الحالة:: معالج
النوع:: فيديو
اﻷولوية::
الغرض:: فقه النفس
المنشيء:: المواد الصوتية عبد الله بن فهد الخليفي
المدة:: 38:59
الرابط:: https://www.youtube.com/watch?v=EQkOZuoNOLs
التدريب::
المؤثر::
تاريخ اﻹكمال:: 2025-04-13
2025-04-09
مقدمة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تحيتي لجميع المستمعين. سنحاول مع بعضنا البعض أن نسير مسيرًا يفيدنا وينفعنا في عموم الحياة إن شاء الله تبارك وتعالى. أزعم أن الإنسان لن يكون بعد هذه المحاضرات مثله قبلها. هذا سيكون في قراءة النفس، ثم الانطلاق من هذه القراءة لمعالجة عامة الإشكاليات التي تقف أمام الإنسان في هذا العصر، في هذا الوقت العجيب نوعًا ما، الذي فيه الكثير من المشاكل.
الكل يشكو، الكل يشكو من مكانه. الوالدان يشكوان من مكانهما، الأولاد يشكون من مكانهم، الحاكم يشكو والمحكوم يشكو، والكل يلقي باللائمة على الطرف المقابل. سنفهم واقع هذه الإشكالية من خلال الاستنارة بالوحي.
هذه المحاضرة ستكون في التعرف على أنفسنا: من نحن؟ قبل الدخول في أي بحث فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر، بالعلاقة مع التساؤلات الشرعية، بالعلاقة مع الأفكار الوافدة، بالعلاقة مع تحديد الأهداف في الحياة. قبل أن نخوض في كل هذه الأبحاث، مشكلتنا أننا نبحث وندخل في هذه الأمور قبل أن نعرف من نحن.
الوحشة بيننا وبين أنفسنا
إذا أجبنا على هذا السؤال، سنبدأ ندخل في إشكالية الوحشة بيننا وبين أنفسنا. تلاحظون أن كثيرًا من الناس، وهذا يقع لنا جميعًا، لا يحب أن يخلو مع نفسه، لا يحب أن يجلس ويراجعها. دائمًا يأخذ الهاتف أو تأخذ الهاتف، تقلب في اليوتيوب وفي غيره وغيره، أو ينظر إلى صديق محبب ويطلب أن يقعد يتكلم معه في أي شيء.
النفس هذه صايرة مثل السرداب، هذا السرداب المكتظ الذي صار له سنوات طويلة ما أحد فتحه. مجرد ما يفتحه يثير غبارًا في الوجه. في الواقع، افتحه حتى لو أثار غبارًا، ثم بعد ذلك ليرتب من جديد.
هل نحن نعرف من نحن؟
طيب، هل نحن الآن نعرف من نحن؟ ممكن واحد يقول: لا، أنت تبالغ. كل الناس يعرفون من هم. لا، أنا لما أسأل لنجيب على سؤال: من نحن؟ نريد جوابًا عامًا، نريد جوابًا يبين من نحن؟ ما هدفنا؟ ما وظيفتنا؟
وهناك أيضًا وحشة بيننا وبين خالقنا. لكن لنبدأ أولًا بسؤال: من نحن؟
إجابة سؤال “من نحن؟”
ما الإجابة النموذجية؟ لما يسألك إنسان: من أنت؟ من نحن؟ ما الإجابة النموذجية؟ ما هي أول صفة ممكن تخطر على البال؟ صفة أنني، مثلًا، أنا سعودي؟ أنا… لا، أنا إنسان؟ لا، في صفة أعم.
أول صفة: أنا مخلوق، حادث وفانٍ.
ما معنى هذه الكلمة؟ معناه أنني جئت لهذه الدنيا بعد أن لم أكن موجودًا، وسأغادرها في وقت من الأوقات. الدنيا هذه ليست متوقفة عليّ، أنا حلقة في سلسلة. أنا مخلوق. من بداية “أنا مخلوق” هذه، أبدأ. هذه الانطلاقة، هذه الأرضية التي من خلالها سننظر.
طيب، ما دمت مخلوقًا، يعني وُجدت بعد أن لم أكن. طيب، أنا من أين جئت؟ والله، والدي ووالدتي أوجداني. أنا افتقرت إليهما حتى يأتيان بي. طيب، هما من أين جاءا؟ جاءا من والدي الوالد. الوالد والوالدة من أين جاءا؟ تظل تمشي تمشي تمشي. كلما نذكر سببًا، إذا كان حادثًا (يعني له بداية، وُجد بعد أن لم يكن)، سنسأل: من أين جاء؟ إلى أن نصل إلى الغني، الأول الذي لا بداية له، إلى الله عز وجل.
إذًا، أنا مخلوق، حادث، مفتقر لخالق لا بداية له سبحانه وتعالى، غني. لماذا قلنا لا بداية له؟ لأنه لو قلنا له بداية، سنسأل: من أين جاء؟ إذًا، لا بد أن يكون لا بداية له. طيب، وغني لا يحتاج إلى أحد لأنه لا بداية له، مستغنٍ. ولأنه يستحيل عقلًا أن نكون نحن قادمين من سلسلة لا متناهية من الأسباب المبنية على بعضها البعض.
يعني الآن، لو جاء واحد يقبض الراتب وقالوا له: أنت ما راح تقبض الراتب إلا المدير الذي فوقك يوقع. والمدير فوقه مدير، والمدير فوقه مدير، والمدير فوقه مدير إلى ما لا بداية له. ما راح يقبض الإنسان راتبًا. فإذا وجد نفسه قبض الراتب، سيعرف أنها وصلت إلى مدير، هذا المدير لا ينتظر إذنًا من أحد، هو وقع والبقية التي تحته وقعوا. ولله المثل الأعلى. هذا هو المثل.
هذه الفكرة هي غائبة عن عقول كثيرين. معقولة كل الناس يدرون أنهم مخلوقين؟ صدقني إنها غائبة عن عقل كثيرين. ما معنى أنني أنا مخلوق؟ يعني معناه أنني وُجدت بعد أن لم أكن، يعني أنا مفتقر، يعني أنا بالأصل ناقص. أنا كإنسان أصلًا ناقص بطبيعة الحال.
مخلوق أي: ناقص ومفتقر
من هذا الحدوث (الوجود بعد أن لم يكن)، هذا نقص، هذا افتقار. هذا يلقي بظله على كل صفاتي. أنا لست إلهًا. الكمال كله عند الإله. إذا فهمتُ أنني مخلوق، وأنني ناقص، وأنني افتقرت إلى غيري لكي أُوجد، وغيري هذا مفتقرٌ إلى أن نصل، كلنا في النهاية مفتقرون إلى الخالق الواحد الأحد سبحانه.
إنسان عاقل ومفكر، إذن مكلف وموجود لغاية
بعدين، أنا إنسان عاقل ومفكر، وأعرف الحق والباطل والظلم والخير والشر، و… و… إذًا، أنا لوجودي هنا غاية. ولا شك أن هذا الخالق الذي خلقني أوجدني لغاية. إذًا، أنا إنسان، مخلوق، إنسان، ومكلف.
لأننا كبشر عندنا اختلافات كثيرة، ولأننا أصلًا ناقصون. أنا ناقص وأنت ناقص، ونختلف، وعندنا أهواء، وفينا خير وفينا شر. طيب، ما الذي يفصل بيننا؟ طيب، ما الذي يعلمنا ما يريده منا؟ طيب، ما الذي يعلمنا ما الجائزة لمن أطاع؟ وما العقوبة لمن عصى؟ إذًا، في النهاية، نحن نتحمل قدرًا من المسؤولية الأخلاقية. فإذًا، نحن مخلوقات بشر، لسنا حيوانات، نتحمل مسؤولية أخلاقية، مخلوقات غائية، لنا علاقة بالله.
الدنيا دار ممر للآخرة
وهذه الدار، بناءً على كل المقدمات التي فاتت، مع وجود الوحي، هي دار ممر. هذه الحقائق كلها استوعبوها وتمسكوا بها. هذه أول نقطة. كل نقطة من هذه النقاط ستفيدنا في قراءة أنفسنا، وفي إزالة الوحشة مع هذه النفس.
خطوات إزالة الوحشة مع النفس
أولى خطوات إزالة الوحشة مع النفس هي إزالة الوحشة مع الخالق. نحن نعرف أن هناك خالقًا أوجدنا. أنا أزعم أنه معظمنا عنده مشكلة مع الخالق، عنده وحشة مع هذا الخالق.
قد يقول قائل: لا، ليس معقولًا! هل يعني هذا أننا كفار؟ لا، نحن نؤمن به ونحبه، لكن عندنا مشاكل. وهذه المشاكل لأننا في الأساس لا نستطيع أن نفهمها، أو لا نستطيع أن نبوح بها، أو لا نستطيع أن نفلسفها بشكل جيد، تنتهي بنا إلى إلقاء اللائمة على المجتمع أو على الوالدين أو على… أو على… أو على… وفي الواقع، أن هناك وحشة مع الخالق.
هل معنى هذا أن مجتمعاتنا أو والدينا أو مدراءنا أو أزواجنا أناس ملائكة لا يخطئون؟ لا، لا، لا، لم أقل هذا. ونحن أيضًا هناك من يلقي باللائمة علينا. لم أقل هذا. وإنما قلت إننا لو أزلنا الوحشة مع الخالق، فسنبدأ نفهم حقيقة العلاقة مع الناس، ولا يصير الناس يؤثرون بنا كل هذا التأثير. سنفهم الأمور بشكل أحسن بكثير.
كيف هذا؟ الآن، أنت ألست قد فهمت أنك مخلوق، الأصل فيك أنك ناقص؟ وفهمت أن الله عز وجل له الكمال المطلق؟ طيب، خلينا نسأل سؤالًا.
لماذا ينبغي أن نحب الله عز وجل؟
في بداية موضوع إزالة الوحشة مع الله، لا بد أن نحب الله. قد يقال: يا طيب، نحن نحب الله! لا، لا، لا. نريد حبًا مبنيًا على تفكر. تفكر في ذات الله؟ لا. تفكر في آلاء الله، تفكر في واقعنا. طيب، لو سألنا سؤالًا: لماذا ينبغي أن نحب الله عز وجل؟
ممكن يقول إنسان: والله، أنا ممكن أحب الله عز وجل لأنه تعالى اسمه، لولاه لكانت الدنيا ما لها معنى. ألسنا أجبنا عن الأسئلة كلها بالله عز وجل؟ يعني لو لم يكن الله، لما كان لحياتنا فائدة أو غاية. وبناءً عليه نحبه. نحبه لأن فيه العزاء، لأنه سبحانه وتعالى سيحيي موتانا، وهناك يوم القيامة يُقتص من الظالم، نلقى فيه من فقدنا من الأحباب. كل ظلم، كل إشكالية في الدنيا، كل شيء كنا نظن أننا نستحق أن نحصل عليه وحُرمنا منه، نحن ننتظر العزاء من الله عز وجل. فممكن هذا هو سبب الحب: العزاء، أو أنه لولاه لا تكون هناك أي فائدة أو أي طعم للحياة. حتى الأخلاق تكون قيمًا هكذا تُقال. ولكن ممكن يأتي إنسان شرير، إنسان عديم أخلاق وينتصر ويحقق انتصارات كبيرة ضد أهل الحق، عادي! ما في عدالة سماوية ولا عدالة أخروية، ولا قيمة العدل هذه قيمة حقيقية، إنما هي مجرد خيال. فالمنتصر هو الإله لو لم يكن الله في الموضوع. أقول لك هذا سبب، لكنه…
وماذا أيضًا؟ ممكن يأتي إنسان ويقول: نحن نحب الله عز وجل لأنه كل حاجة جميلة في الدنيا هي في الله كمال مطلق. الجمال الذي لطالما شغفت عقولنا، الله عز وجل هو الجمال المطلق، لأنه مانح الكمال هو أولى به. هو كما أن وجوده وجود مطلق لا بداية له، كمال لا نقص مثلنا. فكل حاجة فيه كمال مطلق. الجلال والجمال والهيبة، التي نحن نسميها هيبة في البشر، التي هي الجلال، كل هذه الصفات هي في الله عز وجل كمال مطلق. فنحن نحبه لأن كل شيء في الدنيا نحن نحبه هو في الله كمال مطلق. والنقص هذا خاص بنا نحن معاشر المخلوقين، لأننا من البداية وجودنا فيه نقص. فلكي نصل إلى الكمال المطلق، نصير آلهة. لكن في الواقع لسنا آلهة، نحن مخلوقات.
ممكن إنسان يقول هذا سبب حبنا لله عز وجل. شخص يقول لأنه الحياة ما لها طعم بدونه، شخص يقول لأنه كل شيء جميل في هذه الدنيا، يعني هو فيه الجمال المطلق، كل شيء شغف عقولنا هو في الله عز وجل الجمال بأكمل صورة مطلقة.
أوكي، يجي إنسان يقول: لا. أنا أقول لك سبب أكثر. الله عز وجل في الشريعة، لما عرّف نفسه لنا من خلال شريعته، لطف بنا فعرّف نفسه من خلال شريعته. باستمرار يعاملنا بالفضل لا بالعدل.
تقول: شلون؟ الآن، الله عز وجل، ما العدل؟ العدل أن تكون دائرة المباح بقدر دائرة المحرمات. يعني في أربعين محرمًا، في أربعين مباحًا. في الواقع، لا، دائرة المباحات أعلى بكثير. وهذا من الفضل. يعني الآن، مثلًا، في المشروبات، كم مشروب حلال؟ كثير جدًا. المسكرات هي الخمر، أنواع قليلة. بل الله عز وجل… يعني العدل أنه يجعل الحلال لا لذة فيه. لماذا؟ لأنك أنت في اختبار ستين سبعين سنة، وبعدها ستذهب إلى جنة كلها ملذات. لا، الله عز وجل جعل الحلال فيه لذة، من باب الفضل. بل عز وجل جعل في الحرام أضرارًا كثيرة جدًا، وتنفر منه النفوس. وهذا من باب الفضل. وإلا فالعدل أنه ممكن يخليها كلها نفس الشيء، كلها فيها لذة أو كلها ما فيها شيء، وأنت تختار. لكن الله عز وجل تفضل علينا.
المصائب، الأصل فيها أنها ماذا؟ العدل أنها تكون مجرد مذكرات لنا بالآخرة. لكن الله عز وجل تفضل علينا وجعلها كفارات أيضًا لذنوبنا. تكفر ذنوبنا رغمًا عنا بالمصائب.
الحسنة، العدل أن الحسنة تكون مثل السيئة. لكن الله عز وجل بالعكس، جعل الحسنة بعشرة أمثالها، والسيئة لا يُجزى إلا مثلها. وجعل أزمنة فاضلة يتضاعف فيها الأجر جدًا جدًا جدًا، حتى إنه فيه طاعات تُغفر فيها الذنوب مغفرة عظيمة، فيعود الإنسان كما ولدته أمه.
العدل أنه ما يكون فيه ميل فطري لفعل الخير أو استمتاع أو لذة، لا، يكون الحلال والحرام شيئًا واحدًا. هذا ما تلتذ به وهذا ما تلتذ به. أو أصلًا يكون الحرام فيه لذة، كنوع من الاختبار. لكن الواقع أن الله عز وجل جعل فينا محبة للخير طبيعية. وإلى آخر ذلك.
الله لم يكلنا إلى عقولنا وفطرنا، بل أرسل إلينا رسلًا، وتعرّف إلينا من خلال خطابه. تصور، نحن مخلوقات فانية، بشر، شيء يسير في هذا الكون الفسيح. يعني الإنسان، عفوًا، عندما يستحم، يقتل الكثير من البكتيريا، صح ولا لا؟ ولا يشعر. لأنه ماذا؟ البكتيريا دقيقة جدًا لا يشعر بها. نحن في الكون كأننا بكتيريا. ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾. ومع ذلك، الله عز وجل ينزل علينا كتبًا ويرسل إلينا رسلًا، يتعطف علينا بخطابه، ويقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾؟ من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا؟ ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾. أنا مثل هذا الخطاب حقيقة يأخذ بلُبِّي. يعني من أنا حتى الله عز وجل يخاطبني بهذا اللين كله؟
ترى حتى خلق جهنم، جهنم خُلقت بشعة جدًا لكي ترعبنا جدًا فنهرب منها إلى جنان الخلد. ولا يهلك على الله إلا هالك. والله عز وجل كمال مطلق ونحن ناقصون. بل الله عز وجل شرح لنا النشوء في أمور كثيرة ترونها شرًا وهي في باطنها خير: ﴿وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. وضرب لنا أمثلة، قصة موسى والخضر، مع أنه هذه الأمور المفروض نحن نستنبطها بعقولنا، لكن هو تفضل علينا فجعلنا نستنبطها. في أمور كثيرة في حياتنا كنا نظنها شرًا فكانت خيرًا، أليس كذلك؟
كل شيء لله هو كمال مطلق
ونستنبط ما دام الله عز وجل كمالًا مطلقًا، إذًا لا يأمر بشيء إلا وفيه خير. نحن كبشر ناقصين، ممكن ندرك هذا وممكن لا ندركه، لأننا نتكامل بغيرنا، فلا نبصر إلا مصالحنا الشخصية. هناك مصالح لآخرين نحن لا نبصرها ولا نستوعبها. طيب.
الإنسان يفهم متطلباته فقط، والوحي يخبره بمتطلبات الطرف الآخر
فحكمة الله واسعة. الآن، إذا فهمنا هذا الأمر مبدئيًا، فهمنا أننا ناقصون، أننا مخلوقون، أن لنا خالقًا، وأن هذا الخالق محبتنا له منطقية، وأن هذا الخالق كمال مطلق، وأنه سبحانه وتعالى جاءنا بشرائع وأرسل إلينا رسلًا حتى يفهمنا الأصلح، وأننا أصلًا في دار اختبار، فأحيانًا يخبرنا بالحكمة وتتضح لنا، وأحيانًا يتركها خفية لاختبار تسليمنا وتواضعنا، وأحيانًا الحكمة تكون ظاهرة ولكننا لا نستوعبها لهوى فينا.
أضرب لكم مثالًا، ويكون هذا من نوع الاستعجال في الخطاب، وإلا سنتكلم طويلًا في هذا إن شاء الله. الآن، لما تأتي لشاب وتعطيه حديثًا مثل حديث: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك». من الجيل الجديد؟ من أحق الناس بصحابتي؟ فقال له: «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك». راح تكون عنده مشكلة. أنه يقول لك: أولًا، هذه أمي من جيل مختلف، ومن جنس مختلف، يعني علاقتي معها، اتصالي بها، اتصال يعني ما فيه مشتركات. يعني أنا سأضغط على نفسي إذا أردت الجلوس معها. هو الآن ينظر إلى مصلحته هو فقط. هو لا يفهم ماذا يعني قلب أم. هو يسمع لكن لا يفهم. هو نظر إلى مصلحته وإلى شغفه الشخصي فقط. صح؟ هو إنسان ناقص، يفهم متطلباته الخاصة فقط، لا يفهم متطلبات الطرف الآخر مئة بالمئة، لأنه ليس بكل شيء عليم. جاء الوحي ليخبره بمتطلبات الطرف الآخر. هو ممكن يدرك هذا لاحقًا، ممكن يدرك إذا تفكر.
كثير من الناس كان ينتقد والده ووالدته في أمور، فلما صار هو والدًا أو صارت والدة، بدأ يتصرف بنفس الطريقة. عباس محمود العقاد كان رجلًا… عفوًا، عبد الوهاب المسيري كان رجلًا شيوعيًا، وكانت بداية انتقاله من الشيوعية إلى الإسلامية نوعًا ما، أنه رأى أنه تزوج امرأة وكان مغترًا بالأفكار أننا مجتمعات تقليدية وأننا وأننا وأننا، لا بد أن نتحدث. يقول: فلما أنجبنا طفلنا الأول أنا وزوجتي، وإذا بزوجتي المتعلمة اليسارية تتصرف تمامًا مثل أمي بشكل فطري، مثل أمي الريفية التي كانت غير متعلمة. فاكتشفت أن الأمر ليس كما صُوِّر لنا، بل هي غريزة. هذه الغريزة من أودعها هو أعلم بها سبحانه وتعالى. وراح تجينا محاضرة وكلام عن موضوع الغريزة وكيفية التعامل معها، وكيف أنه كنز تم تحويله إلى سلاح هدم فينا.
ما نستفيده بعدما عرفنا خالقنا
طيب، أنا ماذا أستفيد بعدما عرفت خالقي، وأزلت الوحشة بيني وبينه؟ بدأت أفهم طريقة التواصل معه. أقرأ في القرآن وأستوعب. كثير منا يقرأ القرآن ولا يفهم الرسائل التي يودعها الله فيه.
كثير من الأجوبة في رسائل القرآن
كثير من الآيات هي أجوبة على أسئلة، هي أجوبة على أسئلة مفترضة. لماذا نحن هنا؟ طيب، لماذا أنا ابتليت؟ ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾. طيب يا رب، لماذا الحكم الفلاني؟ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. طيب لماذا؟ ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَكُمْ﴾، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾.
إذا بدأنا ننظر للكون كله من خلال هذه النظارة، نظارة مخلوقات ناقصة، ونقبل هذا تمامًا. لأنه اليوم أكبر مشكلة نعيشها أننا نريد أن نصير آلهة أو نصير بشرًا كاملين. إما آلهة نضع التشريعات ونشرع كما نريد، والواقع ليس كذلك بدليل أننا نختلف كثيرًا إذا جُعل الأمر للأهواء والآراء. بل إن امرأة لو تحولت إلى رجل لأسبوعين فقط، ثم عادت امرأة، لكانت نظرتها لقضايا الرجال والنساء مختلفة تمامًا. والعكس بالعكس. لماذا؟ لأن نظرتنا مبنية على أهوائنا وعلى شغفنا وعلى غرائزنا وعلى وعلى… لسنا آلهة نحيط بكل شيء. نحن مخلوقات ناقصة تتكامل وتروي بعضها البعض. وفي النهاية، نحن مفتقرون إلى جهة علوية، إلى الذي أوجدنا أصالة، إلى الذي افتقرنا إليه في أصل الوجود.
تبرير الإنسان لخطئه عندما يذنب
طيب، وكثير من الناس يقع ويُوقع في نفسه أنه “أنا لا بد أن أكون إنسانًا كاملًا”. فبمجرد ما يذنب أو يخطئ أو يتعثر، يكون أمامه عدة خيارات: إما أنه يلقي باللائمة على الله عز وجل، مع أنه المفروض أنه يتوب. أو يلقي باللائمة على المجتمع بشكل فظيع. أو يحاول أن يبرر فعله ويقول: هذا الفعل ليس خطأ أصلًا. وكان يكفيه أن يقول: أنا إنسان، أنا هذه طبيعتي، أنا ناقص، أنا أخطئ. لكن المهم أنني لا أصر على خطئي.
خير الخطائين التوابون
«كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون». بس. لأن هذه طبيعتك. لهذا فيه توبة، والله عز وجل من أسمائه التواب.
تساقط معظم إشكاليات الإنسان عند إدراكه من هو
إذا بدأنا نقرأ الحياة كلها من خلال هذا السياق، من خلال أنه أنا بشر ناقص مفتقر، وأن لي إلهًا كاملًا، وأنه مآلي إلى هذا الإله، وأنه سبحانه وتعالى تلطف وتفضل عليّ في أمور كثيرة (والأمور التي ذكرناها شيء قليل جدًا، ممكن تُبسط بشيء أكبر من هذا بكثير)، وأنني أصلًا إنسان مكلف، ستتساقط العديد من الإشكاليات.
من أين تأتي معظم الإشكاليات في حياتنا؟
معظم الإشكاليات في حياتنا تأتي من عدة أمور:
-
منزلة الآخرين في حياتنا: جعلنا جهاز التحكم الخاص بنا بيد الناس. نفكر في آرائهم، ونظرتهم عنا. وأدنى كلمة منهم تعمل لنا مشاكل كبيرة جدًا. لماذا؟ لأن الجهة المرجوة ناسينها، اللي هو الله عز وجل. ويُقال: “رضا الناس غاية لا تدرك”. بعض الناس يقولون: “رضا الناس ليس غاية أصلًا”. هذه أول مشكلة.
-
مشكلة وهم الكمال: المشكلة الثانية أننا نعاني من وهم الكمال.
-
رفض النقص والرغبة في الألوهية: المشكلة الثالثة أننا لا نريد أن نقبل بنقصنا ونريد أن نعيش على أننا آلهة، ونحن لسنا آلهة.
-
الوحشة مع الله: الأمر الرابع، الوحشة التي بيننا وبين الله عز وجل، بحيث إن الواحد لو احتار في أمرين أو حصلت له مشكلة أو أو أو، لا يلجأ إلى الله، ولا يخاطب الله، ولا يحاول أن يطلب الجواب من كتاب الله ومن عباد الله الفقهاء العارفين.
الالتجاء إلى الله
النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يضيق صدره بما يقول المشركون، ما الوصفة؟ ما الراحة؟ ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾. يعني اتجه للجهة العلوية. هو لما يتذكر أنه خلاص، أن هذه الدنيا كلها فانية، وأن هذا أصلًا في ذات الله عز وجل، وأنه كثير من الأمور التي نحن نراها شرًا، هي ستكون خيرًا لنا في الآخرة.
الدنيا فانية
نحن منظومة أهدافنا في الغالب منظومة منعزلة عن الأسئلة الوجودية. ترى لا ينفع أن أكون عارفًا أنني أصلًا مخلوق لخالق، ثم بعدين تكون منظومة أهدافي ما لها علاقة بهذا الخالق. هل معناه أن نصير دراويش ونجلس في صومعة؟ لا، لا، لا، لا. هو سبحانه وتعالى أمرنا أن نسعى وأن نمضي وأن… ولكن لنحقق رضاه.
نحن لسنا بشيء
فالعكس، نحن مخلوقات فانية. أنا الآن لو مت، زيد أو عمرو غدًا من الناس لن تتوقف الدنيا. نحن لسنا بشيء. نحن شيء يسير جدًا في خلق الله عز وجل. المهم مصائرنا. لا نتحدث عن أنفسنا وكأننا محور الدنيا، كأننا نحن واجب الوجود، كأننا نحن الذين أوجدنا الكون. لا، لا، أبدًا. نحن مخلوقات تفضل الله عز وجل عليها ورفعها.
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾. يعني الآن، الله عز وجل لو يُفني كل البشر ويُفني كل البشر، ويأتي بمخلوقات أخرى، هل يكون في مشكلة؟ أبدًا. ولما أفهم أنني أصلًا هذه الدنيا كلها دار ممر، وأفهم أن لي اختباري والطرف الثاني له اختباره… الآن لما في قاعة امتحانات ويُعطى نماذج مختلفة، أي بي سي مثلًا، خلاص، أنا لن أحفل بالنموذج الآخر، أنا سيكون كل ذهني بنموذجي، صح؟
خلقنا الله متفاوتين
كذلك الله عز وجل خلقنا متفاوتين: منا الحاكم ومنا المحكوم، منا الذكر ومنا الأنثى، منا الصغير ومنا الكبير، منا الغني ومنا الفقير، منا الطويل ومنا القصير. منا كل على كل حال. وكل واحد له عبودية خاصة، له نموذجه الخاص في الاختبار عند الله عز وجل. له نموذج؛ فمثلًا، الفقير عبادته الصبر وكف اليد عن السرقة. الغني عبادته الصدقة وعدم الكبر. مثلًا، المرأة عبادتها في بعض المواطن الستر. الرجل عبادته الغض عن البصر مثلاً.
هذا هو الفهم. إذا فهمت هذه الأمور كلها، هذه مقدمة بس. هذه المقدمة إذا استوعبت، إذا فُهم كل شيء بعدها سيكون هينًا. حديث الشبهات، حديث الأفكار الوافدة، حديث العلاقة مع الآخر، حديث تربية الأبناء، حديث الأمراض النفسية، حديث كل الأحاديث التي تشغلنا، حديث الضغط الدراسي، حديث بعض الذكريات المؤلمة واستجلابها، الناس الذين عاشوا يعني تجارب مؤلمة جدًا مع أحباب لهم، إلى آخر ذلك.
الراحة في القرب من الله عز وجل
لهذا ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ﴾. كل حاجة ترونها تقولون والله ممكن في التدين أو في القرب من الله… هي هذا الرعب الذي عند الناس كلهم من القرب من الله: تشدد وتزمت. أبدًا. كل الراحة، كل الراحة في هذه، في القرب من الله عز وجل، في الاقتراب من القرآن.
أهمية تحديد الغاية من الخلق
أما الإنسان الذي يكون عايشًا بهذا الشكل بدون بوصلة توجهه، هذا يكون مسكينًا، الذي أصلًا ما أجاب على الأسئلة الوجودية ولا جعل الأسئلة الوجودية منطلقه. هو أصلًا لا يعرف نفسه ولا يعرف ماذا يريد. ماشي وراء قطيع معين. كل يوم طالعة موضة (هبّة)، تجده يركب هذه الموجة (الهبّة). وهو مسكين ما يدري. وعنده وحشة من نفسه، لا يريد أن يجلس لوحده، ويأخذ ويعطي مع نفسه، عشان لا تطرأ عليه هذه الأسئلة ويجد نفسه يصطدم بالأجوبة التي تأخذه إلى السماء. مع أنه والله مشوار السماء هو المريح، وهو الذي يجعلنا نرتاح جدًا في كثير من الأمور.
ليس معناه أننا سنعيش جنة في الأرض، نهائيًا. أيضًا ستكون في مشاكل، أيضًا ستكون في أمور تزعج، طبيعي. لكن الأمر سيكون أهون بكثير، وأثره أضعف بكثير. وحتى لما نتعامل مع البشر الآخرين، نفهم أنهم ليسوا آلهة لنا ولا نحن آلهة لهم، ولا هم يطلبون رضانا، ولا رضانا سينجيهم نهائيًا، ولا رضاهم سينجينا. ستكون علاقتنا مستقيمة جدًا، علاقة نستمتع بها، بالعلاقة مع بعضنا البعض. فإذا فقد أحدنا الآخر، لا يكون الإنسان يشعر أن هذه آخر الدنيا. لماذا؟ لأنه فهم أن الذي قدامه مخلوق، والمخلوق ناقص، والناقص حتى الاستمتاع به ناقص وليس كاملًا، وأنه له بدائل.
الله عز وجل هو وحده الذي لا بديل له
الوحيد الذي لا بديل له هو الله عز وجل.
تضيق نفس الفتى إذا افتقرت *** ولو تعزى بربه اتسع
حتى دائمًا الكلمة التي يقولونها كثير من الناس المتدينين وما يفهمها الناس، ويقول لك إذا واحد توفى، ماذا يقول لك؟ “إنا لله وإنا إليه راجعون”. ترى هذه الكلمة تلخص هذا الفقه كله. “إنا لله”: نحن أصلًا ملكٌ لله، الله خلقنا. “وإنا إليه راجعون”: يعني هناك سنلتقي عند الله عز وجل، وهناك سنجد ثواب صبرنا، وهناك سنجد العوض. ما ألذها وما أحلاها من كلمة! دائمًا الكلمة هذه نقولها ونحن غافلون عنها، هي المفروض لما تُقال الواحد يستروح ويرتاح.
أنا أطلت، أربعين دقيقة، وليس من عادتي أصلًا أن أتكلم أربعين دقيقة متواصلة. بس. وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.