الحالة:: معالج النوع:: فيديو اﻷولوية:: الغرض:: التزكية المنشيء:: المواد الصوتية عبد الله بن فهد الخليفي المدة:: 16:22 الرابط:: https://www.youtube.com/watch?v=i5moF-ASC0M التدريب:: المؤثر:: تاريخ اﻹكمال:: 2025-04-15
2025-04-12
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تصورات عن نعيم الجنة
حين يقال “جنة الخلد” هكذا بشكل مجرد أمام أي إنسان، فإن كل واحد منهم يذهب ذهنه إلى شيء في الجنة. لا شك أن أعلى نعيم في الجنة رؤية الله عز وجل، ولكن هذا ليس له نظائر في الدنيا، فلهذا غالب الناس لا يذهب ذهنهم إلى هذا الأمر. ولذلك كثير من الناس منهم من يفكر مثلاً بالحور العين، ومنهم من يفكر بأنهار اللبن والخمر، ومنهم من يفكر بالمساكن الطيبة، ومنهم من يفكر بمجالس الصالحين متقابلين مع الإخوان وغيرهم. وكل واحد يذهب ذهنه إلى شيء مما يتمناه في الجنة، منهم من يذهب ذهنه إلى حبيب مفقود أنه سيلقاه هناك، إلى آخر ذلك.
رؤية الأنبياء والصالحين في الجنة
أنا شخصياً إذا ذُكرت الجنة، أول ما يخطر على ذهني: الأنبياء والصالحون، رؤية هؤلاء وصحبتهم. لا شك أن أعمال المرء دون ما هم عليه بكثير، ولكنهم كرام والله أكرم الأكرمين. ولماذا يقع في ذهني الأنبياء والصالحون؟ لأنني أعتقد أن الصالحين هم الأصل، هم المتن، وما سواهم حواشي. كل ما في الدنيا حواشي وهم الأصل.
الصالحون هم الأصل وما سواهم حواشي
ما معنى هذا الكلام؟ إيمانك أيها المسلم بالقرآن والسنة يوضّح لك الأمر بين الوسائل والغايات. يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، وفي آيات أخرى يذكر ما في السماوات والأرض جميعاً منه. فكل ما في هذه الدنيا وسائل لكي تعيش. اليوم، موضوع المأكل والمشرب والمنكح هو الذي شغل بال عموم البشر، ولهذا وضعوا علوماً: علم السياسة، علم الاقتصاد، علم الاجتماع، وكلها تدور في هذا السياق: توفير حياة كريمة، توفير حياة سعيدة، توفير حياة هانئة.
طيب، ولماذا وُجدت هذه الحياة أصلاً؟ موضوع التكنولوجيا مثلاً والاختراعات وغيرها وغيرها، غاية ما تفعله أنها تجعل الحياة أيسر، تجعل الحياة أجمل، ممكن تجعلها أطول، ولكن في النهاية هذه الحياة ستنتهي على كل حال. كلنا سننتهي، كلنا سنموت على كل حال. لا يمكن للعلم التجريبي، لا يمكن لحكمة البشر، لا يمكن لتعاويذهم، لا يمكن لأي شيء أن يقف حائلاً دون الموت، دون ثنائية الحياة والموت.
الغاية من الخلق: عبادة الله ومعرفته
طيب، وبناءً عليه، لماذا نحن هنا أصلاً؟ كثير من الناس نسوا الغايات، وفنوا في الوسائل، وهذه هي لعبة الشيطان التي لعبها على معظم البشر. فلا بد أن نسأل: من نحن حتى نفهم لماذا نحن هنا؟ وما المراد منا؟ واضح جداً أننا مخلوقات بعد أن لم نكن، أننا ممكنات، وجودنا ليس ضرورياً لوجود هذه الدنيا، وجود الكائنات. واضح جداً هذا الأمر، لا تخطئه البديهة. واضح أننا مخلوقات مفتقرة لخالقها، بعيداً عن كل المكابرات السفسطائية، هذا أمر راسخ في الفِطَر.
طيب، معاشر المسلمين، نؤمن بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. إذاً خُلقوا وهُيئت لهم الحياة لكي يعبدوا الله. ما معنى يعبدوا الله؟ طيب، ما معنى يعبدوه؟ يعبدونه يعني يعرفونه ويتواصلون معه؛ هم المفتقرون إليه وهو الغني عنهم، وهذه هي العبادة. لا عبادة إلا بمعرفة الله عز وجل. ولهذا، أعظم برهان على أن هذا الدين من عند الله عز وجل -فيما أرى- قول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، حيث جُعلت قضية الاتصال بالله عز وجل هي أعلى القضايا. وهذا متناسب مع عظمة الخالق أن يرتبط كل شيء به سبحانه وتعالى، لا أن يكون الارتباط به قضية هامشية. فلما أعلى الله عز وجل مقام الاتصال بالله عز وجل هذا الإعلاء، عُلِم أن هذه الرسالة من الله سبحانه وتعالى، بخلاف الفلسفات الأخرى التي تجعل أعلى شيء مثلاً الأخلاق الحسنة، أو توفير المال، أو بر الوالدين، أو أي شيء. والحال الواقع في الإسلام أن هذه الأمور لا قيمة لها إلا إذا كانت لله عز وجل ومرتبطة بالله عز وجل.
الصالحون مصداق الغاية من الخلق
طيب؟ وبناءً عليه، الصالحون هم مصداق هذه الغاية. الله عز وجل قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. وكل ما في السماوات والأرض خُلق لنفع البشر، إذاً كل شيء من أجل البشر بطريق أو بآخر، على الأقل حتى ليعتبروا بها. والصالحون هم الذين حققوا هذه الغاية، فإذاً هم الأصل وكل ما سواهم حواشي. هم الأساس، هم من حققوا الحكمة من الخلق؛ عرفوا الله كما ينبغي وعبدوه كما ينبغي.
إنجاز أمة الإسلام الأعظم
لهذا، أعظم ما أنجزته أمة الإسلام أنها عرفت الناس بالله عز وجل وكيف يعبدونه. من يفهم أمة الإسلام هكذا، لن يُعظِّم إنجازاتها أو يُعظِّمها في أعين الناس بإنجازات تجريبيين ومنتسبين لها فحسب. لا شك أن في ذلك درجة من المنقبة، ولكن المنقبة العليا والتقدم الحقيقي -كما نرى- أن يعلّموا الناس من هو الله وكيف يُعبد الله؟ أن يعلّموا الناس أسماء الله وصفاته وكيف تُشاهد آثارها في كل شيء؟ وكيف يثمر ذلك عبادة على بصيرة لله عز وجل؟ ثم بعد ذلك يكون المصير إلى جنان الخلد. وكما قيل: في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة؛ جنة التواصل مع الله عز وجل.
قيمة المرء بقربه من الله
ذكر صاحب كتاب “حماسة الظرفاء” أن رجلاً من العرب ذهب إلى كسرى، فقال له الحاجب: من أنت؟ قال: رجل من العرب. فلما دخل على كسرى قال له كسرى: من أنت؟ قال: أنا سيد العرب. قال له: أنت قلت للحاجب أنا رجل من العرب، والآن تقول أنا سيد العرب؟ قال: نعم، قد كنت عند الباب رجلاً من العرب، ولكني لما رأيتك وجلست معك صرتُ سيد العرب، وأنت سيد قومك.
الشاهد من هذه القصة أن الناس ينبغي أن يعلوا قدرهم عندنا بحسب علاقتهم مع الله عز وجل، لا بأي شيء آخر. لأن كل شيء بيد الله عز وجل وكل شيء فانٍ، والله عز وجل مميت للجميع، ثم سيجمعهم جميعاً يوم القيامة. لن يكون أن يكون عندك جواز أوروبي أو أنك من دولة كذا أو دولة كذا هو الذي يرفعك عند الله. لا، ما يرفعك هو: هل أنت تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم أم لست كذلك؟ حين ترد على الحوض، جوازك هو أن تكون من الغُرّ المحجّلين، بمعنى أن آثار الوضوء عليك. فإذا كان الله عز وجل هو خالق كل شيء وهو العظيم الذي عظمته لا تتناهى، فإنما كلما كان العبد له أرضى، كلما كان أعلى. وهذا سيتجسد يوم القيامة بأنهم يكونون منه أقرب.
محبة الصالحين كنز عظيم
ولهذا، محبة هؤلاء هي الكنز الأعظم الذي يجعلك قريباً منهم يوم القيامة. لهذا الصحابة الكرام لما سمعوا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»، قالوا: ما فرحنا في الإسلام بشيء كفرحنا بهذا الحديث. إذا فهمت هذه القضية المحورية، علمت أن كثيراً من الشبهات تُطرح بناءً على تناسي هذه القضية، والتي هي من أسس فهم الدين.
فهم حقيقة الدنيا والآخرة في مواجهة الشبهات
فيقول لك: أنت المسلم ماذا ترى نفسك؟ أنت المسلم لماذا لا تنبهر بما عند الكفار من كذا وكذا؟ لأني أنظر إليها على أنها مجرد وسائل فانية، وأنني أؤمن بآخرة وبغاية. ولهذا حين يُقارن لك بين عبد صالح وآخر كل الذي فعله أنه جعل حياة البشر في السياق الفلاني أيسر ولكن ليس لوجه الله. فالله عز وجل هو المانح الوجود ومانح العقل ومانح كل شيء سبحانه وتعالى.
الانشغال بالوسائل والغفلة عن الغايات
لهذا اليوم الناس يفخرون بوطنهم، ببلدهم. وضعوا لهم حدوداً، ثم قيل له: كل هذا أنت، كل شخصٍ: أنت لك الوطن الفلاني، أنت لك البلد الفلاني. حتى إنه يوالي ويعادي بناءً عليها. وإذا رأى رجلاً فيه خير في بلده من أهل بلده افتخر به وفرح به. حتى تجده في لعبة كرة القدم، كل أهل بلد يشجعون فريقهم وكأنهم في حرب. ولكن كل هذه السياقات غفلة عن الغاية الأصلية.
شرف الانتماء لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
وأنك أصلاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أعلى شيء؛ لأنه هذا الرجل هو خير الخلق. ومجرد كونك من أمة خير الخلق هذا شرف عظيم. وكما قال الشاعر:
ومما زادني شرفاً وتيهاً *** وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيّرت أحمد لي نبيا
كنت دائماً أقول: أهل الحديث أعلاهم الله عز وجل بأنهم يذكرون دائماً في الإسناد وفي النهاية اسم النبي صلى الله عليه وسلم أو كلامه أو ذكره، فاتصلت أسماؤهم باسمه. كما قال ذاك الرجل العربي لكسرى: أنا سيد العرب لأني جلست معك. فهؤلاء لما اتصل اسمهم باسم النبي صلى الله عليه وسلم هذا شرف، وهذا معناه أن الله عز وجل أراد أن يشرفهم. النبي صلى الله عليه وسلم أعظم شهادة يُشهد بها لإنسان أنه رسول من الله. ونبينا الخاتم أفضل الأنبياء وأشرف الأنبياء، بل أشرف الخلق جميعاً، منذ بُعث إلى يومنا هذا. فهذه الشهادة تُزلزل لها الآفاق خمس مرات كل يوم، بحسب أوقات الصلاة في كل بلد قام فيها للإسلام قائمة.
اعرف قدرك ومكانتك أيها المسلم
فهذا ينبغي أن يشعرك بالمسؤولية؛ أنك من ضمن هذه الأمة، لا بل أنت من النخبة. أنت من العرب، أو من المتكلمين بالعربية، لغة الوحي، أو من قوم هذا الرجل صلوات الله وسلامه عليه. طيب، وبناءً عليه، فلن تفهم ما أنت عليه والكنز الذي سيق إليك. فإن أنت فرطت به فلا تلومن أحداً إلا نفسك. ولهذا، لا يهزمك أحد نفسياً، افهم هذا. أنت من أمة تعرف الله وتعرف كيف تعبده. هذا مهم، هذا أعلى الشرف، وهذا مفتاح الجنة.
وكل من سوى ذلك فهو تائه في الوسائل ولا يعرف هو لماذا خُلق. غارق في الوسائل ولا يعرف لماذا خُلق ولماذا هو هنا؟ أو حائر بين أجوبة هنا وهناك. والمنظومة الشبهاتية على الدين كلها مبنية على اعتبار الوسائل غايات عندك وعنده، فيحاكمك لهذا: لماذا أنتم المسلمون لا تنظرون للحياة كما ينظر إليها الشهوانيون الذين ما عرفوا الله؟ هذه هي خلاصة الكثير من الشبهات. ثم يحدثك في إفرازاتها. وما ظهرت شبهات إنكار السنة ولا الإلحاد ولا القراءات الحداثية ولا كل هذا إلا من خلال هذه النظرة، والغفلة عن هذا الشرف العظيم الذي شُرفنا به.
حقيقة الدنيا الفانية والمصير الأخروي
فإذا عرفت من أنت، الله يبارك فيك، تعرف كيف تحاور، تعرف كيف تعيش. لا يضحكون عليك بحدود وضعوها لك وصرت تعرف نفسك بها. لا تكن همتك خسيسة، فتجعل أعلى همك وأعظم ما تريد فوز نادي رياضي أو غيره، وعلى هذا تقوم وتقعد، وتصرخ وتزعق. لا، أنت بيدك النبراس الأعظم. يعني إنسان يمكنه أن يكون أعلى شيء، المتن، وما سواه حواشي. الدنيا هذه كلها خُلقت ليوجد فيها البشر، والناجح من البشر في هذا الامتحان هو الإنسان الصالح، الذي يحبه الله وملائكته، الذي له ذكر في السماء. وهذه الأرض فانية؛ أربعين، خمسين، ستين، سبعين سنة، ثم ماذا؟ بعدها فناء الكل. ثم بعد ذلك الذكر في السماء. وساعتئذٍ سترى كم من وضيع هو شريف جداً، وكم من شريف هو وضيع جداً. والله المستعان.