المؤلف:: الآجري الناشر:: دار اللؤلؤة سنة النشر:: 2020 الصفحات:: 76 الغلاف:: https://images-na.ssl-images-amazon.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1513150569i/13403001.jpg الصيغة:: PDF الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/13403001 ISBN:: الحالة:: مكتمل التسميات:: المعرفة:: التزكية, التدريب:: تاريخ القراءة:: 2025-01-24 معالج:: 1 تقييم الفائدة المستقبلية::
١ - ذِكْرُ الْغُرَبَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْصَافُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَعَلَى أَيِّ الْأَحْوَالِ هُمْ فِيهَا
جَاءَ وَصْفُ الْغُرَبَاءِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا:
-
«الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».
-
«النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ».
-
«أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ، فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ».
-
«الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ».
-
«الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي».
-
«الَّذِينَ يُصْلِحُونَ حِينَ فَسَادِ النَّاسِ».
-
«فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».
-
«الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ».
-
«الَّذِينَ يَتَمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ حِينَ يُتْرَكُ، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطْفَأُ».
فَهَذِهِ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ فِي وَصْفِ هَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءِ، وَمِنْهَا الثَّابِتُ الصَّحِيحُ، وَمِنْهَا الضَّعِيفُ؛ وَلَكِنْ لَيْسَ بَيْنَهَا اخْتِلَافٌ كَبِيرٌ وَلَا تَبَايُنٌ كَمَا شَرَحَ ذَلِكَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ «كَشْفِ الْكُرْبَةِ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْغُرْبَةِ». فَقَدْ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ قِسْمَانِ:أَحَدُهُمَا: مَنْ يُصْلِحُ نَفْسَهُ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ.وَالثَّانِي: مَنْ يُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ وَهُوَ أَعْلَى الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمَدَارِجِ» (١٨٦/٣) بَعْدَ ذِكْرِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ فِي وَصْفِ الْغُرَبَاءِ: فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْغُرَبَاءُ الْمَمْدُوحُونَ الْمَغْبُوطُونَ، وَلِقِلَّتِهِمْ فِي النَّاسِ جِدًّا؛ سُمُّوا: غُرَبَاءَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي النَّاسِ غُرَبَاءُ، وَالْمُؤْمِنُونَ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُؤْمِنِينَ غُرَبَاءُ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَهَا مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فِيهِمْ غُرَبَاءُ، وَالدَّاعُونَ إِلَيْهَا الصَّابِرُونَ عَلَى أَذَى الْمُخَالِفِينَ هُمْ أَشَدُّ هَؤُلَاءِ غُرْبَةً؛ وَلَكِنْ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَلَا غُرْبَةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا غُرْبَتُهُمْ بَيْنَ الْأَكْثَرِينَ، الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الْأَنْعَام: ١١٦]، أُولَئِكَ هُمُ الْغُرَبَاءُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَدِينِهِ، وَغُرْبَتُهُمْ هِيَ الْغُرْبَةُ الْمُوحِشَةُ، وَإِنْ كَانُوا هُمُ الْمَعْرُوفِينَ الْمُشَارَ إِلَيْهِمْ. اهـ
الحاشية ص ٤٢٧ - ٤٢٨
وَصْفُ الْغُرَبَاءِ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ
١ - حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ السَّجِسْتَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ آدَمَ الْمِصِّيصِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».
ص ٤٢٨
رَوَاهُ الدَّانِيُّ فِي «السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي الْفِتَنِ» (٢٨٨). وَوَرَى لَفْظَهُ الْأَوَّلَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا سَيَأْتِي.
ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ (٤/ ٤٥٥) فِي مَعْنَى (طُوبَى) عِدَّةَ أَقْوَالٍ عَنِ السَّلَفِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: طُوبَى بِمَعْنَى حُسْنَى لَهُمْ وَفَرَحٌ. وَقِيلَ: هِيَ الْجَنَّةُ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ. وَقِيلَ: إِنَّ طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمُغِيثِ بْنِ سُمَيٍّ، وَأَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَتَفْسِيرُ الْغُرَبَاءِ بِأَنَّهُمُ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ»: مَرْوِيٌّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِأَسَانِيدَ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمَدَارِجِ» (١٨٤/٣): قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ [يَعْنِي: الْهَرَوِيَّ الْأَنْصَارِيَّ]: (بَابُ الْغُرْبَةِ)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هُود: ١١٦]. اسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَدُلُّ عَلَى رُسُوخِهِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَفَهْمِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ الْغُرَبَاءَ فِي الْعَالَمِ هُمْ أَهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَشَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَوْلِهِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ»، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يَزِيدُونَ إِذَا نَقَصَ النَّاسُ».
فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْفُوظًا لَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى الرَّاوِي لَفْظُهُ وَهُوَ: «الَّذِينَ يَنْقُصُونَ إِذَا زَادَ النَّاسُ»، فَمَعْنَاهُ: الَّذِينَ يَزِيدُونَ خَيْرًا وَإِيمَانًا وَتُقًى إِذَا نَقَصَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ
الحاشية ص ٤٢٨ - ٤٢٩
وَصْفُ الْغُرَبَاءِ بِأَنَّهُمُ النُّزَّاعُ فِي الْقَبَائِلِ
٢ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْأُشْنَانِيُّ، قَالَا: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، ثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ، [١/٤٩] فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ».
ص ٤٢٩
فِي «النِّهَايَةِ» (٤١/٥): هُمْ جَمْعُ نَازِعٍ وَنَزِيعٍ، وَهُوَ الْغَرِيبُ الَّذِي نَزَعَ عَنْ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ، أَيْ: بَعُدَ وَغَابَ. اهـ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمَدَارِجِ» (١٨٨/٣): وَمَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «هُمُ النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ رَسُولَهُ وَأَهْلَ الْأَرْضِ عَلَى أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَهُمْ بَيْنَ عُبَّادِ أَوْثَانٍ وَنِيرَانٍ، وَعُبَّادِ صُوَرٍ وَصُلْبَانٍ، وَيَهُودٍ وَصَابِئَةٍ وَفَلَاسِفَةٍ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ غَرِيبًا، وَكَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَاسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ وَقَبِيلَتِهِ وَأَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ.
فَكَانَ الْمُسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ الْإِسْلَامِ نُزَّاعًا مِنَ الْقَبَائِلِ، بَلْ أَحَادًا مِنْهُمْ تَغَرَّبُوا عَنْ قَبَائِلِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ، وَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا هُمُ الْغُرَبَاءَ حَقًّا، حَتَّى ظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَانْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِيهِ أَفْوَاجًا، فَزَالَتْ تِلْكَ الْغُرْبَةُ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَخَذَ فِي الِاغْتِرَابِ وَالتَّرَحُّلِ، حَتَّى عَادَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، بَلِ الْإِسْلَامُ الْحَقُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ هُوَ الْيَوْمَ أَشَدُّ غُرْبَةً مِنْهُ فِي أَوَّلِ ظُهُورِهِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْلَامُهُ وَرُسُومُهُ الظَّاهِرَةُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ غَرِيبٌ جِدًّا، وَأَهْلُهُ غُرَبَاءُ أَشَدُّ الْغُرْبَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَكَيْفَ لَا تَكُونُ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ قَلِيلَةٌ جِدًّا غَرِيبَةً بَيْنَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، ذَاتِ أَتْبَاعٍ وَرِئَاسَاتٍ وَمَنَاصِبَ وَوِلَايَاتٍ، وَلَا يَقُومُ لَهَا سُوقٌ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ؟ فَإِنَّ نَفْسَ مَا جَاءَ بِهِ يُضَادُّ أَهْوَاءَهُمْ وَلَذَّاتِهِمْ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ وَالْبِدَعِ الَّتِي هِيَ مُنْتَهَى فَضِيلَتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي هِيَ غَايَاتُ مَقَاصِدِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ؟
فَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ السَّائِرُ إِلَى اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْمُتَابَعَةِ غَرِيبًا بَيْنَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَأَطَاعُوا شُحَّهُمْ، وَأُعْجِبَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِرَأْيِهِ؟ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مُرُّوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتُمْ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا بُدَّ لَكَ بِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَّامَهُمْ، فَإِنَّ وَرَاءَكُمْ أَيَّامًا صَبْرٌ الصَّابِرُ فِيهِنَّ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ».
وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْمُسْلِمِ الصَّادِقِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إِذَا تَمَسَّكَ بِدِينِهِ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ… وَهَذَا الْأَجْرُ الْعَظِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ بَيْنَ ظُلُمَاتِ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ.
فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً فِي دِينِهِ، وَفَقَّهًا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَفَهْمًا فِي كِتَابِهِ، وَأَرَاهُ مَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ وَتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْلُكَ هَذَا الصِّرَاطَ؛ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى قَدْحِ الْجُهَّالِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ فِيهِ، وَطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ، وَإِزْرَائِهِمْ بِهِ، وَتَنْفِيرِ النَّاسِ عَنْهُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْهُ، كَمَا كَانَ سَلَفُهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وَإِمَامِهِ ﷺ، فَأَمَّا إِنْ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَقَدَحَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ: فَهُنَالِكَ تَقُومُ قِيَامَتُهُمْ، وَيَبْغُونَ لَهُ الْغَوَائِلَ، وَيَنْصِبُونَ لَهُ الْحَبَائِلَ، وَيُجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ وَرَجُلِهِ.
فَهُوَ غَرِيبٌ فِي دِينِهِ لِفَسَادِ أَدْيَانِهِمْ، غَرِيبٌ فِي تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالْبِدَعِ، غَرِيبٌ فِي اعْتِقَادِهِ لِفَسَادِ عَقَائِدِهِمْ، غَرِيبٌ فِي صَلَاتِهِ لِسُوءِ صَلَاتِهِمْ، غَرِيبٌ فِي طَرِيقِهِ لِضَلَالِ وَفَسَادِ طُرُقِهِمْ، غَرِيبٌ فِي نِسْبَتِهِ لِمُخَالَفَةِ نِسَبِهِمْ، غَرِيبٌ فِي مُعَاشَرَتِهِ لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُعَاشِرُهُمْ عَلَى مَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَهُوَ غَرِيبٌ فِي أُمُورِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ لَا يَجِدُ مِنَ الْعَامَّةِ مُسَاعِدًا وَلَا مُعِينًا، فَهُوَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، صَاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أَهْلِ بِدَعٍ، دَاعٍ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَيْنَ دُعَاةٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، آمِرٌ بِالْمَعْرُوفِ، نَاهٍ عَنِ الْمُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ الْمَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ. اهـ
الحاشية ص ٤٢٩ - ٤٣١
بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا
٤ - وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو أَحْمَدَ هَارُونُ بْنُ يُوسُفَ التَّاجِرُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ١ الْعَدَنِيُّ، قَالَ: ثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».
ص ٤٣١
رَوَاهُ مُسْلِمٌ (١٤٥)
وَصْفُ الْغُرَبَاءِ بِأَنَّهُمْ أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ
٦ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ الثُّمَالِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [١/٥٠] ذَاتَ يَوْمٍ وَنَحْنُ عِنْدَهُ: «طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ». قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ، فِي نَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ».
ص ٤٣٢
رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي «الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ» (٧٧٥)، وَأَحْمَدُ (٦٦٥٠) بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا. وَفِي إِسْنَادِهِ: ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلَ رِوَايَةَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَغَيْرِهِ عَنْهُ.
الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا غَرِيبٌ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا
٧ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: ثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا سَيَّارُ بْنُ حَاتِمٍ، قَالَ: ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو كَعْبٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ؛ لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا، لِلنَّاسِ حَالٌ وَلَهُ حَالٌ.
ص ٤٣٢
مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا»
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٩ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: مَا مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ»؟
قِيلَ لَهُ: كَانَ النَّاسُ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ النَّبِيُّ ﷺ أَهْلَ أَدْيَانٍ مُخْتَلِفَةٍ: يَهُودٌ، وَنَصَارَى، وَمَجُوسٌ، وَعَبَدَةُ أَوْثَانٍ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ كَانَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهُمْ غَرِيبًا فِي حَيِّهِ، غَرِيبًا فِي قَبِيلَتِهِ، مُسْتَخْفِيًا بِإِسْلَامِهِ، قَدْ جَفَاهُ الْأَهْلُ وَالْعَشِيرَةُ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ، مُحْتَمِلٌ لِلْجَفَاءِ، صَابِرٌ عَلَى الْأَذَى، حَتَّى أَعَزَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْإِسْلَامَ، وَكَثُرَ أَنْصَارُهُ، وَعَلَا أَهْلُ الْحَقِّ، وَانْقَمَعَ أَهْلُ الْبَاطِلِ، فَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي ابْتِدَائِهِ غَرِيبًا بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ ﷺ: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا» مَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: أَنَّ الْأَهْوَاءَ الْمُضِلَّةَ تَكْثُرُ فَيَضِلُّ بِهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَيَبْقَى أَهْلُ الْحَقِّ الَّذِينَ هُمْ عَلَى شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ غُرَبَاءَ فِي النَّاسِ لِقِلَّتِهِمْ.
أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً». فَقِيلَ: مَنْ هِيَ النَّاجِيَةُ؟ فَقَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» (١).
وَبِقَوْلِهِ ﷺ: «مُرُّوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، وَرَأَيْتَ أَمْرًا لَا يَدَ لَكَ بِهِ؛ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَّامَهُمْ، فَإِنَّ فِيهِمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ كَقَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ».
فَهَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الْغَرِيبِ الصَّابِرِ عَلَى دِينِهِ حَتَّى يَسْلَمَ مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ.
ص ٤٣٣ - ٤٣٤
(١) رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ فِي «الْأَرْبَعِينَ»، الْحَدِيثَ: (الثَّالِثَ عَشَرَ)، وَ«الشَّرِيعَةِ» (٢٨)، وَبَوَّبَ لَهُ فَقَالَ: (٣/بَابُ ذِكْرِ افْتِرَاقِ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ وَعَلَى كَمْ تَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ؟)، وَفِيهِ قَالَ: سُئِلَ ﷺ: مَنِ النَّاجِيَةُ؟ فَقَالَ فِي حَدِيثٍ: «مَا أَنَا عَلَيْهَا وَأَصْحَابِي». وَفِي حَدِيثٍ قَالَ: «السَّوَادُ الْأَعْظَمُ». وَفِي حَدِيثٍ قَالَ: «وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ». قُلْتُ أَنَا: وَمَعَانِيهَا وَاحِدَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. اهـ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (٢٦٤١) مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ الْأَفْرِيقِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُفَسَّرٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ مِثْلَ هَذَا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. اهـ. وَانْظُرِ التَّعْلِيقَ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي «الْأَرْبَعِينَ».
قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي «مُشْكِلِ الْآثَارِ» (١٧٢/٢) بَعْدَ رِوَايَتِهِ لِبَعْضِ أَحَادِيثِ الْغُرَبَاءِ:
فَتَأَمَّلْنَا هَذِهِ الْآثَارَ، فَوَجَدْنَا الْإِسْلَامَ دَخَلَ عَلَى أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ أَشْكَالِهِ، فَكَانَ بِذَلِكَ مَعَهَا غَرِيبًا لَا يُعْرَفُ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ نَزَلَ عَلَى قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَهُ: إِنَّهُ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ يَعُودُ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ مَنْ نَزَعَ عَنْ مَا عَلَيْهِ الْخِلَّةُ الْمَذْمُومَةِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْخَلَّةُ الْمَحْمُودَةُ غَرِيبًا بَيْنَهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا… قَالَ: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ). [إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّمَانِ. اهـ
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «كَشْفِ الْكُرْبَةِ فِي وَصْفِ أَهْلِ الْغُرْبَةِ» (ص٣١٧): تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ فِي دِينِهِمْ، وَهُمْ مُتَعَاضِدُونَ مُتَنَاصِرُونَ، وَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ثُمَّ أَعْمَلَ الشَّيْطَانُ مَكَائِدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَلْقَى بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَأَفْشَى بَيْنَهُمْ فِتْنَةَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَمْ تَزَلْ هَاتَانِ الْفِتْنَتَانِ تَتَزَايَدَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى اسْتَحْكَمَتْ مَكِيدَةُ الشَّيْطَانِ، وَأَطَاعَهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ فِي فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي فِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِوُقُوعِهِ.
فَأَمَّا فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ سَبْعِينَ فِرْقَةً عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ الزِّيَادَاتِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَأَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مَا كَانَتْ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا فِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ. أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟».
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ».
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»… وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْشَى عَلَى أُمَّتِهِ هَاتَيْنِ الْفِتْنَتَيْنِ… فَلَمَّا دَخَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الْفِتْنَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا أَصْبَحُوا مُتَقَاطِعِينَ مُتَبَاغِضِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَاصِلِينَ، فَإِنَّ فِتْنَةَ الشَّهَوَاتِ عَمَّتْ غَالِبَ الْخَلْقِ فَفُتِنُوا بِالدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَصَارَتْ غَايَةَ قَصْدِهِمْ، لَهَا يَطْلُبُونَ، وَبِهَا يَرْضَوْنَ، وَلَهَا يَغْضَبُونَ، وَلَهَا يُوَالُونَ، وَعَلَيْهَا يُعَادُونَ، فَقَطَّعُوا لِذَلِكَ أَرْحَامَهُمْ، وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَارْتَكَبُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ: فَبِسَبَبِهَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَصَارُوا شِيَعًا، وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْبَحُوا أَعْدَاءً وَفِرَقًا وَأَحْزَابًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا إِخْوَانًا قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ إِلَّا الْفِرْقَةُ الْوَاحِدَةُ النَّاجِيَةُ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ». وَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الْغُرَبَاءُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وَهُمُ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»، وَهُمُ «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ»، وَهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»؛ لِأَنَّهُمْ قَلُّوا فَلَا يُوجَدُ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ أَحَدٌ كَمَا كَانَ الدَّاخِلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»: أَمَا إِنَّهُ مَا يَذْهَبُ الْإِسْلَامُ؛ وَلَكِنْ يَذْهَبُ أَهْلُ السُّنَّةِ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي الْبَلَدِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرًا مَدْحُ السُّنَّةِ، وَوَصْفُهَا بِالْغُرْبَةِ، وَوَصْفُ أَهْلِهَا بِالْقِلَّةِ، فَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ السُّنَّةِ تَرَفَّقُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - فَإِنَّكُمْ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ شَيْءٌ أَغْرَبَ مِنَ السُّنَّةِ، وَأَغْرَبُ مِنْهَا مَنْ يَعْرِفُهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَصْبَحَ مَنْ إِذَا عَرَفَ السُّنَّةَ فَعَرَفَهَا غَرِيبًا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يَعْرِفُهَا.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ.
وَمُرَادُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِالسُّنَّةِ: طَرِيقَةُ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ السَّالِمَةُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: أَهْلُ السُّنَّةِ مَنْ عَرَفَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ مِنْ حَلَالٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ثُمَّ صَارَ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ السُّنَّةُ عِبَارَةٌ عَمَّا سَلِمَ مِنَ الشُّبُهَاتِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ خَاصَّةً فِي مَسَائِلِ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ، وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَصَنَّفُوا فِي هَذَا الْعِلْمِ بِاسْمِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ وَالْمُخَالِفَ فِيهِ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْكَامِلَةُ؛ فَهِيَ الطَّرِيقُ السَّالِمَةُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسُفْيَانُ، وَالْفُضَيْلُ وَغَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا وُصِفَ أَهْلُهَا بِالْغُرْبَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِقِلَّتِهِمْ وَغُرْبَتِهِمْ فِيهِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَبَاءِ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَقِلَّةِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ، وَالْقَابِلِينَ مِنْهُمْ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْعَاصِينَ لَهُمْ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ مَدْحُ الْمُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَأَنَّ لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرَ خَمْسِينَ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ أَعْوَانًا فِي الْخَيْرِ.
وَهَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ يُصْلِحُ نَفْسَهُ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: مَنْ يُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ، وَهُوَ أَعْلَى الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا. اهـ.
الحاشية ص ٤٣٤ - ٤٣٧
أَكْثَرُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَ الْهَوَى وَالْغَرِيبُ يُخَالِفُهُمْ
١٠ - مِنْ صِفَةِ الْغُرَبَاءِ أَيْضًا الَّتِي نُعِتَ بِهَا أَهْلُ الْحَقِّ:
أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ، مِثْلَ: مُؤَاخَاةِ الْإِخْوَانِ، وَصُحْبَةِ الْأَصْحَابِ، وَمُجَاوَرَةِ الْجِيرَانِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَشُهُودِ الْجَنَائِزِ، وَمَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ، وَمَا يُسَرُّونَ بِهِ مِنَ الْأَفْرَاحِ بِالدُّنْيَا، وَالْمُتَاجَرَةِ، وَالْمُعَامَلَةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالْبُغْضَةِ، وَالْمُؤَازَرَةِ، وَالْمُلَاقَاةِ، وَالْمُجَالَسَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ فِي الْوَلَائِمِ، وَأَشْبَاهِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ، وَلِدُرُوسِ الْعِلْمِ فِيهِمْ.
فَإِذَا أَرَادَ الْمُؤْمِنُ الْعَاقِلُ الَّذِي قَدْ فَقَّهَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الدِّينِ، وَبَصَّرَهُ عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَقَبَّحَ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ، وَرَزَقَهُ مَعْرِفَةً بِالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ، وَبَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ، وَعَلِمَ مَا لَهُ مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَمَلَ بِالْحَقِّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَنْ قَدْ جَهِلَ الْحَقَّ، بَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى، لَا يُبَالُونَ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِمْ إِذَا سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا نَظَرُوا إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ عَلَى طَرِيقَتِهِمْ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ فَمَقَتُوهُ، وَخَالَفُوهُ، وَطَلَبُوا لَهُ الْعُيُوبَ، فَأَهْلُهُ بِهِ مُتَضَجِّرُونَ، وَإِخْوَانُهُ بِهِ مُتَثَقِّلُونَ، وَمُعَامِلُوهُ١ بِهِ غَيْرُ رَاغِبِينَ فِي مُعَامَلَتِهِ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَقِّ مُخَالِفُونَ٢، فَصَارَ غَرِيبًا فِي دِينِهِ لِفَسَادِ دِينِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، غَرِيبًا فِي مُعَامَلَتِهِ لِكَثْرَةِ فَسَادِ مَعَاشِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، غَرِيبًا فِي مُؤَاخَاتِهِ وَصُحْبَتِهِ لِكَثْرَةِ فَسَادِ صُحْبَةِ النَّاسِ وَمُؤَاخَاتِهِمْ، غَرِيبًا فِي جَمِيعِ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَا يَجِدُ عَلَى ذَلِكَ مُسَاعِدًا يَفْرَحُ بِهِ، وَلَا مُؤَانِسًا يَسْكُنُ إِلَيْهِ، فَمِثْلُ هَذَا غَرِيبٌ مُسْتَوْحِشٌ؛ لِأَنَّهُ صَالِحٌ بَيْنَ فُسَّاقٍ، وَعَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَحَلِيمٌ بَيْنَ سُفَهَاءٍ، يُصْبِحُ حَزِينًا، [وَيُمْسِي حَزِينًا]، كَثِيرُ غَمِّهِ، قَلِيلٌ فَرَحُهُ، كَأَنَّهُ مَسْجُونٌ، كَثِيرُ الْبُكَاءِ، كَالْغَرِيبِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ، وَلَا يَأْنَسُ بِهِ أَحَدٌ، يَسْتَوْحِشُ مِنْهُ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: «وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص ٤٣٧ - ٤٣٨
فِي «طَبَقَاتِ الْحَنَابِلَةِ» (٢٢٧/١) قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِجَمَاعَةٍ عِنْدَهُ: مَنْ تَعُدُّونَ الْغَرِيبَ فِي زَمَانِكُمْ هَذَا؟
فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ: الْغَرِيبُ مَنْ نَأَى عَنْ وَطَنِهِ.
وَقَالَ آخَرُ: الْغَرِيبُ مَنْ فَارَقَ أَحْبَابَهُ.
وَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: الْغَرِيبُ فِي زَمَانِنَا: رَجُلٌ صَالِحٌ، عَاشَ بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ، إِنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ آزَرُوهُ، وَإِنْ نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ أَعَانُوهُ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى سَبَبٍ مِنَ الدُّنْيَا مَانُوهُ، ثُمَّ مَاتُوا وَتَرَكُوهُ. اهـ.
وَرَوَى ابْنُ وَضَّاحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْبِدَعِ» (٩٧) بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ = (١٨١هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: اعْلَمْ - أَنِّي أَرَى - أَنَّ الْمَوْتَ الْيَوْمَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ، وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ. اهـ.
وَكَتَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ (١٦١هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ رِسَالَةً إِلَى عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، قَالَ فِيهَا: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ كَفَاكَ النَّاسَ، وَإِنِ اتَّقَيْتَ النَّاسَ لَمْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، سَأَلْتَ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكَ كِتَابًا أَصِفُ لَكَ فِيهِ خِلَالًا تَصْحَبُ بِهَا أَهْلَ زَمَانِكَ، وَتُؤَدِّيَ إِلَيْهِمْ مَا يَحِقُّ لَهُمْ عَلَيْكَ، وَتَسْأَلَ اللَّهَ الَّذِي لَكَ، وَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ أَمْرٍ جَسِيمٍ، النَّاظِرُونَ فِيهِ الْيَوْمَ الْمُقِيمُونَ بِهِ قَلِيلٌ، بَلْ لَا أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ، وَكَيْفَ يُسْتَطَاعُ ذَلِكَ؟! وَقَدْ كَدَّرَ هَذَا الزَّمَانُ، أَنَّهُ لَيَشْتَبِهُ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَلَا يَنْجُو مِنْ شَرِّهِ إِلَّا مَنْ دَعَا بِدُعَاءِ الْغَرِيقِ.
فَهَلْ تَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ هَكَذَا؟
وَكَانَ يُقَالُ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا تَقَرُّ فِيهِ عَيْنُ حَكِيمٍ.
فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْزَمِ الْعُزْلَةَ، وَاشْتَغِلْ بِنَفْسِكَ، وَاسْتَأْنِسْ بِكِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، وَاحْذَرِ الْأُمَرَاءَ، وَعَلَيْكَ بِالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَأْمُرَ بِخَيْرٍ فِي رِفْقٍ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْكَ حَمِدْتَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ أَقْبَلْتَ عَلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ لَكَ فِيهَا شُغْلًا… وَبَلَغَنِي أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ﷺ كَانُوا يَتَعَوَّذُونَ أَنْ يُدْرِكُوا هَذَا الزَّمَانَ، وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ لَنَا، فَكَيْفَ بِنَا حِينَ أَدْرَكْنَا عَلَى قِلَّةِ عِلْمٍ، وَبَصَرٍ، وَقِلَّةِ صَبْرٍ، وَقِلَّةِ أَعْوَانٍ عَلَى الْخَيْرِ، مَعَ كَدَرٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَفَسَادٍ مِنَ النَّاسِ، وَعَلَيْكَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَالتَّمَسُّكِ بِهِ، وَعَلَيْكَ بِالْخُمُولِ، فَإِنَّ هَذَا زَمَانُ خُمُولٍ، وَعَلَيْكَ بِالْعُزْلَةِ، وَقِلَّةِ مُخَالَطَةِ النَّاسِ… إِلَخْ.
نَقْلًا مِنَ «الْجَامِعِ فِي عَقَائِدِ وَرَسَائِلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَثَرِ» (ص ١٢٦).
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيُّ (٤٣٠ هـ) فِي «صِفَاتِ الْغُرَبَاءِ»: وَقَدْ صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ فِي زَمَانِنَا بِالسَّمْتِ الْأَهْدَى، وَالْحَظِّ الْأَوْفَى أَغْرَبَ الْغُرَبَاءِ، وَأَبْعَدَ الْبُعَدَاءِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا عَلَى طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ؛ مُنْتَحِلٌ بِالْعِلْمِ يَسُوقُ بِهِ، اتَّخَذَ الْعِلْمَ مَكْسَبًا يَنْحَطُّ فِي الْأَهْوَاءِ جَامِعًا بِذَلِكَ الْأَسْوَاءَ وَالْأَدْوَاءَ.
وَآخَرُ: مُرْتَكِسًا فِي ضَلَالَتِهِ، مُنْتَكِسًا فِي بِدْعَتِهِ، أَصْبَحَ إِلَيْهَا دَاعِيًا، وَعَنْ قَبُولِ الْحَقِّ نَاهِيًا، لَا يَرَى الْحَقَّ إِلَّا فِي وِفَاقِهِ، وَلَا الْبَاطِلَ إِلَّا فِي خِلَافِهِ وَشِقَاقِهِ.
وَثَالِثٌ: بِجَهْلِهِ رَاضِيًا لَاهِيًا، وَعَنْ حَظِّهِ مَاضِيًا سَاهِيًا، وَبِالتَّكَاثُرِ لَهِجًا، وَبِالتَّفَاخُرِ بَهَجًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُعِينُ مَلْهُوفًا، رَخُصَتْ عَلَيْهِمْ أَدْيَانُهُمْ، فَخَفَّتْ مِنَ الْأَعْمَالِ مِيزَانُهُمْ، وَسَقَطَتْ عَنِ الْمُحَقِّقِينَ أَوْزَانُهُمْ، فَهُمْ كَمَا قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (هَمَجٌ رِعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ)، يَرْقُصُونَ مَعَ كُلِّ زَاعِقٍ، وَيَنْسَاقُونَ لِكُلِّ سَائِقٍ، إِذَا دَارَتْ رَحَا الظَّالِمِينَ وَالْجَبَّارِينَ؛ صَالُوا بِصَوْلَتِهِمْ، وَإِذَا أَقْبَلَتْ رَايَةُ الْمُضِلِّينَ الْمُبْطِلِينَ؛ مَالُوا إِلَى ضَلَاتِهِمْ، فَدِينُهُمُ التَّحَوُّلُ وَالِانْتِقَالُ، وَدُنْيَاهُمُ التَّطَاوُلُ وَالِاعْتِدَالُ، وَكَيْفَ لَا يَعِزُّ الْمُحَقِّقُونَ وَهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ مُقَدَّمُونَ، وَعَنْ مُصَاحَبَةِ الْأَشْرَارِ يُمَيَّزُونَ، وَبِالْأَخْيَارِ مِنْهُمْ يُرْحَلُونَ.
انْتَهَى مِنْ كِتَابِ «النَّهْيِ عَنِ الرَّقْصِ وَالسَّمَاعِ» لِلدَّشْتِيِّ (٢٣٩/١)
الحاشية ص ٤٣٨ - ٤٤٠
وَصْفُ الْغَرِيبِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
١١ - فَلَوْ تَشْهَدُهُ فِي الْخَلَوَاتِ يَبْكِي بِحُرْقَةٍ، وَيَئِنُّ بِزَفْرَةٍ، وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ بِعَبْرَةٍ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ وَأَنْتَ لَا تَعْرِفُهُ لَظَنَنْتَ أَنَّهُ ثَكْلَى قَدْ أُصِيبَ بِمَحْبُوبِهِ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَنْتَ، وَإِنَّمَا هُوَ خَائِفٌ عَلَى دِينِهِ أَنْ يُصَابَ بِهِ، لَا يُبَالِي بِذَهَابِ دُنْيَاهُ إِذَا سَلِمَ لَهُ دِينُهُ، قَدْ جَعَلَ رَأْسَ مَالِهِ دِينَهُ، يَخَافُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانَ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: رَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ دِينُهُ، حَيْثُ مَا زَالَ زَالَ مَعَهُ، لَا يُخَلِّفُهُ فِي الرِّحَالِ، وَلَا يَأْتَمِنُ عَلَيْهِ الرِّجَالَ.
ص ٤٤٠
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «كَشْفِ الْكُرْبَةِ» (ص٣١): وَمِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيِّ - وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ فِي زَمَانِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ -: إِنِّي أَدْرَكْتُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ زَمَانًا عَادَ فِيهِ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَعَادَ وَصْفُ الْحَقِّ فِيهِ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، إِنْ تَرْغَبْ فِيهِ إِلَى عَالِمٍ وَجَدْتَهُ مَفْتُونًا بِحُبِّ الدُّنْيَا، يُحِبُّ التَّعْظِيمَ وَالرِّئَاسَةَ، وَإِنْ تَرْغَبْ فِيهِ إِلَى عَابِدٍ وَجَدْتَهُ جَاهِلًا فِي عِبَادَتِهِ مَخْدُوعًا صَرِيعًا غَدَرَهُ إِبْلِيسُ، وَقَدْ صَعَدَ بِهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِأَدْنَاهَا فَكَيْفَ لَهُ بِأَعْلَاهَا؟ وَسَائِرُ ذَلِكَ مِنَ الرَّعَاعِ، هَمَجٌ عِوَجٌ وَذِئَابٌ مُخْتَلِسَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، وَثَعَالِبُ ضَوَارٍ، هَذَا وَصْفُ عُيُونِ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَدُعَاةِ الْحِكْمَةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ» (٢٨٦/٩). قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَهَذَا وَصْفُ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْعَظَائِمِ وَالدَّوَاهِي الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِ وَلَمْ تَدُرْ فِي خَيَالِهِ؟! اهـ.
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ (٣٨٧ هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (رَقَم/ ٧٦١): فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَاقِلًا أَمْعَنَ النَّظَرَ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لَعَلِمَ أَنَّ أُمُورَ النَّاسِ تَمْضِي كُلُّهَا عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَطَرِيقَتِهِمْ، وَعَلَى سُنَّةِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَعَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ، فَمَا طَبَقَةٌ مِنَ النَّاسِ وَمَا صِنْفٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُمْ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ مُخَالِفُونَ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَسُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ مُضَاهُونَ فِيمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَالْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَهُمْ، فَإِنْ صَرَفَ بَصَرَهُ إِلَى السُّلْطَنَةِ وَأَهْلِهَا وَحَاشِيَتِهَا، وَمَنْ لَاذَ بِهَا مِنْ حُكَّامِهِمْ وَعُمَّالِهِمْ وَجَدَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِيهِمْ بِالضِّدِّ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَنَصَبُوا لَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَزِيِّهِمْ وَلِبَاسِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ النَّاسِ بَعْدَهُمْ مِنَ التُّجَّارِ وَالسُّوقَةِ، وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَطَالِبِيهَا مِنَ الزُّرَّاعِ، وَالصُّنَّاعِ، وَالْأُجَرَاءِ، وَالْفُقَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ، وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ.
وَمَتَى فَكَّرْتَ فِي ذَلِكَ وَجَدْتَ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ مِنَ الْمَصَائِبِ وَالْأَفْرَاحِ، وَفِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ، وَالْآنِيَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَالْمَسَاكِنِ وَالْخُدَامِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالْوَلَائِمِ وَالْأَعْرَاسِ، وَالْمَجَالِسِ وَالْفُرُشِ، وَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ فَيَجْرِي خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالضِّدِّ مِمَّا أَمَرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى، وَمَلَكَ وَاقْتَنَى، وَاسْتَأْجَرَ وَزَرَعَ وَزَارَعَ.
فَمَنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ لِدِينِهِ فِي وَقْتِنَا هَذَا مَعَ النَّاسِ: عَدِمَهَا، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَلْتَمِسَ مَعِيشَةً عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: فَقَدَهَا؛ وَكَثُرَ خُصَمَاؤُهُ، وَأَعْدَاؤُهُ، وَمُخَالِفُوهُ، وَمُبْغِضُوهُ فِيهَا. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَمَا أَشَدَّ تَعَذُّرَ السَّلَامَةِ فِي الدِّينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ! فَطُرُقَاتُ الْحَقِّ خَالِيَةٌ مُقْفِرَةٌ مُوحِشَةٌ قَدْ عُدِمَ سَالِكُوهَا، وَانْدَفَنَتْ مَحَاجُّهَا، وَتَهَدَّمَتْ صَوَايَاهَا وَأَعْلَامُهَا، وَفُقِدَ أَدِلَّاؤُهَا وَهُدَاتُهَا، قَدْ وَقَفَتْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى فِجَاجِهَا وَسُبُلِهَا تَتَخَطَّفُ النَّاسَ عَنْهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فَلَيْسَ يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ وَيَهُمُّهُ إِلَّا رَجُلٌ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ، قَدْ أَدَّبَهُ الْعِلْمُ، وَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ بِالْإِيمَانِ.
عَنْ يَزِيدَ بْنِ حُمَيْرٍ الرَّحَبِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَاحِبَ النَّبِيِّ ﷺ -: كَيْفَ حَالُنَا مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! لَوْ نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ مَا عَرَفُوكُمْ إِلَّا أَنْ يَجِدُوكُمْ قِيَامًا تُصَلُّونَ.
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ أَعْرِفُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَّا قَدْ أَصْبَحْتُ لَهُ مُنْكِرًا، إِلَّا أَنِّي أَرَى شَهَادَتَكُمْ هَذِهِ ثَابِتَةً.
قَالَ: فَقِيلَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، فَالصَّلَاةُ؟ !قَالَ: قَدْ فُعِلَ فِيهَا مَا رَأَيْتُمْ.
وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ غَضْبَانُ، قُلْتُ لَهُ: مَا أَغْضَبَكَ؟قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَتَمَثَّلُ بِهَذَا الْبَيْتِ: فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتَهُمْ … وَلَا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْرِفُ.
قَالَ ابْنُ بَطَّةَ: هَذَا يَا إِخْوَانِي - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ - قَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَنْ تَرَكْتُ أَكْثَرَ مِمَّنْ ذَكَرْتُ.
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي! كَيْفَ حَالُ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ؟! وَأَيُّ عَيْشٍ لَهُ مَعَ أَهْلِهِ، وَهُوَ لَوْ عَادَ عَلِيلًا لَعَايَنَ عِنْدَهُ وَفِي مَنْزِلِهِ وَمَا أَعَدَّهُ هُوَ وَأَهْلُهُ لِلْعِلَّةِ وَالْمَرَضِ مِنْ صُنُوفِ الْبِدَعِ، وَمُخَالَفَةِ السُّنَنِ، وَالْمُضَاهَاةِ لِلْفُرْسِ وَالرُّومِ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ مَعَهُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى.
وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ جَنَازَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ إِمْلَاكَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ لَهُ وَلِيمَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ عَايَنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ مَا يُنْكِرُهُ وَيُكْرِبُهُ وَيَسُوءُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ وَيَغُمُّهُ.
فَإِذَا كَانَتْ مَطَالِبُ الْحَقِّ قَدْ صَارَتْ بَوَاطِلَ، وَمَحَاسِنُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَتْ مَقَابِحَ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي نَطْوِي عَنْ ذِكْرِهَا؟! إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا أَعْظَمَ مَصَائِبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، وَأَقَلَّ فِي ذَلِكَ الْمُفَكِّرِينَ.
أَنْشَدَنِي شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْبَصْرَةِ فِي جَامِعِهَا:
الطُّرْقُ شَتَّى وَطُرْقُ الْحَقِّ مُفْرَدَةٌ … وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَحَادُ
لَا يُطْلَبُونَ وَلَا تُبْغَى مَآثِرُهُمْ … فَهُمْ عَلَى مَهَلٍ يَمْشُونَ قُصَّادُ
وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ … فَكُلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ حُوَّادُ
عَمَّ النَّاسَ يَا إِخْوَانِي الْبَلَاءُ، وَانْغَلَقَتْ طُرُقُ السَّلَامَةِ وَالنَّجَاءِ، وَمَاتَ الْعُلَمَاءُ وَالنُّصَحَاءُ، وَفُقِدَ الْأُمَنَاءُ، وَصَارَ النَّاسُ دَاءً لَيْسَ يُبْرِئُهُ الدَّوَاءُ. اهـ
الحاشية ص ٤٤٠ - ٤٤٣
٢ - بَابُ الْحَثِّ عَلَى بُلُوغِ مَرَاتِبِ الْغُرَبَاءِ
وَصِيَّةُ النَّبِيِّ ﷺ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا
١٦ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَفَّانَ الصُّوفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبَعْضِ جَسَدِي، فَقَالَ لِي: «يَا ابْنَ عُمَرَ، كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
رَوَاهُ أَحْمَدُ (٥٠٠٢)، وَابْنُ مَاجَهْ (٤١١٤)، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ دُونَ قَوْلِهِ: «وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ»، فَمُخْتَلَفٌ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالْمَسَاءِ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِالصَّبَاحِ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ غَدًا.
رَوَاهُ أَحْمَدُ (٤٧٦٤)، وَالتِّرْمِذِيُّ (٢٣٣٣).
ص ٤٤٥
روى الْبُخَارِيُّ (٦٤١٦) مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
الحاشية ص ٤٤٦
وَجْهُ تَشْبِيهِ الْغَرِيبِ بِالْمُسَافِرِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
٢١ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: أَيْشَ يَحْتَمِلُ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ؟».
قِيلَ لَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -:
هُوَ الرَّجُلُ الْحَاضِرُ الَّذِي قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ، وَرَزَقَهُ مَالًا وَوَلَدًا سُرَّ بِهِمَا، وَزَوْجَةً حَسْنَاءَ، وَدَارًا قَوْرَاءَ، وَلِبَاسًا نَاعِمًا، وَطَعَامًا طَيِّبًا، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ فِيهِ، فَخَرَجَ؛ فَطَالَ بِهِ السَّفَرُ، وَفَقَدَ جَمِيعَ مَا كَانَ يَلَذُّ بِهِ، وَصَارَ غَرِيبًا فِي بَلَدٍ لَا يُعْرَفُ، فَاسْتَوْحَشَ مِنَ الْغُرْبَةِ لَمَّا قَاسَى فِيهَا مِنَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَحَنَّ قَلْبُهُ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ، فَجَدَّ فِي السَّيْرِ، هَمُّهُ فِي مَسِيرِهِ أَنْ يَقْطَعَ السَّفَرَ بِالتَّحَرِّي، فَطَعَامُهُ الْيَسِيرُ مِمَّا فِيهِ كِفَايَتُهُ، وَلِبَاسُهُ الْحَقِيرُ لِمَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، جُلُّ مَا يَحْمِلُ مَعَهُ جِرَابُهُ وَرَكْوَتُهُ، يُكَابِدُ السَّهَرَ لِيَقْطَعَ عَنْهُ شِدَّةَ آلَامِ السَّفَرِ، وَقَلْبُهُ مُتَطَلِّعٌ إِلَى مَا يَلَذُّ بِهِ الْحَضَرُ، مُحْتَمِلٌ لِلْأَذَى، صَابِرٌ عَلَى الْبَلْوَى، لَا يُعَرِّجُ فِي مَسِيرِهِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا غَيْرَ مَا فِيهِ بَعْضُ كِفَايَتِهِ، قَدْ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ فِيهِ لَذَّةٌ، يَنَامُ بِاللَّيْلِ فِي الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ، وَيَقِيلُ بِالنَّهَارِ فِي فَيَافِي الْجِبَالِ وَالشَّجَرِ عَلَى التُّرَابِ، إِذَا مَرَّ بِمَا تَهْوَاهُ النُّفُوسُ لَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ، يُحَادِثُ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَنْهُ، يَقُولُ لَهَا: حَتَّى أَبْلُغَ مُسْتَقَرِّي فَأَمْنَحَكِ مَا تُحِبِّينَ، إِذَا أَجْهَدَهُ السَّيْرُ يَبْكِي بِحُرْقَةٍ وَيَئِنُّ بِزَفْرَةٍ، وَيَخْتَنِقُ بِعَبْرَةٍ، لَا يَجْفُو عَلَى مَنْ جَفَا عَلَيْهِ، وَلَا يُؤَاخِذُ مَنْ آذَاهُ، وَلَا يُبَالِي بِمَنْ جَهِلَهُ، قَدْ هَانَ عَلَيْهِ فِي غُرْبَتِهِ جَمِيعُ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَقْطَعَ السَّفَرَ، وَيَرُدَّ الْحَضَرَ.
فَقِيلَ لِهَذَا الْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ الَّذِي يُرِيدُ الْآخِرَةَ، وَيَشْنَا الدُّنْيَا:
كُنْ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ هَذَا الْغَرِيبِ، لَا يُعَرِّجْ إِلَّا عَلَى مَا قَلَّ وَكَفَى، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَثُرَ وَأَلْهَى، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كُنْتَ غَرِيبًا كَعَابِرِ سَبِيلٍ حَتَّى تَرِدَ الْآخِرَةَ، وَأَنْتَ مُخَفٌّ مِنَ الدُّنْيَا، حِينَئِذٍ تَحْمَدُ عَوَاقِبَ الصَّبْرِ فِي جَمِيعِ مَا نَالَكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي سَفَرِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص ٤٤٧ - ٤٤٨
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ» (٣٧٦/٢): هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ فِي قِصَرِ الْأَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الدُّنْيَا وَطَنًا وَمَسْكَنًا، فَيَطْمَئِنَّ فِيهَا؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَأَنَّهُ عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ: يُهَيِّئُ جَهَازَهُ لِلرَّحِيلِ.
وَقَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى ذَلِكَ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ… وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الدُّنْيَا لِلْمُؤْمِنِ دَارَ إِقَامَةٍ، وَلَا وَطَنًا، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ حَالُهُ فِيهَا عَلَى أَحَدِ حَالَيْنِ:
١ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ مُقِيمٌ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، هَمُّهُ التَّزَوُّدُ لِلرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ.
٢ - أَوْ يَكُونَ كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ الْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ يَسِيرُ إِلَى بَلَدِ الْإِقَامَةِ، فَلِهَذَا وَصَّى النَّبِيُّ ﷺ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَحَدِ هَذَيْنِ الْحَالَيْنِ.
فَأَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ كَأَنَّهُ غَرِيبٌ فِي الدُّنْيَا يَتَخَيَّلُ الْإِقَامَةَ، لَكِنْ فِي بَلَدِ غُرْبَةٍ، فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْقَلْبِ بِبَلَدِ الْغُرْبَةِ، بَلْ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِوَطَنِهِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُقِيمٌ فِي الدُّنْيَا لِيَقْضِيَ مَرَمَّةَ جَهَازِهِ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِهِ… وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ؛ فَلَا هَمَّ لَهُ إِلَّا فِي التَّزَوُّدِ بِمَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ عَوْدِهِ إِلَى وَطَنِهِ، فَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ غَرِيبٌ بَيْنَهُمْ فِي عِزِّهِمْ، وَلَا يَجْزَعُ مِنَ الذُّلِّ عِنْدَهُمْ. وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا [وَهُوَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ]:
فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا … مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ
وَلَكِنَّا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تُرَى … نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى … وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ
وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي … لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ
الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يُنْزِلَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُ مُسَافِرٌ غَيْرُ مُقِيمٍ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ سَائِرٌ فِي قَطْعِ مَنَازِلِ السَّفَرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ السَّفَرُ إِلَى آخِرِهِ، وَهُوَ الْمَوْتُ. وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ فِي الدُّنْيَا، فَهِمَّتُهُ تَحْصِيلُ الزَّادِ لِلسَّفَرِ، وَلَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَلِهَذَا أَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكُونَ بَلَاغُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ. اهـ
الحاشية ص ٤٤٨ - ٤٤٩
لِمَاذَا يَجْفُوا الْأَهْلُ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْغُرَبَاءِ؟
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
٢٣ - مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَبْلُغَ مَرَاتِبَ الْغُرَبَاءِ؛ فَلْيَصْبِرْ عَلَى جَفَاءِ أَبَوَيْهِ، وَزَوْجَتِهِ، وَإِخْوَانِهِ، وَقَرَابَتِهِ.
٢٤ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَلِمَ يَجْفُونِي وَأَنَا لَهُمْ حَبِيبٌ، وَغَمُّهُمْ لِفَقْدِي إِيَّاهُمْ إِيَّايَ شَدِيدٌ؟!
قِيلَ:
لِأَنَّكَ خَالَفْتَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ حُبِّهِمُ الدُّنْيَا، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَيْهَا، وَلِتَمَكُّنِ الشَّهَوَاتِ مِنْ قُلُوبِهِمْ. مَا يُبَالُونَ مَا نَقَصَ مِنْ دِينِكَ وَدِينِهِمْ إِذَا سَلِمَتْ لَهُمْ بِكَ دُنْيَاهُمْ، فَإِنْ تَابَعْتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كُنْتَ الْحَبِيبَ الْقَرِيبَ، وَإِنْ خَالَفْتَهُمْ وَسَلَكْتَ طَرِيقَ أَهْلِ الْآخِرَةِ بِاسْتِعْمَالِكَ الْحَقَّ جَفَا عَلَيْهِمْ أَمْرُكَ.
فَالْأَبَوَانِ مُتَبَرِّمَانِ بِفِعَالِكَ، وَالزَّوْجَةُ بِكَ مُتَضَجِّرَةٌ، فَهِيَ تُحِبُّ فِرَاقَكَ.
وَالْإِخْوَانُ وَالْقَرَابَةُ فَقَدْ زَهِدُوا فِي لِقَائِكَ، فَأَنْتَ بَيْنَهُمْ مَكْرُوبٌ مَحْزُونٌ، فَحِينَئِذٍ نَظَرْتَ إِلَى نَفْسِكَ بِعَيْنِ الْغُرْبَةِ؛ فَأَنِسْتَ بِأَمْثَالِكَ مِنَ الْغُرَبَاءِ، وَاسْتَوْحَشْتَ مِنَ الْإِخْوَانِ وَالْأَقْرِبَاءِ، فَسَلَكْتَ الطَّرِيقَ إِلَى اللَّهِ الْكَرِيمِ وَحْدَكَ.
فَإِنْ صَبَرْتَ عَلَى خُشُونَةِ الطَّرِيقِ أَيَّامًا يَسِيرَةً، وَاحْتَمَلْتَ الذُّلَّ وَالْمُدَارَاةَ مُدَّةً قَصِيرَةً، وَزَهِدْتَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْحَقِيرَةِ؛ أَعْقَبَكَ الصَّبْرُ أَنْ وُرِدَ بِكَ إِلَى دَارِ الْعَافِيَةِ أَرْضُهَا طَيِّبَةٌ، وَرِيَاضُهَا خَضِرَةٌ، وَأَشْجَارُهَا مُثْمِرَةٌ، وَأَنْهَارُهَا عَذْبَةٌ، فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ، وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَأَهْلُهَا فِيهَا مُخَلَّدُونَ، ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ٢٥﴾ [١/٥٤] ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ٢٦ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ٢٧ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ٢٨﴾ [الْمُطَفِّفِينَ]، ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ١٧ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ١٨ لَّا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ١٩ وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ٢٠ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ٢١ وَحُورٌ عِينٌ٢٢ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ٢٣ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ٢٤﴾ [الْوَاقِعَةِ]
ص ٤٥٠ - ٤٥١
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «كَشْفِ الْكُرْبَةِ» (ص٢٩): وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي ذِكْرِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، قَالَ: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِي الْقَبِيلَةِ أَذَلَّ مِنَ النَّقَدِ». وَ(النَّقَدُ): هُمُ الْغَنَمُ الصِّغَارُ.
وَفِي «مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ الْحَيَاةُ أَنْ تَرَى الرَّجُلَ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأَعَادَهُ وَأَبْدَأَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَنَزَلَ عِنْدَ مَنَازِلِهِ، لَا يَحُورُ فِيكُمْ إِلَّا كَمَا يَحُورُ رَأْسُ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ أَذَلَّ مِنَ الْأَمَةِ.
وَإِنَّمَا ذَلَّ الْمُؤْمِنُ آخِرَ الزَّمَانِ؛ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَسَادِ مِنْ أَهْلِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَكُلُّهُمْ يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ لِمُخَالَفَةِ طَرِيقَتِهِ لِطَرِيقَتِهِمْ، وَمَقْصُودِهِ لِمَقْصُودِهِمْ، وَمُبَايَنَتِهِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ… وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَكْرَهُهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ لِاسْتِنْكَارِ حَالِهِ، سَمِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ امْرَأَتَهُ مَرَّةً تَقُولُ: أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ. قَالَ: آمِينَ. اهـ
الحاشية ص ٤٥١ - ٤٥٢
٣ - بَابُ صِفَةِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ
٢٦ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الصَّقْرِ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ كَاسِبٍ، قَالَ: ثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «طُوبَى لِعَبْدٍ مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، شَاعِثٌ رَأْسُهُ، إِنْ كَانَتِ السَّاقَةُ كَانَ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْحَرَسُ كَانَ فِيهِمْ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ، وَإِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، طُوبَى لَهُ، ثُمَّ طُوبَى».
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (٢٨٨٧).
٢٧ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَصَّاصُ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَزِيزٍ الْأَيْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ عَقِيلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «رُبَّ أَغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ، لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَأَبَرَّهُ».
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (٣٨٥٤).
ص ٤٥٣ - ٤٥٤
أَغْبَطُ النَّاسِ عِنْدَ الرَّسُولِ ﷺ
٣٤ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ النَّاسِ عِنْدِي: لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ٢ [٥٥/ب]، ذُو حَظٍّ مِنْ صَلَاةٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا، لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ حُلَّتْ مَنِيَّتُهُ، وَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ».
ص ٤٥٧
رَوَاهُ أَحْمَدُ (٢٢١٦٧ وَ ٢٢١٩٧)، وَالتِّرْمِذِيُّ (٢٣٤٧)، وَابْنُ مَاجَهْ (٤١١٧)
قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي «الْعُزْلَةِ» (١٢١): قَدْ غَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ غمُوضِ الشَّخْصِ، وَخُمُولِ الذِّكْرِ فِي النَّاسِ، وَاشْتَرَطَ لَهُ: الرِّضَا بِقِلَّةٍ؛ لِأَنَّ الْقَنَاعَةَ تَقْطَعُهُ عَنِ النَّاسِ، وَاشْتَرَطَ لَهُ أَيْضًا خِفَّةَ الْعِيَالِ؛ لِئَلَّا يَشْغَلَهُ الْكَسْبُ لَهُمْ، ثُمَّ تَعْجِيلَ الْوَفَاةِ؛ لِئَلَّا يَطُولَ مَقَامُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ كُلُّهَا تُشِيرُ إِلَى الْعُزْلَةِ وَتُبِينُ عَنْ فَضِيلَتِهَا. اهـ
الحاشية ص ٤٥٧
٤ - بَابُ ذِكْرِ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْغُرْبَةَ وَيُخْفِي نَفْسَهُ
لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ يَتْبَعُهَا عَذَابٌ
٤٧ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ الْحَسَنِ الْحَرْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَلَّادٍ الْبَاهِلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُؤَذِّنٌ بِلَهُجَيْمٍ، قَالَ: نَزَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَنَا فِي سِكَنِنَا، فَكَانَ يَجْلِسُ مَعَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْرِفُهُ، نَظُنُّ أَنَّهُ أَعْرَابِيٌّ، وَكَانَ يُصْغِي إِلَى حَدِيثِنَا، فَإِذَا صِرْنَا إِلَى حَدِيثِهِ سَمِعْنَا كَلَامًا حَسَنًا يُذَكِّرُنَا الْجَنَّةَ، وَيُخَوِّفُنَا النَّارَ، فَإِذَا طَرَدَتْهُ الشَّمْسُ حَلَّ حَبْوَتَهُ، وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا ضَرَّ مَنْ كَانَ فِي الْفِرْدَوْسِ مَسْكَنُهُ … مَا مَسَّهُ قَبْلُ مِنْ ضُرٍّ وَإِقْتَارِ
تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي خَائِفًا وَجِلً … اإِلَى الْمَسَاجِدِ هَوْنًا بَيْنَ أَطْمَارِ
تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ صَفْوَتَهَا … مِنَ الْحَرَامِ وَيَبْقَى الْخِزْيُ وَالْعَارُ
تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوءٍ فِي مَغَبَّتِهَا … لَا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ
ص ٤٧٢
النَهَى عَنِ الشُّهْرَةِ
فِي «الْحِلْيَةِ» (٧٠/٧): قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَتَبَ إِلَيَّ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: بُثَّ عِلْمَكَ، وَاحْذَرِ الشُّهْرَةَ.
وَفِي «السِّيَرِ» (٢٦٠/٧): قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: قَالَ لِي سُفْيَانُ: إِيَّاكَ وَالشُّهْرَةَ، فَمَا أَتَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَقَدْ نَهَى عَنِ الشُّهْرَةِ.
الحاشية ص ٤٧٢
٥ - بَابٌ فِي مَوْتِ الْغَرِيبِ
صِفَةُ مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُورُهُ مِثْلُ نُورِ الشَّمْسِ
٥٣ - أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوَانِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ بْنَ عَوْفٍ الْقَارِئَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا حِينَ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «سَيَأْتِي نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ نُورُهُمْ كَضَوْءِ الشَّمْسِ».
فَقُلْنَا: وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، يَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ، يُحْشَرُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ».
ص ٤٧٥
رَوَاهُ أَحْمَدُ (٦٦٥٠ وَ٧٠٧٢). فِي إِسْنَادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ (٦٥٧٠)، وَابْنُ حِبَّانَ (٧٤١٤) وَغَيْرُهُمَا نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ يَتَقَوَّى بِهِ.
صِفَةُ الْغَرِيبِ الطَّائِعِ لِلَّهِ تَعَالَى
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ:
٥٨ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَكُلُّ مَنْ مَاتَ غَرِيبًا يَكُونُ مَوْتُهُ شَهَادَةً عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ؟
قِيلَ لَهُ: الْغَرِيبُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أ - فَغَرِيبٌ يَمُوتُ طَائِعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِغُرْبَتِهِ، وَهُمْ عَلَى أَصْنَافٍ شَتَّى، كُلُّهَا مَحْمُودَةٌ، فَهُمُ الَّذِينَ يُرْتَجَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُ أَحَدِهِمْ شَهَادَةً.
ب - وَغَرِيبٌ عَاصٍ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغُرْبَتِهِ، وَهُمْ عَلَى أَصْنَافٍ شَتَّى كُلُّهَا مَذْمُومَةٌ، وَفَرْضٌ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ مِنَ الْغُرْبَةِ، وَالرُّجُوعُ عَمَّا تَغَرَّبُوا لَهُ.
٥٩ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَصِفْ لَنَا الْغَرِيبَ الطَّائِعَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي غُرْبَتِهِ، حَتَّى لَا نَتَغَرَّبَ إِلَّا فِي طَاعَةٍ. قِيلَ لَهُ:
● مَنْ تَغَرَّبَ فِي حَجٍّ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ جِهَادٍ؛ فَمَنْ مَاتَ فِي خُرُوجِهِ أَوْ رُجُوعِهِ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
● وَمَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ يُرِيدُ [وَجْهَ] اللَّهِ الْكَرِيمَ بِعِلْمِهِ لِيَعْلَمَ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَسْتَعْمِلَهُ، وَيَعْلَمَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَنْتَهِيَ عَنْهُ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
● وَمَنْ خَرَجَ زَائِرًا لِأَخٍ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ لِزِيَارَةِ رَحِمٍ يَبَرُّهُمْ بِزِيَارَتِهِ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
● وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ ظَهَرَتْ فِيهِ الْفِتَنُ، فَخَشِيَ عَلَى دِينِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ فَفَرَّ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
● وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْمَكْسَبُ الْحَلَالُ فِي بَلَدِهِ فَخَرَجَ إِلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ لِيَكْتَسِبَ الْحَلَالَ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
● وَمَنْ شَرَدَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ أَبَقَ١ لَهُ عَبْدٌ، أَوْ أَمَةٌ فَخَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ فَمَاتَ؛ فَهُوَ شَهِيدٌ.
ص ٤٧٧ - ٤٧٨
صِفَةُ مَنْ تَغَرَّبَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى
٦٠ - وَأَمَّا صِفَةُ مَنْ تَغَرَّبَ فِي مَعْصِيَةٍ، مِثْلُ:
● أَنْ يَقْطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
● أَوْ أَنْ يُعِينَ الْخَوَارِجَ.
● أَوْ خَرَجَ يَسْعَى فِي الْأَرْضِ فَسَادًا.
● أَوْ اخْتَدَعَ وَلَدَ الرَّجُلِ، أَوْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَهَرَبَ بِهِمْ فَتَغَرَّبَ.
● أَوْ خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ مُحَرَّمَةٍ لَا يُبَالِي مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ دُنْيَاهُ.
فَهَؤُلَاءِ وَمَا يُشْبِهُ أَمْثَالَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَغَرُّبِهِمْ، وَفُرِضَ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ عَنْ قَبِيحِ مَا خَرَجُوا لَهُ، فَإِنْ مَاتُوا فِي غُرْبَتِهِمْ لَمْ تُحْمَدْ أَحْوَالُهُمْ.
ص ٤٧٨
الْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الْمَدَارِجِ» (١٩٦/٣): فَالْغُرْبَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
- غُرْبَةُ أَهْلِ اللَّهِ وَأَهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذَا الْخَلْقِ. وَهِيَ الْغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَهْلَهَا. وَأَخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ: أَنَّهُ (بَدَأَ غَرِيبًا) وَأَنَّهُ (سَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ)، وَ(أَنَّ أَهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَبَاءَ). وَلَكِنْ أَهْلُ هَذِهِ (الْغُرْبَةِ) هُمْ أَهْلُ اللَّهِ حَقًّا. فَإِنَّهُمْ لَمْ يَأْوُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَمْ يَنْتَسِبُوا إِلَى غَيْرِ رَسُولِهِ ﷺ. وَلَمْ يَدْعُوا إِلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ فَارَقُوا النَّاسَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِمْ. فَإِذَا انْطَلَقَ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا فِي مَكَانِهِمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: «أَلَا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النَّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَا النَّاسَ، وَنَحْنُ أَحْوَجُ إِلَيْهِمْ مِنَّا الْيَوْمَ، وَإِنَّا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا الَّذِي كُنَّا نَعْبُدُهُ».
فَهَذِهِ الْغُرْبَةُ لَا وَحْشَةَ عَلَى صَاحِبِهَا، بَلْ هُوَ آنَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اسْتَوْحَشَ النَّاسُ، وَأَشَدُّ مَا تَكُونُ وَحْشَتُهُ إِذَا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، وَإِنْ عَادَاهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَجَفُوهُ…
-
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْغُرْبَةِ: غُرْبَةٌ مَذْمُومَةٌ، وَهِيَ غُرْبَةُ أَهْلِ الْبَاطِلِ، وَأَهْلِ الْفُجُورِ بَيْنَ أَهْلِ الْحَقِّ، فَهِيَ غُرْبَةٌ بَيْنَ حِزْبِ اللَّهِ الْمُفْلِحِينَ، وَإِنْ كَثُرَ أَهْلُهَا فَهُمْ غُرَبَاءُ عَلَى كَثْرَةِ أَصْحَابِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، أَهْلُ وَحْشَةٍ عَلَى كَثْرَةِ مُؤْنِسِهِمْ، يُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ، وَيَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ.
-
النَّوْعُ الثَّالِثُ: غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ، لَا تُحْمَدُ وَلَا تُذَمُّ، وَهِيَ الْغُرْبَةُ عَنِ الْوَطَنِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ غُرَبَاءُ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارِ مَقَامٍ، وَلَا هِيَ الدَّارُ الَّتِي خُلِقُوا لَهَا… إِلَخْ.
الحاشية ص ٤٧٨ - ٤٧٩
أَغْرَبُ الْغُرَبَاءِ مَنْ أَخَذَ بِالسُّنَنِ وَحَذِرَ الْبِدَعَ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
٦٤ - [أَغْرَبُ] الْغُرَبَاءِ فِي وَقْتِنَا هَذَا:
● مَنْ أَخَذَ بِالسُّنَنِ، وَصَبَرَ عَلَيْهَا.
● وَحَذِرَ الْبِدَعَ، وَصَبَرَ عَنْهَا.
● وَاتَّبَعَ آثَارَ مَنْ سَلَفَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
● وَعَرَفَ زَمَانَهُ، وَشِدَّةَ فَسَادِهِ، وَفَسَادَ أَهْلِهِ؛ فَاسْتَغْنَى بِإِصْلَاحِ شَأْنِ نَفْسِهِ مِنْ حِفْظِ جَوَارِحِهِ، وَتَرْكِ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَعَمِلَ فِي إِصْلَاحِ كَسْرَتِهِ.
● وَكَانَ طَلَبُهُ مِنَ الدُّنْيَا مَا فِيهِ كِفَايَتُهُ فِي تَرْكِ الْفَضْلِ الَّذِي يُطْغِيهِ.
● وَدَارَى أَهْلَ زَمَانِهِ وَلَمْ يُدَاهِنْهُمْ، وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَهَذَا غَرِيبٌ، وَ[قَلَّ] مَنْ يَأْنَسُ إِلَيْهِ مِنَ الْعَشِيرَةِ وَالْإِخْوَانِ، وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ.
ص ٤٨٠ - ٤٨١
فِي «الْإِبَانَةِ الْكُبْرَى» (٢٠) عَنْ حَزْمٍ الْقُطَيْعِيِّ، قَالَ: مَرَّ بِنَا يُونُسُ عَلَى حِمَارٍ، وَنَحْنُ عَلَى بَابِ ابْنِ لَاحِقٍ، فَوَقَفَ، فَقَالَ: أَصْبَحَ مَنْ إِذَا عَرَفَ السُّنَّةَ عَرَفَهَا غَرِيبًا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يَعْرِفُهَا.
وَفِي «الْحِلْيَةِ» (٢٦/١) قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ التُّسْتَرِيُّ: أَيُّمَا عَبْدٍ قَامَ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ فَعَمِلَ بِهِ، وَتَمَسَّكَ بِهِ، فَاجْتَنَبَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ فَسَادِ الْأُمُورِ، وَعِنْدَ تَشْوِيشِ الزَّمَانِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الرَّأْيِ وَالتَّفْرِيقِ إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، هَادِيًا مَهْدِيًّا، قَدْ أَقَامَ الدِّينَ فِي زَمَانِهِ، وَأَقَامَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْغَرِيبُ فِي زَمَانِهِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ».
وَفِي «الْجَامِعِ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي» (٩١) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ: أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِ الرَّسُولِ ﷺ قَدْ أُمِيتَتْ، فَاصْبِرُوا يَا أَصْحَابَ السُّنَنِ رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَإِنَّكُمْ أَقَلُّ النَّاسِ.
قَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَحْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ» (١٢٥/١): وَأَمَّا الْغُرَبَاءُ فَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ، وَالْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ مِنْ ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا تَنْتَسِبُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَوَرَاءَ ذَلِكَ الْأَدْعِيَاءُ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَيَدَّعُونَهُ وَهُمْ عَنْهُ بِمَعْزِلٍ، فَمِنْهُمْ فِئَامٌ قَدْ لَحِقُوا بِالْمُشْرِكِينَ، وَفِئَامٌ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَفِئَامٌ مِنَ الدَّهْرِيَّةِ وَعُبَّادِ الطَّبِيعَةِ، وَفِئَامٌ مِنَ الْمُعَطِّلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ، وَأَفْرَاخِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ، وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ، وَغُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ، وَالرَّوَافِضِ، فَهَؤُلَاءِ أَدْعِيَاءُ الْإِسْلَامِ، وَمَا أَكْثَرَهُمْ لَا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ.
فَالْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الْجِلْدِ الْأَسْوَدِ، فَهُمْ غُرَبَاءٌ بَيْنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَضْلًا عَنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَهُمْ فِي غُرْبَتِهِمْ مُتَفَاوِتُونَ، فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ غُرَبَاءُ فِي النَّاسِ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ غُرَبَاءُ فِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ السُّنَّةِ غُرَبَاءُ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالدَّاعُونَ مِنْهُمْ إِلَى الْخَيْرِ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، الصَّابِرُونَ عَلَى أَذَى الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ أَشَدُّ غُرْبَةً، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِمْ: أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا يَغْتَرُّ بِهِ الْجَاهِلُونَ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى حَقٍّ لَمْ يَكُونُوا أَقَلَّ النَّاسِ عَدَدًا، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِهِمْ، فَاعْلَمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ النَّاسُ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ فَمُشَبَّهُونَ بِالنَّاسِ، وَلَيْسُوا بِنَاسٍ، فَمَنِ النَّاسِ إِلَّا أَهْلُ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّهُمْ عَدَدًا.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ، لِيُوَطِّنْ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ، عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ وَلَوْ كَفَرَ النَّاسُ. انْتَهَى.
الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُدَاهَنَةِ وَالْمُدَارَةِ
٦٥ - فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: افْرِقْ لَنَا بَيْنَ الْمُدَارَاةِ وَالْمُدَاهَنَةِ.
فَقِيلَ لَهُ: الْمُدَارَاةُ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا الْعَاقِلُ، وَيَكُونُ مَحْمُودًا بِهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعِنْدَ مَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ الَّذِي يُدَارِي جَمِيعَ النَّاسِ الَّذِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُمْ، وَمِنْ مُعَاشَرَتِهِمْ، لَا يُبَالِي مَا نَقَصَ مِنْ دُنْيَاهُ، وَمَا انْتُهِكَ بِهِ مِنْ عِرْضِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْلَمَ دِينُهُ؛ فَهَذَا رَجُلٌ كَرِيمٌ غَرِيبٌ فِي زَمَانِهِ.
وَالْمُدَاهَنَةُ: فَهُوَ الَّذِي لَا يُبَالِي مَا نَقَصَ مِنْ دِينِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ دُنْيَاهُ، قَدْ هَانَ عَلَيْهِ ذَهَابُ دِينِهِ وَانْتِهَاكُ عِرْضِهِ، بَعْدَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ دُنْيَاهُ؛ فَهَذَا فِعْلٌ مَغْرُورٌ. ص ٤٨٢
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «الرُّوحِ» (٦٥٢/٢): الْمُدَارَاةُ صِفَةُ مَدْحٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ صِفَةُ ذَمٍّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْمُدَارِيَ يَتَلَطَّفُ بِصَاحِبِهِ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ الْحَقَّ أَوْ يَرُدَّهُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَالْمُدَاهِنُ يَتَلَطَّفُ بِهِ لِيُقِرَّهُ عَلَى بَاطِلِهِ وَيَتْرُكَهُ عَلَى هَوَاهُ. فَالْمُدَارَاةُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالْمُدَاهَنَةُ لِأَهْلِ النِّفَاقِ.
الحاشية ص ٤٨٢
الْمُؤْمِنُ يُدَارِي وَلَا يُمَارِي
٦٧ - وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ يُدَارِي وَلَا يُمَارِي، يَنْشُرُ حِكْمَةَ اللَّهِ، فَإِنْ قُبِلَ[تْ] حَمِدَ اللَّهَ، وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
٦٨ - وَقَالَ مُحَمَّدُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ لِمَنْ لَا يَجِدُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ بُدًّا، حَتَّى يَجْعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ مِنْهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا.
ص ٤٨٤ - ٤٨٥
فِي «مَنَاقِبِ الشَّافِعِيِّ» لِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (ص٢١٢) قَالَ الشَّافِعِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَى السَّلَامَةِ مِنَ النَّاسِ سَبِيلٌ، فَانْظُرِ الَّذِي فِيهِ صَلَاحُكَ فَألْزَمْهُ.
وَفِي «الْعُزْلَةِ» لِلْخَطَّابِيِّ (٣٨٢) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: خَالِطِ النَّاسَ وَزَايِلْهُمْ [يَعْنِي: فَارِقْهُمْ]، وَدِينَكَ لَا تَكْلِمَنَّهُ. [يَعْنِي: لَا تَفْعَلْ شَيْئًا يَجْرَحُ دِينَكَ وَيَخْدِشُهُ].
قَالَ: يُرِيدُ: خَالِطْهُمْ بِبَدَنِكَ، وَزَايِلْهُمْ بِقَلْبِكَ؛ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ النِّفَاقِ؛ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُدَارَاةِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ».
ثُمَّ أَسْنَدَ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ لِابْنِ أَخِيهِ: كُنْتُ أَحَبَّ إِلَى أَبِيكَ مِنْكَ، وَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ ابْنِي؛ إِذَا رَأَيْتَ الْمُؤْمِنَ فَخَالِصْهُ، وَإِذَا رَأَيْتَ الْفَاجِرَ فَخَالِفْهُ.
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَقُولُونَ: الْمُدَارَاةُ نِصْفُ الْعَقْلِ، وَأَنَا أَقُولُ: هُوَ الْعَقْلُ كُلُّهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَثَرَ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي الْأَصْلِ.
ثُمَّ قَالَ: أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ، قَالَ: أَنْشَدَنِي الْمُتَنَبِّي: وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ … أَنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ. اهـ. وَلِلِاسْتِزَادَةِ فِي هَذَا الْبَابِ انْظُرْ كِتَابَ «مُدَارَاةِ النَّاسِ» لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا رَحِمَهُ اللَّهُ.
الحاشية ص ٤٨٥
قَصِيدَةٌ لِابْنِ سَحْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي وَصْفِ غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ
وَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى قَصِيدَةٍ حَسَنَةٍ جِدًّا لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ سُلَيْمَانَ بْنَ سَحْمَانَ (١٣٤٩هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ، لَهَا صِلَةٌ بِمَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا، يُبَيِّنُ فِيهَا الشَّيْخُ غُرْبَةَ الْإِسْلَامِ فِي وَقْتِهِ، فَقَالَ:
عَلَى الدِّينِ فَلْيَبْكِ ذُوُو الْعِلْمِ وَالْهُدَى … فَقَدْ طُمِسَتْ أَعْلَامُهُ فِي الْعَوَالِمِ
وَقَدْ صَارَ إِقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهُمْ … عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ
وَإِصْلَاحُ دُنْيَاهُمْ بِإِفْسَادِ دِينِهِمْ … وَتَحْصِيلُ مَلْذُوذَاتِهَا وَالْمَطَاعِمِ
يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا … سَوَاءٌ لَدَيْهِمْ ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ
إِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى … يَكُونُ لَهُ ذُخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ
وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِنَ الْحُزْنِ وَالْأَسَى … عَلَى قِلَّةِ الْأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ
وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا … وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ
فَأَمَّا عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى … وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ
فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالَّذِي فَلَقَ النَّوَى … مِنَ النَّاسِ مِنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ
وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ … وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الِاسْمُ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
فَلَا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا … وَلَا زَاجِرٌ عَنْ مُعْضِلَاتِ الْجَرَائِمِ
وَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا … عَفَاءً فَأَضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ
وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفَتْ … عَلَيْهَا السَّوَافِي فِي جَمِيعِ الْأَقَالِمِ
وَمَا الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلَا … كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ
وَلَيْسَ لَهَا مِنْ سَالِكٍ مُتَمَسِّكٍ … بِدِينِ النَّبِيِّ الْأَبْطَحِيِّ ابْنِ هَاشِمِ
فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الدِّينِ وَامَّحَتْ … بِهِ الْمِلَّةُ السَّمْحَاءُ إِحْدَى الْقَوَاصِمِ
فَنَاسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي … إِلَى اللَّهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ
فَنَشْكُو إِلَى اللَّهِ الْقُلُوبَ الَّتِي قَسَتْ … وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ
أَلَسْنَا إِذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخٌ … بِأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ
نَهُشُّ إِلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالثَّنَا … وَنُهْرَعُ فِي إِكْرَامِهِمْ بِالْوَلَائِمِ
وَقَدْ بَرِئَ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ … يُقِيمُ بِدَارِ الْكُفْرِ غَيْرَ مُصَارِمِ
وَلَا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدَا … فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ
وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُّ عِنْدَنَا … مُسَالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنْ كُلِّ آثِمِ
فَيَا مِحْنَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ … وَيَا قِلَّةَ الْأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ
وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا … عَلَى الدِّينِ فَاصْبِرْ صَبْرَ أَهْلِ الْعَزَائِمِ
فَمَنْ يَتَمَسَّكْ بِالْحَنِيفِيَّةِ الَّتِي … أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ
لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ امْرِئٍ مِنْ ذَوِي الْهُدَى … مِنَ الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الْأَكَارِمِ
فَنُحْ وَابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا … إِلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ
لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينَ مِنْ بَعْدِ مَا عَفَتْ … مَعَالِمُهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ
وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ وَالْآلِ كُلِّهِمْ … وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْمَكَارِمِ
بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ وَالرَّمْلِ وَالْحَصَى … وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلَالِ الْغَمَائِمِ
قَالَ الشَّيْخُ حَمُّودٌ التُّوَيْجِرِيُّ (١٤١٣هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ» (١/ ٢٧): أَقُولُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى الشَّيْخِ سُلَيْمَانَ كَيْفَ لَوْ رَأَى مَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْعَظَائِمِ الَّتِي كَانَ يَخْشَى وُقُوعَهَا فِي قَوْلِهِ:وَإِنِّي لَأَخْشَى أَنْ تَجِيءَ عَوَاضِلٌوَلَيْسَ لَهَا مِنْ مُنْكِرٍ حِينَ تُفْتَعَلُ فَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَجَاءَتْ عَوَاضِلُ كَثِيرَةٌ فَلَمْ تُنْكَرْ، ثُمَّ زَادَ الْأَمْرُ حَتَّى أُنْكِرَ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ الْمُنْكَرَ، وَقُمِعَ بَعْضُهُمْ، وَقُهِرَ، وَاضْطُهِدَ… إِلَخْ
Generated at: 2025-04-11-11-44-45