ فَيَفْهَمَ عَنِ اللَّهِ مَا فَرَضَ عَلَيْهِ وَيُلَقَّنَ عَنْهُ مَا خَاطَبَهُ بِهِ، فَيَنْتَفِعَ بِمَا يَقْرَأُ وَيَعْمَلَ بِمَا يَتْلُو، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ، فَيَعْلَمَ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِ، وَمَا سَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبٌ، وَأَنْ يَتَعَلَّمَ الْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ، فَمَا أَقْبَحَ حَامِلَ الْقُرْآنِ أَنْ يَتْلُوَ فَرَائِضَهُ وَأَحْكَامَهُ عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَا يَتْلُو، فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمَا لَا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَمَا أَقْبَحَ بِهِ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ فِقْهِ مَا يَتْلُو فَلَا يَدْرِيهِ، فَمَا مَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ إِلَّا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
الْحَاشِيَةُ ص ٣٩٨
٧ - بَابُ أَيِّ الْعِلْمِ أَوْلَى بِالْإِنْسَانِ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ
أَوَّلُ الْعِلْمِ حِفْظُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَفَهُّمُهُ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٨٢ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ رَغَّبْتَنَا فِي الْعِلْمِ، وَحَذَّرْتَنَا الْجَهْلَ، فَأَيُّ الْعِلْمِ أَوْلَى بِنَا أَنْ نَشْغَلَ أَنْفُسَنَا بِهِ حَتَّى نَخْرُجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَهْلِ؟
فَإِنِّي أَقُولُ لَهُ:
[فَإِنِّي] أَحُثُّكَ عَلَى:
• تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَحِفْظِهِ، فَإِذَا سَهَّلَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَكَ خَتْمَهُ، بِاخْتِيَارِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ السَّبْعَةِ؛ فَاحْمَدِ اللَّهَ الْكَرِيمَ وَاشْكُرْهُ، وَدَاوِمْ عَلَى كَثْرَةِ الدَّرْسِ لَهُ.
ص ٤٠٠
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ» (١١٢٩/٢): طَلَبُ الْعِلْمِ دَرَجَاتٌ وَمَنَاقِلُ وَرُتَبٌ لَا يَنْبَغِي تَعَدِّيَهَا، وَمَنْ تَعَدَّاهَا جُمْلَةً فَقَدْ تَعَدَّى سَبِيلَ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَمَنْ تَعَدَّى سَبِيلَهُمْ عَامِدًا ضَلَّ، وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُجْتَهِدًا زَلَّ.
فَأَوَّلُ الْعِلْمِ حِفْظُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَفَهُّمُهُ، وَكُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى فَهْمِهِ فَوَاجِبٌ طَلَبُهُ مَعَهُ، وَلَا أَقُولُ: إِنَّ حِفْظَهُ كُلَّهُ فَرْضٌ؛ وَلَكِنْ أَقُولُ: إِنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَازِمٌ عَلَى مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا فَقِيهًا نَاصِبًا نَفْسَهُ لِلْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْفَرْضِ. اهـ.
وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (٧٩): يَنْبَغِي لِلطَّالِبِ أَنْ يَبْدَأَ بِحِفْظِ كِتَابِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ أَجَلَّ الْعُلُومِ وَأَوْلَاهَا بِالسَّبْقِ وَالتَّقْدِيمِ. اهـ.
وَفِي «طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ» (٢/ ٩٥) قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ - بْنَ حَنْبَلٍ أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ: أَبْدَأُ ابْنِي بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِالْحَدِيثِ؟ قَالَ: لَا. بِالْقُرْآنِ، الْقُرْآنِ. قُلْتُ: أُعَلِّمُهُ كُلَّهُ؟ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْهِ فَتُعَلِّمَهُ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا قَرَأَ أَوَّلًا تَعَوَّدَ الْقِرَاءَةَ، وَلَزِمَهَا.
- قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي «الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ» (٢/ ٣٣): وَعَلَى هَذَا أَتْبَاعُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ إِلَى زَمَانِنَا هَذَا. اهـ.
وَفِي «الْمَعْرِفَةِ وَالتَّارِيخِ» (٢ / ٩٣)، وَ «تَارِيخِ بَغْدَادَ» (١٠/ ٤٠٢) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ أَتَيْتُ عَطَاءً وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الشَّأْنَ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ: قَرَأْتَ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَاذْهَبْ فَاقْرَأِ الْقُرْآنَ، ثُمَّ اطْلُبِ الْعِلْمَ. قَالَ: فَذَهَبْتُ، فَعَبَرْتُ زَمَانًا، حَتَّى قَرَأْتُ الْقُرْآنَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى عَطَاءٍ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدٍ، فَقَالَ: تَعَلَّمْتَ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تَعَلَّمْتَ الْفَرِيضَةَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَتَعَلَّمِ الْفَرِيضَةَ، ثُمَّ اطْلُبِ الْعِلْمَ. قَالَ: فَطَلَبْتُ الْفَرِيضَةَ، ثُمَّ جِئْتُ. فَقَالَ: تَعَلَّمْتَ الْفَرِيضَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: الْآنَ فَاطْلُبِ الْعِلْمَ. قَالَ: فَلَزِمْتُ عَطَاءً سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ اللَّهُ: لَمْ يَدَعْنِي أَبِي أَطْلُبُ الْحَدِيثَ حَتَّى قَرَأْتُ الْقُرْآنَ عَلَى الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ. «تَذْكِرَةُ الْحُفَّاظِ» (٣/ ٨٣٠). وَقَدْ ذَكَرْتُ كَثِيرًا مِنَ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ «الْجَامِعِ فِي أَحْكَامِ وَآدَابِ الصِّبْيَانِ» (كِتَابُ الْعِلْمِ) (ص١٦٣) (بَابُ: الْقُرْآنُ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الصَّبِيُّ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ التَّوْحِيدِ).
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠٠ - ٤٠١
مَعْرِفَةُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
ثُمَّ اشْتَغِلْ بِعِلْمِ مَعْرِفَةِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَحْكَامِ الَّتِي أَمَرَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَنَهَاكَ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَسَعُكَ جَهْلُهَا.
ص ٤٠١
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ اللَّهُ كَمَا فِي «مَجْمُوعِ الرَّسَائِلِ» (١/ ٢٣): اعْلَمْ أَنَّ عِلْمَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ عِلْمٌ شَرِيفٌ، وَمِنْهُ مَا تَعَلُّمُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ تَعَلُّمَهُ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ، مِنْهُمْ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَكَانَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ يَتَوَقَّوْنَ الْكَلَامَ فِيهِ تَوَرُّعًا؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ فِيهِ مُخْبِرٌ عَنِ اللَّهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، مُبَلِّغٌ عَنْهُ شَرْعَهُ وَدِينَهُ.
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بِالَّذِي كَانَ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَنِ الشَّيْءِ فَيَتَكَلَّمُ وَإِنَّهُ لَيَرْعَدُ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، كَأَنَّهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ شَدِيدَ التَّوَرُّعِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ أَوْ دَعْوَى النَّسْخِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَجْسُرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَثِيرًا، وَأَكْثَرُ أَجْوِبَتِهِ: أَرْجُو، وَأَخْشَى، أَوْ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
وَكَانَ هُوَ وَمَالِكٌ وَغَيْرُهُمَا يَقُولُونَ كَثِيرًا: لَا نَدْرِي.
وَكَانَ أَحْمَدُ يَقُولُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ يُذْكَرُ لِلسَّلَفِ فِيهَا أَقْوَالًا عَدِيدَةً، وَيُرِيدُ بِقَوْلِهِ: (لَا أَدْرِي): أَيِ الرَّاجِحُ الْمُفْتَى بِهِ مِنْ ذَلِكَ. اهـ.
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠١ - ٤٠٢
مَعْرِفَةُ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ
ثُمَّ اطْلُبْ عِلْمَ الْفَرَائِضِ، وَهِيَ الْمَوَارِيثُ الَّتِي يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْقُرْآنِ أَنْ لَا يَجْهَلُوهَا.
• ثُمَّ عِلْمَ السُّنَنِ الَّتِي تُبَيِّنُ لِلْعِبَادِ مَعْنَى الْكِتَابِ؛ أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ ﷻ قَالَ فِي كِتَابِهِ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وَفَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ [الصَّلَاةُ وَ] السَّلَامُ، وَحَذَّرَهُمْ أَنْ يُخَالِفُوهُ، فَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الْحَشْرِ: ٧].
وَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةُ﴾ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾. وَقَالَ عَزَّوَجَلَّ: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾
فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ قَرَنَ عَزَّ وَجَلَّ طَاعَتَهُ بِطَاعَةِ رَسُولِهِ ﷺ.
وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَذَا إِلَّا بِمَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالْآثَارِ.
فَآمُرُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يَطْلُبُ مِنَ السُّنَنِ مَا يَنْفَعُهُ بِهَا، وَيَكُونُ مُرَادُهُ مِنْ الطَّلَبَ لِيَتَفَقَّهَ بِهَا فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِيَعْرِفَ بِهَا أَدَاءَ الْفَرَائِضِ، وَاجْتِنَابَ الْمَحَارِمَ.
وَيَعْرِفُ بِهَا عِلْمَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ فِي كِتَابِنَا.
وَيَطْلُبُ عِلْمَ سُنَنِ صَحَابَتِهِ.
وَيَنْظُرُ فِي الْفِقْهِ الَّذِي يُعَرِّفُ مَعَانِيَ السُّنَنِ، وَيُجَالِسُ الْفُقَهَاءَ، وَيَتَعَلَّمُ مِنْهُمْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عِلْمُهُ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ.
وَيَكُونُ مُرَادُهُ مِنْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ؛ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْجَهْلُ، وَيَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ.
فَمَنْ كَانَ هَذَا مُرَادُهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: نَفَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفَعَ بِهِ، وَوَفَّقَهُ، وَكَثَّرَ لَهُ قَلِيلَ عِلْمِهِ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ>
ص ٤٠٢ - ٤٠٤
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَهْتَمُّونَ بِتَعَلُّمِ الْحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ (٢/ ١٠٢٠): أَمَّا طَلَبُ الْحَدِيثِ عَلَى مَا يَطْلُبُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِنَا الْيَوْمَ دُونَ تَفَقُّهٍ فِيهِ وَلَا تَدَبُّرٍ لِمَعَانِيهِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَرَوَى (١٩٧٦) عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ قَالَ: يَكْتُبُ أَحَدُهُمُ الْحَدِيثَ وَلَا يَتَفَهَّمُ وَلَا يَتَدَبَّرُ، فَإِذَا سُئِلَ أَحَدُهُمْ عَنْ مَسْأَلَةٍ جَلَسَ كَأَنَّهُ مُكَاتَبٌ.
وَفِي الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي (١٣٣٠) قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَكَتَبْتُ بِجَنْبِ كُلِّ حَدِيثٍ تَفْسِيرَهُ.
وَفِيهِ (١٣٣١) قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ خَيْرٌ مِنْ سَمَاعِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لِلْحَدِيثِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِالْأَثَرِ لَا بِالرَّأْيِ وَالْهَوَى.
فَفِي الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي (١٣٣٧) قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: قِيلَ لِأَحْمَدَ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا نَدْرِي أَيْشَ مَعْنَاهُ؟ :قَالَ نَعَمْ كَثِيرٌ، وَمَنْ يَتَعَاطَى مَعْنَى ذَلِكَ يُخْطِئُ كَثِيرًا إِلَّا بِأَثَرٍ.
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠٢ - ٤٠٣
فِي «الْوَرَعِ» لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (٣٦) عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: تَذَاكَرُوا عِنْدَ الْحَسَنِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: فَكَأَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ. قَالَ: فَقُلْتُ أَنَا: تَرْكُ الْمَحَارِمِ. قَالَ: فَانْتَبَهَ الْحَسَنُ لَهَا، فَقَالَ: تَمَّ الْأَمْرُ، تَمَّ الْأَمْرُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الشَّرِيعَةِ» (١/ ٤٤٩): مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَعَقْلٌ، فَمَيَّزَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَزِمَ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْجَهْلُ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ، وَلَا لِلدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ هَذَا مُرَادُهُ سَلِمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ، وَاتَّبَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يَسْتَوْحِشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَهُ لِذَلِكَ.
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠٤
الِاعْتِنَاءُ بِعُلُومِ الْقُرْآنِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ:
فَإِنِّي قَرَأْتُ الْقُرْآنَ وَلَسْتُ مِمَّنْ أُطِيقُ أَنْ أَكْتُبَ الْعِلْمَ، وَلَمْ آخُذْ نَفْسِي بِكِتَابَةِ الْحَدِيثِ، فَبِمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟
فَإِنِّي أَقُولُ لَهُ: عَلَيْكَ بِمُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُفَقِّهُونَكَ فِي دِينِكَ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ [ذِكْرُنَا لَهُ]
وَطَلَبِ عِلْمِ [مُحْكَمِهِ وَمُتَشَابِهِ]، وَطَلَبِ عِلْمِ [نَاسِخِهِ] وَمَنْسُوخِهِ [وَ]عِلْمِ مَعْرِفَةِ ضَرْبِ أَمْثَالِهِ، وَطَلَبِ الْعِلْمِ بِمَعْرِفَةِ عِلْمِ حَلَالِهِ حَرَامِهِ.
وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُتْعِبُ نَفْسَهُ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ، وَلَا يُبَالِي تَضْيِيعَ حُدُودِهِ.
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ اقْرَأْهُ بِحُزْنٍ، وَيَكُونُ مُرَادُكَ مِنَ الدَّرْسِ تَرْجُو أَنْ يَقَعَ لَكَ فَهْمُ مَا تَتْلُو، لَا يَكُونُ مُرَادُكَ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ؟
وَاجْتَهِدْ أَنْ تَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَبَانُوا بِأَخْلَاقِهِمُ الشَّرِيفَةِ عَنْ أَخْلَاقِ غَيْرِهِمْ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ الْكَرِيمِ عَلَى ذَلِكَ.
٨٤ - حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ يُوسُفَ الشَّكْلِيُّ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ سَالِمٍ، نَا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، نَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذَا النَّاسُ نَائِمُونَ وَبِنَهَارِهِ إِذَا النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِوَرَعِهِ إِذَا النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِتَوَاضُعِهِ إِذَا النَّاسُ يَخْتَالُونَ.
ص ٤٠٤ - ٤٠٦
وَفِي «طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ» (١ / ٥٠) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ سَعِيدٍ الْكِنْدِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، قُلْتُ: رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَحَفِظَهُ، وَهُوَ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، يَخْتَلِفُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَيَقْرَأُ وَيُقْرِئُ، وَيَفُوتُهُ الْحَدِيثُ أَنْ يَطْلُبَهُ، فَإِنْ طَلَبَ الْحَدِيثَ فَاتَهُ الْمَسْجِدُ، وَإِنْ قَصَدَ الْمَسْجِدَ فَاتَهُ طَلَبُ الْحَدِيثِ، فَمَا تَأْمُرُهُ؟ قَالَ: بِذَا وَبِذَا، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْقَوْلَ مِرَارًا، كُلُّ ذَلِكَ يُجِيبُنِي جَوَابًا وَاحِدًا: بِذَا وَبِذَا.
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠٥
مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وُفِّقَ لِعِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ
٨٨ - وَحَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ الْعَطَشِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ الزَّاهِدَ، وَمِنْ كَلَامِ الْأَبْرَارِ:
مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ؛ وُفِّقَ لِعِلْمِ مَا لَمْ يَعْلَمْ. وَمَنْ وَجَدَ مَنْفَعَةَ عِلْمٍ؛ عُنِيَ بِالتَّزَوُّدِ مِنْهُ. وَمَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ عِلْمٍ؛ تَجَرَّعَ مَرَارَةَ طُرُقِهِ. وَمَنْ صَفَتْ فِكْرَتُهُ؛ اسْتَلَذَّ حَلَاوَتَهُ، وَاسْتَوْحَشَ مِمَّنْ شَغَلَهُ. وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى؛ حَسُنَتْ مِنَ اللَّهِ مَعُونَتُهُ، [وَ] قَضَى لَهُ مَوْلَاهُ حَاجَتَهُ.
وَفِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» مِنْ (١٥٣٥) مِنْ طَرِيقِ الْآجُرِّيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَطَشِيِّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَمْزَةَ يَقُولُ: مَنْ ذَاقَ حَلَاوَةَ عَمَلٍ صَبَرَهُ عَلَى تَجَرُّعِ مَرَارَةِ طُرُقِهِ، وَمَنْ صَفَتْ بِكْرَتُهُ اسْتَلَذَّ ذَوْقَهُ وَاسْتَوْحَشَ مِمَّنْ يَشْغَلُهُ.
الْحَاشِيَةُ ص ٤٠٨
Generated at: 2025-01-17-11-32-37