الحالة:: معالج
النوع:: فيديو
اﻷولوية:: 2
الغرض:: العقيدة
المنشيء:: أبو المهند شكري بن عثمان
المدة:: 04:13:11
الرابط:: https://www.youtube.com/playlist?list=PLvGxQ8rPbsfOB98UncSXX38gmI5mRICct
التدريب::
المؤثر::
تاريخ اﻹكمال:: 2024-11-04


ظهر في الآونة الأخيرة كلام من المنتسبين زورا للسلفية يهونون ويزهّدون به من تعلّم مبحث الأسماء والصفات ويزجرون عن الكلام فيه، ويحقّرون من شأنه، فجاءت هذه السلسلة لبيان بطلان كلامهم، وبيان أهمية معرفة رب العالمين، وبيان قواعد أهل السنة والإيمان في معرفة الله تعالى.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

هذه سلسلة نشرع فيها بإذن الله تعالى وعونه، عنوانها: «خطورة التهوين من معرفة رب العالمين». والذي دفع إلى هذه السلسلة هو ما ظهر من بعض من ينتسب زورا وبهتانا إلى السلفية، ما ظهر منهم من التهوين من معرفة الرب جل وعلا، والتهوين في الكلام في مبحث معرفة الرب جل وعلا. فواحد منهم مثلا يقول: لم يكلفك الله عز وجل بمعرفة صفاته، أهي مجاز أم حقيقة؟ وآخر مثلا يقول: عوض أن ندعو الناس إلى مسائل مهمة، ونشغل بأمور تنفعهم، سيشغلنا هؤلاء بمباحث هي في بطون الكتب لا تهم الناس.

وآخر يعد من فارق الحق في باب معرفة الرب فرقة أو طائفة من أهل السنة، يقول: الذين خالفوا في معرفة الرب جل وعلا هم فرقة من أهل السنة. وآخر مثلا يشبه من كلم الرافضة في باب الصفات بمن وجد رجلا يشرب الخمر فكلمه عن السواك. وآخر يأتي في يوم عرفة مثلا فيذكر ألفاظا هي نفس ألفاظ الجهمية، ثم ينبري من ينبري للدفاع عنه والذب عنه، وكأنه صار أهم من دين الله جل وعلا.

وآخر يقول: فلان إمام لكنه أخطأ في باب الصفات. وآخر يقول: أخطاء باب الصفات لا تمثل 3% أو 5% أو كما يقولون. وهكذا من الكلام الذي يظهر منه التهوين من معرفة رب العالمين. وهذه الألفاظ وهذا الكلام وهذا المسلك في غاية الخطورة. ولم أذكر هنا ما يذكره من لا ينتسب أصلا للسلفية، لم أذكر هنا كلام الأشاعرة ولا غيرهم، هذا يصدر، هذا الكلام يصدر ممن ينتسب زورا وبهتانا إلى السلفية.

١. أهمية معرفة الله تعالى

معرفة حقيقة المعبود

فاقول مستعينا بالله: أولا، أتكلم في أهمية معرفة الله تعالى، أتكلم في أهمية معرفة الله تعالى. وذلك أن معرفة الرب جل وعلا هي معرفة لحقيقة المعبود. عبادتك الرب جل وعلا، عبادتك لله تعالى هي الأمر الذي خلقت من أجله كما قال تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. هذه العبادة هي فرع عن معرفة الرب جل وعلا، فإن عرفته معرفة صحيحة صحت عبادتك له، وإن لم تعرفه معرفة صحيحة انصرفت عبادتك لغيره، انصرفت عبادتك لشيء آخر تتوهمه.

قال تعالى: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ﴾. جاء في صحيح مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: ﷺ «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ قَالَ: قُلْتُ: ﴿اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: وَاللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ، أَبَا الْمُنْذِرِ ». انظر هنا، أعظم آية في كتاب الله هي الآية التي تتكلم عن صفات الرب جل وعلا. لما سأل النبي ﷺ أُبي بن كعب عن أعظم آية في كتاب الله، كتاب الله كله عظيم، وفيه آيات في مواضيع شتى، آيات تدعو إلى الصلاة، وآيات تدعو إلى الزكاة، وآيات تعلم الناس شرائع الإسلام، وكل ذلك عظيم. لكن أعظم آية في كتاب الله هي الآية التي تكلمنا عن ربنا جل وعلا، لأن شرف العلم من شرف المعلوم. فإذا كان العلم متعلقا بالرب جل وعلا كان أشرف علم، ولا يقال عنه أنه هو من باب التشاغل بما لا ينفع، ومن باب شغل الناس عما هو أولى، هذا لا يقوله من عقل كلامه، ولا يقوله من علم حقيقة الشريعة، وعلم مراد الرب جل وعلا من عباده، وقرا في كتاب الله عز وجل فتدبر كلام ربه سبحانه وتعالى.

قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾. انظر هنا، بعدما وصف الرب جل وعلا نفسه وذكر خلقه للسماوات والأرض، ثم ذكر استواءه على العرش، قال: ﴿ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾. إذا، معبودنا هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش، من عبد غير الذي استوى على العرش، وعبد غير الذي هو في السماء، كان عابدا لغير الرب جل وعلا.

قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾. إذا، الذي يحرف معاني أسماء الرب جل وعلا يكون ملحدا في أسمائه، كما قال تعالى. وقال الله عز وجل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (٤٢)﴾. إذا، تأمل نبي الله إبراهيم أنكر على أبيه عبادته لما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئا، والجهمية يدعون الناس إلى عبادة ما لا يسمع ولا يبصر. فحينئذ، إذا انبرى أهل الحق وأهل الإسلام وأهل السنة إلى أن يبينوا حقيقة المعبود للناس بصفاته التي بينها لنا سبحانه، وصفاته التي ذكرها لنا رسوله ﷺ فصدقها المؤمنون، فحينئذ لا يقال عنهم أنهم يشغلون الناس بمباحث لا تهمهم.

قال الله عز وجل: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَّامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾. تأمل هنا، هذا هو حقيقة التنزيه الذي ينسبه الجهمية كذبا وزورا لأنفسهم، ينفون، يعطلون الرب جل ويسمونه تنزيها. التنزيه هو أن تنفي عن الرب جل وعلا ما وصفه به الواصفون من غير الرسل، أي ما يكذبه عليه الكاذبون، فتسبحه عما وصفه به الواصفون من المبطلين، لا مما وصفه به المرسلون. فإذا أبطلت كلام الجهمية الذين يصفون الرب جل وعلا بالعدم، تكون حينئذ قد سبحت ربك عما يصفه به الواصفون، واستثني المرسلون من هذا التنزيه فقال: ﴿وَسَلَّامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾. فحينئذ، المرسلون مسلمون من أن يصفوا الرب جل وعلا بما لا يستحقه. فإن كنت قد اعتقدت وآمنت وصدقت بمعاني الصفات التي عرفك بها المرسلون ربك جل في علاه، كنت عارفا للرب عابدًا له على الحقيقة، أما أن اتبعت ما يصف به الواصفون، كنت متبعا لغير طريق المرسلين. كما قال جل وعلا: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَّامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾.

جاء في مسند أحمد عن البراء بن عازب مرفوعا، هذا الحديث يعرفه الجميع، يعرفون من هذا الحديث أننا سنسأل في قبورنا عن معرفة ربنا جل وعلا. جاء في مسند أحمد عن البراء بن عازب: «أن النبي ﷺ قال» وذكر «أن المؤمن في قبره يأتيه ملكان فيجلسانه»، الحديث طويل، أذكر منه محل الشاهد، قال: «فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ». انظر، أول سؤال، أول ما يُسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ فإذا كان لا يعرفه بماذا سيجيب؟ سيقول: كنت أعبد عدما في الدنيا، كنت أعبد من هو لا داخل العالم ولا خارج العالم كما يصفه به الجهمية، وأفراخ من الأشاعرة. قال: «فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ، وَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُ بِهِ». انظر، ﴿فآمنت به وصدقته﴾، لم يقل: فعطلت وكذبت وحرفت ودلست وقلت هذه النصوص ظاهرها غير مراد. قال: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: صَدَقَ عَبْدِي، ⦗١٢٩٧⦘ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ». قال: «فَيَأْتِيهِ مِنْ طِيبِهَا وَرَوْحِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ». قال: «ويَأْتِيَهُ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي». وأما الكافر فيأتيه ملكان «فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ، لَا أَدْرِي». انظر، من كان يعبد العدم، هذا هو الجواب اللائق به، أن يقول: هاه هاه، لا أدري، لا يدري أربه داخل العالم أم هو خارج العالم، ربه ليس سميعا ولا بصيرا ولا له يد ولا له وجه، فهذا يعبد عدما، اللائق به في قبره أن يقول: ها ها، لا أدري. وهذا جوابه، هذا جوابه في قبره، في قبره يقول: ها ها، لا أدري. قال: «فيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي». لأنه هذا المعطل، الرجل الذي بُعث فيهم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، هذا عندهم ليس مقدما في باب معرفة الرب، بل المقدم في باب معرفة الرب عندهم هو أرسطو. فحينئذ، كيف سيجيب؟ كيف سيجيب إن كان أعظم مبحث، إن كان أعظم مبحث في الشريعة قد أخذوه من النبي ﷺ؟ بماذا سيجيب في هذا الموقف؟ قال: «فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا (١) لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا، وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ (١) بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ». والحديث أصله في الصحيحين.

جاء في الصحيحين أيضا عن ابن عمر رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ ذَكَرَ الدَّجَّالَ بَيْنَ ظَهْرَانَيِ النَّاسِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلَا وَإِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ». إذا، هذا الدجال يزعم إذا خرج في الناس في آخر الزمان أنه هو الرب، فذكر لنا رَسُولُ اللهِ ﷺ أن الرب جل وعلا ليس أعور الدجال، فحينئذ للرب جل وعلا عينان حقيقتان وإذا قيل أن للرب جل وعلا عينين فحينئذ يفهم من هذا الكلام معناه الحقيقي كما تفهمه العرب من الكلام، ويؤكد عليه هذا الحديث، أن الرب جل وعلا ليس بأعور سبحانه جل في علاه، والدجال أعور العين اليمنى.

جاء في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ، يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا». إذا، كيف أفلح هؤلاء الناس في هذا الابتلاء إن كانوا لا يعرفون ربهم؟ هو يأتيهم في الأول في صورة غير الصورة التي يعرفونها، إذا أهل الإيمان يعرفون ربهم، أهل الإيمان يعرفون ربهم. قال، قال: «فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا أَتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ،». كيف يعرفون من كان معطلا؟ لا يعرف، من كان معطلا لا يعرف ربه. كيف، كيف سيعرف ربه في هذا الموقف؟ قال: «فَيَأْتِيهِمُ اللهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا، فَيَتْبَعُونَهُ».

جاء في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلَاتِهِ فَيَخْتِمُ بِـ ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ. فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ». انظروا هنا، هذا جواب على من قال: إن الصحابة ما كانوا يعتنون بهذا. هذا والله كذب وزور على الصحابة. وقالوا: هذه المباحث لم تشغل الصحابة. نعم، لم تشغلهم من ناحية الرد على المخالف، لأنه لم يكن ثم مخالف، لم يكن ثم في هذا المبحث لم يكن ثم مخالف لهم كي يردوا عليه، لم يكن في زمانهم جهمية يتبعون أرسطو، لكن كانوا يعتنون بهذا المبحث من باب الفهم عن الرب جل وعلا، وسيأتينا حديث أبي رزين العقيلي قريبا. إذا، قال النبي ﷺ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ»، لأنه أحب أن يقرأ بصفة الرحمن. لما قرأ سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾، فهم أن مدلولها صفة الرحمن، فحينئذ أحب أن يقرأ بها، أحب أن يقرأ بها. فكان، فكان الجزاء من جنس العمل. قال النبي ﷺ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ». إذا هو أحب الله، فأحبه الرب جل وعلا. كيف أحبه؟ تبصر في صفاته المذكورة في كتابه فأحب أن يقرأ بها كي يعرض معانيها على قلبه وقلب السامعين له ممن يصلي خلفه، فحينئذ كان بذلك محبا لربه جل وعلا فأحبه الله سبحانه وتعالى.

قال الدارمي في الرد على الجهمية: «فَهُوَ اللَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، قَرِيبٌ، مُجِيبٌ، مُتَكَلِّمٌ قَائِلٌ، وشَاءٍ مُرِيدٌ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، الْأَوَّلُ قَبْلَ كِلِّ شَيْءٍ، وَالْآخِرُ بَعْدَ كِلِّ شَيْءٍ، لَهُ الْأًَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَلَهُ الَأسْمَاءُ الْحُسْنَى، يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ، وَيَتَكَلَّمُ، وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ، وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ، وَيَبْغَضُ، وَيَكْرَهُ، وَيَضْحَكُ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى، ذُو الْوَجْهِ الْكَرِيمِ، والسَّمْعِ السَّمِيعِ والْبَصَرِ الْبَصِيرِ، وَالْكَلَامِ الْمُبِينِ، وَالْيَدَينِ وَالْقَبْضَتَينِ، وَالْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ وَالْعَظَمَةِ، وَالْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ، لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ وَلَا يَزَالُ، اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهَ فَبَانَ مِنْ خَلْقِهِ، لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ، عِلْمُهُ بِهِمْ مُحِيطٌ، وَبَصَرُهُ فِيهِمْ نَافِذٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. فَبِهَذَا الرَّبِ نُؤْمِنُ، وَإِيَّاهُ نَعْبُدُ، وَلَهُ نَصَِّلي وَنَسْجُدُ، فَمَنْ قَصَدَ بِعَِبادَتِهِ إِلَى إَلَهٍ بِخَلَافِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِنِّمَا يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَيْسِ مَعْبُودُهُ بِإِلَهٍ، كُفْرَانَهُ لَا غُفْرَانَهُ». الله أكبر! انظر، انظر هذا الكلام النفيس! قال: «فَمَنْ قَصَدَ بِعَِبادَتِهِ إِلَى إَلَهٍ بِخَلَافِ هَذِهِ الصِّفَاتِ»، انظر أولئك الذين يعبدون معبودا ليس هو رب العالمين جل في علاه، يقولون: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ويستحيل عليه كذا، ويستحيل عليه كذا، ويجب، ويجب له كذا، ويجوز له كذا وهكذا، وهذا كله، هذه كلها أوصاف لمعبود آخر غير رب العالمين، فحينئذ ما كانوا يعبدون الله تعالى. كما قال هنا عثمان بن سعيد في الرد على الجهمية قال: «فَمَنْ قَصَدَ بِعَِبادَتِهِ إِلَى إَلَهٍ بِخَلَافِ هَذِهِ الصِّفَاتِ»، يعني الصفات التي ذكرها، قال: «فَإِنِّمَا يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَيْسِ مَعْبُودُهُ بِإِلَهٍ، كُفْرَانَهُ لَا غُفْرَانَهُ».

وقال أيضا في الرد على الجهمية: «فَلَمْ تَزَلْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَى أَنْ نَبَغَتْ هَذِهِ النَّابِغَةُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ»، يعني الجهمية، «فَأَعْظَمُوا فِي اللَّهِ الْقَوْلَ، وَسَبُّوهُ بِأَقْبَحِ السِّبَابِ، وَجَهَّلُوهُ وَنَفَوْا عَنْهُ صِفَاتَهُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ صِفَةً صِفَةً، حَتَّى نَفَوْا عَنْهُ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ السَّابِقَ، وَالْكَلَامَ، وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ جَعَلُوهُ كَلَا شَيْءَ، فَقَالُوا فِي الْجُمْلَةِ: مَا نَعْرِفُ إِلَهًا غَيْرَ هَذَا الَّذِي فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَإِذَا بَادَ شَيْءٌ صَارَ مَكَانَهُ. فَنَظَرْنَا فِي صِفَةِ مَعْبُودِهِمْ هَذَا فَلَمْ نَجِدْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا الْهَوَاءِ الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الدَّاخِلِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَمَنْ قَصَدَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى إِلَهٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَعْبُودُهُ ذَاكَ بِإِلَهٍ، كُفْرَانَهُ، لَا غُفْرَانَهُ».

وقال أيضا في الرد على الجهمية: «فمن لم يقصد بإيمانه وعبادته إلى الله الذي استوى على العرش فوق سماواته وبان من خلقه؛ فإنما يعبد غير الله ولا يدري أين الله». وهذا دائما هو، هذا الذي نقوله دائما: من، إذا وقف، إذا صف بجنبك، إذا صف بجنبك أشعري في الصلاة، في تلك اللحظة أنت تعبد الرب جل وعلا، وهو إذا كبر شرع في عبادة العدم، شرع في عبادة، ولذلك يكثر فيهم الشرك، يكثر فيهم الشرك، لأنه، لأن العدم لا يتصور، فحينئذ سيلجأ إلى معبود آخر غير العدم، يعرف مكانه. يعبد الأوثان، ويعبد القبور، يعبد قبور الصالحين، لأنه يعرف مكانهم. إذا أراد أن يعبد البدوي مثلا، عرف أنه في مصر، وإذا أراد أن يعبد الشاذلي بالحسن عرفه هنا في تونس أو في المغرب، الله أعلم، وإذا أراد أن يعبد الرفاعي عرفه هناك في العراق مثلا، لكن، لكنه لا يعرف أين ربه، وأنت أيها الموحد السني إذا كبرت عرفت ربك فوق السماوات، فتوجه قلبك بالعبادة إليه سبحانه جل في علاه. إذا، قال الدارمي: «قال: من لم يقصد بإيمانه وعبادته إلى الله الذي استوى على العرش فوق سماواته، وبان من خلقه، فإنما يعبد غير الله ولا يدري أين الله».

وفي العلو للعلي العظيم، قال المزني صاحب الشافعي: «لَا يَصح لأحد تَوْحِيد حَتَّى يعلم أَن الله على الْعَرْش بصفاته قلت مثل أَي شَيْء قَالَ سميع بَصِير عليم قدير». وفي خلق أفعال العباد قال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: «كُلُّ قَوْمٍ يَعْرِفُونَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ». فحينئذ، تأمل، نحن إذا كلمنا الناس في مبحث في معرفة الرب جل وعلا، ودعونا إلى ذلك لا ندعوهم إلى شيء هو من كمالات المعرفة، بل ندعوهم إلى شيء أصلي، لو أخطأوا فيه لعبدوا غير الله. كيف يكون الخطأ فيه؟ بالسماع للجهمية، الجهمية منتشرين يبثون سمومهم بالتعطيل، وفي المقابل يوجد أناس ينتسبون كذبا وزورا للسلفية، جعلوا أنفسهم تروسا وسدا منيعا، يدافعون عن هؤلاء الجهمية، ويمنعونك من أن تبث هذا العلم العظيم الذي نزل به الرب جل وعلا، وعلمه أنبياءه ورسله، فعلمه الرسل إلى اتباعهم، ونزل في كتب رب العالمين. هذا يمنعونك من تعليمه، يقول، يقولون لك: إن أشغلت الناس بهذا فأنت تشغلهم بما لا ينفعهم، اكتف في تعليمهم بمسائل الأحكام، وهي على عظمتها إلا أنها فرع عن معرفة الرب جل وعلا. لو علمته الصلاة بماذا ستنفع الصلاة إن كان لا يعرف ربه الذي سيصلي له؟ ولو علمته الزكاة وهو علم عظيم، إن علمته الصلاة وانتهيت عن تعليمه باب معرفة الرب جل وعلا مع علو صوت التجهم في هذا الزمان، هذا قصدي أنا، لا أمنعك، لا أمنعك من تعليم الناس الصلاة، بل بالعكس أحثكم عليه وأدعوك إليه، لكن لا يحل لأحد أن يزجر أهل الإيمان من تعليم الناس مبحث معرفة رب العالمين، لأنه، لأن هذا المبحث وارد في كتاب الله سبحانه وتعالى، وأنت مأمور بتصديقه، وسيأتي مزيد بيان لذلك.

جاء في خلق أفعال العباد كما قلنا قال عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: «قال: كُلُّ قَوْمٍ يَعْرِفُونَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ». والجهمية كما قلنا أفراخ من الأشاعرة في هذا الزمان، قد علا صوتهم، وتمكنوا من المساجد والمنابر والإفتاء والتدريس والتعليم ونحو ذلك، فحينئذ لم يصح البته أن نسكت عن هذا الباب. جاء في السنة لعبد الله: قال وكيع: «كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَعْرِفُ اللَّهَ عز وجل وَيَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ إِلَّا الْجَهْمِيَّةُ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ. بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَأَصْحَابُهُ»، هذا كلام السلف، المقصود به طوائف المبتدعة في أول الزمان، في أول زمان، أول ما ظهرت المرجئة. المرجئة ما كان عندهم التعطيل، بل كانوا في معرفة الرب جل وعلا موافقين لأهل السنة، ومع ذلك استحقوا اسم الإرجاء فكانوا مبتدعة. وكذلك يقال في الشيعة في أول الزمان، وكذلك يقال في القدرية غير الغلاة، وكذلك يقال في الخوارج ونحو ذلك، كل صاحب هوى يعرف ربه كما يعرف، كما يعرف بقية المسلمين، فلم يطر على أهل الأهواء في بادئ ظهورهم، لم يطر عليهم التعطيل، ولم يطر عليهم التحريف في باب معرفة الرب جل وعلا، بل طرأت عليهم البدعة في غير ذلك من الشرائع. لكن الجهمية أتوا بهذا التعطيل، الجهمية أتوا بهذا التعطيل فكانوا لا يعرفون ربهم. قال هنا، قال وكيع: «كل صاحب هوى يعرف الله عز وجل ويعرف من يعبد إلا الجهمية، لا يدرون من يعبدون، بشر المريسي وأصحابه». والآن هذه تأويلات الأشاعرة في هذا الزمان هي عين تأويلات بشر المريسي وأصحابه، ولذلك، ولذلك هذا تأمله جيدا، النقض الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي، لو هو صنفه في الرد على المريسي وابن الثلجي، والرد على شبهته، ما، فأنت لو قرأته اليوم في المسجد لصرع الأشاعرة بقراءته، رغم كون عثمان بن سعيد الدارمي صنفه قبل أن تنشأ هذه الفرقة، قبل أن تنشأ فرقة الأشاعرة أصلا، وقبل أن يوجد أبو الحسن الأشعري، لكن لو قرأت هذا الكتاب اليوم لفهم الأشاعرة مباشرة أنك تقصدهم بالرد، لأنهم يقولون نفس الذي كانت تقوله الجهمية والمعتزلة الأوائل في باب معرفة الرب جل وعلا.

عقد عبد الله بن الإمام أحمد في السنة بابا: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لاَ يَتَكَلَّمُ فَهُوَ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ». من زعم أن الله لا يتكلم فهو يعبد الأصنام، والأمر كذلك، لأنك، لأنك لو اعتقدت في ربك ومعبودك أنه لا يتكلم كنت عابدا لما لا يتكلم، وما الذي لا يتكلم؟ الأصنام، الأصنام لا تتكلم، كما قاله نبي الله إبراهيم لأبيه، قال، قال: «يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا». نقل عبد الله بن الإمام أحمد تحت هذا الباب عن هارون بن معروف يقول: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللهَ لاَ يَتَكَلَّمُ، فَهُوَ يَعْبُدُ الأَصْنَامَ».

قال ابن بطة في الإبانة الكبرى: «وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْجَهْمِيُّ صِفَاتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِبْطَالَهُ»، من أبطل صفات الرب جل وعلا قصد إلى إبطال الرب جل وعلا. وكذلك يقال في من ينهى المسلمين عن إثبات الصفات، ويدعو إلى الجهل بصفات الرب جل وعلا، هذا يدعو إلى الجهل بالمعبود، وإن انتسب كذبا وزورا بعد ذلك للسلفية لا ينفعه، لا ينفعك انتسابك للسلفية، ولا ينفعك تشدقك بكونك قابلت فلانا أو علانا من الشيوخ، أو درست عند فلان أو علان من الشيوخ، هذا كله لا، لا ينفعك البته. قال ابن بطة: «وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْجَهْمِيُّ صِفَاتِهِ يُرِيدُ بِذَلِكَ إِبْطَالَهُ. وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ »، تأمل، أصل الإيمان بالله ما هو؟ قال: «وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ اعْتِقَادُهُ فِي إِثْبَاتِ الْإِيمَانِ بِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ»، تأمل هنا، هذا تقسيم التوحيد الذي يكذب الأشاعرة على ابن تيمية فيقولون: هو ابتدعه. انظر هذا ابن بطة متقدم عليه بقرون، انظر ماذا يقول. قال، قال: «ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ». قال: «أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَبْدُ آنِيَّتَهُ لِيَكُونَ بِذَلِكَ مُبَايِنًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ صَانِعًا. الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ وَحْدَانِيَّتَهُ، لِيَكُونَ مُبَايِنًا بِذَلِكَ مَذَاهِبَ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالصَّانِعِ وَأَشْرَكُوا مَعَهُ فِي الْعِبَادَةِ غَيْرَهُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْتَقِدَهُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ وَسَائِرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، إِذْ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ يُقَرِّبُهُ وَيُوَحِّدُهُ بِالْقَوْلِ الْمُطْلَقِ قَدْ يُلْحِدُ فِي صِفَاتِهِ، فَيَكُونُ إِلْحَادُهُ فِي صِفَاتِهِ قَادِحًا فِي تَوْحِيدِهِ، وَلِأَنَّا نَجِدُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ وَالْإِيمَانِ بِهَا»، هكذا تجده في كتاب الله سبحانه وتعالى، تجد ربك قد خاطبك باعتقاد هذا كله، باعتقاد هذا كله». كما قال تعالى: ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما﴾، انظر هذا، هذا القسم الأول الذي قاله «أَنْ يَعْتَقِدَ الْعَبْدُ آنِيَّتَهُ لِيَكُونَ بِذَلِكَ مُبَايِنًا لِمَذْهَبِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ صَانِعًا». قال: ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما﴾، هذا إثبات الرب جل وعلا، وإثبات كونه يرب الخلق، فيخلق ويرزقهم ويدبر أمورهم. قال: ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ﴾، هذا إثبات وجوب إفراده بالعبادة، هذا توحيد الألوهية. ثم قال: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾، هكذا. انظر هنا قال ابن بطة: «وَلِأَنَّا نَجِدُ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ خَاطَبَ عِبَادَهُ بِدُعَائِهِمْ إِلَى اعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ وَالْإِيمَانِ بِهَا». إذا، وجب عليك أن تعتقد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات. وآية واحدة جمعت لك الثلاث، آية واحدة جمعت لك الأقسام الثلاثة. قال: ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾.

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: «والمتكلمون ممن يدعي الإسلام، لكن أضلهم الله عن معرفة الإله، فذكر عن الأشعري، ومن تبعه: أنه القادر، وأن الألوهية هي القدرة، فإذا أقررنا بذلك، فهي معنى قوله: لا إله إلا الله. ثم استحوذ عليهم الشيطان، فظنوا أن التوحيد لا يتأتى إلا بنفي الصفات، فنفوها، وسموا من أثبتها مجسما. ورد عليهم أهل السنة بأدلة كثيرة، منها: أن التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات»، تأمل: التوحيد لا يتم إلا بإثبات الصفات. «وأن معنى الإله: هو المعبود. فإذا كان هو سبحانه متفردا به، عن جميع المخلوقات، وكان هذا وصفا صحيحا، لم يكذب الواصف به، فهذا يدل على الصفات، فيدل على العلم العظيم، والقدرة العظيمة; وهاتان الصفتان: أصل جميع الصفات، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [سورة الطلاق آية: ١٢]. فإذا كان الله قد أنكر عبادة من لا يملك لعابده نفعا ولا ضرا، فمعلوم أن هذا يستلزم العلم بحاجة العباد، ناطقها، وبهيمها ; وتستلزم القدرة على قضاء حوائجهم، ويستلزم الرحمة الكاملة، واللطف الكامل، وغير ذلك من الصفات ; فمن أنكر الصفات، فهو معطل، والمعطل شر من المشرك؛ ولهذا كان السلف، يسمون التصانيف، في إثبات الصفات: كتب التوحيد، وختم البخاري صحيحه بذلك، قال: كتاب التوحيد». تأمل هنا، السلف إذا ذكروا تصنيفا وسموه كتب التوحيد، كتاب التوحيد، أو باب التوحيد، هذا كله يقصدون به إثبات الصفات، أي معرفة الرب جل وعلا. قال، وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: «ولهذا كان السلف، يسمون التصانيف، في إثبات الصفات: كتب التوحيد، وختم البخاري صحيحه بذلك، قال: كتاب التوحيد ; ثم ذكر الصفات، بابا، بابا». وهذه نكتة البخاري، لماذا ختم به صحيحه؟ ذكر أنه لما رد على المبتدعة في أبواب متفرقة، وكتب متفرقة من صحيحه، ابتدا بالأقرب فالأقرب. وذلك أن مخالفة المرجئة لأهل السنة هي أقرب مخالفة، بمعنى أن المرجئة هي أقل طوائف المبتدعة شرا، مع كون اسم البدعة وحكمه يتناولها، لكنها أقل شرا من، من غيرهم، فابتدا بهم، ثم جعل آخر كتابه بكتاب التوحيد، لأنه، لأن الرد فيه على فرقة فارقت الإسلام بالكلية، فهو ابتدا بالرد على المسلمين، ثم آخر الرد على المشركين من الجهمية. فقال، قال هنا: «وختم البخاري صحيحه بذلك، قال: كتاب التوحيد ; ثم ذكر الصفات، بابا، بابا». قال: «فنكتة المسألة: أن المتكلمين يقولون: التوحيد لا يتم إلا بإنكار الصفات، فقال أهل السنة: لا يتم التوحيد إلا بإثبات الصفات، وتوحيدكم، هو التعطيل؛ ولهذا آل هذا القول ببعضهم إلى إنكار الرب عز وجل، كما هو مذهب ابن عربي، وابن الفارض، وفئام من الناس، لا يحصيهم إلا الله. فهذا بيان لقولك: هل مراده الصفات؟ أو الأفعال؟ فبين السلف: أن العبادة إذا كانت كلها لله عن جميع المخلوقات، فلا تكون إلا بإثبات الصفات، والأفعال ; فتبين أن منكر الصفات، منكر لحقيقة الألوهية، لكن لا يدري ; وتبين لك أن من شهد أن لا إله إلا الله، صدقا من قلبه، لا بد أن يثبت الصفات، والأفعال، ولكن العجب العجاب: ظن إمامهم الكبير، أن الألوهية، هي القدرة، وأن معنى قولك: لا إله إلا الله، أي: لا يقدر على الخلق إلا الله! إذا فهمت هذا تبين لك عظم قدرة الله، على إضلال من شاء، مع الذكاء، والفطنة، كأنهم لم يفهموا قصة إبليس، ولا قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وهلم جرا، كما قال شيخ الإسلام، في آخر الحموية: أوتوا ذكاء، وما أوتوا زكاء، وأوتوا علوما، وما أوتوا فهوما، وأوتوا سمعا، وأبصارا، وأفئدة ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [سورة الأحقاف آية: ٢٦] . والله أعلم.» انتهى كلامه رحمه الله.

فالذي لا يعرف ربه، الذي لا يعرف ربه هذا يعبد ربا كما قلنا، يعبد ربا غير الذي يعبده الموحدون، يعبد ربا غير الذي يعبده المسلمون، يعبد ربا غير الذي يعبده أتباع الرسل، فأهل الإيمان يعرفونهم بذلك، وهم كذلك يعرفون أنفسهم بذلك. تأمل في هذا الأمر جيدا، أهل الإيمان يعرفون من لا يعرفون ربهم بكونهم يعبدون غير الله، والذين لا يعرفون ربهم يعلمون أنهم يعبدون غير الله، أي يعلمون أنهم يعبدون معبوداً غير الذي يعبده أهل الإيمان، يعلمون جيداً أنهم يعبدون معبوداً غير الذي يعبده أهل الإيمان. تأمل جيداً.

جاء في طبقات الحنابلة في ترجمة أحمد بن نصر الخزاعي رحمه الله: «وقتل فى خلافة الواثق لامتناعه عن القول بخلق القرآن، سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وكان قد أخذه الواثق، فقال له: ما تقول فى القرآن؟ فقال: كلام الله. قال: أفترى ربك يوم القيامة؟ قال: كذا جاءت الرواية به. فدعا الواثق بالصمصامة» الصمصامة هذا سيف عظيم. قال: «وقال: إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معى، فانى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده». انظر هذا الخبيث الواثق كفره لأنه يعبد الله حقيقةً، لأن الإمام أحمد بن نصر الخزاعي يعبد الرب جل وعلا، والواثق هذا الملعون يعبد وثناً. فحينئذٍ الواثق حكم بتكفير أحمد بن نصر الخزاعي وقال ماذا؟ قال الواثق: «إذا قمت إليه فلا يقومن أحد معى، فانى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده». إذاً الواثق يعلم جيداً أنه هو ومن معه من الجهمية يعبدون رباً لا يعبده، لا يعبده المسلمون. قال: «فانى أحتسب خطاى إلى هذا الكافر الذى يعبد ربا لا نعبده، ولا نعرفه بالصفة التى وصفه بها». هكذا هم، يعلمون أنهم، هم يصفون معبودَهم وهو العدم بصفة غير التي جاءت، ويعتقد المسلم، غير التي جاءت في الشرع كتاباً وسنةً، ويعتقد المسلمون. هكذا يعلمون أنفسهم جيداً. قال: «ثم أمر بالنّطع فأجلس عليه، وهو مقيد. وأمر بشد رأسه بحبل، وأمرهم أن يمدوه، ومشى إليه حتى ضرب عنقه. وأمر بحمل رأسه إلى بغداد، فنصب فى الجانب الشرقى أياما. وفى الجانب الغربى أياما». إذاً رحم الله أحمد بن نصر الخزاعي، لأنه كان يعبد الله حقيقةً، فيعرف ربه ثم عبده إذ عرفه، والآخر، الواثق ومن معه من المعتزلة الجهمية، ومثلهم الأشاعرة في هذا الزمان، يعلمون أنهم يعبدون رباً غير الذي نعبده، ويصفونه، ويصفونه بغير الذي يصفونه.

جاء في العرش للذهبي: قال أحمد بن سلمة: «سمعت إسحاق بن راهويه يقول: جمعني وهذا المبتدع -يعني إبراهيم بن أبي صالح- مجلس الأمير عبد الله ابن طاهر، فسألني الأمير عن أخبار النزول فسردتها». انظر، سأل، سأل عبد الله بن طاهر، سأل إسحاق بن راهويه عن أخبار النزول فسردها. فقال ابن أبي صالح: «كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء». هو يعلم أنه كافر بالله، من يصف الله بغير صفاته سيكفر بالرب الذي جاءت صفته في الكتاب والسنة. قال: «كفرت برب ينزل من سماء إلى سماء». فقال إسحاق بن راهويه: «آمنت برب يفعل ما يشاء». وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي: “قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: إِذَا قَالَ لَكَ جَهْمِيٌّ: أَنَا أَكْفُرُ بِرَبٍّ يَزُولُ عَنْ مَكَانِهِ، فَقُلْ: «أَنَا أُؤْمِنُ بِرَبٍّ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ»“.

فمبحث معرفة الرب جل وعلا له أهمية عظيمة في تحديد معبودك، أنت من تعبد؟ من تعبد؟ هل تعبد عدماً؟ هل تعطل الرب جل وعلا ثم تعبد عدماً من، من ضل في هذا الباب عبد عدماً، فخالف الغاية التي من أجلها خُلق. أنت خُلقت من أجل عبادة رب العالمين: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. وعبادة رب العالمين فرع عن معرفته. والأصل في من يقرأ الكتاب والسنة ويؤمن بما جاء فيهما يعرف رب العالمين، لكنه إن أتته وساوس الشياطين من الجن ومن الإنس، الجهمية، وأفراخ من الأشعرية في هذا الزمان، وغيره، ضل في معرفة ربه فعبد غيره، هذا بينهما تلازم لا يمكن الانفكاك بين الأمرين.

تصديق النصوص

كذلك هذا المبحث، مبحث معرفة رب العالمين، هذا أهميته تتعلق بتصديق النصوص. قلنا الأمر الأول أهميته تتعلق بمعرفة حقيقة المعبود، والأمر الثاني أهميته تتعلق بتصديق النصوص، لأنك إن لم تعرف ربك سيكون هذا تكذيباً للنصوص. ماذا ستفعل؟ تقول: لا، لا تحدثوا الناس بهذه الأمور، ولا تذكروا لهم هذه الأمور. لماذا؟ هل هم مطالبون بأن لا يصدقوا ما جاء في الكتاب والسنة؟ وأن يردوا ما جاء في الكتاب والسنة؟ وأن يحرفوا معاني ما جاء في الكتاب والسنة؟ قال الله عز وجل: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. وقال تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾. وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)﴾. وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٣)﴾. فالضلال في باب معرفة الرب جل وعلا كله تقول على الله بغير علم. وقال تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}. فالضلال في باب معرفة الرب هو نبذٌ للكتاب وراء الظهر.

جاء في مسند أحمد وسنن الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ [الأعراف: ١٤٣] قَالَ: «قَالَ: هَكَذَا، يَعْنِي أَنَّهُ أَخْرَجَ طَرَفَ الْخِنْصَرِ». انظر، تأتيهم الصفات فيعلمون على حقيقتها، وليس كما يقوله الجهمية الصرحاء، أعنى الأشاعرة، والجهمية المتسترون، يعني من ينتسب للسلفية وهو في الحقيقة جهمي أو مفوض، يقول: لا، السلف سكتوا عن المعاني، ثم اجتهد المتأخرون، بعضهم أول وبعضهم أثبت. لا، هذا كله كذب وزور، السلف لما جاءتهم الألفاظ اعتقدوا حقيقة معانيها.

جاء في الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «جَاءَ حَبْرٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَوْ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْجِبَالَ وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الْمَلِكُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ تَعَجُّبًا مِمَّا قَالَ الْحَبْرُ تَصْدِيقًا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.» قال الترمذي في السنن: “وَأَشَارَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ بِخِنْصَرِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ تَابَعَ حَتَّى بَلَغَ الْإِبْهَامَ”. قال عبد الله بن أحمد في السنة: “قال أبي رحمه الله: جَعَلَ يَحْيَى”، يعني ابن سعيد القطان، “يُشِيرُ بِأَصَابِعِهِ وَأَرَانِي أَبِي كَيْفَ جَعَلَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ يَضَعُ أُصْبُعًا أُصْبُعًا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا”. انظر، من هذا الحبر الذي وصف للنبي ﷺ فأقره النبي ﷺ تصديقاً له؟ وبعده عبد الله بن مسعود، وهكذا سائر الرواة، إذا قالوا: على إصبع، على إصبع، يشيرون بأصابعهم إثباتاً لحقيقة الصفة، إثباتاً لحقيقة الصفة.

جاء في سنن أبي داود عن أبي يُونُسَ سُلَيْمُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ [النساء: ٥٨] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: ٥٨] قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ، وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ». انظر، إذا قرأ النبي ﷺ: ﴿سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، أشار بإبهامه على أذنه تأكيداً وتحقيقاً لحقيقة معنى السمع، وأشار بسبابته إلى عينه تأكيداً لمعنى البصر على ظاهره وحقيقته. قال أبو داود في السنن: “قال: وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ”. وهذا رد على الجهمية، ماذا يقال هنا؟ هل يقال: إن النبي ﷺ ما ذكر أنه مجاز ولا غير مجاز، كما يقول ذاك المخذول؟ جاء في سنن ابن ماجه “عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «يَأْخُذُ الْجَبَّارُ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضَهُ بِيَدِهِ، وَقَبَضَ بِيَدِهِ فَجَعَلَ يَقْبِضُهَا وَيَبْسُطُهَا»، ثُمَّ يَقُولُ: «أَنَا الْجَبَّارُ، أَيْنَ الْجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ؟»، قَالَ: ” وَيَتَمَيَّلُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ، حَتَّى إِنِّي أَقُولُ: أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ”. إذاً الإشارة أو، أو استعمال الإشارة الحسية لتأكيد ظاهر معنى الصفة الحقيقي هذه سنة من لد النبي ﷺ والصحابة من بعده والأئمة، وليس هذا من باب التمثيل.

جاء في الصفات للدارقطني عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَا بِمَا جِئْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا»، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «هَكَذَا» وَأَشَارَ بإِصْبَعِهِ. انظر، قال: “بين إصبعين من أصابع الرحمن”، وأشار النبي ﷺ بإصبع. قال: “وقال رَسُولُ اللهِ ﷺ: هكذا، وأشار بإصبعيه”. وفي صحيح مسلم: “أن ابن مسعود حدث بحديث عن النبي ﷺ ثم ضحك، فَقَالَ: أَلَا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالُوا: مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مِنْ ضَحِكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّي وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ”. انظر، لما حدث النبي ﷺ عن ضحك الرب جل وعلا ضحك هو ﷺ، ولما حدث بذلك من بعده عبد الله بن مسعود ضحك كذلك، وكل هذا إثبات لحقيقة ضحك الرب جل وعلا. ولم يقل الصحابة: لا يهمنا الضحك هل هو على حقيقه أو مجاز، هذا في كلامك هذا تتهم الصحابة بكونهم لم يتدبروا ما جاءهم من الخير من في كتاب ربهم وسنة نبيهم ﷺ، ولم تعلو همتهم ولم ترتفع إلى معرفة ربهم، وهذا كذب على الصحابة، هذا كذب على الصحابة، تكون بذلك صنواً للرافضة، يسبون الصحابة وتزعم أنك ترد عليهم.

جاء عند أحمد وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ؟» تأمل هنا، هذا حديث أبي رزين، حديث عظيم. لما ذكر النبي ﷺ أن رب، أن رب العالمين جل وعلا ضحك من قنوط عباده وقرب غيره، لأن الله عز وجل يعلم أنه سيقلب حال هؤلاء الذين قد قنطوا، سيقلب إلى حال خير منه، لكنهم لا يعلم، هم لا يعلمون ذلك، والله رب العالمين بكل شيء عليم، فضحك الرب جل وعلا من قنوطهم وقرب غيرهم. فأبو رزين العقيلي لما سمع هذا سأل عن الأمر، لأن همته وهمه، جميع الصحابة، عالية، متطلعة، متشوقة إلى معرفة معبودهم، لا كما يقول هؤلاء الزنادقة. قال: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ، قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا». إذاً أبو رزين العقيلي رضي الله عنه لما سمع من النبي ﷺ هذا الكلام، تأكد منه ﷺ أنه على حقيقته. قال: أو يضحك رب العالمين؟ قال ﷺ: نعم. قال: لن نعدم من ربنا يضحك خيراً.

وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: قَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ قَدِمَ عَلَيْنَا شَرِيكٌ، فَقُلْنَا: إِنَّ قَوْمًا يُنْكِرُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ: «إِنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَالرُّؤْيَةَ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَنَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَنْ جَاءَنَا بِالسُّنَنِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا اللَّهَ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ». ها، ماذا ستقولون؟ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ قال: لا، لا، نحن مهتمون بأمور مهمة، وأنتم تشغلون الناس. انظر هكذا قالوا: تشغلون الناس بباب معرفة الرب، جعلوه إشغالاً للناس. وفي ذم الكلام للهروي: “سأل عبد الله بن طاهر إسحاق بن راهويه قال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي ترونها في النزول ما هي؟ قال إسحاق: أيها الأمير، هذه الأحاديث رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام”، وذكر أشياء، “فإن يكونوا مع هذه عدولاً، وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع”. فقال له: شفاك الله كما شفيتني. هكذا الشريعة، تجري جميع نصوصها على وزان واحد، لو قلت إن الصفات مجاز أنت بذلك، بذلك يلزمك كذلك أن تقول: إن الصلاة مجاز، وإن الزكاة مجاز، وإن الحج مجاز، حينئذٍ تبطل الشريعة بالكلية، مع كون إبطالك للباب الأول أعظم من إبطال سائر الشريعة، إبطالك لباب معرفة الرب جل وعلا أعظم من إبطالك للصلاة والزكاة والصوم والحج، هذا لمن، لمن عقل عن ربه، أما من كانت على عينيه غشاوة لا يفهم هذا. وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة: قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: «مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، فَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَسُولُهُ تَشْبِيهٌ». إذاً الكفر في الطرفين، من، من قال: سيأتي بعد ذلك في، في، في نفس هذه السلسلة بإذن الله، سيأتي تعريف للتشبيه، سيأتي، من إثبات الصفة ليس تشبيهاً، كما قال هنا: “فليس ما وصف الله به نفسه ورسوله تشبيه”. نكتفي بهذا في، في هذا الدرس الأول، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا، هذا، والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، ربي اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. ما زلنا مع سلسلة خطورة التهوين من معرفة رب العالمين. رأينا في الدرس الماضي الفصل الأول من هذه السلسلة، وهو فصل فيه بيان أهمية معرفة الله تعالى، أهمية معرفة الرب جل وعلا، وذكرنا فيه بيان حقيقة المعبود، أن هذا المبحث فيه بيان حقيقة المعبود، إذ لن فكاك بين معرفة معبودك وبين عبادته. وذكرنا أيضا أن هذا المبحث، وهو معرفة الرب جل وعلا، يرتبط بتصديق النصوص، إذ لو رفضت النصوص التي جاء فيها تعريف الرب سبحانه وتعالى بصفاته، كنت مكذبا ومعرضا عن هذه النصوص. ما زلنا في نفس الفصل وهو فصل بيان أهمية معرفة الله تعالى.

ولبيانه نقول أيضا: سمى أئمة الإسلام باب معرفة الرب جل وعلا، سموه بالتوحيد في كتبهم. ففي صحيح البخاري عقد كتاب التوحيد، وذكر فيه الصفات بابا بابا، كما نقلناه من كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. وكذلك سمى ابن خزيمة كتابه الذي رد به على الجهمية، وأثبت به الصفات سماه التوحيد. ومثله فعل ابن منده، فسماه التوحيد. وعثمان بن سعيد الدارمي في نقضه قال: “نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افتراه على الله في التوحيد”. إذا تعطيل الرب جل وعلا هذا نقض للتوحيد، وهذا يعرفه الأئمة، ولذلك سموا كتبهم التي صنفوها في هذا الباب بالتوحيد. وكذلك الأئمة صنفوا في هذا الباب، أي في باب معرفة الرب جل وعلا، أثناء أمهات كتب الحديث ومسانده، كما صنفوا مصنفات خاصة ببيان هذا الباب. معنى هذا الذي يقول: لا اهتمام بهذا الأمر، وجمع الصفات في باب واحد! هذا نفس كلام الجهمية، نفس كلام الجويني، وكلام الغزالي الجهميين نفسه. هذا هو نفس عين كلامهم، يقولون: جمع الصفات، انتقدوا ابن خزيمة جمعه للصفات في كتاب التوحيد، وقالوا: جمع الصفات في كتاب واحد، وفي باب واحد، سيوهم الظاهر عندهم، هم إيهام الظاهر كما يقولون، تشبيه وتجسيم. وإذا سمعت الجهمية يقول لك تجسيم، فاعلم أن قصده هو تعطيل الرب جل وعلا، وقصده أن تعتقد أنه لا رب في الحقيقة، بل هو معنى من المعاني، كما قاله الغزالي في كتابه الجام العوام. والعجيب، هذا كتاب الغزالي الجام العوام، هذا كتاب من أوله إلى آخره يقرر أصول الكفر، يقرر أصول الجهمية. والعجيب أن بعض المنتسبين للسلفية يستدل بهذا الكتاب على توبة الغزالي! يقولون: الغزالي تاب. ما هو دليلكم؟ قالوا: كتاب الجام العوام! هذا الكتاب هو عين الكفر، كيف هو تاب بكتاب كفري؟! هذا أمر عجيب! فقلنا: الأئمة صنفوا في هذا الباب أثناء أمهات الكتب في كتب الحديث، مسانيد، وكما صنف مصنفات خاصة بالباب.

جاء في إبطال التأويلات «عن سَهْلُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ خَرَّجَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ أَحَادِيثَ الرُّؤْيَةِ، وَجَمَعَهَا مِنَ الْبَصْرِيِّينَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ إِخْوَانِهِ: يَا أَبَا سَلَمَةَ، لَقَدْ سَبَقْتَ إِخْوَانَكَ بِجَمْعِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ فِي الْوَصْفِ، قَالَ: سَمِعْتُ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ، يَقُولُ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا دَعَتْنِي نَفْسِي إِلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ إِلا أَنِّي رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ رَأَيْتُ الْعِلْمَ يَخْرُجُ، يَقُولُهَا ثَلاثًا وَهُوَ يَنْفُضُ كَفَّهُ، فَأَحْبَبْتُ إِحْيَاءَهُ وَبَثَّهُ فِي الْعَامَّةِ لِئَلا يَطْمَعَ فِي خُرُوجِهِ أَهْلُ الأَهْوَاءِ». تأمل سبحان الله! ولما رأى العلم يخرج، كما يريد هؤلاء المنتسبين زورا للسلفية، يريدون أن يخرج العلم بمعرفة الرب جل وعلا، هذا حماد بن سلمة رحمه الله، لما رأى العلم يخرج، أراد إحياء العلم. انظر، سمى هذه القضية سماها علما، وهؤلاء يقولون لك: لا، لا تشغل الناس بهذا، ولا تهمهم. قال: لا، لأن جمع الصفات في باب واحد يوهم العامة. هذا نفس كلام الجهمية نفسه بعينه، حرفا حرفا، لفظا لفظا، معنى معنى.

قال الدارمي عثمان بن سعيد الإمام الجليل في الرد على الجهمية: «فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَدْ جَاءَتْ كُلُّهَا وَأَكْثَرُ مِنْهَا فِي نُزُولِ الرَّبِّ عز وجل فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ، وَعَلَى تَصْدِيقِهَا وَالْإِيمَانِ بِهَا أَدْرَكْنَا أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْبَصَرِ مِنْ مَشَايِخِنَا، لَا يُنْكِرُهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ رِوَايَتِهَا، حَتَّى ظَهَرَتْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ فَعَارَضَتْ آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِرَدٍّ، وَتَشَمَّرُوا لِدَفْعِهَا بِجَدٍّ». انظر هنا، هذا سبحان الله! أليس الله بأحكم الحاكمين؟ والله يعلم وأنتم لا تعلمون. هذا كله أين تذهبون به؟ تقول: لا تروا هذا الكلام، ولا تحدثوا الناس بهذا الكلام. وإذا قرأوا القرآن ماذا نفعل معهم؟ نقول لهم: لا تقرأوا هذه الآيات التي جاء فيها وصف الرب تبارك وتعالى! بل كما قلنا في الدرس الأول، أعظم آية في كتاب الله هي الآية التي وصفت رب العالمين.

جاء في السنة للخلال قال: «وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدَقَةَ، يَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يَوْمًا، وَذَكَرَ حَدِيثَ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا حَدَّثَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَكَمْ تَرَى كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، عِشْرِينَ أَلْفًا، فَتَرَى لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَامَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَهُ، تَرَاهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَّ إِلَّا وَقَدْ قُتِلَ، قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ، وَصَدَقَ، مَا حُكْمُهُ عِنْدِي إِلَّا الْقَتْلُ».

وعقد ابن بطة في الإبانة الكبرى بابا سماه: باب جامع، تأمل، «بَابٌ جَامِعٌ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ، وَالشُّيُوخُ الثِّقَاتُ، الْإِيمَانُ بِهَا مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ، وَكَمَالِ الدِّيَانَةِ، لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ». لا، لم يقل هؤلاء: لا نجمعها لأن جمعها يوهم، بالعكس، جمعها هو الذي يجعل تعظيم الرب يستقر في قلب سامعها. أما الخوف من جمعها والاستيحاش من جمعها هذا فرع عن تأثرك بكلام الجهمية والمعطلة لأنك ترى أن الجمع كما قال ذاك الذي يزعم أنه سلفي يرد على الرافضة قال: قال: سيوهم التجسيم. التجسيم عند الجهمية، المعنى الذي ينفيه الجهمية من لفظ التجسيم هو إثبات الرب جل وعلا وإثبات صفاته، والمعنى الذي يريدونه من نفي التجسيم هو تعطيل الرب كما قالوا: أن تعتقد أن الله معنى من المعاني، أي لا ذات له في خارج ذهنك. وهذا هو عين التعطيل كما قال الأئمة، قال: إنما يحاول الجهمية أن يقولوا: إنه ليس فوق العرش إله، والآن يصرحون بذلك.

قال هنا: باب جامع، ابن بطه في الإبانة الكبرى: «بَابٌ جَامِعٌ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ، وَالشُّيُوخُ الثِّقَاتُ، الْإِيمَانُ بِهَا مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ، وَكَمَالِ الدِّيَانَةِ، لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا جَهْمِيٌّ خَبِيثٌ». قال أبو المظفر السمعاني في الانتصار لأصحاب الحديث: «فَإِن قَالَ قَائِل إِن الْخَوْض فِي مسَائِل الْقدر وَالصِّفَات وَشرط الْإِيمَان يُورث التقاطع والتدابر وَالِاخْتِلَاف فَيجب طرحها والإعراض عَنْهَا على مَا زعمتم. الْجَواب إِنَّمَا قُلْنَا هَذَا فِي الْمسَائِل المحدثة»، بمعنى: ما الذي يوجب التدابر هو أن تتكلم في الإيمان بكلام المرجئة، وتتكلم في القدر بكلام القدرية أو الجبرية، وتتكلم في الصفات بكلام الجهمية. أما أن تتكلم في الإيمان بما جاء في الشرع، وتتكلم في القدر بما جاء في الشرع، وتتكلم في صفات الباري جل وعلا بما جاء في الشرع، هذا لا يوجب التقاطع والتدابر، بل يوجب التألف. قال أبو المظفر: قال: «إِنَّمَا قُلْنَا هَذَا فِي الْمسَائِل المحدثة فَأَما الْإِيمَان فِي هَذِه الْمسَائِل فَهُوَ من شَرط أصل الدّين ولابد من قبُوله على نَحْو مَا ثَبت فِيهِ النَّقْل عَن رَسُول الله ﷺ وَأَصْحَابه وَلَا يجوز لنا الْإِعْرَاض عَن نقلهَا وروايتها وبيانها لتفرق النَّاس فِي ذَلِك كَمَا فِي أصل الْإِسْلَام وَالدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد وَإِظْهَار الشَّهَادَتَيْنِ وَقد ظهر بِمَا قدمنَا وَذكرنَا بِحَمْد الله وَمِنْه أَن الطَّرِيق الْمُسْتَقيم مَعَ أهل الحَدِيث وَأَن الْحق مَا نقلوه وَرَوَوْهُ». إذا الذي يزعم أن الكلام في هذه القضايا يورث التقاطع والتدابر، ويوجب الفتنة، جوابه أن يقال له: نعم، الكلام في هذه القضايا بقول المبتدعة والزنادقة والمخالفين هو الذي يوجب ما ذكرت. نعم، إن تكلمت في الصفات بكلام الجهمية، فعطلت الرب جل وعلا عن صفاته، هذا يوجب الفرقة، ويوجب التدابر والتقاطع. أما الكلام في صفات الباري بإثبات ما أثبته الرب جل وعلا لنفسه، وتصديقه في ذلك، وتصديق رسله، هذا لا يوجب التقاطع ولا التدابر.

نذكر هنا كلام أبي العباس ابن تيمية في التسعينية، حيث كُتب لابن تيمية بأمر، طلبوا منه، هذا الذي يطلبه منا هؤلاء المنتسبون للسلفية، طلب منه الأشاعرة أن يكف عن الكلام في هذه القضايا، وطلبوا منه أن يكتب إقرارا عن نفسه بذلك مثل الذي يسمى اليوم بالتعهد أو الالتزام، بأنه لن يتكلم في هذه القضايا. فقال هنا في التسعينية: «أَنَّ كُتُبَ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، بَلْ قَدْ بُوِّبَ فِيهَا أَبْوَابٌ مِثْلُ كِتَابِ التَّوْحِيدِ وَالرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ «الَّذِي هُوَ آخِرُ كِتَابِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمِثْلُ كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَكِتَابِ النُّعُوتِ» فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ فَإِنَّ هَذِهِ مُفْرَدَةٌ لِجَمْعِ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَكَذَلِكَ قَدْ تَضَمَّنَ «كِتَابُ السُّنَّةِ» مِنْ سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَا تَضَمَّنَهُ وَكَذَلِكَ تَضَمَّنَ صَحِيحُ مُسْلِمٍ، وَجَامِعُ التِّرْمِذِيِّ، وَمُوَطَّأُ مَالِكٍ. وَمُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمُسْنَدُ مُوسَى بْنِ قُرَّةَ الزُّبَيْدِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، وَمُسْنَدُ ابْنِ وَهْبٍ، وَمُسْنَدُ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ. وَمُسْنَدُ مُسَدَّدٍ، وَمُسْنَدُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَمُسْنَدُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيِّ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُسْنَدُ بَقِيٍّ بْنِ مَخْلَدٍ، وَمُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ. وَمُسْنَدُ الدَّارِمِيِّ، وَمُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَمُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ، وَمُسْنَدُ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، وَمُسْنَدُ أَبِي بَكْرٍ الْبَزَّارِ، وَمُعْجَمُ الْبَغَوِيّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، وَصَحِيحُ أَبِي حَاتِمِ بْنِ حِبَّانَ، وَصَحِيحُ الْحَاكِمِ، وَصَحِيحُ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، وَالْبَرْقَانِيِّ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَالْجَوْزَقِيِّ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْأُمَّهَاتِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ: دَعْ مَا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ مُصَنَّفَاتِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَجَامِعِ الثَّوْرِيِّ، وَجَامِعِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُصَنَّفَاتِ وَكِيعٍ، وَهُشَيْمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَمَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ. فَهَلْ امْتَنَعَ الْأَئِمَّة مِنْ قِرَاءَةِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ. أَمْ مَا زَالَتْ هَذِهِ الْكُتُبُ يَحْضُرُ قِرَاءَتَهَا أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ مِنْ عَوَامِّ الْمُؤْمِنِينَ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمَّا حَدَّثَ بِهَا الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْمُخَالِفِينَ، هَلْ كَانُوا يُخْفُونَهَا عَنْ عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَكَاتَمُونَهَا وَيُوصُونَ بِكِتْمَانِهَا، أَمْ كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِهَا كَمَا كَانُوا يُحَدِّثُونَ بِسَائِرِ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».

وقال أيضا في التسعينية: «أَنَّ سَلَفَ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتَهَا مَا زَالُوا يَتَكَلَّمُونَ وَيُفْتُونَ وَيُحَدِّثُونَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهُ إلَّا اللَّهُ، حَتَّى إنَّهُ لَمَّا جَمَعَ النَّاسُ الْعِلْمَ وَبَوَّبُوهُ فِي الْكُتُبِ، فَصَنَّفَ ابْنُ جُرَيْجٍ التَّفْسِيرَ وَالسُّنَنَ، وَصَنَّفَ مَعْمَرٌ أَيْضًا، وَصَنَّفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَقْدَمِ مَنْ صَنَّفَ فِي الْعِلْمِ صَنَّفُوا هَذَا الْبَابَ، فَصَنَّفَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ، كَمَا صَنَّفَ كُتُبَهُ فِي سَائِرِ أَبْوَابِ الْعِلْمِ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ مَالِكًا إنَّمَا صَنَّفَ الْمُوَطَّأَ تَبَعًا لَهُ، وَقَالَ: جَمَعْت هَذَا خَوْفًا مِنْ الْجَهْمِيَّةِ أَنْ يُضِلُّوا النَّاسَ، لَمَّا ابْتَدَعَتْ الْجَهْمِيَّةُ النَّفْيَ وَالتَّعْطِيلَ حَتَّى إنَّهُ لَمَّا صُنِّفَ الْكُتُبُ الْجَامِعَةُ، صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا كَمَا صَنَّفَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ الْخُزَاعِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُعْفِيُّ شَيْخُ الْبُخَارِيِّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ كِتَابَهُ فِي الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَكِتَابَهُ فِي النَّقْضِ عَلَى الْمَرِيسِيِّ وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رِسَالَتَهُ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ وَالرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَأَمْلَى فِي أَبْوَابِ ذَلِكَ حَتَّى جَمَعَ كَلَامَهُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ وَصَنَّفَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ كِتَابَهُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَصَنَّفَ كُتُبَ السُّنَّةِ فِي الصِّفَاتِ طَوَائِفُ مِثْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ، وَحَنْبَلِ بْنِ إِسْحَاقَ، وَأَبِي بَكْرٍ الْأَثْرَمِ، وَخُشَيْشِ بْنِ أَصْرَمَ شَيْخِ أَبِي دَاوُد. وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي عَاصِمٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيِّ وَلِأَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ، وَأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَأَبِي أَحْمَدَ الْعَسَّالِ وَأَبِي بَكْرٍ الْآجُرِّيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ، كِتَابُ الصِّفَاتِ وَكِتَابُ الرُّؤْيَةِ؛ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَنْدَهْ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بَطَّةَ، وَأَبِي قَاسِمٍ اللَّالَكَائِيِّ، وَأَبِي عُمَرَ الطَّلْمَنْكِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.».

إذا انظر! هذه كتب صنفها الأئمة في هذا الباب وفي هذا الشأن، ولم ينكر أحد من أهل السنة تصنيفهم لهذا، وجمعهم لهذا، وتحديثهم بهذا، وإقراء لهذه الكتب في المساجد على العامة والخاصة، لم ينكر أحد قط، حتى نجمت هذه الفرقة الجهمية، وتغلغلت في الأمة، وأثرت في هؤلاء الذين ينتسبون كذبا وزورا للسلفية. وهذا الباب، هذا ينتبه له، هذا باب العقيدة بعامة، لا يمكن ولا يصح لأحد أن يتكلم فيه إن لم يكن ذا خبرة بكتب أهل السنة الأصلية في هذا الباب. تخيلوا لو حصل نزاع في علم الحديث مثلا، أو في حديث رَسُولُ اللهِ، أو مسألة حديثية، هل يقول أحد: أنا سأشارك أهل العلم في هذه القضية، وسأدلي بدلوي؟ فإذا سألناه: ماذا قرأت؟ يذكر لنا كتابا مختصرا من كتب المتأخرين! لا يمكن أن يتكلم في الحديث من كان غير قارئ قط لصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه، ومسند أحمد، وموطأ مالك، وسنن الدارمي، وغيره من الكتب الأصلية في علم الحديث. فمن كان غير خبير بهذه الكتب لا يصح له أن يكلم الناس، ولا أن يتوسع في الكلام عن الحديث وفي علم الحديث. ومن باب أولى وأحرى أن لا يدخل في نزاعات، ولا في نقاشات. ومثل ذلك، بل هو من باب أولى، يقال في باب العقيدة: من كان غير خبير بكتب العقائد المسندة، التي هي دواوين أهل السنة في باب العقيدة، من كان غير خبير بها، لا يصح له أن يتكلم في العقيدة، ولا أن ينازع فيها، ولا أن يعترض، ولا أن يشوش، ولا أن يشغب، ولا أن يتدخل فيقول: فلان الذي أنكرتم عليه، واتهمتموه بموافقة الجهمية في يوم عرفة، هو لم يخطئ، وأنتم فهمتم، وأنتم ساء فهمكم، وكان فهمكم خطأ. هذا أنت ما دخلك في هذا، ولا علم لك.

وكثير من المتأخرين ممن ينتسب للسلفية كذبا وزورا لا خبرة له البته بكتب العقائد المسندة، مثل الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد، والرد على الجهمية للدارمي، وكتاب البدع لابن وضاح، والسنة لعبد الله بن الإمام أحمد، والسنة للخلال، والقدر للفريابي، والتوحيد لابن خزيمة، والشريعة للآجري، وشرح مذاهب أهل السنة لابن شاهين، والصفات للدارقطني، والابانة الصغرى والكبرى لابن بطه، والتوحيد والإيمان كلاهما لابن منده، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، ومختصر الحجة على تارك المحجة لأبي الفتح المقدسي، والحجة في بيان المحجة لأبي القاسم الأصبهاني، وغيرها من الدواوين الأصلية التي ينبغي أن يكون للسني نظر فيها واعتناء بها، حتى يفهم معتقد أهل السنة، وحتى ينجو من تشغيب المخالفين. فحينئذ يمكنه أن يتكلم في هذه القضايا. أما أحد أقصى ما حصله في عقيدة أهل السنة أنه قرأ مختصرا لمتأخر، هذا لا يمكنه أن يشارك، ولا أن يتكلم، وحقه في هذا الباب السكوت، أن يسكت ويسأل: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. أما أن يتكلم، ويشغل، ويأتينا بقضايا سبحان الله! من خذلان الله لهم، يذكرون كلاما، ثم يقول: أنا والله ما قرأته للأشعري! الذي أوحى هذا الكلام للجويني والغزالي هو نفسه الذي أوحاه لك أنت. نعم، ما قرأته، نصدقك أنك لم تقرأ هذا للأشعرية، لكنك أتيت بنفس لفظ الكلام! ذاك الكلام الذي قيل في عرفة، كل ما جاء ببالك فالله بخلاف ذلك، هذا نفسه قاله جهم بن صفوان، ورد عليه الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية. أتى بنفس هذا الكلام، ورد عليه الإمام أحمد. وذاك الذي قال: لا تجمعوا، لا تجمع أحاديث الصفات، والكلام في الصفات في باب واحد، لأن هذا يوهم التجسيم. هذا هو عينه الذي قاله الجويني، وقاله الغزالي، هو هو بعينه. نعم، أنت لم تقرأ لهم ذلك، لكن الشيطان الذي أوحى لهم هذا، هو نفسه الذي أوحاه لك. أوحى لهم هذا كي يعطل المؤمنون ربهم، وأوحى لك ذلك كي تكون قنطرة لأهل السنة إلى التعطيل. كي تكون، سواء دريت أو لم تدري، ستكون قنطرة ينتقل بها السني من التوحيد والسنة إلى التعطيل والشرك، عياذا بالله تعالى.

باب معرفة الرب جل وعلا محل إجماع بين أهل العلم من أهل السنة

كذلك يقال تحت هذا الفصل، في فصل أهمية معرفة الرب جل وعلا: أن هذا الباب، باب معرفة الرب جل وعلا، محل إجماع بين أهل العلم من أهل السنة. لا، ليس بابا خلافيا حتى نزجر ونقول: ربما الحديث فيه قد يورث التقاطع والتدابر. قال أبو المظفر السمعاني في الانتصار لأصحاب الحديث: قال: «وَمِمَّا يدل على أَن أهل الحَدِيث هم على الْحق: أَنَّك لَو طالعت جَمِيع كتبهمْ المصنفة من أَوَّلهمْ إِلَى آخِرهم قديمهم وحديثهم مَعَ اخْتِلَاف بلدانهم وزمانهم وتباعد مَا بَينهم فِي الديار وَسُكُون كل وَاحِد مِنْهُم قطرا من الأقطار وَجَدتهمْ فِي بَيَان الِاعْتِقَاد على وتيرة وَاحِدَة ونمط وَاحِد يجرونَ فِيهِ على طَريقَة لَا يحيدون عَنْهَا وَلَا يميلون فِيهَا قَوْلهم فِي ذَلِك وَاحِد وفعلهم وَاحِد لَا ترى بَينهم اخْتِلَافا وَلَا تفَرقا فِي شَيْء مَا وَإِن قل بل لَو جمعت جَمِيع مَا جرى على ألسنتهم ونقلوه عَن سلفهم وجدته كَأَنَّهُ جَاءَ من قلب وَاحِد وَجرى على لِسَان وَاحِد وَهل على الْحق دَلِيل أبين من هَذَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿أَفلا يتدبرون الْقُرْآن وَلَو كَانَ من عِنْد غير الله لوجدوا فِيهِ اخْتِلَافا كثيرا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم إِذْ كُنْتُم أَعدَاء فألف بَين قُلُوبكُمْ فأصبحتم بنعمته إخْوَانًا﴾. وَأما إِذا نظرت إِلَى أهل الْأَهْوَاء والبدع رَأَيْتهمْ مُتَفَرّقين مُخْتَلفين وشيعا وأحزابا لَا تكَاد تَجِد اثْنَيْنِ مِنْهُم على طَريقَة وَاحِدَة فِي الِاعْتِقَاد يبدع بَعضهم بَعْضًا بل يرتقون إِلَى التَّكْفِير يكفر الابْن أَبَاهُ وَالرجل أَخَاهُ وَالْجَار جَاره تراهم أبدا فِي تنَازع وتباغض وَاخْتِلَاف تَنْقَضِي أعمارهم وَلما تتفق كلماتهم ﴿تحسبهم جَمِيعًا وَقُلُوبهمْ شَتَّى ذَلِك بِأَنَّهُم قوم لَا يعْقلُونَ﴾. أَو مَا سَمِعت أَن الْمُعْتَزلَة مَعَ اجْتِمَاعهم فِي هَذَا اللقب يكفر البغداديون مِنْهُم الْبَصرِيين والبصريون مِنْهُم البغداديون وَيكفر أَصْحَاب أبي عَليّ الجبائي ابْنه أَبَا هَاشم وَأَصْحَاب أبي هَاشم يكفرون أَبَاهُ أَبَا عَليّ، وَكَذَلِكَ سَائِر رؤوسهم وأرباب المقالات مِنْهُم إِذا تدبرت أَقْوَالهم رَأَيْتهمْ مُتَفَرّقين يكفر بَعضهم بَعْضًا ويتبرأ بَعضهم من بعض، وَكَذَلِكَ الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض فِيمَا بَينهم وَسَائِر المبتدعة بمثابتهم. وَهل على الْبَاطِل دَلِيل أظهر من هَذَا قَالَ تَعَالَى ﴿إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله﴾. وَكَانَ السَّبَب فِي اتِّفَاق أهل الحَدِيث أَنهم أخذُوا الدّين من الْكتاب وَالسّنة وَطَرِيق النَّقْل فأورثهم الِاتِّفَاق والائتلاف وَأهل الْبِدْعَة أخذُوا الدّين من المعقولات والآراء فأورثهم الِافْتِرَاق وَالِاخْتِلَاف فَإِن النَّقْل وَالرِّوَايَة من الثِّقَات والمتقنين قَلما يخْتَلف وَإِن اخْتلف فِي لفظ أَو كلمة فَذَلِك اخْتِلَاف لَا يضر الدّين وَلَا يقْدَح فِيهِ وَأما دَلَائِل الْعقل فقلما تتفق بل عقل كل وَاحِد يري صَاحبه غير مَا يري الآخر وَهَذَا بَين وَالْحَمْد لله.»

إذا أهل السنة متفقون على أبواب العقائد، وخاصة في هذا الباب، بل هذا الباب، هذا تأمله جيدا، هذا الباب هو محل، هو محل إجماع بين المسلمين ولو كانوا من أهل الأهواء. هذا ينتبه له جيدا، هذا الباب، باب معرفة الرب خاصة، هو محل إجماع بين المسلمين ولو كانوا من أهل الأهواء، ولم يفارقنا في هذا إلا الجهمية، ثم من كان من أفراخ الجهمية، ثم من تأثر بالجهمية. بمعنى، أول ما نجمت الفرق من أهل الأهواء، لم يفارقوا أهل السنة في هذا الباب خاصة، فالمرجئة لا يفارقون أهل السنة في باب معرفة الرب، المرجئة الأوائل، والشيعة الأوائل لم يفارقوا أهل السنة في باب معرفة الرب، والقدرية الأوائل لم يفارقوا أهل السنة في باب معرفة الرب، والخوارج الأوائل لم يفارقوا أهل السنة في باب معرفة الرب، حتى نجمت الجهمية، ففارقوا أهل السنة، وفارقوا أهل الإسلام في باب معرفة الرب. فهذا الباب الذي يهون فيه هؤلاء هو محل إجماع بين أهل السنة، بل محل إجماع بين أهل الإسلام. أما المتأخرون من أهل الأهواء فكلهم صاروا على عقائد الجهمية. الروافض الآن جهمية في باب معرفة الرب، والخوارج، أعني الأباضية، جهمية في باب معرفة الرب، وهكذا. لكن أتحدث عن أهل الأهواء الأوائل.

قال عثمان بن سعيد الدارمي في النقض: «افْتَتَحَ هَذَا المُعَارِضُ كِتَابَهُ بِكَلَامِ نَفْسِهِ مُثَنِّيًا بِكَلَام المَرِيسِيِّ، مُدَلِّسًا عَلَى النَّاسِ بِمَا يَهمُ أَنْ يَحْكِيَ وَيُرِي مَنْ قِبَلَهُ مِنَ الجُهَّالِ وَمَنْ حَوَالَيْهِ مِنَ الأَغْمَارِ، أَنَّ مَذَاهِبَ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ فِي التَّوْحِيدِ؛ كَبَعْضِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الإِيمَانِ فِي القَوْلِ وَالعَمَلِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّشَيُّعِ وَالقَدَرِ، وَنَحْوِهَا؛ كَيْ لَا ينفرُوا مِنْ مَذَاهِبِ جَهْمٍ وَالمَرِيسِيِّ أَكْثَرَ مِنْ نُفُورِهِمْ مِنْ كَلَامِ الشِّيعَةِ والمُرْجِئَةِ والقَدَرِيَّةِ. وَقَدْ أَخْطَأَ المُعَارِضُ مَحَجَّةَ السَّبِيلِ، وَغَلَطَ غَلَطًا كَثِيرًا فِي التَّأْوِيلِ، لما أَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ لَمْ يُكَفِّرْهُمُ العُلَمَاءُ بِشَيْءٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ، وَالمَرِيسِيُّ وَجَهْمٌ وأصحابُهم؛ لَمْ يَشُك أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي إِكْفَارِهِمْ».

تأمل هنا، ليس الذي خالفنا في باب الإيمان، فأخرج العمل عن مسماه، كالذي فارقنا وخالف في معرفة الرب جل وعلا. ينتبه لهذا جيدا، هذا، هذا الأول مع ضلاله وبدعته، ما زال في باب معرفة الرب موافقا، ولا يجعله، لا تجعله موافقته من أهل السنة، لكن موافقته تجعله من أهل الإسلام إن لم يتلبس بنواقض أخرى. لكن مخالفته في باب الإيمان، وإخراج العمل عن مسماه، وجعله قولا كقول المرجئة، لا تخرجه عن الإسلام. لكن الذي فارقنا في باب معرفة الرب جل وعلا خرج عن الإسلام. ولذلك هنا قال: «لما أَنَّ هَذِهِ الفِرَقَ لَمْ يُكَفِّرْهُمُ العُلَمَاءُ بِشَيْءٍ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ، وَالمَرِيسِيُّ وَجَهْمٌ وأصحابُهم؛ لَمْ يَشُك أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي إِكْفَارِهِمْ». ومر معنا قول وكيع في السنة لعبد الله قال: «كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ». انظر، كل صاحب هوى يعرف الله ويعرف من يعبد، المرجئة يعرفون الله ويعرفون من يعبدون، والقدرية، والشيعة، أعني في كلامي هذا دائما إذا أطلقته الأوائل، والخوارج كذلك، كلهم كانوا في بداية، في بداية ظهور هذه الفرق، ظهروا مفارقين السنة في أبواب أخرى، ليس هو باب معرفة الرب جل وعلا. فكانوا في بادئ ظهور هذه الفرق كانوا يعرفون الله ويعرفون من يعبدون. قال وكيع: «كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ، إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ، بِشْرٌ الْمِرِّيسِيُّ وَأَصْحَابُهُ».

إذا كما قلنا، هذا الباب مما اجمع عليه أهل السنة، بل اجمع عليه أهل الإسلام، ولم يفارقنا فيه أحد إلا الجهمية الكفار، والمفارقة في هذا الباب تلحق صاحبها بالجهمية الكفار. ولذلك وجب على الدعاة، ووجب على من، من يحرص على الإسلام والسنة، أن يبين للناس أهمية هذا الباب، وأن يعلم الناس أهمية معرفة ربهم خاصة، وأنه قد علت في هذا الزمان أصوات الجهمية وأفراخهم من الأشاعرة الذين يصدون الناس عن معرفة الرب جل وعلا، والذين يصورون للناس ربا آخر، وهو العدم المحض، كي تنصرف عبادة الناس لهذا العدم، هذا الذي يدعو إليه الأشاعرة، الأشاعرة يدعون الناس لأن يصرفوا عبادتهم للعدم المحض.

٢. خطورة الغلط في باب معرفة الله

لذلك نشرع في الفصل الثاني، وهو خطورة الغلط في باب معرفة الله. هذا باب الغلط فيه خطير ولو جهلا، ولو تقليدا. قال ابن منده في كتابه التوحيد: قال: ذكر الدليل على أن المجتهد المخطئ في معرفة الله عز وجل ووحدانيته كالمعاند. تأمل، ابن منده عقد بابا في كتاب التوحيد، قال: «ذِكْرُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ المُجْتَهِدَ المُخْطِئَ فِي مَعْرِفَةِ الله عز وجل ووَحْدَانِيَّتِهِ كَالمُعَانِدِ»، هما سواء. هذا باب لا بد من ضبطه وفهمه بما دل عليه من الكتاب والسنة، لأن الخطأ فيه ولو كان عن اجتهاد من اجتهد وأخطأ في هذا الباب كان كالمعاند. ما زال الكلام لابن منده في التوحيد: «قَالَ الله تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ ضَلَالَتِهِمْ وَمُعَانَدَتِهِمْ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾».

وجاء في ذم الكلام، سئل الشافعي عن مسألة من الكلام فقال، وهذه قاعدة التي سيقررها الشافعي رحمه الله هنا في غاية النفاسة، قال الشافعي لما سئل عن مسألة من الكلام: قال: «سَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ، قُلْتَ: أخْطَأْتَ، وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ قُلْتَ: كَفَرْتَ». تأمل، تأمل يا رعاك الله! هذا الباب لا تتكلم فيه بجهل، لو كنت جاهلا له اسكت، وأعن المسلمين بسكوتك. أما أن تخوض وأنت على غير خبرة بهذا الباب، ولا مطلعا للدواوين التي دونها أهل السنة، وضبط فيه باب المعتقد، إذا كنت غير خبير بها فلا تخض فيه بجهل، فتأتينا بقواعد كلامية وتقريرات بدعية، لأنك في هذا الباب خاصة إذا أخطأت لا نقول لك: أخطأت، بل نقول لك: كفرت. أما الخطأ في غيره، لو أخطأت في الفقه، لو أخطأت في الحديث، لو أخطأت في غير ذلك، نقول لك: أخطأت. لماذا الإمام الشافعي رحمه الله امتنع عن الخوض في الكلام؟ لأن الكلام هو بحث في الرب جل وعلا بقواعد غير قواعد الشريعة، يبحثون في الرب جل وعلا منطلقين من أصل المادة بتقريرات كلامية، الجوهر والعرض، والمادة، فيخلصون إلى نتائج، يخلصون إلى نتائج مدلولها تعطيل الرب بالكلية، وعبادة العدم. وهذه هي عقيدة الجهمية وعقيدة الأشاعرة. هذا الخوض، وهذا الكلام، وهذا الجهل في باب معرفة الرب جل وعلا، الخطأ فيه كفر، ولذلك قال الشافعي، وما أنفسه من كلام: قال: «سَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ، قُلْتَ: أخْطَأْتَ، وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ قُلْتَ: كَفَرْتَ». فالخطأ كفر، ومن أخطأ في هذا الباب فعطل مجتهدا مخطئا كان كالمعاند، كما قاله ابن منده.

٣. بيان قاعدة أهل السنة والإيمان في معرفة الرب جل وعلا

الفصل الثالث من هذه السلسلة: بيان قاعدة أهل السنة والإيمان في معرفة الرب جل وعلا، لأن هذا الباب باب عظيم، معرفته، وتعلّمه، وضبطه، وفهمه عن الله عز وجل من آكد ما يجب عليك أيها المسلم. وهذا علمته في الفصل الأول، والفصل الثاني بينت لك أن الخطأ فيه من أخطر ما يكون. في هذا الفصل أبين لك قاعدة أهل السنة التي تسلمك من شباك أهل الإشراك الذين يقصدون إلى تجهيلك بربك، ويقصدون إلى دفعك إلى صرف عبادتك إلى غير الرب جل وعلا بتصور رب آخر غير الرب جل وعلا الذي خلقك، ورزقك، وأرسل إليك رسله، وأنزل كتبه، وشرع لك شرائعه. فحينئذ يجب أن تعرف قاعدة أهل السنة والإيمان في هذا الباب.

طريقة أهل السنة والإيمان في هذا الباب: إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على معانيها الحقيقية، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

قال الآجري في الشريعة: «اعْلَمُوا وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلرَّشَادِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ يَصِفُونَ اللَّهَ عز وجل بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عز وجل، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنِ اتَّبَعَ وَلَمْ يَبْتَدِعْ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: كَيْفَ؟ بَلِ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ».

وقال ابن بطه في الإبانة الكبرى: «اعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ تَصْدِيقَ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ، وَتَلَقِّيَهَا بِالْقَبُولِ، وَتَرْكَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا بِالْقِيَاسِ وَمُوَاضَعَةِ الْقَوْلِ بِالْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ تَصْدِيقٌ، وَالْمُؤْمِنَ هُوَ الْمُصَدِّقُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]، فَمِنْ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَصِفُوا اللَّهَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِمَّا نَقَلَتْهُ الْعُلَمَاءُ، وَرَوَاهُ الثِّقَاتُ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ، الَّذِينَ هُمُ الْحُجَّةُ فِيمَا رَوَوْهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالسُّنَنِ وَالْآثَارِ، وَلَا يُقَالُ فِيمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ؟ وَلَا لِمَ؟ بَلْ يَتَّبِعُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ، وَيُسَلِّمُونَ، وَلَا يُعَارِضُونَ، وَيَتَيَقَّنُونَ وَلَا يَشْكُونَ وَلَا يَرْتَابُونَ».

إذا هذه قاعدة أهل السنة في معرفة صفات الباري جل وعلا، أنهم يثبتونه على الحقيقة، ويصدقون ما ورد من النصوص، ويخلصون من التعطيل، ومن التكييف، ومن التمثيل، ومن غير ذلك، ويخلصون كذلك من التحريف، لا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، أي لا يبحثون في كيفيتها. لا يقال: كيف؟ ولا يقال: لما؟ لا يقال: لما؟ ينزل وينزل كما جاء في النص. ولا يقال: كيف ينزل؟ تؤمن بنزوله على الحقيقة. وبعض من يزعم أنه سلفي يذكر اللفظ ثم ينفي مدلوله، يقول: نزولا من غير، هكذا قال ذاك في عرفة: قال: من غير تحيز ولا انتقال. هذا نفس كلام الجهمية بعينه، هو كلام الجهمية، يثبتون اللفظ ثم يفرغونه من مدلوله، وينفون عنه مدلوله ومعناه، ويعطلونه عن معناه. يقول: ينزل، لكن من غير انتقال ولا تحيز. فيصير النزول مجرد لفظ، ثم بعد ذلك يخرج ويقول: لا، أنتم فهمتم خطأ! سبحان الله! يطابق كلامك كلام الجهمية، ثم تتهمه! على الأقل تراجع، قل: أنا أخطأت، ولم أقصد كلامي هذا، وزلت العبارة، وزل لساني، واشتد حر الشمس، قل ما شئت من الأعذار، المهم تراجع عن قولك. لكن أن تكابر وتعاند، وتزعم أن الناس اتهموك زورا، هذا من الباطل العظيم، ومن الجهل العظيم.

لا مجال للرأي والاجتهاد والقياس في باب الصفات

أيضا كذلك من قاعدة أهل السنة والإيمان في هذا الباب، في باب معرفة الرب جل وعلا، أنه لا مجال للرأي، والاجتهاد، والقياس في باب الصفات.

قال عثمان بن سعيد في النقض على المريسي: «وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي تَكْيِيفِ صِفَاتِ الرَّبِّ، فَإِنَّا لَا نُجِيزُ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الفَرَائِضِ وَالأَحْكَامِ، الَّتِي نَرَاهَا بِأَعْيُنِنَا، وَتُسْمَعُ فِي آذَانِنَا، فَكَيْفَ فِي صِفَاتِ الله الَّتِي لَمْ تَرَهَا العُيُونُ، وَقَصُرَتْ عَنْهَا الظُّنُونُ؟» انظر، كثير من الفرائض والأحكام التي نراها، الصلاة نراها بأعيننا، وتسمعها آذاننا، لكن كثير من أحكامها لا نجيز الاجتهاد فيه لورود النص الواضح فيها، فحينئذ لا نجوز الاجتهاد فيها. عدد الركعات لا يصح الاجتهاد فيه، ورد فيها النص، وبينت في الشريعة، لا مجال للاجتهاد فيها، مع كوننا نراها بأعيننا ونسمعها بآذاننا. فما بالك بباب الصفات الذي غيب عنا، ولا مجال إلى معرفته إلا بما عرّفناه الرب جل وعلا؟ قال: «فَكَيْفَ فِي صِفَاتِ الله الَّتِي لَمْ تَرَهَا العُيُونُ، وَقَصُرَتْ عَنْهَا الظُّنُونُ؟».

وقال ابن منده في كتاب التوحيد: «وكذلك نقول فيما تقدم من هذه الأخبار في الصفات في كتابنا هذا نرويها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف ولا قياس ولا تأويل على ما نقلها السلف الصادق عن الصحابة الطاهرة عن المصطفى ﷺ، ونجهل من تكلم فيها إلا ببيان عن الرسول ﷺ أو خبر صحابي حضر التنزيل والبيان، ونتبرأ إلى الله عز وجل مما يخالف القرآن وكلام الرسول ﷺ، والله عز وجل الموفق للصواب برحمته إن شاء الله تعالى».

وقال أبو المظفر السمعاني في الانتصار لأصحاب الحديث: قال: «أَن الْحَوَادِث للنَّاس والفتاوى فِي الْمُعَامَلَات لَيْسَ لَهَا حصر وَلَا نِهَايَة وبالناس إِلَيْهَا حَاجَة عَامَّة فَلَو لم يجز الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع وَطلب الْأَشْبَه بِالنّظرِ وَالِاعْتِبَار ورد الْمَسْكُوت عَنهُ إِلَى الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بالأقيسة لتعطلت الْأَحْكَام وفسدت على النَّاس أُمُورهم والتبس أَمر الْمُعَامَلَات على النَّاس». إذا هذا تقرير إلى لزوم الاجتهاد في قضايا الأحكام والمعاملات ونحو ذلك. قال: «ولابد للعامي من مفت فَإِذا لم يجد حكم الْحَادِثَة فِي الْكتاب وَالسّنة فلابد من الرُّجُوع إِلَى المستنبطات مِنْهُمَا فَوسعَ الله هَذَا الْأَمر على هَذِه الْأمة وَجوز الِاجْتِهَاد ورد الْفُرُوع إِلَى الْأُصُول لهَذَا النَّوْع من الضَّرُورَة وَمثل هَذَا لَا يُوجد فِي المعتقدات لِأَنَّهَا محصورة محدودة قد وَردت النُّصُوص فِيهَا من الْكتاب وَالسّنة». لن تأتينا نوازل في الاعتقادات، لا يوجد نازلة في الاعتقاد، شيء نعتقده، شيء لم يعتقده السلف، ثم سيصير واجبا الآن أن نعتقده، هذا لا وجود له. فحينئذ لم يجُز الاجتهاد. ولكن في المعاملات يوجد معاملات مالية مستحدثة الآن، لا بد من معرفة حكمها، فحينئذ يجتهد العلماء برد الفروع إلى الأصول، ورد النظير إلى النظير. وهذا لا وجود له في الاعتقاد. قال هنا: «وَمثل هَذَا لَا يُوجد فِي المعتقدات لِأَنَّهَا محصورة محدودة قد وَردت النُّصُوص فِيهَا من الْكتاب وَالسّنة فَإِن الله تَعَالَى أَمر فِي كِتَابه وعَلى لِسَان رَسُوله ﷺ باعتقاد أَشْيَاء مَعْلُومَة لَا مزِيد عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَان عَنْهَا وَقد أكملها بقوله ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ﴾ فَإِذا كَانَ قد أكمله وأتمه وَهَذَا الْمُسلم قد اعتقده وَسكن إِلَيْهِ وَوجد قَرَار الْقلب عَلَيْهِ فبماذا يحْتَاج إِلَى الرُّجُوع إِلَى دَلَائِل الْعقل وقضاياه وَالله أغناه عَنهُ بفضله وَجعل لَهُ المندوحة عَنهُ وَلم يدْخل فِي أَمر يدْخل عَلَيْهِ مِنْهُ الشُّبْهَة والإشكالات ويوقعه فِي المهالك والورطات وَهل زاغ من زاغ وَهلك من هلك وألحد من ألحد إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى الخواطر والمعقولات وَاتِّبَاع الآراء فِي قديم الدَّهْر وَحَدِيثه وَهل نجا من نجا إِلَّا بِاتِّبَاع سنَن الْمُرْسلين وَالْأَئِمَّة الهادية من الأسلاف الْمُتَقَدِّمين».

أهل السنة ينكرون التعطيل

إذا هذه قاعدة أهل السنة، أنهم لا يدخلون آراءهم واجتهاداتهم في باب معرفة الرب جل وعلا. كذلك من قاعدتهم أنهم ينكرون التعطيل، ويجانبونه. نحن ننظر في الصفة فنعتقد معناها الحقيقي، فلا نعطل. والتعطيل له فرعان: الفرع الأول التفويض، أن يعطل حقيقة الصفة ثم يجهل معناها، لا يقول: أنا لا أعتقد حقيقة هذا اللفظ، لكن لا أعوض هذا المعنى الظاهر بمعنى آخر. هذا يسمى التفويض، وهو تعطيل. والفرع الثاني عن التعطيل هو التحريف، والذي يسمونه تأويلا، هو أن يعطل الصفة عن معناها الحقيقي، ثم يعوضه ويحرفه إلى معنى آخر. وهذا هو التحريف، والذي يسمى تأويلا. وكلاهما تعطيل.

جاء في السنة لعبد الله بن أحمد قال: «حَدَّثَنَا شَاذُّ بْنُ يَحْيَى، سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، وَقِيلَ، لَهُ: مَنِ الْجَهْمِيَّةُ؟» كلام يزيد بن هارون هنا كلام نفيس تفهم به معنى التعطيل. فَقَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جَهْمِيُّ». انظر، هكذا في ظاهر اللفظ إذا سمعه العامي سيفهم ظاهر كلامه: الرحمن على العرش استوى. من اعتقد في هذه الآية على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي.

وفي الحجة في بيان المحجة أنه ذكر عند عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مهْدي أَن الْجَهْمِية ينفون أَحَادِيث الصِّفَات، وَيَقُولُونَ: اللَّه أعظم من أَن يُوصف بِشَيْء من هَذَا. انظر، هذا الذي قاله هناك نفسه هذا المشغب! قال الأشاعرة قصدوا التنزيه هو أراد أن يهوّن، هذا كله كلام يصدر من أناس يزعمون أنهم على طريقة السلف، أراد أن يهون الخلاف القائم بين أهل السنة والإيمان، وبين الأشاعرة الجهمية، فقال: هم خالفوا وأولوا بعض الصفات للتنزيه. والجهمية الأوائل كذلك زعموا أنهم ينزهون. وتنزيههم هذا هو عين السب للرب جل وعلا، إذ تنزيههم هو جعل الله عز وجل ناقصا، أخرس، أصم، لا يسمع، ولا يتكلم، بل جعلوه صنما، بل جعلوه عدما. وهذا سنذكره الآن. قال: ذكر عند عبد الرحمن بن مهدي «أَن الْجَهْمِية ينفون أَحَادِيث الصِّفَات، وَيَقُولُونَ: اللَّه أعظم من أَن يُوصف بِشَيْء من هَذَا، فَقَالَ عبد الرَّحْمَن (ابْن مهْدي) - قد هلك قوم من وَجه التَّعْظِيم فَقَالُوا: اللَّه أعظم من أَن ينزل كتابا أَو يُرْسل رَسُولا، ثُمَّ قَرَأَ ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ الله على بشر من شَيْء﴾ ثُمَّ قَالَ: هَل هَلَكت الْمَجُوس إِلا من جِهَة التَّعْظِيم؟ قَالُوا: اللَّه أعظم من أَن نعبده، وَلَكِن نعْبد من هُوَ أقرب إِلَيْهِ منا، فعبدوا الشَّمْس وسجدوا لَهَا، فَأنْزل اللَّه عز وجل: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى﴾».

هذه شبهة المشركين، عباد القبور كذلك يقولون، عوض يقولون: الملوك لا يمكن أن تدخل عليهم إلا بواسطة لعظمتهم، كذلك الرب جل وعلا أعظم من أن نقصده بالدعاء مباشرة، فندعو البدوي، أو ندعو الشاذلي بن حسن، أو ندعو الرفاعي، أو ندعو غيرهم من الطواغيت، فيكونون وسطاء بيننا وبين الرب جل وعلا. فهلكوا من باب التعظيم، ومثل ذلك يقال عن الجهمية والأشاعرة، ومن وافقهم، هلكوا من باب التعظيم. هلكوا من زعمهم أنهم يعظمون الرب، وهذا التنزيه الذي يزعمونه هو عين مسَبَّة الرب جل وعلا، كما سنذكره.

جاء في حلية الأولياء، وطبقات الأصفياء: «حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَفْصٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، يَقُولُ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: ٢٣] قَوْمٌ يَقُولُونَ إِلَى ثَوَابِهِ. قَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]»؟ انظر، هذه حقيقة التعطيل! قوم يقولون: إلى ثوابه، بمعنى ينظرون إلى ثوابه، هذا التعطيل، هذا كما قلنا الفرع الثاني في التعطيل، وهو التحريف. «قَالَ مَالِكٌ: كَذَبُوا فَأَيْنَ هُمْ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾» إذا أثبت مالك حقيقة الصفة، وليس كما يقوله كثير من الكذبة، أن السلف الأوائل سكتوا عن إثبات الحقيقة، وأجروا اللفظ دون بحث في حقائقها، وفوضوا معانيها إلى الرب جل وعلا، هذا كله كذب عن السلف. وقد ذكرنا في الدرس الماضي كلام أبي رزين العقيلي قال: قال: وهل يضحك الرب جل وعلا؟ فقال النبي ﷺ: نعم. فقال أبو رزين: قال: إذن لن نعدم من رب يضحك خيرا. ففهم حقيقة الصفة. وهنا الإمام مالك فهم حقيقة النظر، ليس إلى ثوابه، قال: كلا، قال: فأين هم عن قول الله تعالى: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون؟

قال محمد بن عيسى الترمذي في جامعه: «وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا يُشْبِهُ هَذَا مِنَ الرِّوَايَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ وَنُزُولِ الرَّبِّ عز وجل كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالُوا: قَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَاتُ فِي هَذَا، وَيُؤْمَنُ بِهَا وَلَا يُتَوَهَّمُ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ؟ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ: أَمِرُّوهَا بِلَا كَيْفٍ. وَهَكَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الْجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَالُوا: هَذَا تَشْبِيهٌ. وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عز وجل فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ الْيَدَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ، فَتَأَوَّلَتِ الْجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الْآيَاتِ فَفَسَّرُوهَا عَلَى غَيْرِ مَا فَسَّرَ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَالُوا: إِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِهِ! وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَى الْيَدِ هَهُنَا الْقُوَّةُ. وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَالَ: يَدٌ كَيَدٍ أَوْ مِثْلُ يَدٍ، أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ، فَإِذَا قَالَ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ فَهَذَا التَّشْبِيهُ. وَأَمَّا إِذَا قَالَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ، وَلَا يَقُولُ كَيْفَ وَلَا يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ وَلَا كَسَمْعٍ، فَهَذَا لَا يَكُونُ تَشْبِيهًا، وَهُوَ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.».

وقال عثمان بن سعيد في الرد على الجهمية: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ [المائدة: ٦٤] . وَ﴿مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] . وَ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: ٢٦] . وَقَالَ: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠] . قَالَ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ لِلَّهِ يَدٌ، وَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدَيْهِ، إِنَّمَا يَدَاهُ نِعْمَتَاهُ وَرِزْقَاهُ. فَادَّعَوْا فِي يَدَيِ اللَّهِ أَوْحَشَ مِمَّا ادَّعَتْهُ الْيَهُودُ ﴿قَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ [المائدة: ٦٤]، وَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: يَدُ اللَّهِ مَخْلُوقَةٌ، لِأَنَّ النِّعَمَ وَالْأَرْزَاقَ مَخْلُوقَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا، وَذَاكَ مُحَالٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ كُفْرًا؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: خَلَقَ آدَمَ بِنِعْمَتِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ [آل عمران: ٢٦]: بِنِعْمَتِكَ الْخَيْرُ؛ لِأَنَّ الْخَيْرَ نَفْسَهُ هُوَ النِّعَمُ نَفْسُهَا، وَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عز وجل: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ [الفتح: ١٠]: نِعْمَةُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ⦗٢٠٢⦘، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا الْيَدَ مَعَ ذِكْرِ الْأَيْدِي فِي الْمُبَايَعَةِ بِالْأَيْدِي، فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ [الفتح: ١٠]. وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ: ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤]: نِعْمَتَاهُ، فَكَأَنَّ لَيْسَ لَهُ إِلَّا نِعْمَتَانِ مَبْسُوطَتَانِ، لَا تُحْصَى نِعَمُهُ، وَلَا تُسْتَدْرَكُ». هذا قول الخبيث أنه، أن الله لم يكلفك بمعرفة هل هي حقيقة أم مجاز. لو سلمنا بوجود المجاز، يستحيل حمل التثنية هاهنا على المجاز، يستحيل حمل التثنية هاهنا على المجاز، لأن الرب جل وعلا نعمه كثيرة عظيمة، وليس له نعمتان فقط. قال: ويستحيل أن يقال: «فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ مُحَالٌ مِنَ الْكَلَامِ فَضْلًا أَنْ يَكُونَ كُفْرًا». والله هذا الكلام في غاية النفاسة، بل كلام عثمان بن سعيد الدارمي كله، سواء في النقض على المريسي، وفي الرد على الجهمية، في غاية النفاسة.

وهذا إمام جليل من أئمة أهل السنة، وجهاده في هذين الكتابين جهاد عظيم في الرد على الجهمية، لكن المنتسبين للسلفية من المتأخرين لا شغل لهم بأئمتهم ولا صلة بل ولا غيرة لهم على أئمتهم! هذا عثمان بن سعيد الدارمي على جلالة قدره ورفعه شأنه يسبه الجهمية في هذا الزمان ليل نهار ولم نرى أحدًا منهم قط من هؤلاء التروس للمبتدعة احمر أنفه لهذا الإمام وفي المقابل لو قلت لفظًا عن متأخر انغمس بكليته في التجهم، ويذكر أئمة الجهمية، وينسب نفسه إليهم، يقول: إمامنا الباقلاني، وإمامنا الجويني، وإمامنا الغزالي، وأصحابنا من المتكلمين، ينثر هذا في جميع كتبه. لو تكلمت حرفا واحدا عنه قام عليك هؤلاء جميعا، وهذا والله أمر عجيب! أمر عجيب! لم نر واحدا منهم قط قد غار، أو احمر أنفه، أو غضب على سب أولئك لهذا الإمام الجليل لعثمان بن سعيد الدارمي. وفي المقابل يعقدون الولاء والبراء من أجل من عطل الرب جل وعلا! إذا قلت: فلان عطّل الرب جل وعلا، أقاموا عليك الدنيا ولم يقعدوها! وهذا من الخذلان، وهذا من العمى، من عمى البصر والبصيرة. نسأل الله السلامة والعافية.

قال أبو منصور الأصبهاني في كتاب الحجة في بيان المحجة، بعد أن ذكر أئمة السنة: «فَاجْتمع هَؤُلَاءِ كلهم عَلَى إِثبات هَذَا الْفَصْل من السّنة، وهجران أهل الْبِدْعَة والضلالة والإِنكار عَلَى أَصْحَاب الْكَلَام وَالْقِيَاس والجدال وَأَن السّنة هِيَ إِتباع الْأَثر والْحَدِيث والسلامة وَالتَّسْلِيم، والإِيمان بِصِفَات اللَّه عز وجل من غير تَشْبِيه، وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تَعْطِيل، وَلَا تَأْوِيل فَجَمِيع مَا ورد من الْأَحَادِيث فِي الصِّفَات: مثل أَن اللَّه عز وجل خلق آدم عَلَى صورته، وَيَد اللَّه عَلَى رَأس المؤذنين، وَقُلُوب الْعباد بَين أصبعين من أَصَابِع الرَّحْمَن، وَأَن اللَّه عز وجل يضع السَّمَوَات عَلَى إِصبع، وَالْأَرضين عَلَى إِصبع، وَسَائِر أَحَادِيث الصِّفَات، فَمَا صَحَّ من أَحَادِيث الصِّفَات عَن رَسُول الله ﷺ َ - اجْتمع الْأَئِمَّة عَلَى أَن تَفْسِيرهَا قرَاءَتهَا، قَالُوا: «أمروها كَمَا جَاءَت»، وَمَا ذكر اللَّه فِي الْقُرْآن مثل قَوْله عز وجل: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلّ من الْغَمَام﴾ وَقَوله عز وجل: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صفا﴾. كل ذَلِك بِلَا كَيفَ وَلَا تَأْوِيل نؤمن بهَا إِيمان أهل السَّلامَة وَالتَّسْلِيم لأهل السّنة والسلامة وَاسِعَة بِحَمْد لله وَمِنْه، وَطلب السَّلامَة فِي معرفَة صِفَات اللَّه عز وجل أوجب وَأولى، وأقمن وَأَحْرَى، فَإِنَّهُ ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء، وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير﴾ فَلَيْسَ كمثله شَيْء يَنْفِي كل تَشْبِيه وتمثيل، وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير، يَنْفِي كل تَعْطِيل وَتَأْويل، فَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة والأثر، فَمن فَارق مَذْهَبهم فَارق السّنة، وَمن اقْتدى بهم وَافق السّنة، وَنحن بِحَمْد اللَّه من المقتدين بهم، المنتحلين لمذهبهم، الْقَائِلين بفضلهم، جمع اللَّه بَيْننَا وَبينهمْ فِي الدَّاريْنِ، فَالسنة طريقتنا، وَأهل الْأَثر أَئِمَّتنَا، فأحيانا اللَّه عَلَيْهَا وأماتنا برحمته إِنه قريب مُجيب». انتهى كلامه رحمه الله.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في فتح المجيد: «والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رَسُولُ اللهِ ﷺ على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ومثاله، فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتا حقيقة لا تشبه شيئا من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئا مما وصف الله نفسه أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين. كما قال تعالى:؟ ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾».

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، كما في عيون الرسائل، والأجوبة على المسائل، نعم، هؤلاء نذكرهم إغاظة للمبتدع، الشيخ عبد الرحمن، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، هؤلاء نذكرهم إغاظة للمبتدع، قال: «والتأويل في عرف هؤلاء صرف الكلام عن ظاهره وعن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، ومن سلك هذه الطريقة في أخبار الرسول ﷺ ونصوص القرآن، فقد فتح على نفسه باب الإلحاد والزندقة، وليس في كلام الله وكلام رسوله ما ظاهره ومعناه الراجح غير مراد٤، لن الظاهر هو اللائق بحال الموصوف، وبلغة المتكلم وعرفه، لا ما يظنه الأغبياء الجهال مما لا يصح نسبته إلى الله وإلى رسوله». انتهى كلامه رحمه الله تعالى.

في الدرس القادم نواصل في بيان قاعدة أهل السنة والجماعة في باب معرفة الرب جل وعلا، ونفتتحه إن شاء الله تعالى بقاعدة أهل السنة في إبطال التفويض. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لكل خير، هذا، والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. وصلنا إلى الفصل الثالث من سلسلة “خطورة التهوين من معرفة رب العالمين”.

وذكرنا في الفصل الثالث بيان قاعدة أهل السنة والإيمان في معرفة الرب جل وعلا، وذكرنا تحت هذا الفصل إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة على معانيها الحقيقية من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وذكرنا كذلك أنه لا مجال للرأي ولا للقياس ولا للاجتهاد في هذا الباب، وذكرنا كذلك إنكار التعطيل والتحريف.

إبطال التفويض

نذكر كذلك من قاعدة أهل السنة والإيمان في معرفة الرب جل وعلا بطلان التفويض، نذكر بطلان التفويض، وإبطال التفويض.

وكل ما مر وما ذكرناه من بداية هذه الدروس من النصوص التي جاء فيها تأكيد معنى الصفة بالإشارة الحسية، يؤكد هذا المعنى. مثل ما جاء من قبض النبي ﷺ وبسطه ليده حال الحديث عن قبض الرب وبسطه ليده، وما جاء من تحريك الإصبع، وما جاء من الإشارة إلى الأذن والعين عند قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾، وغير ذلك من الإشارة الحسية الواردة عن النبي ﷺ، وعن الصحابة، وعن أئمة السنة، كل ذلك يبطل التفويض.

وكما قلنا أن التفويض فرع عن التعطيل. فالمؤول أي المحرف، يلغي المعنى الظاهر الحقيقي من الصفة ثم يعوضه بمعنى آخر باطل. والمفوض يلغي المعنى الظاهر ويبطله، فيعطل الرب جل وعلا ثم لا يعوضه بمعنى آخر ويسكت، هذا هذا هو المفوض، وكل الطريقين شر.

جاء عند أحمد وابن ماجه عن أبي رزين العقيلي قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ، وَقُرْبِ غِيَرِهِ» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ يَضْحَكُ الرَّبُّ، قَالَ: «نَعَمْ»، قُلْتُ: لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا. إذاً فهم أبو رزين العقيلي أن الضحك على حقيقته.

قال ابن جرير الطبري في التبصير في معالم الدين: «فإن قال لنا قائلٌ: فما الصواب من القول في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله –عز وجل ووحيه، وجاء ببعضها رَسُولُ اللهِ ﷺ. قيل: الصواب من هذا القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه –جل ثناؤه- فقال: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾. فيقال: الله سميعٌ بصيرٌ، له سمعٌ وبصرٌ؛ إذ لا يعقل مسمى سميعًا بصيرًا في لغةٍ ولا عقلٍ في النشوء والعادة والمتعارف إلا من له سمعٌ وبصرٌ.». هكذا إذاً، إذا ذكر لك اللفظ المقصود ظاهر معناه الحقيقي.

وقال أيضاً في نفس الكتاب: «فإن قال لنا منهم قائلٌ: فما أنت قائلٌ في معنى ذلك؟ قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا –ﷻ يوم القيامة والملك صفًا صفًا، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلةٍ». هذا الذي عندنا في معناه هو ظاهر الخبر.

قال ابن خزيمة في التوحيد: «بَابُ ذِكْرِ إِثْبَاتِ وَجْهِ اللَّهِ الَّذِي وَصَفَهُ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٧]، وَنَفَى عَنْهُ الْهَلَاكَ إِذَا أَهْلَكَ اللَّهُ مَا قَدْ قَضَى عَلَيْهِ الْهَلَاكُ مِمَّا قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، جَلَّ رَبُّنَا، عَنْ أَنْ يَهْلِكَ شَيْءٌ مِنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٧]، وَقَالَ: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ [القصص: ٨٨] وَقَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: ٢٨] وَقَالَ: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١١٥] فَأَثْبَتَ اللَّهُ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَصَفَهُ بِالْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَحَكَمَ لِوَجْهِهِ بِالْبَقَاءِ، وَنَفَى الْهَلَاكَ عَنْهُ»، فأثبت الله لنفسه وجهاً وصفه بالجلال والإكرام، وحكم لوجهه بالبقاء، ونفى الهلاك عنه. قال: «فَنَحْنُ وَجَمِيعُ عُلَمَائِنَا مِنْأَهْلِ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ وَالْيَمَنِ، وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ وَمِصْرَ، مَذْهَبُنَا: أَنَّا نُثْبِتُ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، نُقِرُّ بِذَلِكَ بِأَلْسِنَتِنَا، وَنُصَدِّقُ ذَلِكَ بِقُلُوبِنَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ نُشَبِّهَ وَجْهَ خَالِقِنَا بِوَجْهِ أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، عَزَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يُشْبِهَ الْمَخْلُوقِينَ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ مَقَالَةِ الْمُعَطِّلِينَ، وَعَزَّ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا كَمَا قَالَهُ الْمُبْطِلُونَ، لِأَنَّ مَا لَا صِفَةَ لَهُ عَدَمٌ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَهْمِيُّونَ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ صِفَاتِ خَالِقِنَا الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ قَالَ اللَّهُ جَلَّ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ الرُّومِ: ﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ [الروم: ٣٨] إِلَى قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٨] وَقَالَ: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: ٣٩]، وَقَالَ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ [الإنسان: ٩] وَقَالَ: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾ [الليل: ٢٠]»، إذاً إثبات الوجه يكون لله على الحقيقة، وجه حقيقي.

وقال أيضاً: «بَابُ ذِكْرِ إِثْبَاتِ الْعَيْنِ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَى مَا ثَبَّتَهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ لِنَفْسِهِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ، قَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ نُوحٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾ [هود: ٣٧]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر: ١٤]: وَقَالَ عز وجل فِي ذِكْرِ مُوسَى ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: ٣٩] وَقَالَ: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: ٤٨] فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُثْبِتَ لِخَالِقِهِ وَبَارِئِهِ مَا ثَبَّتَ الْخَالِقُ الْبَارِئُ لِنَفْسِهِ، مِنَ الْعَيْنِ، وَغَيْرُ مُؤْمِنٍ مَنْ يَنْفِي عَنِ اللَّهِ تبارك وتعالى مَا قَدْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، بِبَيَانِ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ مُبَيِّنًا عَنْهُ، عز وجل، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ لِلَّهِ عَيْنَيْنِ، فَكَانَ بَيَانُهُ مُوَافِقًا لِبَيَانِ مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، الَّذِي هُوَ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، مَقْرُوءٌ فِي الْمَحَارِيبِ وَالْكَتَاتِيبِ».

وقال أيضاً: «بَابُ ذِكْرِ سُنَّةٍ ثَامِنَةٍ تُبَيِّنُ وَتُوَضِّحُ: أَنَّ لِخَالِقِنَا جَلَّ وَعَلَا يَدَيْنِ كِلْتَاهُمَا يَمِينَانِ، وَلَا يَسَارَ لِخَالِقِنَا عز وجل، إِذِ الْيَسَارُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ، فَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَسَارٌ، مَعَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عز وجل: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة: ٦٤]، أَرَادَ عَزَّ ذِكْرُهُ بِالْيَدَيْنِ، الْيَدَيْنِ، لَا النِّعْمَتَيْنِ كَمَا ادَّعَتِ الْجَهْمِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ».

وقال أيضاً: «بَابُ ذِكْرِ إِثْبَاتِ الرِّجْلِ لِلَّهِ عز وجل وَإِنْ رَغَمَتْ أُنُوفُ الْمُعَطِّلَةِ الْجَهْمِيَّةِ، الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِصِفَاتِ خَالِقِنَا عز وجل الَّتِي أَثْبَتَهَا لِنَفْسِهِ فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى ﷺ قَالَ اللَّهُ عز وجل يَذْكُرُ مَا يَدْعُو بَعْضُ الْكُفَّارِ مِنْ دُونِ اللَّهِ: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَيَدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا، قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾ [الأعراف: ١٩٥] فَأَعْلَمَنَا رَبُّنَا جَلَّ وَعَلَا أَنَّ مَنَ لَا رِجْلَ لَهُ، وَلَا يَدَ، وَلَا عَيْنَ، وَلَا سَمْعَ فَهُوَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ أَضَلُّ، فَالْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ: الَّذِينَ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ: كَالْأَنْعَامِ بَلْ أَضَلُّ؛ فَالْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ عِنْدَهُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ».

بمعنى: الآن جواب المشركين عن، إذا سئلوا هذه الأسئلة: ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ﴾، عن معبوداتهم سيقولون: لا، ﴿أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا﴾، سيقولون: لا، ﴿أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا﴾، سيقولون: لا، ﴿أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا﴾، سيقولون: لا، ﴿أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾، سيقولون: لا. وكذلك الجهمية والرافضة لو سئلوا عن معبودهم سيقولون: لا، كما قاله المشركون. الجواب: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ﴾، إذا اتخذوا شريكًا من دون الله، اتخذوا معبودًا من دون الله جل وعلا.

قبول ما ثبت عن الصحابة من الصفات

كذلك من قواعد أهل السنة في باب فهم الصفات ومعرفة الرب جل وعلا قبول ما ثبت عن الصحابة من الصفات.

جاء في “إعلام الموقعين” لابن القيم «قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ الْبَغْدَادِيَّةِ الَّتِي رَوَاهَا عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، وَهَذَا لَفْظُهُ: وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَسَبَقَ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ الْفَضْلِ مَا لَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَهُمْ، فَرَحِمَهُمْ اللَّهُ وَهَنَّأَهُمْ بِمَا آتَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ بِبُلُوغِ أَعْلَى مَنَازِلِ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، أَدَّوْا إلَيْنَا سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَشَاهَدُوهُ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ فَعَلِمُوا مَا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَامًّا وَخَاصًّا وَعَزْمًا وَإِرْشَادًا، وَعَرَفُوا مِنْ سُنَّتِهِ مَا عَرَفْنَا وَجَهْلِنَا، وَهُمْ فَوْقَنَا فِي كُلِّ عِلْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَوَرَعٍ وَعَقْلٍ وَأَمْرٍ اُسْتُدْرِكَ بِهِ عِلْمٌ وَاسْتُنْبِطَ بِهِ، وَآرَاؤُهُمْ لَنَا أَحْمَدُ، وَأَوْلَى بِنَا مِنْ رَأْيِنَا عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَمَنْ أَدْرَكْنَا مِمَّنْ يَرْضَى أَوْ حُكِيَ لَنَا عَنْهُ بِبَلَدِنَا صَارُوا فِيمَا لَمْ يَعْلَمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِيهِ سُنَّةً إلَى قَوْلِهِمْ إنْ اجْتَمَعُوا، أَوْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ إنْ تَفَرَّقُوا» هذا في الأحكام، لكن في العقائد لم يتفرقوا. قال: «وَهَكَذَا نَقُولُ، وَلَمْ نَخْرُجْ عَنْ أَقَاوِيلِهِمْ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ غَيْرُهُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِ». هذه القاعدة في الأحكام: إن اجتمع الصحابة أخذت بإجماعهم لزاماً، وإن تفرقوا لا بد أن يكون الحق مع أحدهم، إذ لا يمكن أن يخطئ جميعهم الحق فحينئذ تقول بقول بعضهم، وإن قال أحدهم قولاً ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله، هكذا.

قال الآجري في “الشريعة”: قال: «اعْلَمُوا وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ لِلرَّشَادِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ يَصِفُونَ اللَّهَ عز وجل بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ عز وجل، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ الصَّحَابَةُ رحمهم الله، وَهَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ مِمَّنِ اتَّبَعَ وَلَمْ يَبْتَدِعْ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: كَيْفَ؟ بَلِ التَّسْلِيمُ لَهُ، وَالْإِيمَانُ بِهِ».

قال عثمان بن سعيد الدارمي في “النقض”: «وَكَذَلِكَ ادَّعَيْتَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاص، وكَانَ مِنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ النَّبيِّ ﷺ رِوَايةً عَنْهُ، مَعْرُوفًا بِذَلِكَ»، هذا عثمان بن سعيد هنا الدارمي رحمه الله يجيب الجهمي الذي رد عليه في “النقض”، هذا ادعى على عمرو بن العاص أنه يحدث من زاملتين أصابهم من كتب أهل الكتاب، وهذه نفس دعوى الجهمية في الزمن الأول، ونفس دعوى الأشاعرة في هذا الزمان، ونفس دعوى كثير من المنتسبين زورًا إلى السلفية، كلما وجدوا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا أثرًا يثبت صفة من صفات رب العالمين، قالوا: لا، هذا أخذه عبد الله بن عمرو بن العاص عن أهل الكتاب، الله أكبر! عبد الله بن عمرو بن العاص لا يعرف ربه، ويقلد اليهود في ربه، وأنت عرفت ربك أيها المخدول! قال هنا: «وَكَذَلِكَ ادَّعَيْتَ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاص، وكَانَ مِنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِ النَّبيِّ ﷺ رِوَايةً عَنْهُ، مَعْرُوفًا بِذَلِكَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَصَابَ يَوْمَ اليَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الكِتَابِ فَكَانَ يَرْوِيهَا لِلنَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وكَانَ يُقال لَهُ: أَلا تَحَدِّثُنَا عَن الزَّامِلَتَيْنِ. وَيْحَكَ أَيُّهَا المُعَارِضُ! إِنْ كَانَ عَبْدُ الله بْنُ عَمْرٍو أَصَابَ الزَّامِلَتَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَهْلِ الكِتَابِ يَوْمَ اليَرْمُوكِ، فَقَدْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ أَمِينًا عِنْدَ الأُمَّةِ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ أن لَا يَجْعَلَ مَا وَجَدَ فِي الزَّامِلَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ الله ﷺ، وَلَكِنْ كَانَ يَحْكِي عَنِ الزَّامِلَتَيْنِ مَا وَجَدَ فِيهِمَا، وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ مَا سَمِعَ مِنْهُ، لَا يُحِيلُ ذَاكَ عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا عَلَى ذَاكَ، كَمَا [٤٤/و] تأوَّلتَ عَلَيْهِ بِجَهْلِكَ، وَاللهُ سَائِلُكَ عَنْهُ.».

إذاً القاعدة أن، أن ما تجده عن الصحابة مذكورًا في صفات رب العالمين يقبل، وتجرى عليه نفس القواعد التي تجرى على الحديث المرفوع.

قبول ما رواه الأئمة وتلقوه بالقبول

كذلك من قواعد أهل السنة والإيمان في باب معرفة الرب أنهم يقبلون ما رواه الأئمة وتلقوه بالقبول، فيعتقدونه، ولا يردونه بقواعد المتأخرين في الحكم على الأحاديث، وإنما العبرة بقواعد المتقدمين، والعبرة بما تلقاه الأئمة بالقبول.

جاء في “إبطال التأويل” «وَقَالَ ابن عمير: سمعت أحمد بْن حنبل سئل عَن حديث مجاهد يقعد محمدا عَلَى العرش»، بمعنى يُقعد الرب جل وعلا محمدًا ﷺ على العرش، فقال: «فَقَالَ: قد تلقته العلماء بالقبول، نسلم الخبر كَمَا جاء». انظر تعليل الإمام أحمد رحمه الله قال: قد تلقته العلماء بالقبول.

وجاء في “السنة” للخلال رحمه الله: «وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدَقَةَ، يَقُولُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يَوْمًا، وَذَكَرَ حَدِيثَ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ: هَذَا حَدَّثَ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ فَكَمْ تَرَى كَانَ فِي الْمَجْلِسِ، عِشْرِينَ أَلْفًا، فَتَرَى لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا قَامَ إِلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ ⦗٢٢٠⦘: لَا تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ، أَوْ أَظْهَرَ إِنْكَارَهُ، تَرَاهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَّ إِلَّا وَقَدْ قُتِلَ».

وقال عثمان بن سعيد في “النقض على المريسي”: «فَقَدْ أَخَذْنَا بِمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَلَمْ نَقْبَلْ مِنْهَا إِلَّا مَا رَوَى الْفُقَهَاءُ الحفَّاظ الْمُتْقِنُونَ، مِثْلُ: مَعْمَرٍ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَابْنِ عُيَيْنَةَ، وَزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَزَائِدَةَ، وَشَرِيكٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَنُظَرَائِهِمُ الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِرِوَايَتِهَا وَمَعْرِفَتِهَا وَالتَّفَقُّهِ فِيهَا خِلَافَ تَفَقُّهِ الْمَرِيسِيِّ، وَأَصْحَابِهِ، فَما تَدَاوَلَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَنُظَرَاؤُهُمْ عَلَى الْقَبُولِ قَبِلْنَا، وَمَا رَدُّوهُ رَدَدْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَسْتَعْمِلُوهُ تَرَكْنَاهُ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ، وَأَبْصَرَ بِمَا وَافَقَهُ مِنْهَا مِمَّا خَالَفَهُ مِنَ الْمَرِيسِيِّ وَأَصْحَابِهِ، فَاعْتَمَدْنَا عَلَى رِوَايَاتِهِمْ، وَقَبِلْنَا مَا قَبِلُوا، وَزَيَّفْنَا مِنْهَا مَا رَوَى الْجَاهِلُونَ مِنْ أَئِمَّةِ هَذَا الْمُعَارِضِ، مِثْلِ الْمَرِيسِيِّ وَالثَّلْجِيِّ وَنُظَرَائِهِمْ».

جاء في “زاد المعاد” بعد ذكر حديث أبي رزين الطويل وما جاء فيه من الصفات: «وَقَالَ ابن منده رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ رَوَاهُ بِالْعِرَاقِ بِمَجْمَعِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الدِّينِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مِنْهُمْ أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ، وأبو حاتم، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يُتَكَلَّمْ فِي إِسْنَادِهِ، بَلْ رَوَوْهُ عَلَى سَبِيلِ الْقَبُولِ وَالتَّسْلِيمِ، وَلَا يُنْكِرُ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا جَاحِدٌ أَوْ جَاهِلٌ أَوْ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ».

إذاً القاعدة أنه يقبل ما اعتمده الأئمة الأوائل، وما تلقوه بالقبول.

قال الآجري في “الشريعة”: «عَلَامَةُ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا: سُلُوكُ هَذَا الطَّرِيقِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَسُنَنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَسُنَنُ أَصْحَابِهِ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى آخِرِ مَا كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِثْلَ الْأَوْزَاعِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ، وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ طَرِيقَتِهِمْ، وَمُجَانَبَةُ كُلِّ مَذْهَبٍ يَذُمُّهُ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءُ».

وقال السجزي في رسالته إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت: «وإذا ثبت ما ذكرناه وعلم أن طاعة الرسول واجبة، وأن قبول خبره لازم، وجب اعتقاد ما في هذه الأحاديث المذكورة في الصفات، ولو لم يلزم اعتقاد ذلك، لم تكن هذه الأخبار لا محالة دون سائر الأخبار الواردة فيما سبيله العمل به فينبغي أن يعمل (بها) أيضًا والعمل بها هو القول بمخبرها. وقبل وبعد فالأئمة الذين رووها غير منكرين لشيء منها، بل قد أوردوها في السنن، وبينوا أن اعتقادها سنة وحق بل واجب وفرض. ولا يخلو أمرهم من أن يكونوا مخطئين في فعلهم أو مصيبين في رأيهم. فإن أصابوا، فاتباعهم على الصواب هدى، وإن أخطأوا (بزعمهم) – بزعم المخالف – وهم الأئمة المقبولون، المرضيون بالاتفاق، فالمخالفون الذين قد حكم بأنهم من أهل الزيغ والضلال أقرب إلى الخطأ وأبعد من الصواب منهم، فيجب أن لا يصغى إليهم، ولا يعول على تمويههم».

جاء في كتاب “العرش” للذهبي قال: «وروى العباس بن عبد العظيم العنبري، عن أبي أحمد الزبيري، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر قال: أتت النبي ﷺ امرأة فقالت: ادعُ الله أن يدخلني الجنة. فعظم الرب، فقال: إن كرسيه فوق السموات، وإنه يقعد عليه فما يفضل منه إلا أربع أصابع». قال الذهبي: «هذا حديث محفوظ من١ حديث٢ أبي إسحاق السبيعي إمام الكوفيين في وقته، سمع من غير واحد من الصحابة، وأخرجا حديثه في الصحيحين، وتوفي سنة سبع وعشرين ومائة. تفرد بهذا الحديث عن عبد الله بن خليفة من قدماء التابعين، لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث»، الآن تأمل طريقة الذهبي في الحكم على هذا الحديث، تدرك قضية قبول ما تلقاه الأئمة بالقبول. لما ذكر، لما ذكر عبد الله بن خليفة قال: «لا نعلم حاله بجرح ولا تعديل، لكن هذا الحديث حدث به أبو إسحاق السبيعي مقرًا له كغيره من أحاديث الصفات، وحدث به كذلك سفيان الثوري وحدث به أبو أحمد الزبيري، ويحي بن أبي بكير، ووكيع، عن إسرائيل. وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب «السنة والرد على الجهمية» له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله ابن خليفة، عن عمر رضي الله عنه، ولفظه «إذا جلس الرب على الكرسي، سمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد». ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر «إذا جلس الرب على الكرسي» فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع»، انظر هنا هذه الرواية عن الإمام أحمد عن وكيع إلى بقية الإسناد، الإمام أحمد يقول لما حدث به وكيع: اقشعر رجل، كأنه لم يقبل حديث الصفة - على نفس كلام هؤلاء تروس المبتدعة الذين يقولون: لا تكلموا الناس عن هذه القضايا لأنها تفضي بهم إلى التجسيم، كذا يقولون - «فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون [بهذه الأحاديث] ولا ينكرونها»، فالمعنى: هل ستكون أنت أعلم من هؤلاء الأئمة بقواعد قبول الحديث ورده؟ قلت - أي الذهبي -: «وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح. فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟ بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله عز وجل.».

هذه قواعد أهل السنة في معاملة الأحاديث، والقاعدة في ذلك هي قبول ما تلقاه الأئمة بالقبول، واعتقاد ما تلقاه الأئمة بالقبول، أما إجراء قواعد المتأخرين على ما تلقاه الأئمة بالقبول هذا من العبث، هذا كمن يأتي إلى كلام العرب في الجاهلية ويقول: وجدت فيه خطأً نحويًا، كان يأتي مثلًا إلى، إلى بيت في المعلقة مثلًا في أحد المعلقات ويقول مثلًا: زهير بن أبي سلمى هنا أخطأ في النحو، أخطأ في النحو، أو يقول مثلًا: عمرو بن كلثوم أخطأ في النحو مثلًا هكذا، هذا لا يستقيم، لأن قواعد الحديث التي تدرسها استخرجت من تصرفات هؤلاء الأئمة مع الأحاديث، استقرت تصرفات هؤلاء الأئمة مع الأحاديث فاستخرجت لك هذه القواعد من تصرفاتهم فدرستها أنت، فلا تكون هذه القواعد راجعة على تصرفاتهم بالبطلان، لا يستقيم هذا، وكذلك النحو استنبط من كلام العرب، ومن الكتاب ونحوه استنبطت، استنبطت القواعد بالاستقراء والتتبع لكلام العرب، واستخرجت تلك القواعد، فلا ترجع عليها بالإبطال إذا وجدت تعارضًا، إما أن القاعدة ليست صحيحة، أو فهمك ليس صحيحًا، أو، أو هذا، هذا الفرد في هذه المسألة يستثنى من تلك القاعدة لبعض العلل، إن كنت قد فهمتها تحمد الله تعالى، أي، أي فهمت العلل التي استثني بها هذا الفرد، إن كنت فهمتها تحمد الله تعالى، وإن لم تفهمها تقلد من سبقك وتسكت.

٤. خطورة التعطيل

نذكر هنا في الفصل الرابع خطورة التعطيل، وهذا مبين لأهمية معرفة الرب جل وعلا، ويبين خطورة التهوين من معرفة الرب جل وعلا، لأن الجهل بالرب تعالى كما قلناه سيوقع في التعطيل، مع علو صوت الجهمية في هذا الزمان سوف تنساق إلى دعوتهم إن لم تهتم بهذا المبحث خاصة.

والتعطيل هو جعل الله خلوًا من صفاته، فلا يسمع على الحقيقة، ولا يتكلم على الحقيقة، ولا يرحم على الحقيقة، ولا يغضب على الحقيقة، ولا يرضى على الحقيقة، ولا يحب على الحقيقة، ولا يبغض على الحقيقة، ولا هو في السماء على الحقيقة، ولا له يد على الحقيقة، ولا ساق على الحقيقة، ولا وجه على الحقيقة، ولا عين على الحقيقة، ولا صورة على الحقيقة، كل هذا يبطله المعطلّة.

جاء في “السنة” لعبد الله «قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «لَيْسَ تَعْبُدُ الْجَهْمِيَّةُ شَيْئًا»»، وفيه قال يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَبُو سَهْلٍ الرازي: «كُنْتُ أَدْعُو عَلَى الْجَهْمِيَّةِ فَأُكْثِرُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَدَخَلَ قَلْبِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَقَالَ: لَا يَدْخُلُ قَلْبَكَ فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُ لَا شَيْءَ». انظر خطورة التعطيل.

وفيه أن وَكِيعًا قال: «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ عز وجل أَنْزَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عليهما السلام كُلُّ صَاحِبِ هَوًى يَعْرِفُ اللَّهَ عز وجل وَيَعْرِفُ مَنْ يَعْبُدُ إِلَّا الْجَهْمِيَّةُ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ. بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَأَصْحَابُهُ».

وفي “السنة” كذلك لعبد الله: أن رجلاً قال: لَمَّا تَكَلَّمَ ابْنُ عُلَيَّةَ قُلْتُ لِلْحَجَّاجِ الْأَعْوَرِ بَيِّنَ لَنَا عَلِّمْنَا أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُونَ بِمَخْلُوقٍ؟ قَالَ: «يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ». هكذا السلف كانوا سبحان الله كانوا يعرضون عن علم الكلام، لكن بما تبصروا من تعلمهم الكتاب والسنة كانوا أبصر بمراد المتكلمين إذا تكلموا كلامًا يفارقون به، ويصادقون به ما جاء في الكتاب والسنة، فهم يعلمون أن قولهم: القرآن مخلوق، يعني أنه لا يوجد معبود هكذا، لأنهم سيعطلون الرب بالكلية بذلك. «قَالَ: «يُرِيدُونَ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ»، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى: سَأَلْتُ الْحَجَّاجَ عَنْ مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ أَيُّ شَيْءٍ يُرِيدُونَ؟ قَالَ: التَّعْطِيلَ».

وجاء في “السنة” للخلال قال: «أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ، أَنَّهُ ذَاكَرَ أبَا عَبْدِ اللَّهِ أَمْرَ الْجَهْمِيَّةِ» - يعني ذاكر الإمام أحمد في أمر الجهمية - «وَمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِمْ: كَلَامُ الزَّنْدَقَةِ، يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ، لَيْسَ يُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَهَكَذَا الزَّنَادِقَةُ». الغزالي في كتابه ذاك الذي يفرح به من يفرح به، ويقولون: انظروا هذا تاب لما صنف إلجام العوام عن علم الكلام، في كتابه ذلك يصرح ويقول: يجب أن تعتقد أن الرب معنى من المعاني، كمثلًا إذا قلت لك: الكرم، الكرم لا تعتقد أنه يوجد ذات في خارج ذهنك اسمها الكرم، وإنما تعتقد أن الكرم معنى من المعاني، وهكذا هو، هذا يصرح يقول لك: تعتقد أن الرب جل وعلا معنى من المعاني، فهو التعطيل المحض. إذاً قال الإمام أحمد: «كَلَامُ الزَّنْدَقَةِ، يَدُورُونَ عَلَى التَّعْطِيلِ، لَيْسَ يُثْبِتُونَ شَيْئًا، وَهَكَذَا الزَّنَادِقَةُ».

وفي “الحجة في بيان المحجة” «قَالَ حَمَّاد بْن زيد: مثل الْجَهْمِية مثل رجل قيل لَهُ فِي دَارك نَخْلَة؟ قَالَ: نعم. قيل: فلهَا خوص؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا سعف؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا كرب؟ قَالَ: لَا. قيل: فلهَا جذع؟ قَالَ: لَا. قيل فلهَا أصل؟ قَالَ: لَا. قيل: فَلَا نَخْلَة فِي دَارك». هذا رجل يزعم أنه، أنه في داره نخلة فأقر بذلك، ثم لما سئل عن أوصاف النخلة كلها جحد، قال: ليس فيها كذا، ولا فيها كذا، فقيل له: لا نخلة في دارك. قال حماد بن زيد: «هَؤُلَاءِ الْجَهْمِية قيل لَهُم: لكم رب يتَكَلَّم. قَالُوا: لَا. قيل: فَلهُ يَد. قَالُوا: لَا. قيل: فيرضى ويغضب؟ قَالُوا: لَا. قيل: فَلَا رب لكم.». هكذا حقيقة التعطيل، وهذا أثر عظيم اجعله بين عينيك لتفهم حقيقة مذهب الجهمية ومذهب الأشاعرة، وحقيقة التعطيل وخطورته.

جاء في “خلق أفعال العباد” للبخاري قال حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: شَهِدْتُ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيَّ بِوَاسِطَ، فِي يَوْمِ أَضْحًى، وَقَالَ: «ارْجِعُوا فَضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يَقُولُ الجعد بْنُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَذبَحَهُ». انظر، استحق الذبح لأنه عطل. وحمد أئمة السنة هذا الصنيع، ولذلك قال ابن القيم في النونية:

٥٥ - ولأَجلِ ذَا ضَحَّى بِجَعْدٍ خالِدُ الـ … ـقَسْرِيُّ يومَ ذَبائِحِ القُرْبَانِ ٥١ - إذْ قَالَ: إبْرَاهيمُ لَيْسَ خَليلَهُ … كَلَّا وَلَا مُوسى الكَليمَ الدَّانِي ٥٢ - شكَرَ الضَّحِيَّةَ كُلُّ صَاحِبِ سُنَّةٍ … للهِ دَرُّكَ مِنْ أَخِي قُرْبَانِ

إذاً، شكر أئمة السنة صنيع خالد لما ذبحه لأنه عطل، قال: «زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عُلُوًّا كَبِيرًا عَمَّا يَقُولُ الجعد بْنُ دِرْهَمٍ، ثُمَّ نَزَلَ فَذبَحَهُ».

وفي خلق أفعال العباد للبخاري قال عَلِيُّ (يعني ابْنُ عَاصِمٍ): «مَا الَّذِينَ قَالُوا إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ».

وفي شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة «قَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ أَنْكَرَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ، فَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَرَسُولُهُ تَشْبِيهٌ».

وفي السنة لعبد الله: «سَمِعْتُ أَبَا مَعْمَرٍ الْهُذَلِيُّ، يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَغْضَبُ وَلَا يَرْضَى - وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ - فَهُوَ كَافِرٌ بِاللَّهِ عز وجل إِنْ رَأَيْتُمُوهُ عَلَى بِئْرٍ وَاقِفًا فَأَلْقُوهُ فِيهَا بِهَذَا أَدِينُ اللَّهَ عز وجل، لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ تَعَالَى».

وفي سؤالات ابن أبي شيبة لابن المديني قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: «قَالَ سَمِعت عليا على الْمِنْبَر يَقُول من زعم أَن الْقُرْآن مَخْلُوق فقد كفر وَمن زعم أَن الله عز وجل لَا يرى فَهُوَ كَافِر وَمن زعم أَن الله عز وجل لم يكلم مُوسَى على الحقيقه فَهُوَ كَافِر».

وفي الإبانة الكبرى لابن بطة: «قَالَ أَحْمَدُ: وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ جَهْمِيٌّ وَقَدْ كَفَرَ».

وفي العلو للعلي العظيم، قال أبو العباس السراج: «مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْجَبُ، وَيَضْحَكُ، وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُوْلُ: «مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ»، فَهُوَ زِنْدِيْقٌ، كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ، وَإِلاَّ ضُرِبَتْ عُنُقه، وَلاَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَلاَ يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ المُسْلِمِيْنَ». انظر هنا من أنكر النزول هذا حكمه، والإقرار بالنزول إقرار به على الحقيقة. أما أن تثبت النزول ثم تفسره بما ينفي حقيقته، تقول من غير تحيز ولا انتقال كما يقوله من لا خبرة له بقضايا الاعتقاد، هذا حقيقة نفي النزول. ما تذكره من فيك الآن هو حقيقة تعطيل النزول ونفيه، تقول: أعتقد أن الله ينزل لكن بلا تحيز ولا جهة ولا تحول ولا انتقال، من كلفك بهذا؟ من كلفك بهذا؟ تريد أن تجامل الجهمية على حساب دينك، فتعطل الرب جل وعلا وتقع في خطر عظيم.

قال الآجري في الشريعة: «كِتَابُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل كَلَّمَ مُوسَى عليه السلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَنِ ادَّعَى أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَقَدْ كَفَرَ، يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لِمَ؟ قِيلَ: لِأَنَّهُ رَدَّ الْقُرْآنَ وَجَحَدَهُ، وَرَدَّ السُّنَّةَ، وَخَالَفَ جَمِيعَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَزَاغَ عَنِ الْحَقِّ، وَكَانَ مِمَّنْ قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥] وَأَمَّا الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ: فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ قَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤] وَقَالَ عز وجل فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف : ١٤٣] وَقَالَ عز وجل: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: ١٤٤] وَقَالَ عز وجل فِي سُورَةِ طه: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ وَقَالَ عز وجل فِي سُورَةِ النَّمْلِ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [النمل: ٩] وَقَالَ عز وجل فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ وَقَالَ عز وجل فِي سُورَةِ وَالنَّازِعَاتِ: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾».

وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ (يعني الآجري نفسه): «فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى فَقَدْ رَدَّ نَصَّ الْقُرْآنِ وَكَفَرَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ» - تأمل هذا، سيأتي الآن بكلام الأشاعرة - قال: «فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ، فَكَلَّمَ بِهِ مُوسَى قِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الْكُفْرُ، لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الْكَلَامَ مَخْلُوقٌ، تَعَالَى اللَّهُ عز وجل عَنْ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ مَخْلُوقًا يَدَّعِي الرُّبُوبَيَّةَ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْقَوْلِ وَأَسْمَجِهِ وَقِيلَ لَهُ: يَا مُلْحِدُ، هَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ؟ نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا مُسْلِمًا». بمعنى أن الشجرة قالت لنبي الله موسى: إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. قال: «نَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَائِلُ هَذَا مُسْلِمًا، هَكَذَا كَافِرٌ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَرَجَعَ عَنْ مُذْهَبِهِ السُّوءِ وَإِلَّا قَتَلَهُ الْإِمَامُ، فَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ الْإِمَامُ وَلَمْ يَسْتَتِبْهُ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ هَذَا مَذْهَبُهُ»، إذا كان الإمام لا يقيم الشريعة، أو لم يقتله ولم يستتب، ماذا تفعل معه أنت؟ قال: «هُجِرَ وَلَمْ يُكَلَّمْ، وَلَمْ يُسَلَّمْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُصَلَّ خَلْفَهُ، وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَلَمْ يُزَوِّجْهُ الْمُسْلِمُ كَرِيمَتَهُ». إن لم يقتله الإمام أنت تهجره ولا تكلمه ولا تسلم عليه ولا تصلي خلفه ولا تقبل شهادته إلى آخره مما ذكره الأئمة من الزجر والهجر لأهل البدع. أما أن يقال: لا، الخلاف معهم بسيط لأنهم أرادوا تنزيه الرب جل وعلا، هذا مما يخالف ما كان عليه السلف.

٥. اجتناب الجدل والمناظرات والخصومة في الدين

الفصل الخامس في هذه السلسلة وفي هذه الدروس: اجتناب الجدل والمناظرات والخصومة في الدين. وهذا نرجئه إلى الدرس القادم إن شاء الله لطوله، نذكر فيه إن شاء الله قاعدة أهل السنة في اجتناب الجدل والمناظرات والخصومات في الدين، لأنها كثرت في الآونة الأخيرة: مناظرات مع الأشاعرة، ومناظرات مع الملحدين، مناظرات مع الرافضة، ومناظرات مع المتكلمين، ومناظرات مع الأباضية. هذا كله خلاف منهج السلف وخلاف طرائق السلف في الدعوة إلى السنة، هذا سنذكره ونبين إن شاء الله تعالى في الدرس المقبل. هذا والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا، ربي اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقه قولي. ما زلنا مع سلسلة “خطورة التهويل في معرفة رب العالمين”، وهذا الدرس الرابع، وهي سلسلة كما أسلفنا جاءت تعقيبًا وردًا على بعض من ينتسب كذبًا وزورًا للسلفية ثم يشغب ويشوش ويزهد الناس في هذا الباب، ويجعلون من أنفسهم قنطرةً توصل إلى التجهم. بعض الناس يقول لك: “لا أنا في حياتي كلها أعتقد مذهب السلف، وأدرس مذهب السلف، ولم أقصد البته التفويض ولا التعطيل”. قصدت أو لم تقصد، كلامك يوصل إلى التفويض والتعطيل، ظاهر كلامك يوصل إلى التفويض والتعطيل، وأنت تمهد الطريق لغيرك، وأنت جعلت من نفسك قنطرةً توصل للتجهم، قصدت أو لم تقصد.

وكنا قد رأينا في هذه السلسلة في الدروس الماضية الفصل الأول، وفيه رأينا أهمية معرفة الله، والفصل الثاني، وفيه رأينا خطورة الغلط في باب معرفة الله، والفصل الثالث، وفيه رأينا قاعدة أهل السنة والإيمان في باب معرفة الرب جل وعلا، والفصل الرابع، وفيه رأينا خطورة التعطيل.

نشرع في هذا الدرس في بيان الفصل الخامس، وهو فصلٌ في بيان اجتناب الجدل والمناظرات والخصومات في الدين، وذلك أنه في الآونة الأخيرة ولع كثير من الشباب، وكثير من الدعاة، وكثير ممن يتكلم في الدين، ولع بالمناظرات. والمناظرات في هذا الزمان مع انتشار وسائل التواصل ودخولها للبيوت، صار لها بريق خاص. وبعض الناس يجعلها معيارًا للعلم، بعض الناس يجعلها معيارًا للعلم، فيظن أن من كان قويًا في الكلام في المناظرات، ذاك هو صاحب العلم، ويظن أن من كان ألهم في الحجة لغيره، وأقوى حجةً، وأقوى بيانًا في المناظرات، ذاك هو صاحب العلم، وهو الذي يكون على حق، وهذا على الضد مما كان عليه السلف.

فطريقة السلف، وطريقة أئمة السنة هي الصبر على السنة، ولزوم السنة، وتعلمها، وتعليمها، والدعوة إليها، فإذا ظهر مبطلٌ، فأظهر كلامًا باطلًا، يردون عليه ببيان مصادم للكتاب والسنة والآثار، ولا يزيدون على هذه الثلاثة، وهم مع ذلك يتواصون أشد التواصي باجتناب المناظرات والجدل والخصومات في الدين، بل ويغلظ في ذلك أشد التغليظ، بل وجعل اجتناب الخصومات والمناظرات والجدال، أصلًا من أصول أهل السنة.

نص أئمة السلف على كون اجتناب المناظرات، واجتناب الخصومات في الدين، واجتناب الجدال، جعلوا اجتناب ذلك أصلًا من أصول أهل السنة. ولو كنت في موطن جدالك مدافعًا عن السنة، لو كنت في مناظرته مدافعًا عن السنة، فإنك بالمناظرة خالفت السنة، وخالفت أصل أهل السنة في اجتناب المناظرات، وهذا مستفيضٌ في كلام السلف، مستفيض في كتبهم.

قال الله عز وجل: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾. جاء في “الإبانة الكبرى” قال أبو الْعَالِيَةِ: “آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا أَشَدُّهُمَا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآنِ: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، ﴿وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ﴾“.

وفي ذم الكلام، قال إِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصَ: «مَا كَانَتْ زَنْدَقَةٌ وَلَا كُفْرٌ، وَلَا بِدْعَةٌ، وَلَا جُرْأَةٌ فِي الدِّينِ، إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْكَلَامِ، وَالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ، وَالْعُجْبِ، وَكَيْفَ يَجْتَرِئُ الرَّجُلُ عَلَى الْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾»، وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾“.جاء في تفسير ابن جرير عن عبد الله بن عباس رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا قال: «وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ أَيْ: ذُو جِدَالٍ إِذَا كَلَّمَكَ وَرَاجَعَكَ».

وقال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾. جاء في ذم الكلام عن ابن عباس في قوله: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾، قال: «هُمْ أَصْحَابُ الْخُصُومَاتِ وَالْمِرَاءِ فِي دين الله». وفي “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” عن الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ يَقُولُ: «لَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْخُصُومَاتِ فَإِنَّهُمْ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ».

وقال تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾. جاء في “الإبانة الكبرى” عن إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ يقول في قوله عز وجل: ﴿فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾، قال: «أَغْرَى بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ فِي الْخُصُومَاتِ، وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ».

وعند أحمد، والترمذي، وابن ماجه، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، ثم تلى رَسُولُ اللهِ ﷺ هذه الآية: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾.

وعند أحمد وابن ماجه، «عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ، قَالَ: وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ» الله أكبر، انظر لما رأى النبي ﷺ الصحابة يتكلمون في القدر غضب غضبًا شديدًا، حتى احمر وجهه، شبهه عبد الله بن عمر بن العاص رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا، قال: «وَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ»، قال: فَقَالَ لَهُمْ: «مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» قَالَ: «فَمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِمَجْلِسٍ فِيهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَمْ أَشْهَدْهُ، بِمَا غَبَطْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الْمَجْلِسِ، أَنِّي لَمْ أَشْهَدْهُ».

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ». وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ.».

وفي “الإبانة الكبرى” عن ابن عباس رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا قال: «مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فَافْتَرَقَا حَتَّى يَفْتَرِيَا عَلَى اللَّهِ عز وجل»، وهذا مشاهد في المناظرات، يزل المناظر ولو كان مدافعًا عن السنة بزعمه، يزل من باب الإلزامات، ومن باب الإجابات، وقد يلزمك خصمك بشيء في ظاهره التماهي وعدم التناقض مع قاعدة أنت قررتها، فتتعجب، فتلتزم ما ألزمك به، فتقع في المخالفة، وهي ساعة زلة العالم كما سيأتينا في الآثار، أنت عالم ما دمت بعيدًا عن المناظرة، أول ما تدخل في المناظرة تصير جاهلًا، هي ساعة زلتك، وساعة جهلك. إذا قال ابن عباس: «مَا اجْتَمَعَ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فَافْتَرَقَا حَتَّى يَفْتَرِيَا عَلَى اللَّهِ عز وجل»، لا يفترقان حتى يقع منهما الفريه والكذب على الله تعالى.

وفي “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قال: «مَا كَانَ شِرْكٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ بَدْؤُهُ تَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ، وَلَا أَشْرَكَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلَّا بَدْؤُهُ تَكْذِيبٌ بِالْقَدَرِ، وَإِنَّكُمْ سَتُبْلَوْنَ بِهِمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، فَإِنْ لَقِيتُمُوهُمْ فَلَا تُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَيُدْخِلُوا عَلَيْكُمُ الشُّبُهَاتِ».

وفي “الإبانة الكبرى” عن أَبُي ظِلَالٍ الْقَسْمَلِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَذْكُرُونَ الْقَدَرَ؟ قَالَ: إِنَّهُ «لَمْ يَكْ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْخُصُومَاتِ، وَكَانُوا إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَفَضُوا أَرْدِيَتَهُمْ، وَتَفَرَّقُوا».

وفي “البدع” لابن وضاح: «جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْحَسَنِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ، تَعَالَ حَتَّى أُخَاصِمَكَ فِي الدِّينِ، فَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَبْصَرْتُ دِينِي، فَإِنْ كُنْتَ أَضْلَلْتَ دِينَكَ فَالْتَمِسْهُ». وفي “الإبانة الكبرى” قال الحسن البصري: «مَا أَدْرَكْتُ فَقِيهًا قَطُّ يُمَارِي، وَلَا يُدَارِي يَنْشُرُ حُكْمَ اللَّهِ فَإِنْ قُبِلَتْ حَمِدَ اللَّهَ وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ». انظر هذا الحسن البصري، هذه حكاية إجماع منه، «مَا أَدْرَكْتُ فَقِيهًا قَطُّ يُمَارِي، وَلَا يُدَارِي يَنْشُرُ حُكْمَ اللَّهِ فَإِنْ قُبِلَتْ حَمِدَ اللَّهَ وَإِنْ رُدَّتْ حَمِدَ اللَّهَ». هذا هو دورك أيها السني، تنشر حكم الله، إن قبل منك تحمد الله، وإن رد عليك تحمد الله كذلك، لأن هداية الناس وقلوب الناس بين إصبعين من أصابع الرحمن، ليست بين يديك، إن قبل منك تحمد الله، وإن رد عليك تحمد الله كذلك، ولا دخل لك في الخصومات، ولا المناظرات، ولا الجدال.

وفي “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة”: كان الحسن البصري يقول: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ». وفي “البدع” لابن وضاح عن أيوب قال: يعني السختياني، «دَخَلَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ يَوْمًا رَجُلٌ فَقَالَ…» انظر هذا محمد بن سيرين من أئمة التابعين، دخل عليه رجل يومًا، أي في بيته، «فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أَقْرَأَهَا ثُمَّ أَخْرُجَ»… هذا الرجل الذي دخل عليه من أهل البدع، «فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَا خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِي، قَالَ: فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي لَا أَزِيدُ عَلَى أَنْ أَقْرَأَ ثُمَّ أَخْرُجَ، قَالَ: فَقَامَ بِإِزَارِهِ يَشُدُّهُ عَلَيْهِ، وَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ»، انظر محمد بن سيرين شد أزاره وتهيأ لأن يقوم ويخرج هو من بيته. قال: «فَأَقْبَلْنَا عَلَى الرَّجُلِ فَقُلْنَا: قَدْ حَرَّجَ عَلَيْكَ إِلَّا خَرَجْتَ، أَفَيَحِلُّ لَكَ أَنْ تُخْرِجَ رَجُلًا مِنْ بَيْتِهِ، قَالَ: فَخَرَجَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَلَيْكَ لَوْ قَرَأَ آيَةً ثُمَّ خَرَجَ؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ قَلْبِي يَثْبُتُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَا بَالَيْتُ أَنْ يَقْرَأَ، وَلَكِنِّي خِفْتُ أَنْ يُلْقِيَ فِي قَلْبِي شَيْئًا أَجْهَدُ أَنْ أُخْرِجَهُ مِنْ قَلْبِي فَلَا أَسْتَطِيعُ». الله أكبر، هذا محمد بن سيرين! بعض الأحداث في هذا الزمان يظن أنه أثبت على دين الله تعالى من محمد بن سيرين، فيرخي سمعه للمناظرات والجدال، ويظن أنه آمن على نفسه من الفتنة من محمد بن سيرين, هذا محمد بن سيرين خاف أن يلقي عليه المبتدع آية من كتاب الله، فيجعلها دليلًا على شبهته، فخاف محمد بن سيرين على قلبه من ذلك، والآن أحداث لا يخافون، يدخلون في مناظرة كل شيء، يناظرون الملحدين، والنسوية، والعلمانية، والرافضة، والمرجئة، والجهمية، والخوارج، يناظرون كل شيء، ذا والله عجيب.

وفي “البدع” لابن وضاح عن «مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا، وَمَاراهُ رَجُلٌ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: إِنِّي قَدْ أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ، وَأَنَا أَعْلَمُ بِالْمِرَاءِ مِنْكَ، وَلَكَنْ لَا أُمَارِيكَ».

وفي “القدر” للفريابي: أن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قال: «مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ»، هذا كلام عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، كلام نفيس، «مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ».

وفي “البدع” لابن وضاح، وفي “الشريعة” للآجري قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: «لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ؛ فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ».

وفي “الشريعة” عن مُعَاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ: «الْخُصُومَاتُ فِي الدِّينِ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ».

وفي “الإبانة الكبرى” قال مُسْلِمَ بْنَ يَسَارٍ: «إِيَّاكُمْ وَالْمِرَاءَ، فَإِنَّهَا سَاعَةُ جَهْلِ الْعَالِمِ، وَفِيهَا يَبْتَغِي الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُ»، ما أحلاه، وما أجمله من كلام، هذا انظر، قال مسلم بن يسار: “إِيَّاكُمْ وَالْمِرَاءَ، فَإِنَّهَا سَاعَةُ جَهْلِ الْعَالِمِ”، إن كنت عالمًا في تلك الساعة التي ناظرت فيها صرت جاهلًا، قال: «وَفِيهَا يَلْتَمِسُ الشَّيْطَانُ زَلَّتَهُ».

وفي “الشريعة” للآجري عن وهب بن منبه يقول: «دَعِ الْمِرَاءَ وَالْجِدَالَ عَنْ أَمْرِكَ، فَإِنَّكَ لَا تُعْجِزُ أَحَدَ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، فَكَيْفَ تُمَارِي وَتُجَادِلُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ وَرَجُلٍ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَكَيْفَ تُمَارِي وَتُجَادِلُ مَنْ أَنْتَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يُطِيعُكَ، فَاقْطَعْ ذَلِكَ عَلَيْكَ».

وفي “الإبانة الكبرى” عن جعفر بن محمد يعني الصادق يقول: «إِيَّاكُمْ وَالْخُصُومَةَ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهَا تَشْغَلُ الْقَلْبَ، وَتُورِثُ النِّفَاقَ».

وفي “القدر” للفريابي: «سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ الْبِدَعِ أيوب، فقال: يا أباكر أَسْأَلُكَ عَنْ كَلِمَةٍ، قَالَ: فَوَلَّى أَيُّوبُ، وَهُوَ يَقُولُ: وَلَا نِصْفُ كَلِمَةٍ، وَلَا نِصْفُ كَلِمَةٍ». انظر هذا المبتدع جاء إلى أيوب السختياني، فقال له: أسأل عن كلمة، أراد أن يسأله عن كلمة واحدة، فقال له أيوب رحمه الله، قال له: ولا نصف كلمة، ولا نصف كلمة.

وفي “تعظيم قدر الصلاة” للمروزي عن مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يقول: «أَفَكُلُّ مَا جَاءَ رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ أَرَدْنَا أَنْ نَرُدَّ مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ»؟.

وفي “الإبانة الكبرى” عن مَعْنُ بْنُ عِيسَى قال: «انْصَرَفَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَوْمًا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى يَدَيَّ قَالَ: فَلَحِقَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: أَبُو الْجُوَيْرِيَةِ، كَانَ يُتَّهَمُ بِالْإِرْجَاءِ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ اسْمَعْ مِنِّي شَيْئًا أُكَلِّمْكَ بِهِ، وَأُحَاجَّكَ، وَأُخْبِرْكَ بِرَأْيِي قَالَ: فَإِنْ غَلَبَتْنِي؟ قَالَ: فَإِنْ غَلَبْتُكَ اتَّبَعْتَنِي قَالَ: فَإِنْ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ، فَكَلَّمَنَا، فَغَلَبَنَا؟ قَالَ: نَتَّبِعُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِدِينٍ وَاحِدٍ، وَأَرَاكَ تَنْتَقِلُ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ».

وفي “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة” عن الْأَوْزَاعِيِّ قال: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا أَلْزَمَهُمُ الْجَدَلَ، وَمَنَعَهُمُ الْعَمَلَ».

وفي “الإبانة الكبرى” عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلَيْنِ جَلَسَا يَخْتَصِمَانِ، فَلْيَعْلَمَا أَنَّهُمَا فِي بِدْعَةٍ حَتَّى يَفْتَرِقَا».

وفي “الإبانة الكبرى” عن معروف الكرخي: «إن الله عز وجل إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ عَمَلٍ، وَأَغْلَقَ عَنْهُ بَابَ الْجَدَلِ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرًّا فَتَحَ عَلَيْهِ بَابَ الْجَدَلِ، وَأَغْلَقَ عَنْهُ بَابَ الْعَمَلِ».

وفي “الشريعة” عن خُصَيْفٍ قال: «مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ يَا مُوسَى لَا تُخَاصِمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ يَا مُوسَى لَا تُجَادِلْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، فَيَقَعْ فِي قَلْبِكَ شَيْءٌ، فَيُرْدِيَكَ فَيُدْخِلَكَ النَّارَ».

وفي “أصول السنة” للإمام أحمد، هذا في رواية عبدوس بن مالك العطار، قال الإمام أحمد رحمه الله: «وأن لا يخاصم أحدا، ولا يناظر، ولا يتعلم الجدال. فإن الكلام فى القدر والرؤية والقرآن وغيرها من السنن مكروه منهى عنه. لا يكون صاحبه - إن أصاب بكلامه السنة - من أهل السنة، حتى يدع الجدال ويسلم. ويؤمن بالآثار». هذا ذكره الإمام أحمد في “أصول السنة”، ولذلك قلت لك في المقدمة أنهم جعلوا اجتناب الجدال أصلًا من أصول أهل السنة، انظر ماذا يقول هنا، قال: «ولا يكون صاحبه إن أصاب بكلامه السنة من أهل السنة حتى يدع الجدال ويسلم ويؤمن بالآثار»، حتى لو أصبت السنة في كلامك، ما دمت تجادل لا تكون من أهل السنة حتى تدع الجدال.

وقال البربهاري في “شرح السنة”: «وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام، والجدال والمراء، والقياس، والمناظرة في الدين، فإن [استماعك] منهم - وإن لم تقبل منهم - يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولا [فتهلك]، وما كانت زندقة قط، ولا بدعة، ولا هوى، ولا ضلالة، إلا من الكلام، والجدال، والمراء، والقياس، [وهي] أبواب البدعة، والشكوك والزندقة. فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر، وأصحاب الأثر، والتقليد؛ فإن الدين إنما هو بالتقليد [يعني للنبي ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم]، ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح، ولا تجاوز الأثر، وأهل الأثر، وقف عند المتشابه، ولا تقس شيئا، ولا تطلب من عندك حيلة ترد [بها] على أهل البدع، فإنك أمرت بالسكوت عنهم، ولا تمكنهم من نفسك. أما علمت أن محمد بن سيرين في فضله لم يجب رجلا من أهل البدع في مسألة واحدة، ولا سمع منه آية من كتاب الله، فقيل له، فقال: أخاف أن يحرفها فيقع في قلبي شيء». انظر هذا كلام البربهاري النفيس.

وقال الآجري في “الشريعة” -وله تقعيد وتأصيل نفيس هو وابن بطة في “الإبانة الكبرى” - وأذكر النقلين مع طولهما لأهميتهما. قال رحمه الله: «مَنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ وَعَقْلٌ، فَمَيَّزَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكِتَابِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ، فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا لَزِمَ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ، لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ الْجَهْلُ، وَكَانَ مُرَادُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ، أَنْ يَتَعَلَّمَهُ لِلْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ، وَلَا لِلدُّنْيَا، وَمَنْ كَانَ هَذَا مُرَادُهُ سَلِمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَةِ، وَاتَّبَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَا يُسْتَوْحَشُ مِنْ ذِكْرِهِمْ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُوفَّقَهُ لِذَلِكَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا، فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الدِّينِ، يُنَازِعُهُ فِيهَا وَيُخَاصِمُهُ، تَرَى لَهُ أَنْ يُنَاظِرَهُ، حَتَّى تَثْبُتَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟» انظر هذا السؤال الذي افترضه الآجري في كتاب “الشريعة”، هو نفسه الذي يفعله هؤلاء، يناظرون زعمًا أنهم يقررون السنة ويدعون إلى السنة.

قال: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا، فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الدِّينِ، يُنَازِعُهُ فِيهَا وَيُخَاصِمُهُ، تَرَى لَهُ أَنْ يُنَاظِرَهُ، حَتَّى تَثْبُتَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي نُهِينَا عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي حَذَّرَنَاهُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَاذَا نَصْنَعُ؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الَّذِي يَسْأَلُكُ مَسْأَلَتَهُ مَسْأَلَةَ مُسْتَرْشِدٍ إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ لَا مُنَاظَرَةً، فَأَرْشِدْهُ بِأَلْطَفِ مَا يَكُونُ مِنَ الْبَيَانِ بِالْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ مُنَاظَرَتَكَ، وَمُجَادَلَتَكَ، فَهَذَا الَّذِي كَرِهَ لَكَ الْعُلَمَاءُ، فَلَا تُنَاظِرْهُ، وَاحْذَرْهُ عَلَى دِينِكَ، كَمَا قَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كُنْتَ لَهُمْ مُتَّبِعًا فَإِنْ قَالَ: فَنَدَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَنَسْكُتُ عَنْهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: سُكُوتُكَ عَنْهُمْ وَهِجْرَتُكَ لِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِن مُنَاظَرَتِكَ لَهُمْ كَذَا قَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ»

ثم ذكر آثارًا. وقال بعدها: «أَلَمْ تَسْمَعْ رَحِمَكَ اللَّهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ مِنْ قَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ: لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي الضَّلَالَةِ، أَوْ يَلْبِسُوا عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ بَعْضَ مَا لُبِّسَ عَلَيْهِمْ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَقَالَ: أَلَا تُنَاظِرُنِي فِي الدِّينِ؟ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَبْصَرْتُ دِينِي، فَإِنْ كُنْتَ أَنْتَ أَضْلَلْتَ دِينَكَ فَالْتَمِسْهُ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التَّنَقُّلَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ رحمه الله: فَمَنِ اقْتَدَى بِهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنِ اضْطَّرَّنِي فِي الْأَمْرِ وَقْتًا مِنَ الْأَوْقَاتِ إِلَى مُنَاظَرَتِهِمْ، وَإِثْبَاتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ أَلَا أُنَاظِرُهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: الِاضْطِرَارُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ إِمَامٍ لَهُ مَذْهَبٌ سُوءٌ، فَيَمْتَحِنُ النَّاسَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِ، كَفِعْلِ مَنْ مَضَى فِي وَقْتِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: ثَلَاثَةُ خُلَفَاءَ امْتَحَنُوا النَّاسَ»، يعني المأمون، والمعتصم، والواثق، «ثَلَاثَةُ خُلَفَاءَ امْتَحَنُوا النَّاسَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمُ السُّوءِ، فَلَمْ يَجِدِ الْعُلَمَاءُ بُدًّا مِنَ الذَّبِّ عَنِ الدِّينِ، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ مَعْرِفَةَ الْعَامَّةِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَنَاظَرُوهُمْ ضَرُورَةً لَا اخْتِيَارًا، فَأَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَقَّ مَعَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَتِهِ وَأَذَلَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَزِلَةَ وَفَضَحَهُمْ وَعَرَفَتِ الْعَامَّةُ أَنَّ الْحَقَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَمَنْ تَابَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَرْجُو أَنْ يُعِيذَ اللَّهُ الْكَرِيمُ أَهْلَ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ مِحْنَةٍ تَكُونُ أَبَدًا». انتهى كلامه رحمه الله.

وقال ابن بطة في “الإبانة الكبرى” كذلك أنقل كلامه بطوله لأهميته. قال: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَدْ حُذِّرْنَا الْخُصُومَةَ، وَالْمِرَاءَ، وَالْجِدَالَ، وَالْمُنَاظَرَةَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَإِنَّ هَذِهِ سَبِيلُ الْعُلَمَاءِ، وَطَرِيقُ الصَّحَابَةِ وَالْعُقَلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْمُسْتَبْصِرِينَ، فَإِنْ جَاءَنِي رَجُلٌ يَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ، وَالْمَذَاهِبِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي قَدِ انْتَشَرَتْ، وَيُخَاطِبُنِي مِنْهَا بِأَشْيَاءَ يَلْتَمِسُ مِنِّي الْجَوَابَ عَلَيْهَا، وَأَنَا مِمَّنْ قَدْ وَهَبَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِي عِلْمًا بِهَا، وَبَصَرًا نَافِذًا فِي كَشْفِهَا»…

انظر مع علمه وبصره، بماذا سيجيب، علمًا أن هذا الشرط والقيد يتوهمه كثير من المتأخرين حصوله عندهم، وهم ليسوا كذلك، كثير من المتأخرين يقول: أنا وهبني الله علمًا، فلان… أولًا، هذه المقدمة الأولى فيها نظر، ينبغي أن تتريث، ومهما وهبت من علم وبصر لن تكون أعلم بدين الله من محمد بن سيرين، ولا الحسن البصري، ولا الإمام مالك، ولا غيرهم من الأئمة الذين رفضوا الخصومات والجدال والمناظرة، لكن هنا ابن بطة تبعًا للآجري كذلك. الآجري فصل وقال: لا تناظر إلا في صورة اضطرارك من إمام، أي من سلطان له مذهب سوء، ابن بطة سيقسم القضية إلى ثلاثة، يقول لك: لا تناظر بتاتًا إلا في ثلاث صور، لا رابع لها،

  • الصورة الأولى سيذكرها، وهو أن يأتيك أحد، هو من أهل السنة، لكن سمع شيئًا شوش عليه، فيأتيك سائلًا سؤال مسترشد، لا مناظر، فهذا تبين له.

  • والثاني أن يقتحم عليك واحد من أهل الباطل في مجلسك، وفي مكانك، فيلقي الشبهة على طلابك، فترد عليه، ويكون وجهك لهم، وكلامك لهم، لا له، لا تلتفت إليه البته، ليس له أي قيمة، لكن تبين لطلابك بطلان قوله الذي ألقاه عليهم.

  • والصورة الثالثة هو أن يضطرك السلطان، أن يكون صاحب مذهب سوء، أن فيدعوك ويأتي بأئمة الضلال، ويكرهك على مناظرته. سنبين هذا من كلام ابن بطة رحمه الله.

قال هنا السائل الذي سأله: «وَأَنَا مِمَّنْ قَدْ وَهَبَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِي عِلْمًا بِهَا، وَبَصَرًا نَافِذًا فِي كَشْفِهَا، أَفَأَتْرُكُهُ يَتَكَلَّمُ بِمَا يُرِيدُ وَلَا أُجِيبُهُ، وَأُخَلِّيهِ وَهَوَاهُ وَبِدْعَتَهُ، وَلَا أَرُدُّ عَلَيْهِ قَبِيحَ مَقَالَتِهِ؟» نعم. الآن الجواب من ابن بطة، قال: «فَإِنِّي أَقُولُ لَهُ: اعْلَمْ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي تُبْلَى بِهِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ لَنْ يَخْلُوَ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِمَّا رَجُلًا قَدْ عَرَفْتَ حُسْنَ طَرِيقَتِهِ، وَجَمِيلَ مَذْهَبِهِ، وَمَحَبَّتَهُ لِلسَّلَامَةِ، وَقَصْدَهُ طَرِيقَ الِاسْتِقَامَةِ، وَإِنَّمَا قَدْ طَرَقَ سَمْعَهُ مِنْ كَلَامِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدْ سَكَنَتِ الشَّيَاطِينُ قُلُوبَهُمْ، فَهِيَ تَنْطِقُ بِأَنْوَاعِ الْكُفْرِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَلَيْسَ يَعْرِفُ وَجْهَ الْمَخْرَجِ مِمَّا قَدْ بُلِيَ بِهِ، فَسُؤَالُهُ سُؤَالُ مُسْتَرْشِدٍ يَلْتَمِسُ الْمَخْرَجَ مِمَّا بُلِيَ بِهِ، وَالشِّفَا مِمَّا أُوذِيَ. ضمانًا إِلَى عِلْمِكَ حَاجَتُهُ إِلَيْكَ حَاجَةُ ⦗٥٤١⦘ الصَّادِي إِلَى الْمَاءِ الزُّلَالِ، وَأَنْتَ قَدِ اسْتَشْعَرْتَ طَاعَتَهُ، وَآمَنْتَ مُخَالَفَتَهُ، فَهَذَا الَّذِي قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْكَ تَوْفِيقَهُ وَإِرْشَادَهُ مِنْ حَبَائِلِ كَيْدِ الشَّيَاطِينِ، وَلْيَكُنْ مَا تُرْشِدُهُ بِهِ، وَتُوقِفُهُ عَلَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَإِيَّاكَ وَالتَّكَلُّفَ لِمَا لَا تَعْرِفُهُ، وَتَمَحُّلَ الرَّأْيِ، وَالْغَوْصَ عَلَى دَقِيقِ الْكَلَامِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِكَ بِدْعَةٌ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ السُّنَّةَ، فَإِنَّ إِرَادَتَكَ لِلْحَقِّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْحَقِّ بَاطِلٌ، وَكَلَامَكَ عَلَى السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، وَلَا تَلْتَمِسْ لِصَاحِبِكَ الشِّفَاءَ بِسَقَمِ نَفْسِكَ، وَلَا تَطْلُبْ صَلَاحَهُ بِفَسَادِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْصَحُ النَّاسَ مَنْ غَشَّ نَفْسَهُ، وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِنَفْسِهِ لَا خَيْرَ فِيهِ لِغَيْرِهِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ وَفَّقَهُ وَسَدَّدَهُ، وَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ أَعَانَهُ وَنَصَرَهُ».

إذا، الأول أن يأتيك أحد من أهل السنة، وقد سمع شبهة، فيسأل سؤال مسترشد، وهو يعلم قدر الذي عندك من الحق، ويعلم أن الذي سمعه هو الباطل، فهذا الذي تبين له، لكن لا تخرج في بيانك له عن الكتاب والسنة والآثار، لا تجب كلامه بكلام، لو أتاك بشبهة كلامية لا ترد عليها لا بكلام، ولا بمنطق، وإنما ترد عليها بالكتاب والسنة والآثار.

ثم قال رحمه الله بعد ذلك، بعد أن ذكر آثارًا تدل على ما ذكره، قال: «فَإِذَا كَانَ السَّائِلُ لَكَ هَذِهِ ⦗٥٤٢⦘ أَوْصَافُهُ، وَجَوَابُكَ لَهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَدْ شَرَحْتُهُ، فَشَأْنَكَ بِهِ، وَلَا تَأْلُ فِيهِ جَهْدًا، فَهَذِهِ سَبِيلُ الْعُلَمَاءِ الْمَاضِينَ الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ أَعْلَامًا فِي هَذَا الدِّينِ، فَهَذَا أَحَدُ الثَّلَاثَةِ».

قال: «وَرَجُلٌ آخَرُ يَحْضُرُ فِي مَجْلِسٍ أَنْتَ فِيهِ حَاضِرٌ تَأْمَنُ فِيهِ عَلَى نَفْسِكَ، وَيَكْثُرُ نَاصِرُوكَ وَمُعِينُوكَ، فَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ فِيهِ فِتْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ عَلَى قُلُوبِ مُسْتَمِعِيهِ لِيُوقِعَ الشَّكَّ فِي الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ هُوَ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ يَتْبَعُ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَالْبِدْعَةِ، وَقَدْ حَضَرَ مَعَكَ مِنْ إِخْوَانِكَ وَأَهْلِ مَذْهَبِكَ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا حُجَّةَ عِنْدَهُمْ عَلَى مُقَابَلَتِهِ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِقَبِيحِ مَا يَأْتِي بِهِ، فَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُ لَمْ تَأْمَنْ فِتْنَتَهُ بِأَنْ يُفْسِدَ بِهَا قُلُوبَ الْمُسْتَمِعِينَ، وَإِدْخَالُ الشَّكِّ عَلَى الْمُسْتَبْصِرِينَ، فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا تَرُدُّ عَلَيْهِ بِدْعَتَهُ، وَخَبِيثَ مَقَالَتِهِ، وَتَنْشُرُ مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، وَلَا يَكُنْ قَصْدُكَ فِي الْكَلَامِ خُصُومَتَهُ وَلَا مُنَاظَرَتَهُ» لا تقصد بذلك، “لَا يَكُنْ قَصْدُكَ فِي الْكَلَامِ خُصُومَتَهُ وَلَا مُنَاظَرَتَهُ”، أنت لا تكلمه، ولا تناظره، ولا تخاصمه، وإنما ترد عليه، ووجهك وتوجهك بالكلام لإخوانك، تقول: هذا قوله، رده كذا، ورده كذا.

قال: «وَلْيَكُنْ قَصْدُكَ بِكَلَامِكَ خَلَاصَ إِخْوَانِكَ مِنْ شَبَكَتِهِ، فَإِنَّ خُبَثَاءَ الْمَلَاحِدَةِ إِنَّمَا يَبْسُطُونَ شِبَاكَ الشَّيَاطِينِ لِيَصِيدُوا بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، فَلْيَكُنْ إِقْبَالُكَ بِكَلَامِكَ، وَنَشْرِ عِلْمِكَ وَحِكْمَتِكَ، وَبِشْرِ وَجْهِكَ، وَفَصِيحِ مَنْطِقِكَ عَلَى إِخْوَانِكَ، وَمَنْ قَدْ حَضَرَ مَعَكَ لَا عَلَيْهِ، حَتَّى تَقْطَعَ أُولَئِكَ عَنْهُ»… بمعنى أنك سترد عليه، لا تناظره، لا تكلمه بتاتًا، تلتفت إلى إخوانك، تقول: الرد على هذا… على كلام هذا هو كذا وكذا. قال: «حَتَّى تَقْطَعَ أُولَئِكَ عَنْهُ، وَتَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، بَلْ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَقْطَعَ عَلَيْهِ كَلَامَهُ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ تُحَوِّلُ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ، فَافْعَلْ». حتى لو لزم الأمر لا ترد عليه، لكن تقول لهم: التفتوا إليّ الآن، سنقرأ من صحيح كذا، وسنقرأ من كتاب كذا، المهم تصرفهم عنه.

ثم قال رحمه الله: «فَهَذَانِ رَجُلَانِ قَدْ عَرَّفْتُكَ حَالَهُمَا، وَلَخَّصْتُ لَكَ وَجْهَ الْكَلَامِ لَهُمَا، وَثَالِثٌ مَشْئُومٌ قَدْ زَاغَ قَلْبُهُ، وَزَلَّتْ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ قَدَمُهُ، فَعَشِيَتْ بَصِيرَتُهُ، وَاسْتَحْكَمَتْ لِلْبِدْعَةِ نُصْرَتُهُ، يُجْهِدُهُ أَنْ يُشَكِّكَ فِي الْيَقِينِ، وَيُفْسِدَ عَلَيْكَ صَحِيحَ الدِّينِ» فَجَمِيعُ الَّذِينَ رُوِّينَاهُ، وَكُلُّ مَا حَكَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ لِأَجْلِهِ وَبِسَبَبِهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَأْتِيَ فِي بَابٍ حُصِرَ مِنْهُ، وَوَجِيعُ مَكِيدَتِهِ أَبْلَغُ مِنَ الْإِمْسَاكِ عَنْ جَوَابِهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ خَطَأٍ بِهِ، لِأَنَّ غَرَضَهُ مِنْ مُنَاظَرَتِكَ أَنْ يَفْتِنَكَ فَتَتْبَعَهُ، فَيَمَلًَّكَ وَيَيْأَسَ مِنْكَ فَيُشْفِيَ غَيْظَهُ أَنْ يُسْمِعَكَ فِي دِينِكَ مَا تَكْرَهُهُ، فَأَخْسِئْهُ بِالْإِمْسَاكِ عَنْهُ، وَأَذِلَّهُ بِالْقَطِيعَةِ لَهُ، أَلَيْسَ قَدْ أَخْبَرْتُكَ بِقَوْلِ الْحَسَنِ رحمه الله حِينَ قَالَ لَهُ الْقَائِلُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ تَعَالَ حَتَّى أُخَاصِمَكَ فِي الدِّينِ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَبْصَرْتُ دِينِي، فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَضْلَلْتَ دِينَكَ، فَالْتَمِسْهُ. وَأَخْبَرْتُكَ بِقَوْلِ مَالِكٍ حِينَ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَقَالَ لَهُ: أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ. فَهَلْ يَأْتِي فِي جَوَابِ الْمُخَالِفِ مِنْ جَمِيعِ الْحُجَجِ حُجَّةٌ هِيَ أَسْخَنُ لِعَيْنِهِ، وَلَا أَغْيَظُ لِقَلْبِهِ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ؟ وَالْجَوَابُ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ: لَا تُجَالِسْ مَفْتُونًا، فَإِنَّهُ لَنْ يُخْطِئَكَ إِحْدَى اثْنَتَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَفْتِنَكَ فَتَتْبَعَهُ، وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِيَكَ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَهُ ” وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ حِينَ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أُكَلِّمُكَ بِكَلِمَةٍ، فَوَلَّى عَنْهُ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ: وَلَا نِصْفِ كَلِمَةٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ حِينَ قَالَ لِابْنِ أَبِي يَحْيَى: الْقَلْبُ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ الدِّينُ لِمَنْ غُلِبَ»؟ القلب ضعيف، وليس الدين لمن غلب». انتهى كلامه رحمه الله.

والحاصل من كلام السلف، جمعًا بين كلام الآجري، وكلام ابن بطة، والآثار السابقة:

  • أنك لا تناظر بتاتًا، إلا أن يأتيك أحد من أهل السنة فتبين له الحق، وهو عالم بقدر ما عندك من الحق، وعالم أنه قد سمع شبهة وهي باطلة، لكن لم يجد وجهًا لدفعها من قلبه، فحينئذ تدفعها عن قلبه بالكتاب والسنة والآثار، ولا تخرج عن هذا البته.

  • والحالة الثانية أن يلقي المبطل بدعته في سمع طلابك وأتباعك، فحينئذ ترد عليه، ولا… ولا تكلمه، ولا تخاصمه، ولا تجيبه.

  • والصورة الثالثة أن يكرهك السلطان، ويكون هو متبعًا لمذاهب السوء، فيدعوك، ويكرهك على أن تناظر من عنده من أئمة الضلال، فحينئذ تدفع عن السنة، وتنصر السنة، وتجيب عنها. وفي هذه الحالة كلها لا تخرج عن الكتاب والسنة والآثار، من قرأ “المحنة” للإمام أحمد، رأى كيف أجاب إ\ا كلموه عن شيء من الكتاب، عن شبهة في آية من كتاب الله، أو من السنة، أجابهم، أما قال: “إذا كلموني عن الجسم ونحوه، أقول: لا أعرف ما هذا”، لا يجيبهم رغم تبصره رحمه الله بكلامهم، إلا أنه لا يخوض فيما خاضوا فيه.

ما عدا هذه الحالات الثلاث، تبقى على أصل الذي قُرر لك، تجتنب الخصومات والمناظرات والجدال، تجتنب هذا كله، والذي جعل الآن قنوات تفتح مناظرات للرافضين، وذاك يبحث عن مناظرة ملحد، وآخر يبحث عن مناظرة أشعري، وآخر يبحث عن مناظرة علماني ونحوه، هذا كله خلاف هدي السلف، نعم، هو له بريق، قد يأتيك شيء من الدنيا، الله أعلم على حسب قصد الناس، لكن هذا يضاد ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار، هذا يضاد ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار، وأئمة السلف أعلم مني ومنك.

قال القحطاني في نونيته:

لا تُفْن عُمْرَكَ في الجدَالِ مُخَاصِما … إنَّ الجِدالَ يُخلُّ بالأَدْيَان وَاحْذًرْ مُجَادَلَةَ الرِّجالِ فإنها … تدعو إلى الشحناء والشنآن وإذا اضْطُرِرْتَ إلى الجِدالِ ولَمْ تَجِدْ … لَكَ مَهْربًا وتَلاَقَتَ الصَّفانِ فاجْعلْ كِتَابَ اللهِ دِرْعًا سَابِغًا … والشَّرْعَ سَيْفَكَ وابْدُ في المَيْدانِ والسُّنةَ البيضاءَ دُوْنكَ جُنَّةً … وَارْكَبْ جَوادَ العَزْمِ في الجَوَلانِ واثبُتْ بصَبْكَ تَحْتَ ألْويةِ الهُدى … فالصَّبرُ أوثَقُ عُدَّةِ الإِنسانِ واطعَنْ برُمْحَ الحَقِّ كُلَّ مُعَانِدٍ … للهِ درُّ الفَارِسِ الطَّعانِ واحْمِلْ بِسَيْفِ الصِّدقِ حَمْلةَ مُخْلِصٍ … مُتَجَرِّدٍ للهِ غير جَبَانِ واحْذَرْ بِجُهْدِكَ مَكْرَ خَصْمِكَ إِنَّهُ … كَالثَّعْلَبِ البَرِّيِّ فِي الرَّوْغَانِ

أنقل هنا كلامًا لابن بطة كذلك من “الإبانة الكبرى”، الكلام السابق كله عن المناظرة في أصل الدين، أي عن المناظرة في قضايا السنة، وقضايا المعتقد، الآن سيذكر ابن بطة كلامًا نفيسًا في مسألة المناظرة في الفروع، مسألة المناظرة في الأحكام والمسائل الفقهية، بمعنى التباحث مع شخص آخر في مسألة فقهية، تورد دليلك فيرد عليك، ويورد دليله فترد عليه، وهكذا، ابن بطة يقول لك: هذا الأمر الثاني لا أمنعك منه إلا بشروط، ثم أتاك بشروط تعلم منها أنك ممنوع حتى من هذا، وهذا نذكره رغم كونه ليس هو المقصود من عقدنا هذا الفصل، إلا أنه يُعتبر به في قبح المناظرات عامة، هذا الكلام الذي سأورده بإذن الله الآن، مع كونه ليس هو المقصود في هذا الفصل، إلا أنه يُعتبر به في بيان قبح المناظرات، والجدال، والخصومات عامة، حتى لو كان في غير أصل الدين، تأمل هنا.

قال رحمه الله في “الإبانة الكبرى”: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَذَا النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ عَنِ الْجَدَلِ فِي الْأَهْوَاءِ، وَالْمُمَارَاةِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ قَدْ فَهِمْنَاهُ، وَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَنَا فِيهِ عِظَةٌ وَمَنْفَعَةٌ، فَمَا نَصْنَعُ بِالْجَدَلِ وَالْحِجَاجِ فِيمَا يُعْرَضُ مِنْ مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ فِي الْفِقْهِ، فَإِنَّا نَرَى الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْعِلْمِ يَتَنَاظَرُونَ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرًا فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَهُمْ بِذَلِكَ حِلَقٌ وَمَسَاجِدُ، فَإِنِّي أَقُولُ لَهُ: هَذَا لَسْتُ أَمْنَعُكَ مِنْهُ، وَلَكِنِّي أَذْكُرُ ⦗٥٤٦⦘ لَكَ الْأَصْلَ الَّذِي بَنَى الْمُسْلِمُونَ أَمْرَهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، كَيْفَ أَسَّسُوهُ وَوَضَعُوهُ، فَمَنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَصْلُ أَصْلُهُ، وَهُوَ قَصْدُهُ وَمُعَوَّلُهُ، فَالْحِجَاجُ وَالْمُنَاظَرَةُ لَهُ مُبَاحَةٌ، وَهُوَ مَأْجُورٌ، ثُمَّ أَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِكَ، فَهُوَ الْمَطَّلِعُ عَلَى سِرِّكَ». انظر هنا ابن بطة يقول لك: هذا لست أمنعك منه، وهذا مباح إن أتيت بشروطه، لكنك إذا تأملت شروطه الآن ستدرك أنك كذلك ممنوع منه، سيأتيك الكلام.

قال: «فَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ النَّصِيحَةُ، وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ وُجُوهِ النَّصِيحَةِ أَفْقَرَ وَلَا أَحْوَجَ، وَلَا هِيَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَفْرَضُ وَلَا أَلْزَمُ مِنَ النَّصِيحَةِ فِي تَعْلِيمِ الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ قِوَامُ الدِّينِ وَبِهِ أَدَّيْتَ الْفَرَائِضَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَالَّذِي يَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَمُنَاظَرَاتِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ وَالْأَحْكَامِ تَصْحِيحُ النِّيَّةِ بِالنَّصِيحَةِ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِنْصَافِ وَالْعَدْلِ وَمُرَادِ الْحَقِّ الَّذِي بِهِ قَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، فَمِنَ النَّصِيحَةِ أَنْ تَكُونَ تُحِبُّ صَوَابَ مُنَاظِرِكَ، وَيَسُوؤُكَ خَطَأُهُ». أنت تدخل المناظرة، هذا في الفقه خاصة، بمعنى اختلفتم مثلًا: هل لحم الإبل ينقض الوضوء أم لا؟ أنت ستنتصر لكونه ينقض، والآخر ينتصر إلى كونه مثلًا لا ينقض، أو مسألة أخرى من مسائل الفقه، هذا الكلام فيه، تدخل وأنت تفرح لو أصاب مُكلمك، وتحزن ويسوءك خطؤه، وليس العكس، أن تتمنى أن يخطئ هو وتصيب أنت.

قال: «فَمِنَ النَّصِيحَةِ أَنْ تَكُونَ تُحِبُّ صَوَابَ مُنَاظِرِكَ، وَيَسُوؤُكَ خَطَأُهُ، كَمَا تُحِبُّ الصَّوَابَ مِنْ نَفْسِكَ، وَيَسُوؤُكَ الْخَطَأُ مِنْهَا، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ هَكَذَا كُنْتَ غَاشًّا لِأَخِيكَ، وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُنْتَ مُحِبًّا أَنْ يَخْطَأَ فِي دِينِ اللَّهِ وَأَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ، وَلَا يُصِيبُ الْحَقَّ فِي الدِّينِ وَلَا يَصْدُقُ، فَإِذَا كَانَتْ نِيَّتُكَ أَنْ يَسُرَّكَ صَوَابُ مُنَاظِرِكَ وَيَسُوءَكَ خَطَأُهُ فَأَصَابَ وَأَخْطَأْتَ لَمْ يَسُؤْكَ الصَّوَابُ، وَلَمْ تَدْفَعْ مَا أَنْتَ تُحِبُّهُ بَلْ سَرَّكَ ذَلِكَ، وَتَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَالسُّرُورِ وَالشُّكْرِ لِلَّهِ ﷿ حِينَ وَفَّقَ صَاحِبَكَ لِمَا كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْهُ، فَإِنْ أَخْطَأَ سَاءَكَ ذَلِكَ، وَجَعَلْتَ هِمَّتَكَ التَّلَطُّفَ لِتَزِيلَهُ عَنْهُ، لِأَنَّكَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَلْزَمُكَ النَّصِيحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِ الْحَقِّ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ بَذَلْتَهُ وَأَحْبَبْتَ قَبُولَهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِكَ قَبِلْتَهُ، وَمَنْ دَلَّكَ عَلَيْهِ شَكَرْتَ لَهُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُكَ، وَهَذِهِ دَعْوَاكَ، فَأَيْنَ تَذْهَبُ عَمَّا أَنْتَ لَهُ طَالِبٌ، وَعَلَى جَمْعِهِ حَرِيصٌ، وَلَكِنَّكَ وَاللَّهِ يَا أَخِي تَأْبَى الْحَقَّ، وَتُنْكِرُهُ إِذَا سَبَقَكَ مُنَاظِرُكَ إِلَيْهِ». انظر هذا ابن بطة خبير بأهل عصره، وهم أفضل بمراحل من أهل عصرنا، انظر ماذا يقول له؟

قال: «وَلَكِنَّكَ وَاللَّهِ يَا أَخِي تَأْبَى الْحَقَّ، وَتُنْكِرُهُ إِذَا سَبَقَكَ مُنَاظِرُكَ إِلَيْهِ، وَتَحْتَالُ لِإِفْسَادِ صَوَابِهِ، وَتَصْوِيبِ خَطَئِكَ، وَتَغْتَالُهُ وَتُلْقِي عَلَيْهِ التَّغَالِيظَ وَتُظْهِرُ التَّشْنِيعَ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ فِي عَيْنِكَ وَعِنْدَ أَهْلِ مَجْلِسِكَ أَنَّهُ أَقَلُّ عِلْمًا مِنْكَ، فَذَاكَ الَّذِي تَجْحَدُ صَوَابَهُ، وَتُكَذِّبُ حَقَّهُ، وَلَعَلَّ الْأَنَفَةَ تَحْمِلُكَ إِذَا هُوَ احْتَجَّ عَلَيْكَ بِشَيْءٍ خَالَفَ قَوْلَكَ، فَقَالَ لَكَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قُلْتَ: لَمْ يَقُلْهُ رَسُولِ اللَّهِ، فَجَحَدْتَ ⦗٥٤٧⦘ الْحَقَّ الَّذِي تَعْلَمُهُ، وَرَدَدْتَ السُّنَّةَ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُكَ إِنْكَارَهُ أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عِلَّةً تُغَيِّرُ بِهَا مَعْنَاهُ، وَصَرَفْتَ الْحَدِيثَ إِلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، فَإِرَادَتُكَ أَنْ يَخْطَأَ صَاحِبُكَ خَطَأٌ مِنْكَ، وَاغْتِمَامُكَ بِصَوَابِهِ غِشٌّ فِيكَ، وَسُوءُ نِيَّةٍ فِي الْمُسْلِمِينَ. فَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَنْ كَرِهَ الصَّوَابَ مِنْ غَيْرِهِ وَنَصَرَ الْخَطَأَ مِنْ نَفْسِهِ لَمْ يُؤْمَنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ مَا عَلَّمَهُ، وَيُنْسِيَهُ مَا ذَكَّرَهُ، بَلْ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْلُبَهُ اللَّهُ إِيمَانَهُ، لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ افْتَرَضَ عَلَيْكَ طَاعَتَهُ، فَمَنْ سَمِعَ الْحَقَّ فَأَنْكَرَهُ بَعْدَ عِلْمِهِ لَهُ فَهُوَ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ نَصَرَ الْخَطَأَ فَهُوَ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ، فَإِنْ قُلْتَ أَنْتَ الصَّوَابَ وَأَنْكَرَهُ خَصْمُكَ وَرَدَّهُ عَلَيْكَ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَنَفَتِكَ، وَأَشَدَّ لِغَيْظِكَ وَحَنْقِكَ وَتَشْنِيعِكَ وَإِذَاعَتِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعِلْمِ، وَلَا مُوَافِقٌ لِلْحَقِّ».

انظر، الأوائل قالوا لك: تدعو، فإن قبل منك حمدت الله، وإن رد عليك، كما قال هناك سفيان الثوري في رسالته إلى عباد بن عباد، قال: “وإن رد عليك أقبلت على نفسك، فإن لك فيها شغلًا”، لكن في باب المناظرات والخصومات، حتى في الفقه، إن رد عليك تغضب، ويحمر أنفك، وتتوتر، وقد تخرج عن الأخلاق الحسنة، وتأتي بألفاظ يقولها السوقة، ويقولها أهل الفسق ونحو ذلك، كل هذا أنت تغلف انتصارك لنفسك بزعم الانتصار للدين، أنت تريد أن تعلو أنت في الأرض، تريد العلو في الأرض، وتريد السمعة، والشهرة، والغلبه، والرياء، والظهور، لكن غلفته بكونك تريد نصرة الحق، ونصرة الدين، لكن هنا انظر، إذا رد عليك عوض، كما قال هناك سفيان الثوري، وكما قال قبله قال: “فإن رد عليك حمدت الله”، هنا لا، هنا يرد عليك فتغضب، وتحنق، وتظن أنك مقصود في ذاتك، مقصود بهذا الرد فتغضب لنفسك أنت، وهذا نعوذ بالله منه.

قال: «فَإِنْ قُلْتَ أَنْتَ الصَّوَابَ وَأَنْكَرَهُ خَصْمُكَ وَرَدَّهُ عَلَيْكَ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَنَفَتِكَ، وَأَشَدَّ لِغَيْظِكَ وَحَنْقِكَ وَتَشْنِيعِكَ وَإِذَاعَتِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْعِلْمِ، وَلَا مُوَافِقٌ لِلْحَقِّ. أَبْلَغَنِي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْجَرَوِيِّ الْمِصْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، يَقُولُ: «مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ يَخْطَأَ، وَمَا فِي ظَنِّي عِلْمٌ إِلَّا وَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُنْسَبُ إِلَيَّ». الشافعي كلامه هذا في أحكام الفقه خاصة، لأنه كما قلت لك في الدروس الماضية كان يقول: «سَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ، قُلْتَ: أخْطَأْتَ، وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ، إِذَا أَخْطَأْتُ فِيْهِ قُلْتَ: كَفَرْتَ». الشافعي ما كان يناظر البته في مسائل المعتقد، وإنما مناظرته في قضايا الفقه. فكلام الشافعي هذا محمول على كونه ناظر في مسائل الفقه، ويدخل المناظرة، لأنه هو الشافعي ليس أنت، أنت يصعب أن تأتي بهذا الخلق، ولا أن تحقق هذه النية، لكن لأنه هو الإمام الشافعي، يدخل المناظرة، ويتمنى صواب من يكلمه.

قال: «وَبَلَغَنِي عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ يَحْيَى قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: وَدِدْتُ أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ أَعْلَمُهُ يَعْلَمُهُ النَّاسُ، أُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَلَا يَحْمَدُونَنِي. وَحَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، قَالَ: سَمِعْتُ حُسَيْنًا الزَّعْفَرَانِيَّ، يَقُولُ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ، يَحْلِفُ وَهُوَ يَقُولُ: مَا نَاظَرْتُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا عَلَى النَّصِيحَةِ، وَمَا نَاظَرْتُ أَحَدًا مَا فَأَحْبَبْتُ أَنْ يُخْطِئَ». هذا مذهب الشافعي، وطريقة الشافعي.

قال ابن بطة: «أَفَهَكَذَا أَنْتَ يَا أَخِي بِاللَّهِ عَلَيْكَ؟ إِنِ ادَّعَيْتَ ذَلِكَ، فَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّكَ خَيِّرٌ مِنَ الْأَخْيَارِ، وَبَدَلٌ مِنَ الْأَبْدَالِ». انظر هذا ابن بطة يستصعب، ويرى أن حصول هذا في زمانه بعيد، فما بالك بزماننا؟ وهذا يذكره في قضايا الفقه والفروع، لا في قضايا المعتقد، ومخاصمة أهل الأهواء.

قال: «وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَهْلِ وَقْتِنَا أَنَّهُمْ يُنَاظِرُونَ مُغَالَبَةً لَا مُنَاظَرَةً، وَمُكَايَدةً لَا مُنَاصَحَةً، وَلَرُبَّمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ مَا قَدْ كَثُرَ وَانْتَشَرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَمِمَّا يَظْهَرُ مِنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَمَا يَبْلُغُ بِهِمْ حُبَّ الْغَلَبَةِ، وَنُصْرَةَ الْخَطَأِ أَنْ تَحْمَرَّ وُجُوهُهُمْ، وَتَدُرَّ عُرُوقُهُمْ، وَتَنْتَفِخَ أَوْدَاجُهُمْ، وَيَسِيلُ لُعَابُهُمْ، وَيَزْحَفُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى رُبَّمَا لَعَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُبَّمَا بَزَقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرُبَّمَا مَدَّ أَحَدُهُمْ يَدَهُ إِلَى لِحْيَةِ صَاحِبِهِ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ حَلْقَةَ بَعْضِ الْمُتَصَدِّرِينَ فِي جَامِعِ الْمَنْصُورِ، فَتَنَاظَرَ أَهْلُ مَجْلِسِهِ بِحَضْرَتِهِ، فَأَخْرَجَهُمْ غَيْظُ الْمُنَاظَرَةِ، وَحِمْيَةُ الْمُخَالَفَةِ إِلَى أَنْ قَذَفَ بَعْضُهُمْ زَوْجَةَ صَاحِبِهِ وَوَالِدَتَهُ». هذا يرى الآن على وسائل التواصل، يأتي أحد يريد أن ينصر الحق، أو أن ينصر الباطل، كائنًا من كان، فيخرج إلى ألفاظ عجيبة، يقذف الأمهات، يقذف الآباء، يقذف الزوجات، ونحو ذلك، أمر عجيب، والله المستعان.

قال: «فَحَسْبُكَ بِهَذِهِ الْحَالِ بَشَاعَةٌ وَشَنَاعَةٌ عَلَى سَفَهِ النَّاسِ وَجُهَّالِهِمْ، فَكَيْفَ بِمَنْ تَسَمَّى بِالْعِلْمِ، وَتَرَشَّحَ لِلْإِمَامَةِ وَالْفُتْيَا، وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمُنَاظِرِينَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَمَا رَأَيْتُ وَلَا حُدِّثْتُ، وَلَا بَلَغَنِي أَنَّ مُخْتَلِفَيْنِ تَنَاظَرَا فِي شَيْءٍ»… انظر هذا ابن بطة ينفي أن يكون هو قد رأى بعينه، ولا سمع بأحد ممن تناظر في قضايا الأحكام والتزموا بالشروط التي ذكرها هو في القرن الرابع، فما بالك بعصرنا؟ والله المستعان”.

قال: «وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمُنَاظِرِينَ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، فَمَا رَأَيْتُ وَلَا حُدِّثْتُ، وَلَا بَلَغَنِي أَنَّ مُخْتَلِفَيْنِ تَنَاظَرَا فِي شَيْءٍ فَفَلَجَتْ حُجَّةُ أَحَدِهِمَا، وَظَهَرَ صَوَابُهُ، وَأَخْطَأَ الْآخَرُ، وَظَهَرَ خَطَأُهُ، فَرَجَعَ الْمُخْطِئُ عَنْ خَطَئِهِ، وَلَا صَبَا إِلَى صَوَابِ صَاحِبِهِ، وَلَا افْتَرَقَا إِلَّا عَلَى الِاخْتِلَافِ وَالْمُبَايَنَةِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَلَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَى الْخَطَأِ، فَاجْتَهَدَ فِي نُصْرَتِهِ، وَهَذِهِ أَخْلَاقٌ كُلُّهَا تُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ». انتهى كلام ابن بطة رحمه الله تعالى.

فالمناظرات والخصومات في الدين، وهذا يذكره ابن بطة في المناظرة في باب الفقه والأحكام، وانظر قبح المناظرة في هذا الباب، وانظر الشروط الغليظة التي ذكرها لك، ثم هو بين لك أنه يصعب، ويعسر جدًا أن تحصل هذه الشروط، فاجتنب المناظرة حينئذ في هذا الباب، في الأحكام والفقه، ومن باب أولى، وأحرى أن يقال هذا في مناظرة أهل الأهواء، وخصومة أهل البدع، وقد قدمت لك أن الزجر عنه والتغليظ فيه هو أصل من أصول أهل السنة، ونقلت لك الآثار عن السلف، ونقلت لك كيف أن الإمام أحمد في “أصول السنة”، في رواية عبدوس بن مالك العطار جعله أصلًا من أصول أهل السنة، أن تجتنب المناظرة، والجدال، والمخاصمة في الدين، أنت تلزم السنة، وتصبر عليها، تتعلمها، وتعلمها، وتدعو إليها، فإن ظهرت مخالفة ترد عليها بالكتاب والسنة والآثار، وتجتنب وتفارق وتباين طريق المخاصمات والجدال. والجدال مع أهل البدع، نكتفي بهذا في هذا الدرس، والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا. رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

هذا الدرس الخامس والأخير -إن شاء الله- من سلسلة “خطورة التهوين من معرفة رب العالمين”. وكنا قد رأينا قبل خمسة فصول: الأول أهمية معرفة الله، والثاني خطورة الغلط في باب معرفة الله، والثالث قاعدة أهل السنة والإيمان في باب معرفة الله، والرابع خطورة التعطيل، والخامس اجتناب الجدل والمناظرات والخصومات في الدين. في هذا الدرس نرى الفصل السادس -إن شاء الله- والأخير، وهو غربة السنة وأهلها.

٦. غربة السنة وأهلها

كان مما استقر عند السلف الخوف الشديد من البدع، وعلمهم بكونها فاشية منتشرة عبر الزمن والأيام لا محالة. وعلم السلف كذلك أنهم كلما تأخر الزمن ازدادت البدع انتشارًا وفشوًا، وازدادت السنة غربة ونقصًا. وقد فهم السلف هذا من مدلول الكتاب والسنة، وجاء ذلك واضحًا صريحًا في كتاب الله تعالى، وفي سنة نبيه ﷺ، وفي كلام الصحابة، وفي كلام الأئمة من بعدهم.

قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. جاء في تفسير الطبري بسنده أنه لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣] وَذَلِكَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، بَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا يُبْكِيكَ؟» قَالَ: أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذْ كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ».

وقد بين الله عز وجل أن الحق مع القلة وفي غربة، وأن الكثرة في الغالب الأعم على الضلال والانحراف. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. وقال تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}. وقال تعالى: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}.

هذه الآيات كلها تجعلك -أيها السني، أيها الموحد، يا من سرت على طريق التوحيد والسنة- لا تستوحش من قلة السالكين معك إذا علمت، إذا عرفت طريق الحق فسلكه، اصبر نفسك عليه، وكن متشبثًا به بأصابعك وأيديك وناجذيك، عض عليه بالنواجذ، ولا تستوحش من قلة السالكين معك. هذا أمر كتبه الله عز وجل: أن يكون أهل الحق قلة، وأن يعيش أهل الحق في غربة. فأهل الإسلام غرباء في أهل الأوثان والشرك، وأهل السنة في أهل الإسلام غرباء كذلك.

وهذا تعلمه من أول يوم انضبطت فيه لأحكام الشريعة، حتى قبل أن تعرف السنة. من أول يوم قصدت إلى الانضباط لأحكام الشريعة عرفت أنك في غربة، فلا تستوحش بعد ذلك أن اكتشفت أنك بعد تعلمك السنة، ومعرفتك للسنة، وسلوكك لطريق السنة، لا تستوحش أن اكتشفت أنك في غربة داخل غربة.

بين النبي ﷺ كذلك أن الحال سيؤول إلى فساد، وأن الباطل سينتشر، وأن البدعة ستفشو، وأن السنة سنتحسر، وسيكون أهلها غرباء. جاء في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوْهُ. قُلْنَا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، اليَهُوْدَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟“.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ”. بمعنى يطفن على هذا الوثن. ذو الخلصة هو طاغية دوس، التي كانوا يعبدونها في الجاهلية.

وفي مسند أحمد، وسنن الترمذي، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، عن ثوبان مولى رَسُولُ اللهِ ﷺ قال: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ”. قال الترمذي: “هذا حديث صحيح”.

وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال: “بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”. إذاً لا تستوحش أن وجدت نفسك غريباً. الإسلام بدأ في أوله غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، كما قاله رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وفي مسند أحمد، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه، عن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال: “لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ”.

وفي صحيح البخاري، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ ﷺ». كل زمان يأتي يكون شرًا من الذي قبله، لكن يقع للأمة متنفسات، كما سئل الحسن البصري عن حال عمر بن عبد العزيز، الذي جاء خيرًا من الذي قبله: «إِنَّكَ كُنْتَ تَقُولُ: الْآخِرُ شَرٌّ، وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بعد الْحَجَّاجِ. فَقَالَ الْحَسَنُ: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ مُتُنَفْسَاتٍ». وفي الأصل يكون الزمان في تناقص، وفي بعد، وفي انتشار وفشو للشر، لكن يأتي في الأثناء متنفسات ورحمات من الله تعالى.

هذا أيضًا ذكر الصحابة رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أن البدع ستفشو، والسنن ستندر، وسيصير أهل السنة غرباء. والصحابة لاحظوا تغير الأمر منذ أن كانوا أحياء، لاحظوا تغير الأمر. جاء في سنن الدارمي عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قال: «لَا يَأْتِي عَلَيْكُمْ عَامٌ إِلَاّ وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِى كَانَ قَبْلَهُ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَعْنِي عَامًا أَخْصَبَ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرًا خَيْرًا مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ عُلَمَاؤُكُمْ وَخِيَارُكُمْ وَفُقَهَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، ثُمَّ لَا تَجِدُونَ مِنْهُمْ خَلَفًا، وَيَجِيءُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ».

وفي “البدع” لابن وضاح بسنده، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ: «أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ النُّورِ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قَدْرُ مَا تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالُوا: تُرِكَتِ السُّنَّةُ». الله أكبر، هذا ترى وتعيشه وتسمعه بالليل والنهار. إذا ترك شيء من البدع، وترك شيء من الباطل، يقولون: “تركت السنة!” هكذا. وعندهم إذا أحييت السنة أنت تحيي البدع وتنشر الفتنة والإنحراف في الشباب ونحو ذلك، هكذا انتكست فطرهم، وغشي على أعينهم.

جاء في “البدع” لابن وضاح عن طريق عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عَنْ حَبَّانِ بْنِ أَبِي جَبَلَةَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَيْكُمُ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، إِلَّا الصَّلَاةَ». الله أكبر! انظر أبا الدرداء ماذا يقول في زمانه، يقول للتابعين وهم من هم، يقول لهم: “لو خرج رَسُولُ اللهِ ﷺ فيكم اليوم هو وأصحابه، ما كان عرف شيئًا مما كان عليه وأصحابه إلا الصلاة”. قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ - لما أورد هذا الأثر -: فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ؟ قَالَ عِيسَى - بعد الأوزاعي -: فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ؟ ماذا نقول نحن في زماننا؟ ماذا نقول نحن في زماننا؟! كيف لو أدرك عيسى بن يونس، أو الأوزاعي، أو أبو الدرداء هذا الزمان؟! وكيف لو خرج النبي ﷺ فينا هذا الزمان، ما الذي سيعرفه منا هو وأصحابه مما كانوا عليه؟

وفي “البدع” أيضًا لابن وضاح، عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ مَعْرُوفُهُ مُنْكَرٌ، زَمَانٌ قَدْ مَضَى، وَمُنْكَرُهُ مَعْرُوفٌ، زَمَانٌ لَمْ يَأْتِ». سبحان الله! يقول: “إنكم في زمان معروفه منكر”. الذي ترونه في هذا الزمان معروفًا، هو كان عند السابقين منكر، ومنكر هذا الزمان هو سيكون معروفًا لزمان لم يأت بعده. معنى: قد يحصل مثلا تقصير في اللباس، ثم تقصير في لباس النساء مثلا، ثم إذا جاء زمان آخر يتمنون لو لو وصلوا لو كان تقصيرهم متوقفًا عند ذلك الزمن الأول، بمعنى: يشتد الأمر انحرافًا حتى يرون التقصير الذي كان يراه من قبلهم تقصيرًا، يرونه فضيلة عظيمة مقارنة بما وصلوا إليه.

جاء في صحيح البخاري عن الزُّهْرِيَّ قال: «دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ قَدْ ضُيِّعَتْ». انظر أنس بن مالك رضي الله عنه يقول عن زمانه هو هذا الكلام، في زمن حكم بني أمية يقول: “ما أعرف شيئًا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت”، لأنهم كانوا يؤخرونها في المساجد في ذلك الزمان.

وفي “الإبانة الكبرى” لابن بطة بسنده، عن يَزِيدُ بْنُ خُمَيْرٍ الرَّحْبِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ صَاحِبَ النَّبِيِّ ﷺ: كَيْفَ حَالُنَا مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ «لَوْ نُشَرُوا مِنَ الْقُبُورِ مَا عَرَفُوكُمْ إِلَّا أَنْ يَجِدُوكُمْ قِيَامًا تُصَلُّونَ». سبحان الله! هذا يتحدث عن التابعين، يقول: لو خرج فيكم الصحابة، لا يعرفونكم أصلًا إلا أن يجدوك من تصلي، فحينئذ يدركون أنكم من أمتهم. هذا يقال عن ذلك الزمان، فماذا يقال عن زماننا؟!

وفي “الإبانة الكبرى” كذلك عن ابن عباس رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْا، أنه كان يتمثل بهذا البيت: “فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الذِينَ عَهِدتَّهُمْ ولا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كَنْتَ تَعْرِفُ”.

ثم من بعد الصحابة، اشتكى كثير من التابعين من أئمة الهدى من تغير الحال، وظهور الفساد، وغربة السنة، وفشو البدع. جاء في “البدع” لابن وضاح بسنده، عن الحسن البصري رحمه الله قَالَ: «أَدْرَكْتُ عَشَرَةَ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، لَوْ رَأَوْكُمْ لَقَالُوا: مَا لِهَؤُلَاءِ، مَجَانِينُ؟ وَلَوْ رَأَيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ: هَؤُلَاءِ مَجَانِينُ، وَلَوْ رَأَوْا خِيَارَكُمْ لَقَالُوا: مَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، وَلَوْ رَأَوْا شِرَارَكُمْ لَقَالُوا: مَا لِهَؤُلَاءِ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ خَلَاقٍ».

وفي “البدع” كذلك عن الحسن البصري أيضًا قَالَ: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا، قَالَ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ ثُمَّ قَالَ: إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ لِمَنْ عَاشَ فِي هَذِهِ النَّكْرَاءِ، وَلَمْ يُدْرِكْ هَذَا السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَرَأَى صَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سَبِيلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ؛ لِيُعَوِّضَ أَجْرًا عَظِيمًا، فَكَذَلِكَ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ». الله أكبر! الله أكبر! ما أحسنه من كلام، وما أعظمها من نصيحة، ما أعظمها من نصيحة! إذا أردت أن تستثنى من هذا الشر المتفشي، انظر نصيحته العظيمة قال: “أَمَا وَاللَّهِ مَا ذَلِكَ لِمَنْ عَاشَ فِي هَذِهِ النَّكْرَاءِ، وَلَمْ يُدْرِكْ هَذَا السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ، وَرَأَى صَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سَبِيلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ؛ لِيُعَوِّضَ أَجْرًا عَظِيمًا، فَكَذَلِكَ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ”.

وفيه بسنده، أن مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قال: “لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ فِيكُمْ مِنَ السَّلَفِ مَا عَرَفَ فِيكُمْ غَيْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ”.

وفي “الجرح والتعديل” لابن أبي حاتم بسنده، عن سفيان الثوري رحمه الله في رسالته لعباد بن عباد، قال: “هذه رسالة نفيسة”. قال سفيان الثوري: «سألت أن أكتب لك كتابًا، أصف لك فيه خلالًا تصحب بها أهل زمانك، وتؤدي إليهم ما يحق لهم عليك، وتسأل الله عز وجل الذي لك، وقد سألت عن أمر جسيم، الناظرون فيه اليوم المقيمون به قليل، بل لا أعلم مكان أحد، وكيف يستطاع ذلك؟ وقد كدر هذا الزمان، إنه يشتبه الحق والباطل، ولا ينجو من شره إلا من دعا بدعاء الغريق. فهل تعلم مكان أحد هكذا؟ وكان يقال: “يوشك أن يأتي على الناس زمان لا تقر فيه عين حكيم، فعليك بتقوى الله عز وجل، والزم العزلة، واشغل بنفسك، واستأنس بكتاب الله عز وجل، واحذر الأمراء، وعليك بالفقراء والمساكين والدنو منهم، فإن استطعت أن تأمر بخير في رفق، فإن قبل منك حمدت الله عز وجل، وإن رد عليك أقبلت على نفسك، فإن لك فيها شغلًا، واحذر المنزلة وحبها، فإن الزهد فيها أشد من الزهد في الدنيا، وبلغني أن أصحاب محمد ﷺ كانوا يتعوذون أن يدركوا هذا الزمان، وكان لهم من العلم ما ليس لنا، فكيف بنا حين أدركنا على قلة علم وبصر، وقلة صبر، وقلة أعوان على الخير، مع كدر من الزمان، وفساد من الناس؟ وعليك بالأمر الأول والتمسك به، وعليك بالخمول فإن هذا زمان خمول، وعليك بالعزلة وقلة مخالطة الناس». هذه رسالة نفيسة للثوري رحمه الله.

وفي “البدع” لابن وضاح كذلك بسنده، أن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رحمه الله قال: «أَعْلَمُ أَنِّي أَرَى أَنَّ الْمَوْتَ الْيَوْمَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ». إذا لقيت الله على السنة، ومت على ذلك قبل أن تنحرف، هذه كرامة عظيمة. هذا يقوله عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، المتوفى سنة ثمان وثمانين ومائة، رحمه الله تعالى. قَالَ: «اعْلَمُ أَنِّي أَرَى أَنَّ الْمَوْتَ الْيَوْمَ كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ، وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ، وَظُهُورِ الْبِدَعِ». انظر ماذا يقول عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ في زمانه، مع وجود أئمة عظام من أئمة السنة، فما عسانا نقول في هذا الزمان؟

قال البربهاري رحمه الله في شرح السنة: «واعلم أن رَسُولُ اللهِ ﷺ قال: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، قيل: يا رَسُولُ اللهِ من هم؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي» . وهكذا كان الدين إلى خلافة عمر وهكذا كان في زمن عثمان، فلما قتل عثمان جاء الاختلاف والبدع، وصار الناس أحزابا وصاروا فرقا، فمن الناس من ثبت على الحق عند أول التغيير، وقال به ودعا الناس إليه، فكان الأمر مستقيما حتى كانت الطبقة الرابعة في خلافة بني فلان - يعني العباسيين - انقلب الزمان وتغير الناس جدا، وفشت البدع، وكثرت الدعاة إلى غير سبيل الحق والجماعة، ووقعت المحن في شيء لم يتكلم به رَسُولُ اللهِ ﷺ، ولا أصحابه، ودعوا إلى الفرقة [ونهى] رَسُولُ اللهِ ﷺ عن الفرقة، وكفر بعضهم بعضا، وكل [داع] إلى رأيه، وإلى تكفير من خالفه فضل [الجهال] والرعاع ومن لا علم له، وأطمعوا الناس في شيء من أمر الدنيا وخوفوهم عقاب الدنيا، فاتبعهم الخلق على خوف [في] دنياهم ورغبة في دنياهم، فصارت السنة وأهلها مكتومين، وظهرت البدعة وفشت، وكفروا من حيث لا يعلمون من وجوه شتى، ووضعوا القياس، وحملوا قدرة الرب في آياته وأحكامه وأمره ونهيه على عقولهم [وآرائهم]، فما وافق عقولهم قبلوه وما لم يوافق عقولهم ردوه، فصار الإسلام غريبا، والسنة غريبة، وأهل السنة غرباء في [جوف ديارهم]».

قال الأجري في “الشريعة”: «مَنْ تَصَفَّحَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ عَالِمٍ عَاقِلٍ، عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَهُمُ الْعَامَّ مِنْهُمْ يُجْرِي أُمُورَهُمْ عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَعَلَى سُنَنِ ⦗٣٢٤⦘ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَعَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَذَلِكَ مِثْلُ الْسَلْطَنَةِ وَأَحْكَامِهِمْ وَأَحْكَامِ الْعُمَّالِ وَالْأُمَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمْرِ الْمَصَائِبِ وَالْأَفْرَاحِ وَالْمَسَاكِنِ وَاللِّبَاسِ وَالْحِلْيَةِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْوَلَائِمِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالْخَدَمِ وَالْمَجَالِسِ وَالْمُجَالَسَةِ، وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْمَكَاسِبِ مِنْ جهاتٍ كَثِيرَةٍ، وَأَشْبَاهٌ لِمَا ذَكَرْتُ يَطُولُ شَرْحُهَا تَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا تَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى سُنَنِ مَنْ قَبْلَنَا، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، مَا أَقَلَّ مَنْ يَتَخَلَّصُ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي قَدْ عَمَّ النَّاسَ، وَلَنْ يُمَيِّزَ هَذَا إِلَّا عَاقِلٌ عَالِمٌ قَدْ أَدَّبَهُ الْعِلْمُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِكُلِّ رَشَادٍ، وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ».

وقال ابن بطة العكبري رحمه الله في “الإبانة” -انظر هذا يقولونه في زمنهم- ابن بطة متوفى في القرن الرابع، سنة ثلاثمائة وثمان وسبعين، قال: «فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَاقِلًا أَمْعَنَ النَّظَرَ الْيَوْمَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ لَعَلِمَ أَنَّ أُمُورَ النَّاسِ تَمْضِي كُلُّهَا عَلَى سُنَنِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَطَرِيقَتِهِمْ ⦗٥٧٢⦘ وَعَلَى سُنَّةِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَعَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَمَا طَبَقَةٌ مِنَ النَّاسِ وَمَا صِنْفٌ مِنْهُمْ إِلَّا وَهُمْ فِي سَائِرِ أُمُورِهِمْ مُخَالِفُونَ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَسُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ مُضَاهُونَ فِيمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ وَالْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَهُمْ، فَإِنْ صَرَفَ بَصَرَهُ إِلَى السَّلْطَنَةِ وَأَهْلِهَا وَحَاشِيَتِهَا، وَمَنْ لَاذَ بِهَا مِنْ حُكَّامِهِمْ وَعُمَّالِهِمْ وَجَدَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِيهِمْ بِالضِّدِّ مِمَّا أُمِرُوا بِهِ، وَنُصِّبُوا لَهُ فِي أَفْعَالِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ وَزِيِّهِمْ، وَلِبَاسِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ النَّاسِ بَعْدَهُمْ مِنَ التُّجَّارِ وَالسُّوقَةِ، وَأَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَطَالِبِيهَا مِنَ الزُّرَّاعِ وَالصُّنَّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ. وَمَتَى فَكَّرْتَ فِي ذَلِكَ وَجَدْتَ الْأَمْرَ كَمَا أَخْبَرْتُكَ فِي الْمَصَائِبِ وَالْأَفْرَاحِ وَفِي الزِّيِّ وَاللِّبَاسِ وَالْآنِيَةِ وَالْأَبْنِيَةِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْخُدَّامِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْوَلَائِمِ وَالْأَعْرَاسِ وَالْمَجَالِسِ وَالْفُرُشِ وَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَكُلِّ ذَلِكَ فَيَجْرِي خِلَافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالضِّدِّ مِمَّا أُمِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَنُدِبَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَاعَ وَاشْتَرَى وَمَلَكَ وَاقْتَنَى وَاسْتَأْجَرَ وَزَرَعَ وَزَارَعَ، فَمَنْ طَلَبَ السَّلَامَةَ لِدِينِهِ فِي وَقْتِنَا هَذَا مَعَ النَّاسِ عُدِمَهَا». انظر لو تطلب السلامة لدينك مع الناس تعدمها. نسأل الله السلامة والعافية. قال: «وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَلْتَمِسَ مَعِيشَةً عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَقْدَهَا، وَكَثُرَ خُصَمَاؤُهُ وَأَعْدَاؤُهُ وَمُخَالِفُوهُ وَمُبْغِضُوهُ فِيهَا، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ فَمَا أَشَدَّ تَعَذُّرَ السَّلَامَةِ فِي الدِّينِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَطُرُقَاتِ الْحَقِّ خَالِيَةٌ مِقْفِرَةٌ مُوحِشَةٌ قَدْ عُدِمَ سَالِكُوهَا وَانْدَفَنَتْ مَحَاجُّهَا، وَتَهَدَّمَتْ صَوَايَاهَا وَأَعْلَامُهَا، وَفُقِدَ أَدْلَاؤُهَا وَهُدَاتُهَا، قَدْ وَقَفَتْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَلَى فِجَاجِهَا وَسُبُلِهَا تُتَخَطَّفُ النَّاسُ عَنْهَا، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، فَلَيْسَ يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ وَيُهِمُّهُ إِلَّا رَجُلٌ عَاقِلٌ مُمَيِّزٌ، قَدْ أَدَّبَهُ الْعِلْمُ وَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ بِالْإِيمَانِ».

ثم قال -بعد أن أورد آثار الصحابة الدالة على ذلك-: «هَذَا يَا إِخْوَانِي رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ قَوْلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ تَرَكْتُ أَكْثَرُ مِمَّنْ ذَكَرْتُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُ الْمُؤْمِنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَأَيُّ عَيْشٍ لَهُ مَعَ أَهْلِهِ، وَهُوَ لَوْ عَادَ عَلِيلًا لَعَايَنَ عِنْدَهُ، وَفِي مَنْزِلِهِ، وَمَا أَعَدَّهُ ⦗٥٧٥⦘ هُوَ وَأَهْلُهُ لِلْعِلَّةِ وَالْمَرَضِ مِنْ صُنُوفِ الْبِدَعِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَنِ، وَالْمُضَاهَاةِ لِلْفُرْسِ وَالرُّومِ وَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ مَعَهُ عِيَادَةُ الْمَرْضَى، وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ جِنَازَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ إِمْلَاكَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، وَكَذَلِكَ إِنْ شَهِدَ لَهُ وَلِيمَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ يُرِيدُ الْحَجَّ عَايَنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ مَا يُنْكِرُهُ وَيَكْرُبُهُ وَيَسُؤُهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْمُسْلِمِينَ وَيَغُمُّهُ، فَإِذَا كَانَتْ مَطَالِبُ الْحَقِّ قَدْ صَارَتْ بِوَاطِلَ، وَمَحَاسِنُ الْمُسْلِمِينَ قَدْ صَارَتْ مَفَاضِحَ، فَمَاذَا عَسَى أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُهُمْ فِي الْأُمُورِ الَّتِي نَطْوِي عَنْ ذِكْرِهَا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مَا أَعْظَمَ مَصَائِبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ، وَأَقَلَّ فِي ذَلِكَ الْمُفَكِّرِينَ». سبحان الله! هذا كلام ابن بطة، وقبله كلام الأجري، وقبله آثار السلف. هذا كله عظيم تعتبر به في فساد زمانك، وتعتبر به في غربة أهل الحق، وغربة أهل السنة في هذا الزمان وفي كل زمان.

رأيت -رحمك الله- كلام الأئمة في انتشار الفساد، وفشو البدع، وغربة الحق. وهذا يقولونه مع ما أدركوه من خير، بل بعضهم أدرك القرون المفضلة التي مدحها رَسُولُ اللهِ ﷺ، ومع ذلك وصفوا انتشار الفساد، وتغير الحال، وبعد الناس عن الأمر الأول، فما عسانا نحن نقول في هذا الزمان؟ وما عسى أولئك الأئمة أن يقولوا لو أدركوا زماننا؟ تخيل هذا: ابن بطة، أو قبله الآجري، أو قبله البربهاري، أو قبله الأئمة سفيان بن سعيد الثوري، أو ابن المبارك، أو قبله الصحابة، تخيلوا لو نشروا فينا في هذا الزمان، ما عساهم يقولون؟ ما عساهم يقولون؟ الله المستعان!

أنبه على مسألة، هذا الكلام السابق الذي ذكرته، ونقلت، وقدرت قاعدته، وبينت لك غربة الحق وأهله، وغربة السنة وأهلها، هذا لا يعني بتاتًا أن الحق لم يعد موجودًا، انعدام الحق بالكلية هذا ليس هو مدلول الكلام السابق. لا يعني الكلام السابق أن الحق لم يعد موجودًا بالكلية، ولا يعني الكلام السابق أن السنة لا يمكن إصابتها، ولا يعني الكلام السابق تيئيس الناس من السير على الهدى وطريق السلف وتقنيطهم من رحمة الله، معاذ الله من ذلك. قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}. وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. وليس المقصود كذلك أن الخير انعدم من الأمة بالكلية، وأن الشر قد أطبق عليها بالكلية. قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. وفي صحيح مسلم، عن صهيب قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ».

فالخير موجود، والسنة موجودة، لكن المقصود من الكلام السابق أن الحق والسنة والهدى موجود مع قلة قليلة، وبقية باقية، وأهلها في غربة ووحشة، فكن -وهذا واجب عليك- كن حريصًا أن تكون من هذه القلة، وخف على نفسك خوفًا شديدًا من أن يؤثر فيك كثرة أهل البدع، وانتشار مذاهبهم، وفشو طريقتهم. كن خائفًا وجلًا على نفسك، و”اصْنَعْ كمَاشٍ فَوقَ أرضِ الشَّوكِ يحذرُ ما يَرى”، كما قيل: “خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرها وكبيرها فهو التُّقَى … واصْنَعْ كمَاشٍ فَوقَ أرضِ الشَّوكِ يحذرُ ما يَرى”. كأنك تمشي فوق أرض الشوك، هل ستمشي دون حذر وهي أرض شوك؟ ستمشي وأنت تحذر ما ترى.

جاء في صحيح مسلم عن ثوبان قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: “لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ. لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ. حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ”. فاحرص -يا رعاك الله- أن تكون من هذه الطائفة التي تكون ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله. وهذا قد يصدق في الواحد والاثنين والثلاثة، المهم كن أنت على الحق، كن أنت على الحق في كل زمان. وجب على أهله أن يلتمسوا الحق، وأن يتبعوه، وأن لا يستوحشوا من قلة السالكين، وأن لا يستوحشوا من غربتهم، وألا تكون قلتهم وغربتهم دليلًا على بطلان مسلكهم. الكثرة ليست دليلًا على الحق، والقلة ليست دليلًا على الباطل، بل الحق ما وافق ما وافق الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف، والباطل ما صادم الكتاب والسنة، وما خالف ما كان عليه السلف.

ما أحسن ما نقله أبو داود في سننه عن الإمام مالك رحمه الله، بعد تخريج حديث: “إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ”. علق الإمام مالك على هذا الحديث، هذا نقله أبو داود في سننه. قال أبو داود: قال مالك: “إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ، يَعْنِي فِي أَمْرِ دِينِهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا”. هذا لا شك الإمام مالك لا يقوله من قبل الرأي، وإنما يقوله جمعًا بين النصوص، لأنه لو قال ذلك تحزنًا، هذا نفس الذي قاله الصحابة، وهو مدلول أحاديث أخرى، بل وهو مدلول ما جاء في كتاب الله كما أسلفنا. فالإمام مالك لما جمع بين النصوص، خلص إلى هذا التقرير قال: “إِذَا قَالَ ذَلِكَ تَحَزُّنًا لِمَا يَرَى فِي النَّاسِ، يَعْنِي فِي أَمْرِ دِينِهِمْ فَلَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، وَإِذَا قَالَ ذَلِكَ عُجْبًا بِنَفْسِهِ، وَتَصَاغُرًا لِلنَّاسِ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ”. إذا نهيك عن قولك: “هلك الناس”، هذا نهي عن أن تقوله عجبًا بنفسك وتصاغًا للناس. إذا قلته كبرًا، واستعلاء، وعلواً في الأرض، وتباهيًا، ورياء، وسمعة، وحبًا للظهور، هذا الذي تنهى عنه. لكن -ولذلك هذا ينبه أيضًا- بعض الناس يدرك بعض أجزاء الحق، فلا يكون له بحث إلا هذا الجزء. يعلم مثلا أن فلانًا وعلانًا من المشاهير من المتأخرين كانوا جهمية، فلا يصير له مبحث إلا هذا ليل نهار، وهو يريد أن يفاتح الناس: “فلان الذي تجعلونه إمامًا جهمي، فلان الذي…“. أنت أدركت هذا وعلمته، تحمد الله على ذلك، وانشغل بغيره من مباحث الحق تتعلمه، وتعمل به، وتدعو إلى السنة، وتدعو إلى أصول السنة.

ليس من أصول السنة الكلام في فلان وعلان من الأعيان لكن لو عرض الكلام فيهم واحتجت أن تبين أمرهم تفعل لكن أن تجعلها مبحثًا وحيدًا تستطيل به على الناس، وتتفاخر به على الناس، وتظهر به على الناس، قد يشملك هذا الحديث: “أن تقول: هلك الناس” إعجابًا، وتعالياً، وتفاخرًا، واستطالة، وكبرًا، وعجبًا. لكن لو تفعله تحزنًا على الناس، وتحزنًا على فوات الخير، هذا لا يشملك هذا الحديث، فينتبه إلى هذا.

فكن -رحمك الله- ملازمًا للسنة صابرًا عليها، اصبر نفسك على السنة حتى تلقى الله عز وجل، كما قال الإمام مالك رحمه الله قال: “السُّنَّةُ سَفِينَةُ نُوحٍ، مَنْ رَكِبَهَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غرق”. وقال: “مَنْ مَاتَ عَلَى السُّنَّةِ فَلْيُبْشِرْ مَنْ مَاتَ عَلَى السُّنَّةِ فَلْيُبْشِرْ مَنْ مَاتَ عَلَى السُّنَّةِ فَلْيُبْشِرْ”. فالتزام السنة، ومعرفة السنة، والصبر عليها، والعيش عليها، والموت عليها، وأن يختم لك بها، هذه كرامة عظيمة. كن ملازمًا للسنة، اصبر نفسك عليها، تعلمها، وعلمها، وادع إليها، فإذا ظهر باطل، إن كنت من أهل التحقيق، وكنت من أهل العلم، ورزقت علمًا وفهمًا، فتمكنت من الرد على الباطل، رد عليه بالكتاب والسنة، والإجماع، والآثار، ولا تخرج عن هذه بتاتًا، فلا تخذ في كلام، ولا في جدل، ولا تناظر أحدًا، ولا تخاصم أحدًا، ولا تجادل أحدًا -الخصومة بمعنى المجادلة- واصبر على هذا، ولا تستوحش من قلة السالكين، وكن دائم المراجعة والمذاكرة، وأدم النظر في أصول السنة.

نحن ندعو الناس إلى أصول السنة، ليست دعوتنا قاصرة على الحديث في شخص معين صنف كتبًا في زمن من الأزمان، وعلمنا أنه جهمي مثلا، ليست دعوتنا قائمة على مضادة الناس في النووي، أو في ابن حجر. نعم، إذا علمت أنهما على التجهم لا بأس، إذا عرض لك بحث، أو عرضت لك حاجة أن تذكر حكمهم لا بأس، لكن أن تجعلها ديدنك، فتستطيل به على غيرك، وتترك سائر أصول السنة، هذا لا ينبغي أن يكون، نكتفي بهذا. والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد لله أن وفق لختام هذه السلسلة على خير، وأسال الله عز وجل أن يتقبلها من سامعها وقائلها وأن يكتب لنا الأجر، والله تعالى أعلى وأحكم.