المؤلف:: ابن رجب الحنبلي الناشر:: دار اللؤلؤة سنة النشر:: 2014-01-01 الصفحات:: 32 الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1405513703l/22732329.jpg الصيغة:: PDF الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/22732329 ISBN:: الحالة:: مكتمل التسميات:: الغرض:: المعرفة:: التزكية, التدريب:: , المؤثر:: , تاريخ القراءة:: 2024-04-25 معالج:: 1 تقييم الفائدة المستقبلية::
مَعْنَى حَدِيثِ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا» وضَرَرُ فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ
تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى غَايَةٍ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ فِي دِينِهِمْ، وَهُمْ مُتَعَاضِدُونَ مُتَنَاصِرُونَ، وَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. ثُمَّ أَعْمَلَ الشَّيْطَانُ مَكَائِدَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَلْقَى بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، وَأَفْشَى بَيْنَهُمْ فِتْنَةَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَلَمْ تَزَلْ هَاتَانِ الْفِتْنَتَانِ تَتَزَايَدَانِ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى اسْتَحْكَمَتْ مَكِيدَةُ الشَّيْطَانِ، وَأَطَاعَهُ أَكْثَرُ الْخَلْقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي طَاعَتِهِ فِي فِتْنَةِ الشُّبُهَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ دَخَلَ فِي فِتْنَةِ الشَّهَوَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِوُقُوعِهِ.
فَأَمَّا فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ: فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى أَزْيَدَ مِنْ سَبْعِينَ فِرْقَةً عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ فِي عَدَدِ الزِّيَادَاتِ عَلَى السَّبْعِينَ، وَأَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ مَا كَانَتْ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا فِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ: فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ. أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟».
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟ تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ».
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ»… وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَخْشَى عَلَى أُمَّتِهِ هَاتَيْنِ الْفِتْنَتَيْنِ… فَلَمَّا دَخَلَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي هَاتَيْنِ الْفِتْنَتَيْنِ أَوْ إِحْدَاهُمَا أَصْبَحُوا مُتَقَاطِعِينَ مُتَبَاغِضِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا إِخْوَانًا مُتَحَابِّينَ مُتَوَاصِلِينَ، فَإِنَّ فِتْنَةَ الشَّهَوَاتِ عَمَّتْ غَالِبَ الْخَلْقِ فَفُتِنُوا بِالدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَصَارَتْ غَايَةَ قَصْدِهِمْ، لَهَا يَطْلُبُونَ، وَبِهَا يَرْضَوْنَ، وَلَهَا يَغْضَبُونَ، وَلَهَا يُوَالُونَ، وَعَلَيْهَا يُعَادُونَ، فَقَطَّعُوا لِذَلِكَ أَرْحَامَهُمْ، وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَارْتَكَبُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا فِتْنَةُ الشُّبُهَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ: فَبِسَبَبِهَا تَفَرَّقَ أَهْلُ الْقِبْلَةِ وَصَارُوا شِيَعًا، وَكَفَّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَأَصْبَحُوا أَعْدَاءً وَفِرَقًا وَأَحْزَابًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا إِخْوَانًا قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَنْجُ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ إِلَّا الْفِرْقَةُ الْوَاحِدَةُ النَّاجِيَةُ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ ﷺ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ». وَهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ الْغُرَبَاءُ الْمَذْكُورُونَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»، وَهُمُ «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»، وَهُمُ «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتَنِ»، وَهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ»؛ لِأَنَّهُمْ قَلُّوا فَلَا يُوجَدُ فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، وَقَدْ لَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ أَحَدٌ كَمَا كَانَ الدَّاخِلُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ.
قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ فِي قَوْلِهِ ﷺ: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»: أَمَا إِنَّهُ مَا يَذْهَبُ الْإِسْلَامُ؛ وَلَكِنْ يَذْهَبُ أَهْلُ السُّنَّةِ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي الْبَلَدِ مِنْهُمْ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَثِيرًا مَدْحُ السُّنَّةِ، وَوَصْفُهَا بِالْغُرْبَةِ، وَوَصْفُ أَهْلِهَا بِالْقِلَّةِ، فَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: يَا أَهْلَ السُّنَّةِ تَرَفَّقُوا - رَحِمَكُمُ اللَّهُ - فَإِنَّكُمْ مِنْ أَقَلِّ النَّاسِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ شَيْءٌ أَغْرَبَ مِنَ السُّنَّةِ، وَأَغْرَبُ مِنْهَا مَنْ يَعْرِفُهَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَصْبَحَ مَنْ إِذَا عَرَفَ السُّنَّةَ فَعَرَفَهَا غَرِيبًا، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يَعْرِفُهَا.
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ: اسْتَوْصُوا بِأَهْلِ السُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ غُرَبَاءُ.
وَمُرَادُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ بِالسُّنَّةِ: طَرِيقَةُ النَّبِيِّ ﷺ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ السَّالِمَةُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ يَقُولُ: أَهْلُ السُّنَّةِ مَنْ عَرَفَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِهِ مِنْ حَلَالٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ أَكْلَ الْحَلَالِ مِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ السُّنَّةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
ثُمَّ صَارَ فِي عُرْفِ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ السُّنَّةُ عِبَارَةٌ عَمَّا سَلِمَ مِنَ الشُّبُهَاتِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ خَاصَّةً فِي مَسَائِلِ: الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ، وَفَضَائِلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَصَنَّفُوا فِي هَذَا الْعِلْمِ بِاسْمِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّ خَطَرَهُ عَظِيمٌ وَالْمُخَالِفَ فِيهِ عَلَى شَفَا هَلَكَةٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْكَامِلَةُ؛ فَهِيَ الطَّرِيقُ السَّالِمَةُ مِنَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ، وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَسُفْيَانُ، وَالْفُضَيْلُ وَغَيْرُهُمْ، وَلِهَذَا وُصِفَ أَهْلُهَا بِالْغُرْبَةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ لِقِلَّتِهِمْ وَغُرْبَتِهِمْ فِيهِ، وَلِهَذَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْسِيرِ الْغُرَبَاءِ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَقِلَّةِ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُمْ، وَالْقَابِلِينَ مِنْهُمْ، وَكَثْرَةِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ، وَالْعَاصِينَ لَهُمْ.
وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ مَدْحُ الْمُتَمَسِّكِ بِدِينِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَأَنَّهُ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ، وَأَنَّ لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرَ خَمْسِينَ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ أَعْوَانًا فِي الْخَيْرِ.
وَهَؤُلَاءِ الْغُرَبَاءُ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ يُصْلِحُ نَفْسَهُ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ.
وَالثَّانِي: مَنْ يُصْلِحُ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ، وَهُوَ أَعْلَى الْقِسْمَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُهُمَا.
ص ٩١ - ٩٦
الْعَالِمُ بِالسُّنَّةِ يَكُونُ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ مَقْهُورًا ذَلِيلًا
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ فِي ذِكْرِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، قَالَ: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ فِي الْقَبِيلَةِ أَذَلَّ مِنَ النَّقَدِ». وَ(النَّقَدُ): هُمُ الْغَنَمُ الصِّغَارُ.
وَفِي «مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ الْحَيَاةُ أَنْ تَرَى الرَّجُلَ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأَعَادَهُ وَأَبْدَأَهُ، وَأَحَلَّ حَلَالَهُ، وَحَرَّمَ حَرَامَهُ، وَنَزَلَ عِنْدَ مَنَازِلِهِ، لَا يَحُورُ فِيكُمْ إِلَّا كَمَا يَحُورُ رَأْسُ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ أَذَلَّ مِنَ الْأَمَةِ.
وَإِنَّمَا ذَلَّ الْمُؤْمِنُ آخِرَ الزَّمَانِ؛ لِغُرْبَتِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْفَسَادِ مِنْ أَهْلِ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ، فَكُلُّهُمْ يَكْرَهُهُ وَيُؤْذِيهِ لِمُخَالَفَةِ طَرِيقَتِهِ لِطَرِيقَتِهِمْ، وَمَقْصُودِهِ لِمَقْصُودِهِمْ، وَمُبَايَنَتِهِ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ… وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَكْرَهُهُ أَهْلُهُ وَوَلَدُهُ لِاسْتِنْكَارِ حَالِهِ، سَمِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ امْرَأَتَهُ مَرَّةً تَقُولُ: أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ. قَالَ: آمِينَ.
ص ٩٧ - ٩٨
وصف علماء السوء في زمن الغربة
وَمِنْ كَلَامِ أَحْمَدَ بْنِ عَاصِمٍ الْأَنْطَاكِيِّ - وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعَارِفِينَ فِي زَمَانِ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ -: إِنِّي أَدْرَكْتُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ زَمَانًا عَادَ فِيهِ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَعَادَ وَصْفُ الْحَقِّ فِيهِ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، إِنْ تَرْغَبْ فِيهِ إِلَى عَالِمٍ وَجَدْتَهُ مَفْتُونًا بِحُبِّ الدُّنْيَا، يُحِبُّ التَّعْظِيمَ وَالرِّئَاسَةَ، وَإِنْ تَرْغَبْ فِيهِ إِلَى عَابِدٍ وَجَدْتَهُ جَاهِلًا فِي عِبَادَتِهِ مَخْدُوعًا صَرِيعًا غَدَرَهُ إِبْلِيسُ، وَقَدْ صَعَدَ بِهِ إِلَى أَعْلَى دَرَجَةٍ مِنَ الْعِبَادَةِ وَهُوَ جَاهِلٌ بِأَدْنَاهَا فَكَيْفَ لَهُ بِأَعْلَاهَا؟ وَسَائِرُ ذَلِكَ مِنَ الرَّعَاعِ، هَمَجٌ عِوَجٌ وَذِئَابٌ مُخْتَلِسَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، وَثَعَالِبُ ضَوَارٍ، هَذَا وَصْفُ عُيُونِ أَهْلِ زَمَانِكَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ وَدُعَاةِ الْحِكْمَةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي «الْحِلْيَةِ».
فَهَذَا وَصْفُ أَهْلِ زَمَانِهِ؛ فَكَيْفَ بِمَا حَدَثَ بَعْدَهُ مِنَ الْعَظَائِمِ وَالدَّوَاهِي الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِ وَلَمْ تَدُرْ فِي خَيَالِهِ؟!
ص ٩٨ - ٩٩
الحث على التمسك بالسنة
٣٧ - وَخَرَجَ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا وَاللَّهِ لَئِنْ عَاشَ عَلَى هَذِهِ الْمُنكَرَاتِ؛ فَرَأَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَصَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَقَلْبُهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ فَيَتَّبِعُ آثَارَهُمْ، وَيَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِمْ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ عَظِيمٌ.
٣٨ - وَرَوَى الْمُبَارَكُ بنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْغَنِيَّ الْمُتْرِفَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانٌ يَأْخُذُ الْمَالَ، وَيَدَّعِي أَنَّهُ لَا عِقَابَ فِيهِ، وَذَكَرَ الْمُبْتَدِعَ الضَّالَّ الَّذِي خَرَجَ بِسَيْفِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَتَأَوَّلَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ فِي الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَالَ: سُنَّتُكُمْ -وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ- بَيْنَهُمَا، بَيْنَ الْغَالِي وَالْجَافِي، وَالْمُتْرِفِ وَالْجَاهِلِ، فَاصْبِرُوا عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ كَانُوا أَقَلَّ النَّاسِ، الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا مَعَ أَهْلِ الْإِتْرَافِ إِتْرَافَهُمْ، وَلَا مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ أَهْوَاءَهُمْ، وَصَبَرُوا عَلَى سُنَّتِهِمْ حَتَّى أَتَوْا رَبَّهُمْ، فَكَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكُونُوا.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ هَذِهِ الْمُنكَرَاتِ يَقُولُ هَذَا: هَلُمَّ إِلَيَّ، وَيَقُولُ هَذَا: هَلُمَّ إِلَيَّ، فَيَقُولُ: أُرِيدُ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ يَطْلُبُهَا، وَيَسْأَلُ عَنْهَا، إِنَّ هَذَا لَيَعْرِضُ لَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ، فَكَذَاكُمْ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
ص ٩٩ - ١٠٠
تقْسِيم أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ
٣٩ - وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ كُمَيْلِ بنِ زِيَادٍ، عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ:
١. عَالِمٌ رَبَّانِيٌّ.
٢. وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ.
٣. وَهَمَجٌ رِعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامًا فِي فَضْلِ الْعِلْمِ، إِلَى أَنْ قَالَ: آهْ، إِنَّ هَاهُنَا -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ- عِلْمًا لَوْ وَجَدْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلْ أُصِيبَهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللَّهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ.
أَوْ مُنْقَادًا لِأَهْلِ الْحَقِّ، لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا ذَا، وَلَا ذَا[كَ].
أَوْ مِنْهُومًا بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ.
أَوْ مُغَرًّى بِجَمْعِ الْمَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيْسَا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمُ الْأَنْعَامُ السَّارِحَةُ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ.
اللَّهُمَّ بَلَى لَنْ تَخْلُوَ الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، لِكَيْلَا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ، أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْ حُجَجِهِ حَتَّى يُؤَدُّوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَ مِنْهُ الْمُتْرِفُونَ، وَأَنَسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي بِلَادِهِ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ، هَاهْ هَاهْ، شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ.
٤٠ - فَقَسَمَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- حَمَلَةَ الْعِلْمِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ هُمْ أَهْلُ الشُّبُهَاتِ، وَهُمْ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ، بَلْ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، فَتَأْخُذُهُ الشُّبْهَةُ فَيَقَعُ فِي الْحَيْرَةِ وَالشُّكُوكِ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ.
ب - وَقِسْمٌ هُمْ أَهْلُ الشَّهَوَاتِ، وَجَعَلَهُمْ نَوْعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِنَفْسِ الْعِلْمِ، وَيَجْعَلُ الْعِلْمَ آلةً لِكَسْبِ الدُّنْيَا.
وَالثَّانِي: مَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَهَذَا النَّوْعُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَنْ هَمُّهُ مِنَ الدُّنْيَا لِذَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، فَهُوَ مَنْهُومٌ بِذَلِكَ سَرِيعُ الِانْقِيَادِ لَهُ.
وَالثَّانِي: مَنْ هَمُّهُ جَمْعُ الدُّنْيَا، وَاكْتِنَازُهَا، وَادِّخَارُهَا، وَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَيْسَ مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، وَإِنَّمَا هُمْ كَالْأَنْعَامِ، وَلِهَذَا شَبَّهَ اللَّهُ -تَعَالَى- مَنْ حُمِّلَ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلْهَا بِالْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارًا. وَشَبَّهَ عَالِمَ السُّوءِ الَّذِي انْسَلَخَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، وَأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ بِالْكَلْبِ. وَالْكَلْبُ وَالْحِمَارُ أَخَسُّ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
ج - وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ: هُمْ أَهْلُهُ وَحَمَلَتُهُ وَرُعَاتُهُ، وَالْقَائِمُونَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَبَيِّنَاتِهِ، وَذَكَرَ أَنَّهُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْرًا، إِشَارَةً إِلَى قِلَّةِ هَذَا الْقِسْمِ وَعِزَّتِهِ فِي حَمَلَةِ الْعِلْمِ وَغَرَابَتِهِ بَيْنَهُمْ.
ص ١٠٠ - ١٠٢
تَقْسِيمُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَمَلَةِ الْقُرْآنِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ
قَسَمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- حَمَلَةَ الْقُرْآنِ إِلَى قَرِيبٍ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ الَّذِي قَسَمَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِحَمَلَةِ الْعِلْمِ.
٤١ - قَالَ الْحَسَنُ: قُرَّاءُ الْقُرْآنِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ:
أ - صِنْفٌ اتَّخَذُوهُ بِضَاعَةً، يَتَأَكَّلُونَ بِهِ.
ب - وَصِنْفٌ أَقَامُوا حُرُوفَهُ وَضَيَّعُوا حُدُودَهُ، وَاسْتَطَالُوا بِهِ عَلَى أَهْلِ بِلَادِهِمْ، وَاسْتَدَنَوْا بِهِ الْوُلَاةَ، كَثُرَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ، لَا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ.
ج - وَضَرْبٌ عَمَدُوا إِلَى دَوَاءِ الْقُرْآنِ، فَوَضَعُوهُ عَلَى دَاءِ قُلُوبِهِمْ، فَرَكَدُوا بِهِ فِي مَحَارِيبِهِمْ، وَحَنَوْا بِهِ بَرَانِسَهُمْ، وَاسْتَشْعَرُوا الْخَوْفَ، وَارْتَدَوُا الْحُزْنَ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْقِي اللَّهُ بِهِمُ الْغَيْثَ، وَيَنْصُرُ بِهِمْ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَاللَّهِ لَهَؤُلَاءِ الضَّرْبِ فِي حَمَلَةِ الْقُرْآنِ أَعَزُّ مِنْ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ. فَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ وَهُمُ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ لِلَّهِ وَجَعَلُوهُ دَوَاءً لِقُلُوبِهِمْ، فَأَثَّرَ فِيهِمُ الْخَوْفُ وَالْحُزْنُ، أَعَزُّ مِنَ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ بَيْنَ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ.
ص ١٠٢ - ١٠٣
بَعْضُ وَصَايَا نَبِيِّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا
٤٧ - وَمِنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: اعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا.
٤٨ - وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى مَوْجِ الْبَحْرِ دَارًا؟! تِلْكَ الدُّنْيَا فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا.
ص ١٠٥
حَالُ الْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا
٤٩ - فَالْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ الْمُجْتَازِ بِبَلْدَةٍ غَيْرِ مُسْتَوْطِنٍ فِيهَا، فَهُوَ يَشْتَاقُ إِلَى بَلَدِهِ، وَهَمُّهُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالتَّزَوُّدُ بِمَا يُوصِلُهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْمُسْتَوْطِنِينَ فِيهِ فِي عِزِّهِمْ، وَلَا يَجْزَعُ مِمَّا أَصَابَهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الذُّلِّ.
٥٠ - قَالَ الْفَضِيلُ بنُ عِيَاضٍ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا مَهْمُومٌ حَزِينٌ، هَمُّهُ مَرَمَّةُ جِهَازِهِ.
٥١ - وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا كَالْغَرِيبِ، لَا يَجْزَعُ مِنْ ذُلِّهَا، وَلَا يُنَافِسُ فِي عِزِّهَا، لَهُ شَأْنٌ وَلِلنَّاسِ شَأْنٌ.
٥٢ - وَفِي الْحَقِيقَةِ فَالْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا غَرِيبٌ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ إِنَّمَا كَانَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ، ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا، فَهَمُّهُ الرُّجُوعُ إِلَى مَسْكَنِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ أَبَدًا يَحِنُّ إِلَى وَطَنِهِ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ.
ص ١٠٥
الزَّاهِدَ غَرِيبٌ بَيْنَ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْعَارِفَ غَرِيبٌ بَيْنَ أَهْلِ الْآخِرَةِ
٦٠ - قَالَ يَحْيَى بنُ مُعَاذٍ: الزَّاهِدُ غَرِيبُ الدُّنْيَا، وَالْعَارِفُ غَرِيبُ الْآخِرَةِ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الزَّاهِدَ غَرِيبٌ بَيْنَ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْعَارِفَ غَرِيبٌ بَيْنَ أَهْلِ الْآخِرَةِ، لَا يَعْرِفُهُ الْعُبَّادُ، وَلَا الزُّهَّادُ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ وَهِمَّتُهُ كَهِمَّتِهِ.
وَرُبَّمَا اجْتَمَعَتْ لِلْعَارِفِ هَذِهِ الْغُرْبَاتُ كُلُّهَا، أَوْ كَثِيرٌ مِنْهَا، أَوْ بَعْضُهَا، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ غُرْبَتِهِ حِينَئِذٍ، فَالْعَابِدُونَ ظَاهِرُونَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْعَارِفُونَ مَسْتُورُونَ عَنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
٦١ - قَالَ يَحْيَى بنُ مُعَاذٍ: الْعَابِدُ مَشْهُورٌ، وَالْعَارِفُ مَسْتُورٌ، وَرُبَّمَا خَفِيَ حَالُ الْعَارِفِ عَلَى نَفْسِهِ لِخَفَاءِ حَالَتِهِ، وَإِسَاءَتِهِ الظَّنَّ بِنَفْسِهِ.
٦٢ - قَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ أَدْهَمَ: مَا أَرَى هَذَا الْأَمْرَ إِلَّا فِي رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ ذَاكَ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ.
٦٣ - وَفِي حَدِيثِ سَعْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ».
ص ١٠٧ - ١٠٨
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ
٦٤ - وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِذَا غَابُوا لَمْ يُفْقَدُوا، أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى، وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ».
٦٥ - وَعَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: طُوبَى لِكُلِّ عَبْدٍ نُوَمَةٍ، عَرَفَ النَّاسَ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ، وَعَرَفَهُ اللَّهُ مِنْهُ بِرِضْوَانٍ، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى، تُجْلَى عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ.
٦٦ - وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُونُوا جُدُدَ الْقُلُوبِ، خُلْقَانَ الثِّيَابِ، مَصَابِيحَ الظَّلَامِ، تَخْفَوْنَ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَتُعْرَفُونَ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ.
ص ١٠٨
مَنِ اسْتَوْحَشَ مِنْ وَحْدَتِهِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ
٧١ - قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: أَلَا تَسْتَوْحِشُ؟ قَالَ: كَيْفَ أَسْتَوْحِشُ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي.
٧٢ - وَقَالَ آخَرُ: وَهَلْ يَسْتَوْحِشُ مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ؟!
٧٣ - وَعَنْ بَعْضِهِمْ: مَنِ اسْتَوْحَشَ مِنْ وَحْدَتِهِ فَذَلِكَ لِقِلَّةِ أُنْسِهِ بِرَبِّهِ.
٧٤ - كَانَ يَحْيَى بنُ مُعَاذٍ كَثِيرَ الْعُزْلَةِ وَالِانْفِرَادِ، فَعَاتَبَهُ أَخُوهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ مِنَ النَّاسِ فَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَ يَحْيَى: إِنْ كُنْتَ مِنَ النَّاسِ فَلَا بُدَّ لَكَ مِنَ اللَّهِ. وَقِيلَ لَهُ: إِذَا هَجَرْتَ الْخَلْقَ مَعَ مَنْ تَعِيشُ؟ قَالَ: مَعَ مَنْ هَجَرْتُهُمْ لَهُ.
Generated at: 2025-04-11-13-26-27