الحالة:: معالج
النوع:: فيديو
اﻷولوية:: 2
الغرض::
المنشيء:: عبد الله بن فهد الخليفي
المدة:: 00:55:43
الرابط:: https://www.youtube.com/watch?v=jDUht-NSb0E
التدريب::
المؤثر::
تاريخ اﻹكمال:: 2024-11-09
تقسيم الناس إلى متعصب وتوافقي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
قبل الدخول في البحث، أود أن أبين أن الناس اليوم على أقسام:
القسم الأول: متعصب، سواءً أشعري أو سلفي. وهذه الفئة من الناس يذمها المعتدلون جداً، لأنهم لا يقدمون للبحث العلمي شيئاً، هم فقط يلعنون ويسبون ويكفّرون.
القسم الثاني: فئة تقابلهم وتسمى فئة التوافقية، وفئة التوافقيين على نوعين:
-
توافقي سلبي: فهو الذي يذم المتعصبين فحسب، دون النظر في مقدماتهم ومحاولة نقضها، فهو يذمهم ويقول فقط: (أن الدنيا تغيرت - واتركوا التعصب - ولماذا لا نتفق - ولماذا لا نجتمع - ولماذا لا نكون يداً واحدة).
-
توافقي إيجابي: فهذا يقول إن حال التوافقي السلبي لا ينفع شيئاً، فإن هؤلاء عندهم غرور بعقائدهم (هؤلاء المتعصبون)، ولا بد أن نكسر هذا الغرور. لكن كيف نكسر هذا الغرور؟ عن طريق: (أن نبين لهم أن أقوالهم ضعيفة، أو ليست صحيحة، أو أن مذاهبهم تحوي أقوالاً ضعيفة). عندها سنستطيع كسر هذا الغرور.
لكن التوافقي الإيجابي يقع في مشكلة كان ينكرها على المتعصبين، وهي التعمق في البحث العلمي، فهو يصير يتعمق في البحث العلمي ليثبت لهم هذا. فيقول له التوافقي السلبي: “لا، أنت هكذا وقعت في الفخ، فصرت تحاول أن تنتصر لفكرة، وتستدل عليها بشكل متوسع جداً، والنظر إلى كتب التراث، وهذا أيضاً سيشغلنا عن مشروعنا الأصل. ثم إن الناس سيناقشونك، وهذا مما سيشغلنا عن المشروع الذي نحن نقول للمتعصبين أن يتركوا تعصبهم حتى نخدم المشروع العام (مشروع الأمة)“.
التوافقي الإيجابي يرد على التوافقي السلبي ويقول له: يا أخي، أنت لن تكسر التعصب بهذه الطريقة، اتركني أفعل هذا حتى أكسر التعصب، فإن هذه الطريقة ناجعة. أما إنسان يعتقد أنه هو الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وأن هذه العقيدة ستأخذه للجنة، على أي أساس سيترك ما هو فيه ويتابعك؟ فيا أخي أنا أخدمك في الحقيقة، إذا أنت اشتغل بما أنت تشتغل فيه، وأجعلني أنا أعمل بما أنا أعمل فيه.
يقول الشيخ: وأنا هنا سأحاول أن أكسر غرور الأشعريين على طريقة التوافقيين الإيجابيين، لكنني لن أسير على الطريقة التوافقية الإيجابية. لكن لماذا؟ لأن التوافقي الإيجابي منطلق من مقدمة وهي أنه لا يوجد حق وصواب وخطأ بين هذه الفرق، بل كل فريق منها فيه درجة من الصواب، وفيه درجة من الخطأ، وأن هذه الدرجة من الصواب وهذه الدرجة من الخطأ تجعلهم شيئاً واحدًا أمام الله عز وجل. أما أنا فأؤمن بوجود فرقة ناجية وطائفة منصورة، ووجود أخطاء، وتفاوت في الأخطاء، وأن هناك بعض الفرق عندها ضلالات وبدع، وهناك فرق لا يوجد عندها ضلالات وبدع كبرى، ولكن يوجد أخطاء بحثية عند عدد من المنتسبين لها فقط. فأي إنسان يؤمن بوجود فرقة ناجية أو طائفة منصورة، أو على الأقل صواب وخطأ عقائدي.
وأقول للتوافقيين الإيجابيين: كما أنكم تؤمنون بأنكم على صواب والمتعصب على خطأ، أنا أيضاً أؤمن أن عقيدتي على صواب وأن العقيدة الثانية على خطأ.
واليوم، أعلم رحمك الله أنه بالنسبة للمراجعات الداخلية في زماننا للمذاهب، كأن تجد شيعيًا يقوم بمراجعة داخلية، أو سلفياً يقوم بمراجعة داخلية، أو أشعرياً يقوم بمراجعة داخلية، فإن اليوم 90% من هذه المراجعات الداخلية تحمل في ثناياها مضامين أو عقيدة التوافقية الإيجابية، لهذا تجد التوافقيون الإيجابيون ربما من مذاهب مختلفة، وتجد بينهم صداقة، وهم يحاولون القول (أنت تذهب إلى عشيرتك لتقنعها، وأنا أذهب لعشيرتي لأقنعها، وبالتالي يحصل التجميع). وحقيقة أمرهم أنهم أحدثوا فرقاً جديدة، هذه الفرق زادت الخلاف خلافاً، وزادت الطين بلة، وزادت في الطنبور نغمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي هذه الصوتية، أو في هذه المحاضرة، سأتحدث حفظكم الله عن اعترافات أشعرية تقود للسلفية. وهي مجموعة من الاعترافات لجماعة من أعلام الأشعرية، أو من يزعم الأشعرية أنهم منهم، وهذه الاعترافات لو جمعناها على بعضها البعض، ستأخذنا إلى الطريقة السلفية، بل ستأخذنا إلى اعتبار أن الطريقة الأشعرية طريقة فيها ضلال ظاهر. لكن هذا عندما نجمع هذه الاعترافات على بعضها البعض، ونحسن تحليلها جيداً.
وهنا لن أنقل شيئاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولن أنقل عن سلفي أو حنبلي أو صاحب حديث معاصر أو قديم أو متأخر، بل سأنقل فقط عن القوم، أو المعتبرين عند القوم، أنقل لهم اعترافاتهم، ثم أعلق عليها في أعظم باب اختلف فيه أهل السنة والأشعرية.
ماذا ينقم الأشعري على السلفية؟
فالأشعري اليوم لو أتيته وقلت له: ما مذهبك؟ وماذا تنقم على السلفية؟
سيقول: أنا أنقم عليهم أنهم يأخذون بظواهر النصوص، وظواهر النصوص هذه تقتضي التجسيم (ظاهرها التجسيم)، والتجسيم يقتضي التشبيه، وأما أنا فأؤول النصوص، أي أصرفها عن ظاهرها وأحملها على معاني توافق العقل، وتكون بعيدة كل البعد عن التجسيم والتشبيه، وأن هذا هو التنزيه الذي اتفق عليه الناس في حق الله عز وجل، وأن هذا هو الذي سيقطع دابر الإشكالات على الشريعة من الملاحدة والفلاسفة وغيرهم، إذا ما قالوا أن ظواهر النصوص تقتضي التشبيه أو التجسيم، وأن في هذا حماية لعقائد العوام من الزيغ والهلاك إذا ما عرضت لهم شبهات الفلاسفة والملاحدة. ولهذا نحن نعتقد أن الطريقة التي تسمى بالسلفية، أو طريقة الحنابلة، أو طريقة النابتة، أو طريقة الحشوية، هي طريقة فاسدة كل الفساد، وتؤدي إلى إشكالات كبرى، فهذه هي عقيدتنا، وهذا هو مذهبنا.
وهذا هو القدر الذي يفهمه جمهور الأشاعرة، فلا تأتي وتذهب إلى تصانيف الرازي وغيرهم، ثم بعد ذلك تأتي وتقول الأشاعرة يقولون كذا، أو تأتي ببعض دقائق كلام الأشاعرة. فنحن نتكلم هنا على ما يفهمه أصغر أشعري، لأننا حين نخاطب نخاطب الأشاعرة ككل، وهذا هو القدر المشترك بين عموم الأشاعرة. بعضهم يعبر عنه بهذه الفجاجة، وبعضهم يعبر عنه بطريقة أكثر أدباً، حتى إذا كان متأثراً بالأفكار التوافقية، لكنه في الحقيقة هو ينتهي إلى نفس المضمون.
وهنا تنبيه للجماعة التوافقيين، أقول لهم: طريقتي هذه والتي هي طريقة الدعوة للحق، وبيان بطلان أقوال المخالفين، هذه هي الطريقة التي ستجمع الناس. لماذا؟ لأن الناس قسمين: قسم متعصب، وقسم معتدل من الواقعين في الضلال.
-
فالمعتدل: يحتاج منا إلى أن نوضح له بطلان مقالاته فيترك ويجتمع معنا، وهنا سيتقلص الخلاف، بل سينتهي بطريقة أعظم مما تتصورون.
-
وأما المتعصب: سيبقى على تعصبه، والمتعصب كما أنه لن يسمعني فإنه لن يسمعك أنت. وإذا وجد متعصبين لن يسمعوني، فسيوجد متعصبين لن يسمعوك. وإن قلت: لا، أنا المتعصب آخذه إلى شيء قريب، فأقول له: وكذلك أنا المعتدل آخذه إلى شيء أقرب وأقرب وأقرب.
رد السلفي
ماذا يرد عليه السلفي؟ السلفي يقول له:
في الواقع أن الطريقة التي سميتها أنت بالطريقة الحشوية والنابتة وغيرها، هي طريقة السلف، بل هي العقيدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر عليها الناس، وهي الطريقة التي عليها عموم البشر وعموم أهل الملة، ولا أحد يعرف طريقتكم إلا قلة قليلة، وهذا يدل على أن الفطرة معنا، ومعنا ظواهر النصوص. والملاحدة لا ينكسرون بأن تقول لهم ظواهر النصوص تشبيه وتجسيم، بل بالعكس هم سيفرحون بكلامك، خصوصاً وأنهم يشبهون على العامة بهذا، وتأويلاتك قد تقنع الناس وقد لا تقنعهم.
وزيادة على ذلك، مفهوم التشبيه والتجسيم الذي تأتون به وتدورون عليه، هو مفهوم مشتبه. وأما التشبيه الذي يفهمه عموم البشر، فالكل ينزه الله، وكل المسلمين ينزهون الله ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)).
كل الناس يفهمون أن تنزيه الله عن التشبيه لا يناقض الإثبات، بل هو فرع عن الإثبات، وأما التنزيه بمفهومكم فهذا تنزيه إنما يفهمه غلاة الفلاسفة والقرامطة والملاحدة، وهو الذي يعني إعدام الله عز وجل، وهو من جنس تنزيه الكفار الله عز وجل عن أن يبعث رسولاً. وإنما يُنزه الله عن أن يبعث رسولاً مضلاً فقط، وبعث الرسول لا يقتضي تشبيه الله بالملوك، بل يقتضي أن كل كمال للمخلوق فالله عز وجل أولى به، فرسله ليس كمثل الرسل، ورسالته ليست كمثل الرسالات، فنفي التشبيه فرع عن إثبات شيء أصلاً، وأنتم في حقيقة أمركم تعدمون الله عز وجل.
-
أولاً: مذهبنا هو مذهب السلف، وإذا جهلت السلف فإن هذا باب غليظ، يقتضي تكذيب الأخبار الدالة على خيرية هذه الأمة، وعلى خيرية أهل القرون الفاضلة، وقد دعا السلف الناس بأقطارهم يهوداً ونصارى ومجوسًا وغير ذلك.
-
وثانياً: وأما دعواك أنك تحمي العوام، فالواقع أن العوام لا يفهمون كلامك ولا يفهمون عقيدتك، بل هي تسبب لهم الوسواس.
-
ثالثاً: قد وقعتم أنتم بمقالات، هذه المقالات هي بعيدة جداً عن العقل أيضاً، وفيها إشكالات عظيمة، وأنتم أنفسكم إذا ألزمناكم بها وقلنا لكم هذا يقتضي العدم أو هذا يقتضي كذا، قلتم أنتم تعاملوننا بلازم قولنا، ولا تدرون بأنفسكم أنكم عطلتم النصوص بلازم بعيد وهو التشبيه بحسب مفهومكم. ومفهومكم للتجسيم والتشبيه مفهوم مشتبه، ثم إن أهل الملة قد اتفقوا على أنهم لا يعتدون بأي دليل عقلي في مقابل النصوص، بل إنكم أنتم أنفسكم وغيركم من أهل الملل، تأخذون بظواهر النصوص في مسائل، وتكفرون المخالف أو تضللونه وتبدعونه مع كونه محتجاً بأدلة عقلية، لما ترونه من ضعف الأدلة العقلية في مقابل صحة الرسالة التي ثبتت صحتها بالبراهين اليقينية. ثم إنكم بنيتم على مذهبكم هذا رد أخبار الآحاد في العقيدة وغيرها من الأمور التي سلطت الزنادقة على أهل الملة، ثم إنكم فى حقيقة الأمر مذهبكم هذا يلتقي إلى حد كبير مع مذهب الجهمية والمعتزلة، اللذين اتفقت كلمة الأئمة المتبوعين على ذمهم. بل إن لكم مقالات تخالف المعلوم من الدين بالاضطرار، وبعضها مقالات تخالف المعلوم من العقل بالاضطرار، ولكم مقالات تخالف فطرة الخلق مسلمهم وكافرهم.
وقبل أن يدوم الحوار، سأنوه على أن كل هذه المقدمات التي ذكرتها والتي يقول بها السلفي، قد اعترف بها جماعة من كبار الأشعرية، كل مقدمة من المقدمات اعترف بها واحد من أعلامهم، الذين إذا عدّوا لك الأشاعرة قالوا منا فلان وفلان. وأنا سآتيك بفلان وفلان، وسآتيكم لهم باعترافات عظيمة.
من هذه الاعترافات:
-
اعتراف بأن مذهب السلف خلاف مذهبهم، وليس هو التأويل.
-
ومنها اعتراف بأن مفهوم التجسيم والتشبيه مفهوم مشتبه، وقد اختلفوا عليه إختلافاً عظيماً.
-
وسآتيك باعتراف أنهم هم يخالفون المعلوم من الدين بالاضطرار، أو عندهم مقالات مشكلة حتى عقلاً.
-
وآتيك باعتراف أن مقالتهم تخالف الفطرة.
-
وآتيك باعتراف أن النبي كان يقر الصحابة على غير عقيدتهم.
-
وآتيك باعتراف أن من يثبت الصفات على طريقة ابن تيمية ليس بالضرورة أن يكون مجسماً.
-
وآتيك باعتراف أن الطريقة السلفية لها أدلة عقلية أيضاً، وأنها معقولة أصلاً.
-
وآتيك باعتراف أن المعتزلة يستدلون بأدلة عقلية في أمور ينفيها الأشاعرة، وأن جماعة من كبار أساطين الأشاعرة لم يستطيعوا أن يجيبوا على أدلة المعتزلة، ولكنهم آثروا تقديم النقل على العقل، وهم بذلك هم أهل السنة والمعتزلة أهل البدعة.
-
ومن الاعترافات أنهم يلتقون مع المعتزلة والجهمية الذين قال فيهم السلف مقالتهم.
سآتيك بهذه الاعترافات كلها، والتي بعدها سننتهي ليس فقط بالحكم على الأشاعرة بالضلالة، بل سننتهي إلى فعلاً ما هو الحكم الحقيقي في هذه الفرقة العجيبة.
نبدأ بقراءة الاعترافات على بركة الله:
الاعتراف الأول
هناك رجل يقال له الطيبي من كبار الأشعرية، له شرح على المشكاة (مشكاة المصابيح)، والشرح كله تأويلات. ولو نظرت في شرح ابن حجر العسقلاني في فتح الباري على البخاري، ستجد أنه اعتمد كلام الطيبي كثيراً، حتى كأنه جاء بتصنيف الطيبي كله ووضعه في تصنيفه. وهذا جزء من هذا الكلام نقله ابن حجر، لكن رجعت للمصدر الأصل في شرح المشكاة وهو مطبوع، وسأنقل كلامهم وأعلق عليه.
في شرح المشكاة للطيبي يقول: ((وذكر شيخنا شيخ الإسلام شهاب الدين أبو حفص السهروردي قدس الله سره في كتاب العقائد، أخبر الله عز وجل أنه استوى فقال: الرحمن على العرش استوى، وأخبر رسوله عليه الصلاة والسلام بالنزول، وغير ذلك مما جاء في اليد والقدم والتعجب والتردد، وكل ما ورد من هذا القبيل دلائل التوحيد، فلا يُتصرف فيها بتشبيه ولا تعطيل _ واضح هنا أنه يذم التعطيل، وذمه للتعطيل يعني ذمه للتفويض والتأويل، لأن كلاهما ينتهي إلى عدم إثبات شيء _ فلولا إخبار الله تعالى وإخبار رسوله ما تجاسر عقل أن يحوم حول ذلك الحمى، وتلاشى دون ذلك عقل العقلاء ولب الألباء _ يصرح بذم تقديم العقل على النقل، العقل الأرسطي وليس العقل السليم)).
يعلق الطيبي: ((أقول: هذا المذهب هو المعتمد عليه، وبه يقول السلف الصالح _ هذا، شوف رجل من كبار شراحهم يعترف أن مذهب السلف هو الإثبات، هذا الكلام واضح في الإثبات _ ومن ذهب إلى القسم الأول شرط في التأويل أن ما يؤدي إلى تعظيم الله عز وجل وجلاله وكبريائه فهو جائز _ ثم بعد ذلك يجوز التأويل)).
طيب، إذا كانت ظواهر النصوص لا تقتضي التشبيه، لماذا نؤول؟ وما الحاجة للتأويل؟ هو التأويل أصلاً جاء بعد اعتقاد أن الظاهر يؤدي إلى التشبيه، أو يؤدي إلى التجسيم المقتضي للتشبيه. لكن التجسيم ليس بالضرورة أن يقتضي التشبيه، وإذا كان لا يقتضي، فما الداعي للتأويل أصلاً؟ وهو كل كتابه يمشي على التأويل، إذًا لا داعي للتأويل، لأنك أنت التأويل تزعم أنه ضرورة، لكن لا ضرورة، مادام الظاهر هو مذهب السلف الصالح، والسلف ما رأوا ضرورة للتأويل، ولا حتى حاجة له.
بعضهم يقول لك في آثار عن السلف أنهم أولوا، نجيبهم: إن التأويل الخاص بالمتكلمين لا يوجد في كلام السلف، والذي يقول: بأن الظاهر غير مراد لهذا أنا أؤول، أو أن الظاهر مستحيل على الله، وهذا هو تأويل أهل الكلام، وهذا يستحيل أن يوجد في كلام السلف الأوائل. أما نص أنت تزعم أنه تأويل وهو ليس تأويلاً، مثل ((يوم يكشف عن ساق))، فيقول لك أن هذا تأويل، لكنه ليس تأويلاً، فهل في ظاهر الآية يوم يكشف ساقه مثلاً؟ لا، (يوم يُكشف) مبني للمجهول، علماً أن ابن مسعود ورد عنه إثبات الساق بهذه الآية.
هذا أول اعتراف وهو اعتراف خطير وصريح، لأن هذا هو مذهب السلف الصالح، وكل ما سوى مذهب السلف الصالح بدعة وضلالة. وكيف يكون في البدعة والضلالة الهدى والرد على أهل الباطل والسلام من الحيرة والشكوك؟ والسلف هم أولى بكل علم. فالسلف لم يكونوا عوامًا ودراويش، بل كان فيهم علماء. فهذا النص على الأقل على الأقل يجعل الأشعري يسكت عن الإنكار على من يسميهم الحشوية، هذا كلام السهروردي، وكلام الطيب، وكلام ابن حجر في الفتح ((هذا هو مذهب السلف الصالح، وهو المختار والمعتمد))، لكنه بعده صار يؤول.
ومما يدلك على أن مفهوم التجسيم والتشبيه مفهوم مشتبه عند أهل الكلام، وليس هو المفهوم الموجود عند أهل الملة حين يقرأون ((ليس كمثله شيء)) أو ((قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد))، هو أن أهل الكلام مختلفون في بعض الصفات، فبعض كبار أساطينهم يثبتها ويقول: هي لا تقتضي إشكالًا، ومتأخروهم ينفونها ويقولون: تقتضي إشكالًا. فإذا كنتم أنتم أهل الكلام اختلفتم في بعض الصفات، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، أي ردوه إلى ظواهر النصوص. فإذا أنتم تنازعتم، إذًا هذا الذي تزعمونه هو أمر ظني جداً مع مخالفته لطريقة السلف.
الاعتراف الثاني
يقول الباقلاني في كتابه (تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)، والباقلاني كبير الأشعرية ويعدونه مجدداً. وهو يعد مثالب المعتزلة، فيقول: باب في بيان آراء المعتزلة (ويذكر فضائحم ومخازيهم). يقول الباقلاني: ((وزعموا جميعاً أنه لا وجه لله تبارك وتعالى، مع قوله عز وجل ((ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام))، وأنه لا يد له، مع قوله عز وجل ((بل يداه مبسوطتان))، ومع قوله ((ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي))). وكلام الباقلاني هذا ليس موجوداً في كتاب مختلف في صحة نسبته إلى الباقلاني، بل كثير من الأشعرية اعترف بأن هذا هو كلام الباقلاني حقاً. فإنك لو رجعت إلى عقيدة ابن الحاجب، لوجدته يصرح أن علماءنا اختلفوا في الوجه واليدين، ولو رجعت إلى حاشية ابن المنير على الكشافي للزمخشري يقول: ((وإنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليها هذه الآية، أحدهما أن اليدين من صفات الذات أثبتها السمع -أي ليست مثبتتان بالعقل، بل ثابتتان بالسمع، وهذه تقسيمات المتكلمين، هذا مذهب أبي الحسن، يعني الأشعري، والقاضي، يعني الباقلاني، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة، فإن قدرة الله واحدة واليدان مذكورتان بصفة التثنية، وأبطل حملها على النعمة بأن نعم الله لا تحصى، فكيف تحصر بالتثنية؟- وغيرهما من أهل السنة (يقصد الجهمية) كإمام الحرمين يجوز حملها على القدرة والنعمة)).
وكذلك ابن عطية في المحرر الوجيز يقول: ((وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى، عُبر عنها باليد والأيدي أو اليدين، استعمالاً لفصاحة العرب، ولم في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحذاق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب الباقلاني: هذه كلها صفات زائدة عن الذات ثابتة لله، دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تجسيم)). الآن حتى لو قال، وأثبت أن اليدين ليستا بجارحتين (ونحن لا نتكلم بهذه السلوك)، ولكن هذا يعني أن التشبيه ليس لازماً قوياً، وإلا لكان نفيه اللازم مع الإثبات من باب الجمع بين النقيضين، فلما جاز الإثبات مع نفي اللازم، جاز الإثبات دون نفيه أو إثباته. الآن النتيجة:
-
أولاً: هو إجماع السلف.
-
ثانياً: القوم اختلفوا في مجموعة من الصفات، هل هي تقتضي التشبيه والتجسيم؟ مما يدل على خفاء هذا المفهوم بين أساطين المتكلمين، وهذا يجعلنا نفر لمذهب السلف ضرورة.
الاعتراف الثالث
وهنا اعتراف أيضاً للعز ابن عبد السلام، في قواعد الأحكام المجلد الأول صفحة 202: (وهو نص مشهور دائماً نقرأه) يقول: ((وكل ذلك مما لا يمكن تصويره للمجتهدين فيه، بل الحق مع واحد منهم والآخرون مخطئون، معفوًا عنهم لمشقة الخروج منه والانفكاك عنه، ولا سيما قول معتقد الجهة)). (يعني نفي الجهة أمر شاق، أي علو الله، وهذا يقوله العز بأن نفي الجهة شاق).
إذًا الملاحدة لو أرادوا أن يشبهوا على أهل الإسلام، يقولون لهم: دينكم فيه إثبات جهة، أم يقولون: دينكم فيه نفي الجهة؟ سيقولون طبعاً (دينكم فيه نفي جهة)، لأنهم عندما يأتون يشبهون، يشبهون على من؟ على العوام، والعوام دائماً يؤتى لهم بالشيء الذي يعاكس فطرتهم، أو تفكيرهم، أو ما هم عليه. فيقول العز: إنه شيء شاق. (إذًا هو أمر شاق، ويخالف مذهب السلف، وأنتم الأشاعرة نفسكم اختلفتم فيه!!).
الاعتراف الرابع
والباقلاني أيضاً يثبت العلو، ويقول: وعقيدة الأشاعرة هي ((فإن اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا ساكن، ولا منفصل عن العالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه، فلا يهتدى إليه أحد بأصل الخلقة في العادة)). يعني باختصار مذهبهم يخالف الفطرة، ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم، فلأجل هذه المشقة عفي عنه.
إذا حين تزعم أن مذهبك فيه حماية لدين العوام، طيب من العوام يستطيع أن يدرك شيئاً عسر الفهم، صعب الإدراك؟
وهذه الأدلة ليست قطعية، بل ظنية، وهو هكذا قال بأنها ظنية، وتخالف ظواهر النصوص، وتخالف اتفاق السلف، فلأجل هذه المشقة عفي عنها في حق العامي. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحداً ممن أسلم بالبحث عن ذلك، بل كان يقرهم بما كان يعلم بأنه لا انفكاك لهم عنه، أي التجسيم هو السائد في زمن الصحابة، ومازال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون على ذلك، مع أنهم بينوا أن العامة لم يقفوا على الحق فيه، ولم يهتدوا إليه بكل وضوح، لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقر الناس على قراءة نصوص الصفات، بل هو يحدثهم بها.
وهذا قاله ابن الجوزي: عندما سؤل النبي أيضحك؟ يقول: نعم. أي أنه يأخذهم على قدر عقولهم. وأيضاً قاله القرافي في الفروق: قال: الجارية التي قالت أين الله، مثل ذلك الذي أنكر القدرة. طيب فإذا كان الأمر كذلك:
-
شيء عسير على العوام.
-
ويخالف مذهب السلف.
-
وأئمتكم المتكلمون مختلفون فيه.
-
وعسير حتى على الخاصة، لأنه هو يقول العامة.
-
والصحابة ما فيهم أحد تكلم ولو بكلمة تفيد مذهب الجهمية.
بل خذ هذا الاعتراف الأقوى:
الاعتراف الخامس
جاء في كتاب جامع زبد العقائد التوحيدية لولد عدلان الأشعري: يقول: ((مشكلات التوحيد -يقصد توحيد الأشاعرة- موجود ثلاثة: موجود بلا مكان، ورؤية بلا جهة، وكلام بلا حرف وصوت)).
(موجود بلا مكان) يعني شيء صعب على العقول تصوره، فهو مشكل صعب، ولصعوبته تنفر منه النفوس. يعني أنت الآن يقول لك: كيف النزول في ثلث الليل؟ طيب على الأقل هذه تكلم فيها رسول الله، فنستطيع أن نفسرها ونكشف الشبهة للعامة وللناس، مع أن عامة الناس الذين يسمعونها لا يشبهون بشبهكم، هذه الشبهة جاءت منكم، فنجيب: أنه ليس كمثله شيء.
لكن ما تصنع في أمور هي جاءت في مذهبكم فقط، وتخالف ظواهر النصوص، وعسرة المدرك، وتخالف مذهب السلف، وتخالف الفطرة، ثم هي أيضاً مشكلة ممكن أن يستغلها الملاحدة ويستغلها الزنادقة، ويستغلها كل إنسان حتى مخالفيكم.
(موجود بلا مكان، ورؤية بلا جهة، وكلام بلا حرف وصوت). لماذا هي مشكلة؟ لأنها تخالف النصوص والفطرة والعقل، هذه هي الحقيقة. ولهذا ابن رشد يقول في فصل المقال: ((بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سفسطائية، فإنها تجحد كثيراً من الضروريات)). هم دائماً يذكرون ابن رشد مع الأشعرية، فلهذا جئت بكلامه. ويقول الغزالي (هذا أيضاً أحد مجدديهم الكبار) في إحياء علوم الدين في المجلد الرابع الصفحة 434: ((أن الله تعالى مقدس ومنزه عن الأقطار والجهات، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا هو منفصل، وقد حير عقول أقوام حتى أنكروه، إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته)). إذًا هو شيء تحار به العقول، كيف تزعم أنك تدافع به عن النصوص؟ تحار به العقول، وتخالفه الفطرة، ويخالف ظواهر النصوص!!
هو هذا باعترافات علمائك، مع كوني لو أخذت بالعقيدة الأخرى أنا معفو عني عند العز ابن عبد السلام، ومعفو عني عند السهروردي، ومعفو عني عند الطيبي الذي ذهب إلى أن التأويل جائز فقط. ويقول العز بن عبد السلام: ((أن من جملة العقائد التي لا تستطيع العامة فهمها، هو أنه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا منفصل عن العالم ولا متصل به)). هو يقول: لا تستطيع العامة فهمها في زمانهم، ثم تأتي أنت في زماننا هذا تؤلف لي كتاب (حسن المحاججة في أن الله لا داخل العالم ولا خارجه)، وهم أنفسهم في ذلك الوقت يقولون هذا الكلام. بل يقول العوض الإيجي: (والإيجي وابن الحاجب بينهما شيء مشترك، فكلاهما كردي) ((قال الشيخ الأشعري لما قال كلامه، المعنى النفسي، فهم الأصحاب منه أن المراد منه مدلول الألفاظ، حتى قالوا بحدوث الألفاظ -يعني القرآن الذي بين أيدينا حادث- وله لوازم كثيرة فاسدة، كعدم التكفير لمنكر الكلامية ما بين الدفتين، لكن علم بالضرورة من الدين أنه كلام الله تعالى)).
وبهذا كفرهم ابن قدامة، وبعضهم يقول (هذا لازم القول)، بل هذا ليس لازم القول، فهم يصرحون به، هذا مثل الذي يقول ((قل أبلله وآياته كنتم تستهزؤون)). ممكن اليوم الناس بسبب الهوس بقصة لازم القول يقول: يا ربي ألزمهم بلازم القول، هم لم يصرحوا، بل قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء.
وفي كتاب طبقات الشافعية (الفقهاء الشافعية) لابن الصلاح، وينقل عن الخطابي (الآن ابن الصلاح ينقل عن الخطابي، شخصيتان شهيرتان جداً)، الخطابي صاحب أقدم شرح على البخاري، وابن الصلاح صاحب المقدمة المشهورة في علم الحديث، وهم يحبون المشاهير، ودائماً يتمحكون بهم، وخصوصاً إذا كان شافعي.
ابن الصلاح نقل نقولات يسيرة عن الخطابي، من ضمن النقولات التي نقلها، وهو واضح أنه يقرها، يقول: ((وصرح -يعني الخطابي- بأنه سبحانه وتعالى في السماء، وقال: زعم بعضهم أن معنى الاستواء هنا الاستيلاء، ونزع فيه بيت مجهول لم يقله من يصح الاحتجاج بقوله)).
-
إذًا حتى بعض كبار علمائكم والذين تزعمون أنهم منكم يقرون بالعلو، ويثبتونه، وليس فقط الباقلاني والأشعري.
-
والعقيدة المناقضة تحيرت بها العقول، ومن مشكلات التوحيد، ومما لا يدركه العامة، وحتى الخاصة لا يدركونه.
-
وهنا إلى الآن لم نأتي بنقولات لابن تيمية. ولكن يقول العز: يوجد أدلة عقلية، أدلة ضعيفة ومقدمات طويلة ومعقدة.
الاعتراف السادس
يقول الرازي في كتابه الأربعين، وهو يتكلم عن مسألة الرؤية المجلد الأول صفحة 277: ((أعلم أن الدليل العقلي المعول عليه في هذه المسألة -مسألة الرؤية- الذي أوردناه، وأوردنا عليه هذه الأسئلة، واعترفنا بالعجز عن الجواب عنها _ هو يقول: أنا معترف بالعجز عن الجواب عن هذه الأسئلة _ إذا عرفت هذا فنقول: مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي، وهو أنا لا نثبت صحة رؤية الله بالدليل العقلي، بل نتمسك بظواهر القرآن والحديث)).
هو يقول: نتمسك بظواهر القرآن والحديث، والمعتزلي يستدل عليه بأدلة عقلية، وهو يتمسك بظواهر القرآن والحديث (وهو أهل سنة، والمعتزلي صاحب بدعة!!).
طيب نحن لو فعلنا الأمر نفسه في مسألة العلو، سنكون نحن أهل سنة، والأشعرية أهل بدعة، نفس المعتزلة، صح ولا لا؟
الأشعرية سيقولون: لا، نحن على مزاجنا، نحن نقدم النقل على العقل الكلامي بكيفنا، لكن أنتم لا تفعلون هذا، أنتم حشوية ومجسمة.
الاعتراف السابع
ويقول الآمدي في كتابه غاية المرام في علم الكلام صفحة 138: ((فإن قيل بأن ما دلت عليه الظواهر من المدلولات، وأثبتناه فيها من الصفات، ليس على نحو صفاتنا، ولا على ما نتخيل من أحوال ذاتنا، بل مخالفة لصفاتنا كما أن ذاته مخالفة لذواتنا، وهذا مما لا يقود إلى التشبيه، ولا يسوق إلى التجسيم، هذا وإن كان في نفسه جائزاً، لكن القول بإثباته من جملة الصفات يستدعي دليلاً قطعياً)).
يقصد يعني هذا المذهب السلفي الذي نقل السهروردي عليه الإجماع، والطيبي فيقول: هو جائز، والعز ابن عبد السلام زعم أن هذا المذهب هو مذهب عامة الناس في القرون الفاضلة، والغزالي قال: أن ما يخالفه تحار به العقول، ويقول الآمدي: جائز عقلاً، ثم يقول: لكننا نحتاج دليل قطعي في هذا الموضوع. طيب، وما هو الدليل القطعي عندك وهو جائز أصلاً؟!
ويقول القرطبي: ((أظهر الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا اختاره، ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء الأخيار، أن الله سبحانه وتعالى على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف، بائن من جميع خلقه)). والثعلبي قال نفس الكلمة في تفسيره، لكن الثعلبي لم يقل كالقرطبي (ولا أقول به).
الخلاصة:
-
عقيدة الخطابي وابن الصلاح والقرطبي يقول (تظاهرت عليها الآيات والأخبار).
-
والطيبي يقول (هذا مثل السلف).
-
والسهروردي يقول (هذا مذهب السلف).
-
والغزالي يقول (هذا مذهب عسير خلافه).
-
والعز ابن عبد السلام يقول (هذا المذهب الذي كان النبي يقر عليه الناس).
-
ويقول القرطبي: (تظاهرت) يعني ليس دليل واحد، ولا اثنين، ولا ثلاثة، والكرامية عندهم أدلة عقلية على إثبات العلو، ذكرها الرازي بأساس تقديس وناقشها وحاول الرد عليه، وابن تيمية أيضاً رد عليها.
يعني في أدلة عقلية كأدلة المعتزلة، وإن كانت أدلة المعتزلة عندما تخالف النصوص، نضربهم بالنقل ونقول لهم: أنتم أهل بدعة ونحن أهل سنة، ما شاء الله؟!
حتى ابن حزم في الفصل في الملل والنحل، اقرأ كلامه في الرؤيا، كلام رجل سلفي خالص، لما استدلوا عليه بالعقليات قال: هذه شبهات الفلاسفة، هذا كلام فارغ، نحن عندنا أدلة.
الاعتراف الثامن
علي ملا قاري الحنفي الذي نشأ نشأة ماتريدية، يقول في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)، معلقاً على طعن شيخه ابن حجر الهيتمي في ابن تيمية وابن القيم، وهذا يعدونه من المجددين. فيقول: ((صانهم الله عن هذه السمة الشنيعة والنسبة الفظيعة، ومن طالع شرح منازل السائرين لنديم الباري شيخ عبد الله الأنصاري، قدس الله تعالى سره الجلي، وعامتهم يدعي له الولاية)).
-
على فكرة، أبو إسماعيل الهروي الأنصاري وعبد القادر الجيلاني، يتفق على تقديسهم عموم الصوفية، بل أبو إسماعيل الهروي شرح منازل السائرين، يشرحه حتى الروافض.
-
كلمة علي ملا قاري كلمة مشهورة بين الصوفية، وهم يدعون له الولاية، وعبد القادر متفق عليه، وهو أكثر من تواترت كراماته من الأولياء المتأخرين، ولا يختلف الناس أن هؤلاء مذهبهم ما يسميه الأشعرية (تجسيماً).
-
بالنسبة لعبد القادر فقد نقل الذهبي تعجب العز ابن عبد السلام من كثرة كراماته على كونه على هذه العقيدة التعبانة، طيب أيها العز حسب كلامك هذه عقيدة الصحابة.
-
فأبو إسماعيل الهروي الأنصاري هو شيخ الإسلام عند الصوفية حال الإطلاق بالاتفاق، وهو الشيخ الأكبر عندهم، يعني تحت ابن عربي بشعرة، لأنه إسماعيل عندهم تفجرت على لسانه ينابيع الحكمة.
-
وعندما سألوا عبد القادر: هل كان الله ولي على غير مذهب أحمد بن حنبل؟ (قال: لا، ولا يكون)، تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، إذًا إثبات الصفات عند علي ملا قاري لا يخرجه من مسمى أهل السنة والجماعة، وكذلك عند الكوراني الثاني الذي عدوه مجدداً، بل هما من أولياء هذه الأمة، وما ذكر في الشرح إلى آخره، ثم ذكر يعني إن إثبات الصفات لا يقتضي التجسيم بكلام طويل.
وهذا ابن حجر الهيتمي يقول في الإعلام بقواطع الإسلام: ((فإن قلت: المعتزلة ينكرون الصفات السبعة أو الثمانية، ولم تكفروهم -يعني أنتم لماذا لا تكفرون المعتزلة؟- قلتم: لا ينكرون أصلها، بل ينكرون زيادتها على الذات حذراً من تعدد القدماء، فالجواب عن شبهتهم مذكورة -ورد عليهم- ثم قال: ويقولون كذلك في اختلاف الأشاعرة في نحو البقاء والقدم والوجه واليدين -يعني الأشاعرة الآن اختلفوا في هذه الصفات- ثم يقول: وبهذا تعلم الجواب عن قول العز ابن عبد السلام، الآن أنا لست في محاكمة بينهما، والعجب أن الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات، كالقدم والبقاء والوجه واليدين، وفي الأحوال كالعالمية والقادرية، وفي تعدد الكلام واتحاده، ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضاً، ولم يتهم بعضهم بعضاً بالتجسيم)).
أقول: إذا عقيدة الصحابة، وعقيدة عوام الناس، وعقيدة السلف، وعقيدة جزء من الأشعرية، يعتبرونها تجسيماً، وما يخالفها تحار به العقول، ولا يهتدى إليه في أصل الخلقة، والأدلة العقلية هي من جنس أدلة المعتزلة التي رفضناها وبدعناهم، وقدمنا النقل عليها، ومذهب السلف تظاهرت عليه الآي والأخبار.
وابن حجر في تقريره للرد الوافر، يقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبري منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ)).
إذا، إذا كان ابن تيمية وهو ابن تيمية، لا يلزم من قوله أن يكون مجسماً عند ابن حجر، وعند بدر الدين العيني، وعند علي ملا قاري.
إذًا لا مشكلة في الإثبات، ولا مشكلة إذا كان التجسيم بالمعنى الذي عندهم، وابن تيمية شخصياً غير قائل به، أو لا يلزمه بطبيعة الحال، إذا التأويل ما وجد إلا للزوم التجسيم، وقد دل على أن التجسيم ليس لازماً.
ويقول شارح الجوهرة: ((أعلم أن معتقد الجهة لا يكفر، كما قال العز ابن عبد السلام، وقيده النووي بكونه من العامة، وابن أبي جمرة بعسر فهم نفيه -ابن أبي جمرة يقول نفس كلام العز بأن نفي الجهة عسير نفيها، ويقول القرافي بأن النبي أقر الجارية لأن نفيها عسير ولا تفهمه- وفصل فقال: إن اعتقد جهة العلو لم يكفر، لأن جهة العلو فيها شرف ورفعة في الجملة)). طيب الشرف والرفعة من أين جاء؟ (من الفطرة)، فهم يعترفون أن إثبات العلو بعضهم فطري.
ويقول أبو القاسم البستي إسماعيل بن علي الزيدي، في كتابه البحث في التكفير والتجسيم، صفحة 113: ((لا أحد في الأمة إلا ويصف الله بصفة، ويصفها بها غيره، مع اعتقاد أن التشبيه كفر وضلال، فعلمنا أن الوصف له ولغيره بمجرد الوصف لا يكون تشبيهاً، كما يظن بعض الجهال)).
إذا حين يقول لك الجهمي: أنه ينزه الله، قل له: سبحان الله، ومن في الملة لا ينزه الله؟! كل أهل الملة يصفون الله بصفات، وينفون عنه التشبيه، لكن أنت لك مفهوم خاص في التنزيه، هو مفهوم عسر ومخالف للفطرة.
أما التنزيه الذي يفهمه كل أهل الأديان فهو ليس قولك، فكثير منهم يتكلم: أن هؤلاء نزهوا الله، وكأنهم يتكلمون عن مفهوم التنزيه المتفق عليه بين البشر، والحقيقة أن هذا كلام خاطئ، فهم ينزهون الله عن ظواهر النصوص، وظواهر ما تدل عليه الفطرة، وينزهونه عن الوجود الحقيقي أصلاً، ويثبتون له عدمية كما كفار قريش نزهوه عن أن يكون له رسول مرسل، وهم في الحقيقة يجردونه من كماله، تقدس اسمه.
ويقول عبد الجبار الهمداني في فضل الاعتزال صفحة 198: ((فمن ظن ذلك، وقال إني لا أصف الله تعالى قادراً ولا مقدوراً لكوني لا أكون مشبهاً فقد أخطأ، فكل أهل الملة واقعون في هذا، حتى مسألة حلول الحوادث قال الرازي: الكل يثبتها)).
وأيضاً مسألة حلول الحوادث وغيرها، عامة الأدلة على نفيها قد ضعفها الرازي، يعني فالأدلة العقلية التي عندهم هم يمرضونها، ليس فقط أحياناً بل يصرح الرازي: أننا نحن نقدم العقل على النقل، بل في كثير من الأحيان يضعفونها، فالرازي والآمدي يضعفونها.
بل يقول صفي الدين الهندي في نهاية الوصول في علم الأصول: ((أن حكم المجموع المركب من الأفراد، قد يكون مخالفاً لحكم الأفراد، والعلم بذلك ضروري بعد الاستقراء)).
هذه تنقض أكبر حجة عندهم في نفي صفات الأفعال الله عز وجل، فهو يقول: والعلم بذلك ضروري عند الاستقراء.
هم الآن لماذا ينفون أفعال الله الاختيارية، لأن الله لا أول له، وإذا أثبتوا له الأفعال الاختيارية، فإن الأفعال الاختيارية ستتسلسل في القدم، صح؟ وما المشكلة في تسلسلها في القدم؟ فيقولون لك: لا، لأن هذا يقتضي اجتماع الحدوث والقدم (اجتماع نقيضين)، فنقول: جنس الحوادث قديم لا مشكلة، وحكم الجنس لا يساوي حكم الأفراد، فأحقاب جهنم مثلاً لا نهاية لها، وكل حقب له بداية ونهاية، فمثلاً: أكلات أهل الجنة لا نهاية لها، وكل واحدة لها بداية ونهاية.
فهذه الآن الاعترافات سردناها على أكثر من أربعين دقيقة، ونلخص هذه الاعترافات بقول الأشاعرة عن عقيدتهم أنها:
-
عسرة الفهم.
-
عسير نفيها.
-
تخالف الفطرة.
-
في توحيدنا مشكلات.
-
ظواهر الآي والأخبار ومذهب السلف على خلاف مذهبنا.
-
النبي كان يقر الناس على غير عقيدتنا.
-
نحن أنفسنا مختلفون في صفات، هل هي تجسيم أم تشبيه أم لا.
-
أدلتنا على إنكار الأفعال الاختيارية عامتها مطعون فيها.
-
أقوالنا تقتضي المخالف للمعلوم من الدين بالاضطرار، في أن ما بين دفتي المصحف قرآن.
-
أساطين السلف أو أساطين بعض المشاهير الذين ننتسب إليهم، مثبتون.
-
مفهوم التشبيه والتجسيم عندنا، لا يوجد أحد من أهل الملة إلا وهو قائل به، ونحن قائلون به، فمثلاً الاشتراك المعنوي، كثير من أئمة الجهمية يقرره إذا أثبت السمع والبصر وغير ذلك.
وبقي آخر نقطة:
الاعتراف التاسع
البوطي في كبرى اليقينيات قال: ((أن خلافنا مع المعتزلة لفظي في القرآن)). وكذلك قال الكوثري كما أظن في تأنيب الخطيب، أو في بعض كتبه، وقال: ((أن محصل الخلاف لفظي)).
وهذا ما يشير إليه كلام ابن حجر الهيتمي، وما يشير إليه كلام العز ابن عبد السلام، وكذلك ما أشار إليه كلام محمد الطاهر ابن عاشور، وإن كان رجلاً متساهلاً شديد التساهل، لا يعول عليه هنا.
وهذا أيضاً ما قرره حسن بن علي السقاف حين قال: ((عقيدة متأخري الأشاعرة هي أقرب للمعتزلة من المتقدمين للمجسمة)). وله في ذلك فيديوهات يقرر فيها هذا المعنى جلياً، وقد قرر ذلك في جمع من كتابه، وحججه في ذلك لا تدفع حقيقة.
والقوم في العادة في السياقات المذهبية ماذا يقولون؟ أن ما عليه جمهور الناس يصير معتمد مذهب، وكلهم متفقون أن الحنابلة يثبتون الحرف والصوت والعلو، وينسبون ذلك لأحمد. وهناك كتاب السنة لعبد الله، وكتاب السنة للخلال، وكتاب الشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة، وغيرها من الكتابات التي هي ظاهرها أن مذهبهم التجسيم.
حتى أن سعيد فودا يقول: ((أن أبا يعلى مجسم أكثر من ابن تيمية)). ولهذا هم يتبعون دفع شبه التشبيه، الذي فيه اتهام صريح لأعيان من الحنابلة في زمان ابن الجوزي بأنهم مجسمة.
وكبار الأولياء، شيخ الإسلام عند الصوفية باتفاق، يكفر القوم، والأكثر كرامات وهو عبد القادر يكفر القوم، فلهذا الطعن في الأشعرية بالتكفير لا يخالف الولاية عند محققي صوفيتهم.
وابن تيمية شخصياً ليس مجسماً يقينياً عند بعض أعيانهم الذين دائماً يفاخرون بهم، بل بريء من التجسيم، وإن كان مصطلح التجسيم أصلاً مصطلح مشتبه، الله المستعان.
فبعد هذه المقدمات كلها، إذا علمنا أن السلف قد اتفقوا على تكفير الجهمية والمعتزلة، اتفقوا على من يقول بخلق القرآن، والقوم يقول عدد من محققيهم: الخلاف بيننا وبين المعتزلة لفظي، ويقولون: توحيدنا فيه مشكلات، ويخالف الفطرة، وأمور عسرة تخالف ظواهر النصوص، وما تظاهر عليه الآي والأحاديث، ومذهب السلف، والفطرة، ولا يستدل عليها بالعقل إلا بدليل بعيد عسر، لا يفهمه إلا خواص خواص العلماء. وبينا لك أن بعض من خواص خواص العلماء ضعفوا الأدلة من مشاهيرهم، فحتى ابن تيمية قال لهم: أن أدلتكم كلها ضعيفة.
إذًا تضليل الأشعرية ظاهر، فما هذه العقيدة المخاطرة التي نأخذ بها؟ بل والحكم بتكفيرهم وجيه، ولو على طريق الإجمال، لماذا؟ ليس لأنه قول من جماعة من الأولياء الصوفية الكبار حسب مذهبهم فقط، بل لأن مقالتهم تخالف المعلوم من الدين بالاضطرار باعتراف بعضهم، وما يزعمونه أنه من مشكلات توحيدهم هو في الحقيقة مشكل، لأنه مخالف للفطرة والعقل وظواهر النصوص أيضاً، ولأنهم مخالفين لاتفاق السلف، ولأنهم يتهمون الصحابة في توحيدهم، فهذا يقول لك من مشكلات التوحيد، والثاني يقول لك: الصحابة ليسوا على مذهبنا، ولأن قولهم مناقض للفطرة، ولأن قولهم يلتقي مع قول المعتزلة باعترافهم، والمعتزلة اتفق السلف على تكفيرهم.
هل فهمت لماذا نحن نرى وجاهة مذهب التكفير والذي هو مذهب كل الناس؟ لكنهم اختلفوا بعد ذلك على ثلاث مذاهب:
-
منهم من يفرق بين قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه الحجة.
-
منهم من يفرق بين الداعية وغير الداعية.
-
ومنهم من يكفرهم عامة وقاطبة، ويقول: هذا مشهور، كلام المتقدمين.
هذه الاعترافات، بغض النظر حتى لو لم توافقني على النتيجة النهائية أو غيرها، احفظها عندك، فمعظمها في قناتي على التيلجرام، أو ابحث عنها في الشاملة واحفظها عندك، ورتبها على غير ترتيبي، وعلق عليها بتعليقاتك الخاصة، وإذا كان لك زميل أشعري، أو إنسان تعرفه أشعري على هذه العقيدة، قدمها له، أو اقرأها واحفظها، ثم اسردها عليه، واجعلهم يتأملوا في هذا الكلام بإنصاف.
وهنا لا يوجد ولا أي نقل عن ابن تيمية، ثم بعد ذلك اذهب واقرأ لابن تيمية، وستجد أن الشيخ يقرر هذه المعاني، ويستدل بأدلة أخرى.
وإذا كنت توافقياً إيجابياً، هذا سيكسر لك غرور الأشعري على الأقل.
وإذا كنت على مذهبي، رجل عقائدي، ويعتقد أن بالعقائدية خيري الدنيا والآخرة، أيضاً سيعجبك هذا.
وإذا كنت سلفياً على أي صورة من الصور، أكيد ستستفيد من تجميع الاعترافات التي تجعل الأشعري الذي أمامك ممكن يهتدي للسنة، ولا شك أنك لن تكره هذا، فأنت تعتقد أنهم ليسوا على مذهب أهل السنة، وقد لا تقول بالتكفير وتقول بالتبديع، فسيجعلك هذا الكلام تستطيع أن تكون سبباً في هدايته بإذن الله.
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.