معالج:: 1
التسميات::
الحالة:: مكتمل
الرابط:: https://www.goodreads.com/book/show/51961637
الصفحات:: 368
الصيغة:: PDF
الغرض:: الفكر, عام
الغلاف:: https://i.gr-assets.com/images/S/compressed.photo.goodreads.com/books/1576942183l/51961637._SX318_SY475_.jpg
المؤلف:: آلان دونو, ترجمة د. مشاعل عبد العزيز الهاجري
الناشر:: دار سؤال
تاريخ القراءة:: 2021-11-03
سنة النشر:: 2019

“بعيدا عن الإعلام الجمعي، فإن التلفاز، على خلاف ذلك، هو قوة لنزع الصفة الجمعية: إنه يفصل الأفراد الذين يشكلون الجماعة ويعزلهم عن بعضهم، فيما هو يقدم لهم الشيء ذاته بالتزامن (في الوقت ذاته) وبالتشابه (المحتوى ذاته). نحن نتعايش اجتماعيا من خلال التشارك في واقع لا نستهلكه إلا في العزلة. وهكذا ينتج التلفاز كائنا اجتماعيا جديدا، هو “السلطعون الناسك الجمعي”: يجلسون، الملايين منهم في الآن ذاته، منفصلين، ومع ذلك متماثلين، منغلقين في أقفاصهم كما السلطعونات الناسكة، لا رغبة في الفرار من العالم، بل من أجل التأكد تماما من ألا يفوتهم - أبدا، أبدا - أي فتات من أي صورة تظهر لهم على الشاشة”. وهكذا، يكون الواقع متأنقا، مقتطعا من سياقه، مؤطرأ، ومعدا كما ينبغي، فيوصله التلفاز إلى بيوتنا مثل سلعة، حتى لا نكون بحاجة إلى معايشته أو القيام به.‎ ة” — 1 likes


  • ثمة أيضا نوع من الأميين الجدد جزئيا الذين يمكن رؤية أصحابه يحومون حول أكشاك بيع الصحف كنحلات طنانة تحوم حول زهرة نضرة، بحثا عن المقادير التي ستصنع بها عسل حياتها الفكرية. إنهم لا يقرأون الكتب ولكنهم مفتونون بتكاثر المجلات وبمواضيع أغلفةها. هؤلاء أهل للشفقة لأنهم بعيدا عن إعفاء أنفسهم مشقة العناء كقراء، فهم في غاية السخاء والكرم حين يتعلق الأمر بها. يقرأون الأعمال الضعيفة بشراهة، يعودون لمنازلهم محملين بالمجلات التي يحرثون فيها بعيونهم لساعات دون أن يحصلوا بالنهاية على أكثر مما يحصل عليه طفل يلهو بأحجية بانورامية لا يبدو أنها ستنتهي، عاجزين عن رؤية الصورة الكبرى التي يبدو فيها كل شيء في مكانه الصحيح…إن هذه المجموعة الجديدة تنمو ببطء، وقد حان الوقت لتسميتها ولإعطاء المنتسبين لها وضعا اجتماعيا. إنهم الأميون الجدد (the neo-illiterates)، وهم على درجة من التأثير والخطورة تتجاوز كثيرا الأميين أمية بحتة. فهم يرفضون البقاء في الدرك الأسفل مع الشيطان في ظلمات الجهل، إلا أنهم لا يطمحون للوصول إلى ضوء المعرفة المقدس. إنهم قادرون على كل شيء، ولا يجازفون بشيء… تعليم الناس كيف يقرأون ليس كافيا في أغلب الأحيان لينتزعهم من فقرهم الروحي الأساسي أو، وكما قال ت. س. إليوت بأن التعليم لا ينتج الثقافة إلا في أضيق الحدود… إن هؤلاء الصغار يبدأون حياتهم وهم مسلحين بمهارات القراءة والكتابة الأولى فقط، واثقين من أنهم قد تمكنوا من السيطرة على جهلهم الأولي، ثم يفاجأون لاحقا بأن غريما قويا ينتظرهم عند الزاوية. إن هذه القوى الشريرة سوف تجذبهم إليها فتحولهم إلى مخلوقات بسيطة؛ أميين جدد يعيشون راضين في أمان الوعي المغيب مستمتعين بملذات الحياة الاستهلاكية التي يوفرها العصر الحديث، ومع ذلك فهم محكومون بحكم مؤبد للعيش مدى الحياة في شكل مختلف من تخمة الجهل.

تصم التلفزيون اليوم وصمتان كبيرتان تتعلقان بالأول بمذيعيه، والثانية بضيوفه:

فأما عن مذيعي التلفزيون، فلنلاحظ أن الحياة العامة في السابق كانت لا تقبل إلا من يحددون – بدقة هندسية صارمة – ما هو القالب العام الذي يودون أن يطرحوا أنفسهم من خلاله (غناء، تمثيل، شعر، رياضة، سياسة). أما الآن، ومع الاكتفاء بمعيار الجمال وحده (طبيعياً كان أو صناعياً)، فقد اختلف الأمر: صار يمكن لأية جميلة بلهاء أو وسيم فارغ أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين من خلال عدة منصات عامة هي في أغلبها منصات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنا بأي منتج قيمي صالح لتحدي الزمن (كأغنية، قصيدة، لوحة، أو حتى دور صغير في فيلم ذي ميزانية متواضعة). لذلك، صرنا نرى المذيعات يتقافزن من فقرات الربط إلى المسلسلات إلى الفوازير، ولاعبي الكرة المصابين في أربطتهم الصليبية يكتشفون في أنفسهم فجأة مهارة تقديم برامج المسابقات. يقيني أن ما شجعهم على ذلك هو أمران بالدرجة الأولى: افتقارنا لثقافة الجمال الحقيقي، ثم أتون الفضائيات التلفزيونية المستعر الذي يتطلب مادة تلفزيونية يومية كوقود لازم للحفاظ على استمرارية هذا الموقد الجهنمي.

وأما عن ضيوف التلفزيون، فقد كان صانعو الملوك في الماضي هم رجال الدين ورجال السياسة وحاشية البلاط. أما الآن – في ثقافتنا العربية على الأقل – فإن الاستديو التلفزيوني هو الصانع الجديد للملوك، حتى ولو كان هذا الاستديو لا يعدو أن يكون غرفة صغيرة لا تضم سوى مقعدين، آلة تصوير، أوراق مليئة بما يشبه الأفكار، مذيعة بثياب مزركشة، وظل مصور فاشل لا يعرف كيف يخفي ظله. لا يهم ما إذا كان مشاريع الملوك هؤلاء شخصيات معتبرة أم مجرد أصفار متحركة، ولا يعنى نيافة الاستديو البتة ما إذا كانوا يحملون معهم الكفاءة، الإنجاز، القدرة أو الضمير. وفي الحقيقة، كلما تخفف الملك الجديد من هذه التركات الثقيلة، ازدادت حظوظه في الحكم، بل كلما انحدر مليكنا هذا أكثر في مقياس الذوق، الأدب والحس السليم، تم تسويقه بشكل أفضل. ما يهم الاستوديو هو تقديم هؤلاء الملوك الجدد لنا.

٥٠ - ٥١


هـ. الشبكات الاجتماعية

الشبكات الاجتماعية ومواقع التواصل (مثل تويتر وفيسبوك وإنستغرام)، هي مجرد مواقع للقاء افتراضي وتبادل الآراء؛ (forums) لا أكثر. فيها، يتكون “عقل جمعي” من خلال المنشورات المتتابعة. هذا الفكر التراكمي السريع الذي يبلور – بسرعة وبدقة – موضوعاً محدداً، نجح في اختصار مسيرة طويلة كان تبادل الفكر فيها يتطلب أجيالاً من التفاعل (المناظرات والخطابات والرسائل والكتب والنشر والتوزيع والقراءة والنقد ونقد النقد). ورغم كل هذه الفرص، فقد نجحت هذه المواقع في “ترميز” التافهين كما يقال، أي تحويلهم إلى رموز.

ما يجعل من كثير من تافهي مشاهير السوشيال ميديا والفاشينيستات يظهرون لنا بمظهر “النجاح”، هو أمر يُسأل عنه المجتمع نفسه، الذي دأب على التقليص التدريجي لصور النجاح التي تعرفها البشرية ككل (العمل الجاد، والخير للأهل، والمواطنة الصالحة، وحسن الخلق، والأكاديميا، والآداب، والفنون، والرياضة إلخ)، فألغاها جميعاً من قائمة معايير النجاح، حتى اختزلها في المال فقط، فلم يبق إلا عليه وحده معياراً. لقد حذرنا من ذلك كثيراً. من يُنكر الآن أن المشاهير والفاشينيستات قد حققوا “النجاح” فعلاً، وفقاً لمعيار المال؛ وهو المعيار الوحيد الذي وضعه مجتمعنا نصب أعين شبابه؟

٥٢


ما هو جوهر كفاءة الشخص التافه؟ إنه القدرة على التعرف على شخص تافه آخر. معاً، يدعم التافهون بعضهم بعضاً، فيرفع كلٌّ منهم الآخر، لتقع السلطة بيد جماعة تكبر باستمرار، لأن الطيور على أشكالها تقع. ما يهم هنا لا يتعلق بتجنب الغباء، وإنما بالحرص على إحاطته بصور السلطة. إذا كان المظهر الخارجي للغباء لا يشبه التقدم، أو المهارة، أو الرغبة الدائمة في التعديل، فإن أحداً لن يرغب في أن يكون غبياً، كما لاحظ روبرت موزيل (Robert Musil) (4). كن مرتاحاً في إخفاء أوجه قصورك في سلوكك المعتاد، ادعِ دائماً أنك شخص براغماتي، وكن مستعداً للتطوير من نفسك؛ فالتفاهة لا تعاني من نقص لا بالقدرة ولا بالكفاءة.


أوضح ماركس في كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” (١٨٥٧) Contribution to the Critique of Political Economy

إن اللامبالاة تجاه عمل معيّن هو أمر يناسب المجتمع الذي ينتقل فيه الأفراد بسهولة من نوع معين من العمل إلى نوع آخر، والذي يكون فيه هذا العمل عرضياً للأفراد ومن ثم غير ذي أهمية لهم. وهكذا، ففي نظام مثل هذا فإن الوسائل التي يراد من خلالها الوصول إلى هذه الأهداف صارت موحدة. بذلك، يبدو العمل - ليس من حيث فئاته، ولكن من حيث واقعه ذاته - مجرد وسيلة لإنتاج الثروة بشكل عام. (٨)

إن العمل المنزوع الحيوية، الذي يراه العمال باعتباره محض آلية لتأمين وجودهم “نفسه”، هو الوسيلة التي يضمن فيها رأس المال نموه. هكذا، يتفق كل من أرباب الأعمال والعمال على شيء واحد على الأقل: لقد تحولت كل حرفة (craft) إلى وظيفة (job)، وصارت كل وظيفة تُرى باعتبارها “وسيلة” (means).


وبعد، فإن التفاهة تشجعنا بكل طريقة ممكنة على الإغفاء بدلاً من التفكير، والنظر إلى ما هو غير مقبول وكأنه حتمي، وإلى ما هو مقيت وكأنه ضروري؛ إنها تُحيلنا إلى أغبياء. فحقيقة أننا نفكر بهذا العالم باعتباره مجموعة من المتغيرات المتوسطة (average variables) هو أمر مفهوم، وأن بعض الناس يشابهون هذه المتوسطات إلى درجة كبيرة هو أمر طبيعي، ومع ذلك، فإن البعض منا لن يقبل أبداً بالأمر الصامت الذي يطلب من الجميع أن يصبحوا مماثلين لهذه الشخصية المتوسطة.

لقد فقد تعبير “نظام التفاهة” (mediocracy) المعنى الذي كان له في الماضي، عندما كان يصف قوة الطبقة الوسطى، إذ صار الآن يعني سيطرة الأشخاص التافهين، باعتبارها حالة سيطرة خلقتها الأشكال التافهة ذاتها، حالة سيطرة ترسخ هذه الأشكال باعتبارها عملةً للمعنى وأحياناً مفتاحاً للنجاة، إلى درجة أن من يأملون بالأفضل ويدعون التفوق صاروا يمتثلون للكلمات الفارغة التي يخلقها “نظام التفاهة” هذا.

٨٥